قال سيدنا ومولانا أبو عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه علينا، يخاطب جيش بني أمية: "أَجَل، وَاللهِ غَدْرٌ فِيكُم قَدِيمٌ، وَشَجَتْ عَلَيهِ أُصُولُكُم وَتَآزَرَتْ فُرُوعُكُم، فَكُنْتُم أَخْبَثَ ثَمَرٍ شَجًى لِلنَّاظِرِ وَأُكْلَةً لِلغَاصِبِ"، صدق سيدنا ومولانا أبو عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. كيف وقعت جريمة قتل الحسين سلام الله عليه من قبل فئة تدعي أنها على ملة رسول الله (ص)؟! ما هي الدوافع الحقيقية التي حركت القادة من جهة، والأتباع من جهة أخرى، لارتكاب جريمة بهذا الحجم، وبهذه الكيفية أيضا؟ الإجابة على هذا السؤال، ليس فقط لكونه قضية تاريخية، وإن كانت القضية التاريخية تلقي بضوء يوضح لنا بعض حوادث التاريخ، إلا أنها من الممكن أيضا أن تضيء لنا الطريق في معرفة الدوافع الحقيقية التي تحرك إلى الجرائم المعاصرة، لا سيما في عالم السياسة. فما الذي حرك ذلك الجيش؟ وما الذي حرك قادته؛ لكي يرتكبوا هذه الجريمة المهولة؟ في الجواب على ذلك، ليس من الصحيح أن ننتظر من المجرم أن يفصل لنا دوافعه الحقيقية. إذ لا يمكن للمجرم أن يأتي – مثلا - ويقول لك: أنا قتلت هذا الرجل؛ لأنني أحقد عليه، ولأن الدنيا – مثلا - تحركني، ولأنه ينافسني، ولأنه كذا وكذا. فالغالب لا يقوم المجرم بالحديث عن دوافعه الحقيقية، بل يتخذ أحد طريقين عادة: إما أن يسكت، وإما أن يعطي توجيهات مقبولة ولو في صورتها الظاهرية من قبل الناس. إما أن يسكت أصلا: وهذا حدث كثيرا في كربلاء. فلو أردنا أن نعقد مقارنة بين أتباع الحسين (ع)، وبين جيش بني أمية، فالمفروض أننا - في الحالة الطبيعية - نلقى على الأقل 1000 بيت شعر، 2000 بيت شعري، من قبل الجيش الأموي، رجز. فيتمثل الواحد – مثلا - بموقفه، يتغنى ببطولاته، يتحدث عن نفسه. فإذا كانوا 20 ألفا، فحتى لو بنسبة 1 من عشرة، هو هذا عدد كبير جدا. لكننا لا نجد في هذه الجهة، من يتمثل بموقفه، من يعرِّف بنفسه، من يقول: أنا قاتلت لأجل كذا وكذا، من يفتخر بموقفه، إلا أقل من النادر. لكن، تعال وانظر في الطرف الآخر، جهة الحسين سلام الله عليه. في جهة الحسين، أكثر الذين خرجوا للقتال، عينوا وعرفوا بأنفسهم، وبينوا موقفهم، وافتخروا بدوافعهم. أكثر الذين خرجوا، بنو هاشم، القاسم عندما يخرج، يقول: إن تنكروني فأنا نجل الحسن سبط النبي المصطفى والمؤتمن هذا حسين كالأسير المرتهن بين أناس لاصقوا صوب المزن فأنا هذا الشخص. فإن تنكروا فعلي، فأنا ابن فلان، وغرضي، وهدفي، ودافعي، ومنشأ فعلي، أنني أجد الحسين كالأسير المرتهن. وأنتم أناس أدعو الله عليهم أن لا يسقوا من المطر، وأن يموتوا عطشا. علي الأكبر يخرج أيضا مرتجزا: أنا علي بن الحسين بن علي نحن وبيت الله أولى بالنبي تالله لا يحكم فينا ابن الدعي أضربكم بالسيف أحمي عن أبي ضرب غلام هاشمي علوي. فيبين من هو، ويقسم بحق الكعبة أننا أولى بالله عز وجل، وأقرب، وأن دوري أن أضاربكم وأحاربكم بالسيف بما يليق بالإنسان الهاشمي والعلوي. العباس أيضا، لما يخرج، فهو يتحدث في كل مرحلة. فقبل القتال: إني أنا العباس أغدو بالسقا ولا أخاف الشر يوم الملتقى فلما تقطع يمينه: والله إن قطعتم يميني إني أحامي أبدا عن ديني وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين ولما تقطع يساره، أيضا يتمثل بشعر: قد قطعوا ببغيهم يساري فأصلهم يا رب حر النار فإذن، هناك تعريف دائم، وإعراب عن الموقف، وافتخار به أيضا. وهذا تجده في الكبير والصغير. فعمر بن جنادة، الذي قتل أبوه في المعركة، وعمره ربما 12 سنة، 13 سنة، أقل أو أكثر، ولكن مع ذلك عندما يخرج إلى المعركة، يقول: أميري حسين ونعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير علي وفاطمة والداه فهل تعلمون له من نظير فالسابقون مع الحسين يفتخرون بموقفهم، والمتأخرون الذين لم يمض عليهم غير نصف ساعة، يفتخرون أيضا بمواقفهم، مثل الحر بن يزيد الرياحي: إني أنا الحر ومأوى الضيف. وهكذا زهير بن القين، يفتخر أيضا. وحبيب بن مظاهر: أنا حبيب وأبي مظهر فارس هيجاء وحرب تسعر أنتم أعد عدة وأكثر ونحن أوفى منكم وأصبر فإذن، في هذه الجهة، لعل أكثر الذين خرجوا للمعركة افتخروا بمواقفهم. فلو يتابع واحدنا كتب السيرة، يجد فيها افتخارا بالموقف، إعرابا عن الهدف، تعريفا بالذات. وفي الطرف المقابل: تجد صم بكم عمي. فيخرجون إلى المعركة لا يعرف أحدهم بنفسه، ولا يتحدث عن هدفه، لا يتكلم عن غايته؛ لأنه في قرارة نفسه يرتكب جريمة، فماذا يستطيع أن يقول؟ أيقول: أنا بطل؛ لأنني في جيش فيه 20 ألف إنسان في مقابل 100 إنسان؟! فهذه ليست بطولة. هل يستطيع أن يقول: أنا خرجت؛ لكي أحارب الحسين بن علي، بن فاطمة بنت رسول الله؟! لا يمكنه أن يقول هذا الكلام. فإذن لا يوجد مجال للفخر باعتبار المعادلة معكوسة. فالذي في مجموعة المائة لو قابل جيشا مثله 30 مرة، فهو في محل افتخار، أما إذا واحد عكس القضية، فليس محله محل افتخار أبدا، ليس موقع كبرياء هذا. بالإضافة إلى أن هؤلاء في قرارة أنفسهم يستشعرون أنهم يقومون بعمل غير صحيح، غير سليم، بعمل إجرامي. فإذن نحن لا ننتظر في البداية أن نتعرف على الدوافع الحقيقية المفصلة للجريمة من قبل فاعلها؛ لأن هؤلاء قد يلوذون بالصمت في هذه الجهة، أو يعطون مبررات أخرى، يعطون كلمات ليست حقيقية، ولكن لتسويقها إعلاميا. يعني مثلما الآن في السياسة، وهذا معروف، لا يأتي الطاغية ويقول: أنا سجنت، وقمعت؛ لأني أنا مستبد. منعت حقوق الناس؛ لأن التفرقة عندي هي الأساس، وأن بنائي وحكمي قائم على التفرقة. وإنما يقول مثلا: نحن نظرا لأننا نريد أن نحافظ على الأمن العام، قمنا بهذا العمل. لأننا نواجه مؤامرات خطيرة من الخارج، قمنا بهذا الإجراء. وهذه عبارة عن دوافع مزيفة وغير حقيقية للعمل الذي قاموا به. في كربلاء أيضا حصل مثل هذا الأمر. يعني مثلا، عندما يتكلم يزيد عن دوافعه لقتال الحسين (ع)، فهو لا يقول الدوافع الحقيقية. وهنا يأتي بعض المؤرخين الذين لا وعي عندهم، أو يأتي بعض القراء الذين لا معرفة عندهم، ويقبلون هذا الكلام منه! باعتبار أنه: نعم، الدافع إلى المعركة كان كذا، وكذا. مع أن هؤلاء لا يقولون الحقيقة، وإنما يزيفون الدوافع. حتى إذا أصبحوا، في بعض الفترات، في يقظة، تسرب الدافع الحقيقي. سآتي لك ببعض الأمثلة في هذا الباب. عمر بن سعد مثلا، لما سأله الحسين (ع) في مثل ليلة البارحة، ليلة العاشر، إذ طلب الإمام الحسين (ع) عمر بن سعد لكي يحدثه، إذ لديه مفاهمة معه. تقول الرواية: فجاء إليه عمر بن سعد وكان كارها لذلك، فخاطبه الحسين: "يَا عُمَر، أَنْتَ تُقَاتِلُنِي وَتَعْرِفُ مَنْ أَنَا؟"، أي أنت تعرف من أنا، مع ذلك تقاتلني! هل معقول هذا؟ فلماذا؟ فقال: "لِأَنَّنِي لَوْ لَمْ أَفْعَلُ خِفْتُ أَنْ تُهْدَمَ دَارِي". فأنا أخاف أن يهدم ابن زياد داري في الكوفة. وهذا الذي جعلني آتي لقتالك. فقطع الإمام الحسين (ع) حجته، وقال له: "أَنَا أَبْنِي لَكَ غَيرَهَا". فإذا دارك تُهدم، أنا أبنيها، والبناء الجديد أحسن من القديم، بالتالي هذا عرض مغر. فقال: "أَخَافُ أَنْ يُقْطَعَ رِزْقِي وَعَطَائِي وَعِنْدِي مَسَاكِينَ أَخَافُ عَلَيْهَا"، قال: "أَنَا أُعْطِيكَ الْبُغَيْبِغَة"، ويظهر أن البغيبغة بستان كبير جدا، حسبما يذكر السيد المقرم في المقتل، والسيد المقرب من المحققين، أي شخص محقق في التاريخ، فلا يرسل الكلام عادة على عوائمه. فقال له: "أَنَا أُعْطِيكَ الْبُغَيْبِغَة"، بستان للإمام الحسين (ع)، يقول: "وكان الحسين قد أعطي فيه ألف ألف دينار"، أي مليون دينار. مليون دينار - خصوصا في ذلك الزمان - شيء هائل جدا. فلم يقبل عمر بن سعد. فإذا فعلا القضية قضية مالية، خائف أنت على رزقك، وعطاءك، ومصادرة أموالك، وعلى دارك، فموضوعها قد انتهى. لكن هذا كله من الدوافع المزيفة وليس دافعا حقيقيا، فالدافع الحقيقي قاله في وقت آخر: أأترك ملك الري والري منيتي أم أرجع مأثوما بقتل حسين حسين بن عمي والحوادث جمة ولكن لي في الري قرة عين فالدافع الحقيقي هنا. وليست قضية دار ولا خوف على بستان، وإنما قضية رئاسة من جهة، وأهواء مادية من جهة أخرى، هي التي تدفع به إلى ذلك. يقول: أنا أدري أن الحسين هكذا، نسيبي قريبي، ومنزلته أعرفها، لكني أخضع لشهوة السلطان وباقي الشهوات التي تتبعها. فهنا قدم للحسين عذرا ليس بصحيح، وغير حقيقي، لكن العذر الحقيقي ظهر استثناء في وقت آخر. وهكذا الحال بالنسبة إلى غيره. يزيد مثلا، وحديثنا هذا على مستوى القادة. يزيد، عندما انتهت كربلاء، وجيء بالسبايا إليه، في أحد جلساته مع أصحابه، قال لهم: "أَتَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ أُوتِي الحُسَينُ؟" يعني: ما هي نقطة الثغرة التي هي عند الحسين وماذا كانت؟ قالوا: "مَا هِيَ؟" قال: "يَقُولُ حُسَينٌ: إِنَّ أَبَاهُ خَيْرٌ مِنْ أَبِي وَأَنَّ أُمَّه خَيْرٌ مِنْ أُمِّي وَإِنَّ جَدَّهُ خَيْرٌ مِنْ جَدِّي". أما إن جده وأمه خير من جدي، فهذا لا كلام فيه، فليس من أحد يؤمن بالله ورسوله، إلا ويعلم أن أباه وجده خير من جدي وأمي. وأما: إن أباه خير من أبي، فلا؛ لأن الله قد حكم لأبي على أبيه. يعني: أبي انتصر على أبيه، وبالتالي قتل علي بن أبي طالب، فإذن أبي هو أفضل عند الله. ولا تتصور أن هذا الكلام عند يزيد فقط، بل أن أحد الكتب التي يتفقون عليها الآن، هو: منهاج السنة، يذكر كاتبه فيه ذلك أيضا: أما قولهم – يعني هؤلاء الشيعة – أن عليا ولي الله، ويأذنون به في الآذان، فكيف يكون ولي الله، وهو مهزوم طوال عمره؟! فلما تولى الخلافة انتقضت عليه البلاد من هنا ومن هناك، وثاروا أمامه، الجمل، وأهل الجمل، والخوارج، وصفين، وفي الأخير قتل. ومن شأنه هكذا كيف يكون ولي الله! فولي الله لا بد أن يكون قويا، حاكما. نفس الكلام، هو هذا: أن الله حكم لأبي على أبيه. فالمنهج الأموي منهج واضح هنا: أن السلطة والقوة هي التي تعطي الشرعية. فالواحد إذا أصبح حاكما، فمعنى هذا أنه مؤيد من قبل الله، وأن سلطته مشروعة. "فَاللهُ حَكَمَ لِأَبِي عَلَى أَبِيهِ، وَلَكِنَّ الحُسَينَ أُوْتِيَ مِنْ قِبَلِ فِقْهِهِ". فالحسين لا فقاهة عنده، يزيد الفقيه الكبير، كيف؟ قال: "غَفَلَ عَنِ الآيَة: (قُلِ اللَّهُمَ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فهذه الآية تفسر الصواب، والحسين ما قبل أن يكون الملك لنا، فالله أعطانا هذا الملك، لكن الحسين لم يقبل أمر الله، فهو ليس بفقيه. وقضية صراعنا مع الحسين، إنما كانت على أساس أن الله قد أعطانا الملك، وهو ليس راض. وهذا الكلام للاستهلاك الإعلامي، هذا لتزوير الحقائق. لكن حقيقة الأمر أين؟ في مكان آخر، تخرج من عنده، إما بغير إرادة، أو في جلسة سمر، أو جلسة يقظة، أو جلسة تبجح. أي ليس في موقع رسمي حسب التعبير. وذلك عندما قال، في أكثر من موقع، وبعضها يحتمل أنه كان سكرانا، وبعضها صاح. ففي مرة، قال: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل قد قتلن القرم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل فنحن كانت عندنا مشكلة ثأر مع هؤلاء بني هاشم. فهؤلاء قتلوا منا: عتبة، شيبة، أبناء ربيعة، وكبار الأمويين، والوليد ابن عتبة، وهؤلاء أقاربنا، وسادتنا، وكبار الأمويين، قتلهم الهاشميون، وبقي هذا الثأر معلق، ينتظر من يأخذ به. فأنا قتلت القرم، الرجل العظيم، من سادات هؤلاء، وعادلنا الحسين في مقابل أولئك الذين قتلوا في بدر، وهذا نقبل به. إذن القضية قضية ثارية، قضية مقتل، على أساس دوافع قبلية، ولا ترتبط أيضا بالآية: (تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) ولا بغير ذلك. وفي موضع آخر يقول: نعق الغراب فقل تصح أو لا تصح، فلقد قضيت من النبي ديوني. وبعض من في مدرسة الخلافة، مع نقل هذا الشعر وذاك الشعر، عنه، قالوا: إذا كان هو قائل هذا الكلام، فينبغي أن لا يعامل معاملة المسلمين؛ لأنه اعتراف صريح بأن بينه وبين رسول الله عداء. فهو يعادي النبي محمد (ص). اللهم صل على محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد. فأنت تلاحظ هنا، أن هناك مسافة ببين الدوافع الحقيقية وبين الدوافع التي تعطى للاستهلاك الإعلامي، وبين الدوافع الظاهرية المزيفة والدوافع الحقيقية الخفية. شمر بن ذي الجوشن، يسألونه بعد المعركة، لما ذهب إلى الكوفة، كيف قتلتم الحسين بن علي، ابن رسول الله (ص)؟ فأجاب بجواب، هذا الجواب، يعتبر مزيفا. فجوابه الأصلي في مكان آخر لا بد أن نحصل عليه. فقال: "لَقَدْ أَمَرَنَا أُمَرَاؤُنَا، وَلَوْ لَمْ نُطِعْهُم، كُنَّا كَالحَمِيرِ". فإذا لا نطاوع أمراءنا نصبح مثل الحمير. حسنا، فإذا لا تطاوع الله، تصبح ماذا؟ إذا لا تطاوع رسول الله، تصبح ماذا؟ هذه عقلية: المأمور معذور، إلى حد أن يقتل بريئا! فنحن مأمورون، والمأمور معذور، وإذا لا نطاوع الأمير ننقلب إلى كذا وكذا، ويحل علينا غضب الله! وهذا الاستهلاك الإعلامي ليس صحيحا. الصحيح أين؟ الصحيح: عندما جاء في يوم التاسع من المحرم. ومعه رسالة من عبيد الله بن زياد، ردا على رسالة كان أرسلها عمر بن سعد. فهذا عمر بن سعد، كان يريد أن يخرج من المسألة، فلا يقتل الحسين، ولا يخسر ملك الري، فكان - بشكل من الأشكال - يحاول أن يحتفظ بملك الري، ولا يقتل الحسين، إلا أن بن زياد عرف أن نقطة الضعف عنده هذه. فلما قال له: كلف أحدا آخر من الناس، يذهب إلى قتال الحسين. قال له: "عَهْدُنَا رُدَّ عَلَيْنَا"، مع السلامة، فقال له: "انْظُرْنِي أُفَكِّرُ إِلَى مَا بَعْد". فعمر بن سعد، وإلى وقت متأخر، كان يلعب على هذا الرهان. فأرسل الرسالة إلى ابن زياد في اليوم السابع: أنه: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْفَأَ الفِتْنَةَ وَأَخْمَدَ النَائِرَةَ"، وانتهت المعركة الآن؛ لأن الحسين بعد مفاوضتنا إياه، قَبِل أن يأتي ويضع يده في يد عبيد الله بن زياد، حتى يسيره إلى ثغر من الثغور يجاهد فيه، حاله في ذلك حال أي واحد من المسلمين. فالمشكلة انتهت الآن، والحسين حاضر أن يأتي، ويبايع، وأنتم ابعثوه إلى أي مكان من الأماكن التي فيها قتال للمشركين. وهذا كان كذب وافتراء على الحسين، ولم يحصل شيء من هذا القبيل. ولكن هي كانت محاولة من عمر بن سعد؛ لكي ينأى بنفسه عن قتل الحسين، وأن يستلم ولاية الري، ملك الري. فلما بعث الرسالة، أي أرسلها، وصلت إلى هناك، إلى عبيد الله بن زياد، فقرأ الرسالة على جمع، من بينهم شمر - وشمر إلى ذلك الوقت بعد لم يكن قد جاء إلى كربلاء - فقال له شمر: "هَذَا كِتَابُ شَخْصٍ مُنَاصِحٍ لِأَقَارِبِهِ". فعمر بن سعد بينهم وبين الحسين نسب، ولو في الأعلى. هذا زهري، وهذا قرشي، وفي النسب الأعلى بينهما قرابة. فهذا إذن أثر فيه الرحم وأثرت فيه القرابة النسبية، فلا يريد أن يقتل الحسين ولا أن يقاتله. ورأيي، يقول شمر، رأيي: أن ترسل إليه رسالة حازمة، وتهدد فيها: "إِمَّا تَمْضِي لِأَمْرِنَا أَمْرَ السَّامِعِ المُطِيعِ وَإِلَّا فَخَلِّي بَيْنَ شِمْرِ ذِي الجَوْشَنِ وَبَيْنَ الجَيْشِ". إما تنفذ العمل الذي طلبناه منك، وإلا فهناك غيرك. وأعطى الرسالة إلى نفس شمر، اذهب وأوصلها إلى عمر بن سعد، وسلمها بيده، وانظر جوابه، فإذا قبل يحسم الأمر وينهي المعركة سريعا، وإلا قل له: أنت معزول وأنا مكانك. فأتى شمر بن ذي الجوشن إلى كربلاء فعلا، وقاد عمر بن سعد، وقال له: أريدك في مسألة. وقرأ عليه رسالة عبيد الله بن زياد، فتصور عمر بن سعد أن هذا من وراء الشمر نفسه. فقال له: "قَبَّحَكَ اللهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ". لكن الشمر قال له: ماذا؟ تمضي لأمر أميرك، وإلا خلي بيني وبين الجيش. أي أنا أصبح الوالي على الجيش والقائد، وهنا الدافع الحقيقي لشمر بن ذي الجوشن. فليست القضية قضية: أمرنا أمراؤنا ولو لا نلتزم بأوامرهم نصبح كالحمير وكذا، لا. القضية قضية قائد. مثلما الآن يجعلون أحدا قائدا للقوات المسلحة، في بلد من البلدان على مستوى الخلافة، وهذا منصب كبيرا جدا، أكبر من منصب وزير الدفاع، ففيه صلاحيات عسكرية، وإمكانات مالية، وقوة سياسية، وكذا، وكذا، فهو يفهم هذا الشيء، ولذلك رفض عمر بن سعد، وقال له: "لَا. وَلَا تَرَانَا، أَنْتَ كُنْ عَلَى الرَّجَالَةِ، وَأَنَا الْقَائِدُ العَامُ لِلْجَيْشِ". فهنا، تلاحظ أن هؤلاء لم يكونوا يعربون حقيقة عن دوافعهم، وإنما كانوا يزيفون. من أين نكتشف مثلا ما كان لديهم حقيقة؟ إما في فترات من هذا النوع، فنعقد مقارنة بين كلمات هؤلاء، أو نلجأ إلى من عاصرهم، مثل: الإمام الحسين (ع) الذي هو عارف بدخائلهم وعارف بأعدائه بشكل واضح وتام. ولذلك يصفهم بأوصاف، فيقول في مثل هذا اليوم، لما أراد الإمام الحسين (ع) أن يخطب في العسكر، فأول شيء، بدأ هؤلاء يدقون على الدروع، وعلى سرج الخيل، يصنعون ضوضاء وفوضى بحيث لا يُسمع كلام الإمام الحسين (ع). فأشار إليهم (ع): "اسْمَعُوا قَوْلِي، وَإِن ْكَانَتْ بُطُونُكُم قَدْ مُلِئَتْ مِنَ الحَرَامِ"، فالآن، دعوا آذانكم - على الأقل – أن تمتلئ بسماع دعوة الحق. فواحد من الدوافع الأساسية لهؤلاء القادة أو الأتباع: امتلاء البطون من الحرام. وهذه يمكن أن نراها في أكثر من موضع. فالفرزدق، لما قابل الإمام الحسين (ع) وهو خارج من مكة، متجه إلى كربلاء، سأله الإمام: "كَيْفَ حَالُ النَّاسِ؟" فقال: "أَمَّا الْكِبَارُ فَقَدْ مُلِئَتْ غَرَائِرُهُم مِنَ الأَمْوَالِ". والغرارة هي: مثل الخزينة، أو الصندوق الذي يحفظ فيه المال. فهؤلاء امتلأت غرائرهم وصناديق أموالهم من أموال الخلافة الأموية، وبالتالي اشتَرِيَ هؤلاء بشكل كامل. وأكد على هذا المعنى نفس عبيد الله بن زياد، لما جاء وقضى على ثورة مسلم وحركته في الكوفة. فخطب في الناس، وقال لهم: "أَمَّا بَعْدُ، فَأَنْتُم تَعْلَمُونَ، أَنَّ أَمِيرَ الكذا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَة، قَدْ أَمِنَتْ فِي عَهْدِهِ السُّبُلُ، وَعَمَّ النَّفْعُ وَالخَيْرُ وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَزِيدَ عَطَاءَكُم مِئَةً مِئَةً". يعني: لكل واحد 100 درهم زيادة له. فهذه الأموال أثرت أحد أثرين. الأثر الأول: ما يقوله علماء الأخلاق، وتؤيده الروايات: أن المال الحرام يؤثر في قلب الإنسان، وفي إيمانه، بل وفي بدنه أيضا. أي لما يأكل أحدهم الحرام، فدينه يتأثر، وضميره يتأثر، وإيمانه يتأثر، وهذا ثابت بالروايات الكثيرة المتعددة. هذا واحد. الأمر الثاني: حتى لو لم نسلم بهذا الأمر الأول، فالمال السياسي يستقطب الولاءات والانتماءات. فنحن نلاحظ، في أي مكان، تكون انتخابات، كما في هذه الأزمنة، تجد بعض الجهات، تذهب وتعطي أموالا وتبذل، وتصرف، صرفا كثيرا جدا؛ حتى تستقطب آراء الناس، فتشتري صوتهم بالمال، وتشتري تأييدهم بالمال، وتشتري ولاءهم بالمال. فهؤلاء - بتوزيعهم الأموال - صنعوا أمرين: لوثوا النفوس، كما أشار الإمام الحسين (ع)، قال: "مُلِئَتْ بُطُونُكُم مِنَ الحَرَامِ"، وأمر آخر: أنهم اشتروا هؤلاء الناس الذين استلموا منهم الأموال؛ ولذلك انتهى بهم الحال إلى هذه المواقف التي وقفوها في كربلاء، حيث أجهزوا على الحسين وقاموا بجرائم - حقيقة - لا يرتكبها ليس الإنسان المسلم، وإنما حتى الإنسان الذي يوجد لديه مقدار من الضمير، ومقدار من القلب والوجدان، بل مقدار من القيم الإنسانية. فالإمام الحسين يقول: "لَوْ كُنْتُم لَا تَخَافُونَ المَعَاد"، لا دين عندكم، ولا رب عندكم، ولا قيامة عندكم، "كُونُوْا أَحْرَارًا"، حكموا عقولكم، تصرفوا كأحرار، غير مأسورين إلى الحقد والضغينة والكراهية، ولكن هؤلاء كانوا في واد آخر. وفي مثل هذا اليوم، أي في مثل هذه اللحظات، عندما صرع الحسين (ع) قبل ربما 4، 5 ساعات، وما إن رفع رأسه على رمح طويل، حتى قام ذلك الجيش بما يندى له جبين الإنسانية، فجاءت هذه الليلة، ليلة الحادي عشر من المحرم، على معسكر الحسين، في أصعب ما يمكن وصفه، كما يقول شاعر أهل البيت الشيخ الوائلي، رحمة الله عليه: وسجى الليل والرجال ضحايا والنساء المخدرات ثكول هذا كان حال ذلك المخيم. فأول أمر بعدما صرع الحسين (ع)، أغار الجيش والخيل على مخيمات الحسين (ع). وبدأت عملية النهب والسلب والضرب.