من كلام لسيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه، يخاطب فيه جيش بني أمية فيقول: (... أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفا في أَيمانكم، وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلبا لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات، تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامٍ، والرأي لما يستصحف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها، فسحقا لكم يا عبيد الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرفي الكلم، وعصبة الإثم، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن، ويحكم أهؤلاء تعضدون!! وعنا تتخاذلون!! أجل والله غدر فيكم وشجت عليه أصولكم، وتآزرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمرة شجى للناظر وأكلة للغاصب...)، صدق سيدنا ومولانا أبو عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه، عطروا مجالسكم بذكر ذكر محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد.
في ضمن الحديث عن أخلاقيات الجيش الأموي الرديئة، نتحدث هذه الليلة عن صفة (الغَدر)، كما أن الإنسان ينبغي أن يتعرف على الأخلاقيات الحسنة حتى يجسدها في نفسه، ينبغي أن يتعرف على الأخلاق السيئة لكي يجتنبها ويتقيها، ولعل هذا هو المعنى الذي أشار إليه أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله، والذي جاء في وصفه ما جاء، من أنه كان أصحاب النبي يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، والغرض من ذلك اتقاء الشر والبعد عنه، أما إذا لم يعرف الإنسان أن هذا الخلق خلق سيء، ولم يلتفت إليه، فقد يقع فيه وهو غير شاعر به، وغير عالم به.
ملاحظة كلمة (الخُلق) تعني الصفة التي يتمثلها الإنسان، ولذلك قد يوصف بخلق سيء، وبخلق حسن، نحن لدينا المتعارف تقول: (فلان ما عنده أخلاق)، كأنما يعني ليس لديه أخلاق، يعني ليست لديه أخلاق حسنة، لكن المعنى اللغوي للـ(خُلق) في مقابل (الخَلق)، مثلا: (أشبه الناس خَلقا وخُلقا بنبيك)، (الخَلْق) هذه الصورة الظاهرية، و(الخُلُق) هو الصفة المعنوية، وهذه قد تكون سيئة وشريرة في بعض الناس، وقد تكون حسنة كما هي في أمثال هؤلاء السامعين حفظهم الله.
اليوم نتحدث، في ليلتين مضيتا تحدثنا عن خلقين سيئين مما كان مجتمعا في الجيش الأموي، الليلة نتحدث عن خلق سيء ثالث، وهو (الغَدر)، ملاحظة أن هذه الأخلاق السيئة تجمع أصحابها ومن يعشقها، كما أن الأخلاق الحسنة تجذب إليها أصحابها على قاعدة: (وَشِبهُ الشَيءِ مُنجَذِبٌ إِلَيهِ***وَأَشبَهُنا بِدُنيانا الطِغامُ)
أنت الآن لما توالي محمدا وآل محمد (اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد)، فإنه بالإضافة إلى الجانب العقائدي والإيماني الذي يلزمك بذلك، أنت ترى أن هؤلاء يحملون أحسن الأخلاق التي أنت تعشقها، يحملون العلم بالدين، يحملون معاملة الناس بالحسنى، يحملون السخاء، يتزينون بالحلم، وأنت ترتاح إلى هذه الصفات، فتجذبك إليهم، غيرك ربما يحب الغنى ويعتبره غاية هذه الحياة، غيرك قد يحب التسلط، وإن كان بالباطل، فينجذب إلى هؤلاء الناس.
فرقتان وفئتان تجد، لا تتعجب أيضا كيف أن قسما من الناس ينجذبون مثلا إلى بني أمية إلى يومنا هذا، لأن بني أمية يحملون سلوكا أخلاقيا سيئا يتناسب مع هؤلاء، ويحبه هؤلاء، الآن قد يعبرون عنه يقول لك قوة وحزم و و وإلى آخره، لكن هو يحب هذا النموذج الأخلاقي، وأنت تبغضه لذلك تنفر منه، وتنجذب إلى أخلاق الصالحين والأبرار.
الإمام الحسين عليه السلام يخاطب الجيش مع أن هذا الجيش جيش منفعل إن صح التعبير، الأساس في الكذب، الأساس في الغدر، الأساس في اتباع الهوى والشهوة هو أولئك الرؤساء، أولئك السلاطين، وهؤلاء كانوا على دين ملوكهم وسلاطينهم، فانجذبوا إليهم وداروا حولهم، فهو يخاطبهم ظاهرا، ويشير إلى من هو أعلى منهم، وأن هؤلاء إنما التفوا حول هذه السلاطين والطواغيت محبة منهم لبعض ما عند أولئك من صفات، ذاك يعطي المال، هذا لا يهمه المال حلال أو حرام، لا توجد مشكلة، ذاك مختلف يراعي قضية الحلال والحرام، وهذا أيضا نفس الشيء كما تحدثنا في ليلة مضت.
فهو يخاطبهم ويقول بعد أن يستعرض أنه نحن جئنا لإنقاذكم: (... أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفا في أَيمانكم...) جئنا بسرعة لإنقاذكم من الظلم الذي كنتم عليه، وكنتم فيه بدل أن تعينونا سللتم علينا أسيافا، هذه الأسياف المفروض أنها لنا في أيمانكم، (وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدونا وعدوكم)، المفروض أن هذه النار تلتهم عدونا وعدوكم وهم هؤلاء الأمويون، وهؤلاء الطواغيت.
إلى أن يأتي فيما بعد: (أجل والله غدر فيكم وشجت عليه أصولكم، وتآزرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمرة شجى للناظر وأكلة للغاصب...)، كيف الأشجار تتشابك جذورها فتزداد قوة، أنتم أيضا بهذا الشكل، هذا الغدر الموجود عند هؤلاء أنتم دعمتموه وقويتموه، فحتى جذوره صارت قوية، ما هو (الغَدر)؟ وكيف نكتشفه في هذه الأسرة الأموية الباطلة والتي حولوه في نفوس أتباعهم إلى طريقة حياة؟
(الغَدر) في اللغة العربية ترك الشيء، ومنه جاء (غَادر)، (غَادر) يعني ترك المكان، ويسمى (الغَدر) غدرا لأنه ترك للعهد والميثاق، إنسان يتواثق مع إنسان آخر، يعقد معه اتفاقية وميثاق بعد ذلك يقلب عليه، ويترك ذلك العهد والميثاق، يقال له (غَدر) به، هذا هو (الغَدر).
المتابع للحالة الأموية يجد أنه تكرس فيها هذا الأمر من البدايات، الآن لا نصعد إلى أعلى إلى زمان الجاهليين الأقدمين، ابدأ مثلا من أبي سفيان جد الأسرة، أبو سفيان عقد مع رسول الله محمد صلى الله عليه وآله اتفاقية وهي صلح الحديبية، أبو سفيان كان بالنسبة إلى أهل مكة أشبه برئيس الوزراء، فهو الذي يتخذ القرارات، وهو يُسَيِّر الأمور، إلى غير ذلك، نعم كان هناك أشخاص منافسون له لكن صاحب الكلمة الأساس كان أبا سفيان، فلما صارت قضية صلح الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وآله على أن يرجع النبي تلك السنة ولا يدخل مكة، بعد سلسلة من الهزائم التي صارت عند قريش على يد رسول الله صلى الله عليه وآله ما بقي عند القريشيين إلا هذا المقدار أنه هذه السنة لا تدخلوا إلى مكة.
ما الفرق بين هذه السنة والسنة المقبلة؟ ادخلوا السنة المقبلة؟ لا يوجد فرق، لكن نريد أن يقال إننا لدينا قرار، ومنعنا النبي من أن يدخل إلى مكة مع المسلمين، النبي صلى الله عليه وآله (وما دُعي إلى خطة فيها رفق إلا وأجاب)، وهذا محل اقتداء يجب أن يكون عندنا، عندك ثلاثة حلول، أربعة حلول للمشاكل، حل بالبتر والقطع، وحل بالضرب، وحل بالهدوء والكلام الطيب حتى لو كان بحسب الظاهر ليس في مصلحتك، لا تقل أنا كلمتي لا تتثنى، وما (أطيح كلمتي على الأرض) ولو يأتي أكبر واحد لا أتراجع، هذا حمق، هذا جهل، لا سيما في أمور المفاوضات مع آخرين على خلافك، لأنه لو أنت قلت أنا كلمتي (ما تطيح على الأرض)، وذاك قال أنا أيضا (كلمتي ما تطيح على الأرض)، معنى ذلك لا بديل عن الحرب، لا بديل عن المواجهة، وقد تكون أنت المغلوب وقد يكون هو المغلوب، لكن خسائر كبيرة، لماذا؟ لأنه أنا كلمتي لا تتثنى ولا أحد يستدرك على كلمتي.
لا أنا كلمتي تتثنى 20 مرة إذا كان في ذلك مصلحة المجتمع، ما هي المشكلة؟ أنا لست إلها حتى كلمتي هي الكلمة العليا والحق، خصوصا في المشاكل، مشكلة بين الزوج وزوجته، مشكلة بين الأخ وأخيه، مشكلة بين فئة وأخرى، بين جماعة وجماعة أخرى، دع هناك طريق الرفق.
فكان النبي صلى الله عليه وآله (لا يُدعى إلى خطة فيها رفق إلا وأجاب)، الآن طالع من المدينة المنورة وواصل إلى الحديبية على بعد مسافة قريبة من مكة، يعني بينهما مسافة 350 كيلو متر على الأقل، هو الآن قاطع طول هذا الطريق، لو كان غيره كان يقول لا نحن طلعنا ويجب أن نصل، يرضى من يرضى أو نفتحها بأسيافنا، خصوصا أنه تغلب عليهم طول هذه الفترة، فالنبي استجاب لذلك، وكان من جملة الشروط أن يرجع النبي بأصحابه ولا يدخل مكة هذه السنة، ويأتي السنة القادمة في نفس الموعد.
أشياء أخرى أيضا كان فيها، من جملتها ألا يناصر أحد الطرفين حلفاءه على الخليف الآخر، بنو بكر كانوا حلفاء قريش، وخزاعة كانوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله، يعني لو صارت مشكلة بين بني بكر وبين خزاعة المفروض لا قريش تتدخل في نصرة أصحابها، ولا النبي يتدخل في نصرة أصحابه، (يصطفلوا فيما بينهما) حسب التعبير، إلا أن قريشا لم تلتزم بهذا، فكان أول ميثاق نُقظ من قبل أبي سفيان ومن قبل القرشيين لما اشتبكا، قريش بسرعة وناصرت حلفاءها ضد خزاعة الذين هم حلفاء النبي، وصار عندهم قتلى وجرحى.
هذا مثل دولة عظمى تأتي وتناصر أحد الطرفين، الغدر هو هذا، أنه أنت تأتي وتوقع اتفاقية بعد ذلك تخلفها، تجلس في مفاوضات على أساس أنه ليس بيننا شيء والطائرات هي التي تقطع الطريق لكي تضربك، هذا هو الغدر، فكان أول غدر بهذا المستوى من أبي سفيان عندما اشتبك حلفاء قريش مع حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله، وقريش أعانت حلفاءها خلافا للاتفاق، وغدرا برسول الله وبحلفائه، هذا أبو سفيان أول شيء.
تأتي وتنزل أيضا إلى أيام الخليفة الثالث عثمان، مروان بن الحكم جاء وصار حسب التعبير الوزير الأول وعمل ما عمل، بعد ذلك في زمان أمير المؤمنين عليه السلام مروان بن الحكم أموي، ولما صارت خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، وبدأت حرب الجمل، حرب الجمل معروفة عندكم، بعدما صار الاشتباك انتصر أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه على أهل الجمل، وأُسِر مروان بن الحكم.
وهذا الرجل كان له دور عجيب فكان مع طلحة والزبير، ولكن عندما رأى طلحة هكذا بعد ما دارت الدائرة عليهم قال لا أطلب ثارا بعد اليوم من أحد، أخذ سهما ورمى به الزبير فقتله في الحال، هذا المفروض قائده، وهو أحد الأفراد في ذلك الجيش، قادة الجيش هما الزبير وطلحة، الآن أنت تأتي وتقول إنه يتهم طلحة بالتخطيط لقتل عثمان، وعثمان أموي من أمه، وهذا أيضا أموي فقال أنا بعد لا أنتظر أحدا، هذا موجود الآن أمامي، الناس مشغولة بأمرها وغبار المعركة قائم، سدد سهما وقتل طلحة في مكانه، هذا غدر، أنت جئت تحت أمرة هذا الشخص، فإذا بك تغتاله غدرا، وتقتله غدرا به.
انتهى الأمر؟ دارت الدائرة على أهل الجمل، وحُصر جماعة في دار كان من بينهم مروان بن الحكم، على أساس هؤلاء أشبه بمعتقلين، جماعة توسطوا قيل عند الإمامين الحسن والحسين عليها السلام، وقيل إنه هؤلاء صحيح من بني أمية ولكن الأفضل لإطفاء النائرة لا يعاقبهم الإمام، يعني لا يقتلهم.
الإمام أيضا كسائر أهل البيت عليهم السلام هم إلى الرفق أقرب منهم إلى العنف والشدة، فأغضى عنهم، يعني لم يعاقبهم، هذا مروان جاء وقال أنه حاضر ليبايع علي بن أبي طالب من جديد بعدما خرج عليه مع أهل الجمل، حاضر أنا أبايعه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام كلمة سبحان الله تشخص هذا الرجل بشكل (لا حاجه لي في بيعته، والله لو بايعني بيده لنكف بسبته، إنها كف يهودية)، واليهود عند العرب معروفون بعدم الوفاء بمواثيقهم، والقرآن أثبت هذا: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ... ﴾[سورة المائدة: 13]
فكان عند العرب أن اليهود ليسوا أهل ميثاق، ليسوا أهل التزام أخلاقي، يتعاقد معاك لكن حتى يستقوي عليك بعد ذلك يحطمك، وهذا ما يشهده العالم في هذه الفترات، فقال إنها كف يهودية والله لو بايعني بيده لغدر بسبته، (سبته) هناك أكثر من معنى لها، لكن المعنى الأقرب هو معنى شنيع، (السبة) هي مؤخرة الإنسان، وخلف مقعدته، وكان بعضهم إذا أراد أن يخلف وعده أخرج ريحا من ذلك المكان على أن هذا الميثاق يعني ليس له قيمة، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، يقول له هذا من هذا النوع، لو يبايعك اليوم بهذا الشكل بكرة يعمل بهذه الطريقة، هذا الذي يخلف فيه ميثاقه.
وبالفعل هكذا حصل، ما إن معاوية أعلن تمرده على أمير المؤمنين حتى انسل، وكان في المدينة في الأصل هو وأبناؤه، انسل إلى الشام حتى يصبح ضمن الجيش الأموي ويحارب أمير المؤمنين عليه السلام، هذا أيضا نموذج من النماذج، وهو أبو الأسرة الأموية التي حكمت المسلمين فترة طويلة، والد عبد الملك بن مروان وبعد ذلك أبناؤه.
تسلسلت الدولة الأموية بعدما انتهى الفرع السفياني، انتقلت الى الفرع المرواني، جاءت الخلافة إلى فترة قصيرة كما يقول أمير المؤمنين: (أما إن له أمرة كلعقة الكلب أنفه)، كيف الكلب حاشى من يسمع يلحس أنفه؟ كناية عن قصر المدة، بالفعل جاءت الخلافة له بعد مخاض، وبقي في الحكم بين ستة إلى تسعة أشهر فقط، وفي هذه أيضا غدر بمن بايعه، لأن انشقت الأسرة الأموية بين أناس كانوا يريدون خالد بن يزيد بن معاوية، وكان أخواله من الكلبيين، فئة كبيرة ولديهم أسلحة، فلم يُسَلِّموا، قالوا هذه الخلافة والحكومة كانت إلى يزيد، الآن يزيد مات ومعاوية بن يزيد رفض الخلافة، لابد أن تأتي الخلافة إلى ابنه الآخر وهو خالد بن يزيد بن معاوية، فرفض مروان، كيف هذا؟ بعده شاب صغير ومروان طاعن في السن، لأنه كان من أيام رسول الله صلى الله عليه وآله مع والده في المدينة وقد لعنه رسول الله، ولعن والده.
في سنة يعني 64 و65، ذاك الوقت كان يعني قد وصل فوق الـ 70، الآن كيف الناس كهول وكبار ونحن نأتي إليهم بشاب بعده، لكن لا توجد مشكلة، أنا أصبح الخليفة، وخالد بن يزيد ولي العهد، حتى ماذا؟ يضمن ولاء ومناصرة خاله حسان بن مالك الكلبي وقبيلته الكلبيين، وافق خاله حسان بن مالك الكلبي بولاية العهد لابن أخته، واتفق على دعمه.
وضع مروان بن الحكم كل قوته إلى أن استقر إليه الأمر، ففكر أولا بأن ينزعه من ولاية العهد ويعطيها إلى ابنه، الملك عقيم، (ما يفهم بعد هذا ولد فلان أو فلتان)، أنا أريد ابني، فعين ابنه وليا للعهد مع رفض أخواله خالد بن يزيد، كيف؟ أين اتفاقك؟ لم يهتم لأمرهم، بل أكثر من هذا حاول أن يسقط ولي العهد السابق خالد بن يزيد بشيء شنيع عند الناس.
ذهب وتزوج أمه التي هي زوجة يزيد سابقا، بعدما تزوجها، كان يتكلم بكلام فاضح أمام الناس، وأمام ابنها خالد بن يزيد، يأتي هذا خالد بن يزيد وسط الناس وسط البلاط فيقول له أنت يا ابن رطبة الكذا، يعني يكني عن المواضع التناسلية، وأن أمك بهذا الشكل، فتأذى خالد جدا، وليس بينه وبينه مثلا، بل ربط ذلك بحضور الناس، لكن الغرض هو أن يقصم ظهره اجتماعيا.
فشكا إلى خالد بن يزيد إلى أمه، قال لها أنت سودتِ وجهنا، قبلتِ الزواج من هذا، وهذا يتكلم في المجالس بهذه الشنائع والفظائع عليك، وأنا أنزل رأسي، فقالت له ما عليك من هذا الأمر، أنا أعرف ماذا أفعل له، في نفس الليلة التي أخبرها ابنها بالوضع، تركت مروان زوجها ينام، وجاءت بمخدة، وجلست على المخدة على وجهه، (يظهر كانت ما شاء الله متعافية)، فما قام من نومته تلك، كما غدر هو بابنها في عدم الاستمرار في ولاية العهد غدرت به أيضا زوجته بأن أنهت حياته، فهذه النماذج أنت تجد سيرتها الغدر، طريقتها الغدر، طريقتها نكث العهد.
معاوية أيضا نفس الكلام مشهور عنه الكلام، (ألا وإن كل شرط شرطته للحسن بن علي فتحت قدمي هاتين)، إن صحت هذه الكلمات فهي منتهى البجاحة، يعني إنسان مرة يخلف وعده، ويغدر بالسكات، ومرة أخرى أمام الناس، كأنه يريد أن يقول أيها الناس أنا إنسان خائن، أنا إنسان لا كلمة لي، أنا لا يعترف لي بك، أنا لست رجلا أقف عند كلمتي.
فهذه الأنماط أنت عندما تراها، يقال الناس على دين ملوكهم، أحد تجلياتها هذا الأمر، إذا كان السلطان عادلا، وكان رحيما، وكان رفيقا، يعني ذلك أن السوق اللي تمشي في زمانه هي هذه الصفات، وأما إذا كان إنسانا غادرا، فاتكا، إنسانا كاذبا، الناس ترى أن السوق هي هذه السوق، فالذي يأتي بالصلاح والإصلاح لا يُؤبه به.
لما ترى الإمام الحسين عليه السلام يخاطب هؤلاء يقول لهم: (فكنتم أخبث ثمرة شجى للناظر وأكلة للغاصب...)، أنتم ثمر تلك السياسات، أنتم نتاج تلك الأخلاقيات الباطلة والفاسدة، كل واحد إن استطاع أن ينهب من الدنيا نهبة لا يتوقف أبدا، إن استطاع أن يغلب صاحبه بالغدر أو بغير ذلك لا توجد مشكلة، يتحول أحيانا في المجتمع الغدر ونكث العهود إلى ما يشبه الشطارة، يقول ما شاء الله هذا (كلش شاطر)، يفهم من أين تؤكل الكتف، (راح وجمع مني ومناك وكذا لما جمعها فل بيها).
هذا هو الشيء الممدوح دينيا، قسم من الناس يعتقد أنه نعم هذا شاطر، هذا يفهم ماذا يفعل، في إحدى خطب مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لذكره صلوا عليه وعلى أهل بيته، يقول عليه السلام في هذه الخطبة: (ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا)، يعني كياسة شطارة، يفهم يلعب عليك، يسحب فلوسك، شاطر هذا والله، يعرف كيف يعمل، )ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة!( ، الجاهلون غير الواعين يقول إي والله هؤلاء (زرنجية) (فهمانين عدل)، (يعرفون اشلون يشتغلون)، بالعكس هذا ليس بهذا الشكل، )ما لهم؟
قاتلهم الله(، هؤلاء الذين يفكرون بهذه الطريقة، ويتخذون الغدر وسيلة وطريقة وأسلوب حياة، الآن كثير من النماذج هكذا.
يدخل على حسابك على سبيل المثال ويسحب أموالك من خلال الاستيلاء على كلمات المرور أو من خلال إقناعك بشيء أو من خلال أخذ رقم بطاقتك وهويتك أو إلى غير ذلك، وأنت مُؤَمِّن منه، تعتبر أن هذا الإنسان محل ثقة، ثم بعد ذلك يضرب ضربته، يقول (ما لهم؟
قاتلهم الله(، سواء هؤلاء القائمين بنفس العمل أو أهل الجهل الذين يرون في هذا، حسن حيلة وشطارة وكياسة وفهم.
يقول (قد يرى الحول القلب وجه الحيلة، ودونه مانع من أمر الله ونهيه)، كأنما يريد أن يشير إلى نفسه عليه السلام أن عنده قدرة ومعرفة على هذه الوسائل والأساليب أكثر، (فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين).
قسم من الناس إلى الآن يفكرون أنه مثلا معاوية رجل دولة، فهم كيف يدير الأمور، يقول أمير المؤمنين (والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر كنت من أدهى الناس ولكن كل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة)، كل واحد يقوم بالغدر هذا فاجر، فأنا لا أستطيع أن أنزل إلى هذا المستوى، وإلا وسائلها ومعرفتها وكيف أعمل، هذا أمره ليس صعبا، لكن أنا لا أنزل إلى مستوى الفجور، (ولكن كل غدرة فجرة)، أو كل غدرة نسبة إلى الفاعل (غدر) (فجر)، (ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)، يوم القيامة لواء المخلصين، لواء المؤمنين، ولواء الغادرين الفاجرين.
أنت انظر إلى نفسك في أي لواء، وتحت أي لواء تقف، إذا كان الإنسان يفكر في كيفية نقظ مواثيقه مع الآخرين، كيف يحتال عليه، حتى أن البعض يأتي يقول لك مثلا أنا أعمل وكالة إلى شخص (أصك عليه) كل الأبواب بحيث بعد ذلك لا يستطيع أن يفعل لي شيئا أبدا، هذه شطارة؟ هذه غدرة، أنا أعمل مع إنسان وأكيد له وأعطيه الأيمان المغلظة والعهود الموثقة، وبعد ذلك لما يسلم إليّ ويطمئن أغدر به؟ وأترك الميثاق معه؟ هذه ليست بطولة، هذا ليس شرفا، ولا هذه كياسة، ولا هذه شطارة، وإنما هي فجور، كما يقول عنه إمامنا عليه السلام.
وهذا لا يستمر أيضا لأن هناك كل غدار في مقابله غدار آخر، وسيعرف هذا الإنسان أنه من أهل الغدر أو من أهل الوفاء، الآن نحن نبتعد عمن ذكرناهم بكم من السنوات؟ 1400 سنة تزيد أو تنقص، لكن يذكر هؤلاء بالتثريب والتقريع والنقد والتنفر، بينما يذكر أهل الوفاء، ويذكر أهل الالتزام الأخلاقي بأرقى درجات الاحترام والتقدير.
عبيد الله بن زياد انظر لسلوكه، ومسلم بن عقيل انظر لسلوكه، لما جاء عبيد الله بن زياد من البصرة ضمن اتفاقية مصلحية بينه وبين يزيد، يزيد كان لا يطيق عبيد الله بن زياد أصلا، لماذا؟ لأن ابن زياد لما رشح يزيد لولاية العهد، لم يؤيده، هو كان يطمع فيها أيضا، فالآن أصبح تحت يده، لم يكن يحب هذا الشيء، فلم يؤيد ذلك، وهذا حسبها له طول هذه المدة، إلى أن مات معاوية فكان في عزمه أن يخلع عبيد الله بن زياد من ولاية البصرة، البصرة نصف العراق، والعراق من أهم بلاد الإسلام في ذلك الوقت ثراء وموقعا سياسيا، فلما علم ابن زياد بنية يزيد في ذلك تحسب للأمر، وكأنه أرسل إليه أحدهم أنه حاضر يعمل معه، فأرسل إليه أنه أنت إذا خلصتني من قضية الكوفة والإمام الحسين، معها إما أن تعز أو تذل، إذا لم تستطع أن تتخلص منه يعني انتهيت أنت، وإذا تخلصت منه، فأمرك صحيح.
فنزل عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الكوفة، كان معه عبدالله بن شريك الأعور، وهو من شيعة البصرة ووجوهها الاجتماعية، كان وجها اجتماعيا، يجوز في بعض الأماكن الحاكم سواء كان لأجل مراعاة منزلة الشخص الاجتماعية أو دوره في المجتمع أن يقربه إليه، فجاء معه عبدالله بن شريك الأعور، وفي الطريق انتكس حال عبدالله بن شريك، تمرض مرضا ثقيلا، ابن زياد تركه في الطريق ومشى في مشواره، هؤلاء لا يوفون لأحد حتى ينتظر ويعرف وضعه، أبدا، وصل إلى الكوفة وسيطر عليها.
عبدالله بن شريك تعافى وصار قادرا على أن يواصل المشوار إلى الكوفة، مع استمرار مرضه، فلما وصل إلى الكوفة جلس في بيته وفي حالة المرض، فكان يزار، فقيل لابن زياد أن عبد الله بن شريك يشكو، ولا يزال مريضا، ومقتضى الأعراف الاجتماعية أن تزوره، فأُخبر ابن شريك بأن ابن زياد سيأتي أن يزوره، عبدالله بن شريك أَسَرَّ إلى مسلم بن عقيل، قال له هذه فرصتك النهائية، هذا رجل فاجر جاء في مهمة محددة وهي قتل الحسين عليه السلام، وسيأتي إلى زيارتي وعيادتي في مرضي، فلما يأتي أنت تكون مختفيا في الداخل، وعندما يجلس اخرج واضرب رأسه، وتنتهي المشكلة، تعرفون القصة فقد مرت عليكم، أنا فقط أستفيد من إشاراتها.
فجاء ابن زياد، وجلس هناك، وابن شريك استبطأ خروج مسلم، (يالله)، (متى؟)، لا يستطيع أن يصرح بالأمر، فبدأ يشير بالشعر، (ما الانتظار بسلمى لا تحيوها * حيوا سليمى وحيوا من يحيها)، رمز وشفرة، قم وانه عملك، كررها، أبدا ما صار، آخر شيء قال (إسقونيها ولو كان فيها حتفي)، (اطلع خلص شغلك) حسب التعبير، حتى لو أنا أموت لا مشكلة، لكن كله بدون صراحة، حتى شك ابن زياد في الأمر، قال ما شأنه؟ فأحدهم قال هذا حاله يهذي من الصباح بهذا الشكل لا نعلم ما به.
الحراس حسب التعبير عندهم هذه الحس بسرعة أخذوا ابن زياد وخرجوا به من بيت ابن شريك، لما خرج ابن زياد نادى ابن شريك مسلم بن عقيل، يا ابن عقيل، لماذا لم تخرج وتعمل ما اتفقنا عليه؟ كيف ضيعت هذه الفرصة؟ فقال أمورا منها (أني سمعت حديثا ينقله الناس عن النبي محمد، أن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن ولا يغدر)، لابد أن يكون الإنسان ملتزما، أنت جئت بهذا الرجل وأمنته في هذا المكان، والنبي يقول المؤمن لا يغدر، وهذا غدر، هذا فتك، يعني قتل غيلة، ابن شريك قال لعله، هذه الفكرة موجودة عند البعض قال لو قتلته لقتلت كافرا فاجرا وخلصتنا منه.
لكن هذا الكلام الذي يقال هذا منطق السياسي، عندك خصم اقتله بأي طريقة من الطرق، تخلص منه، دع قليلا الأمر الأخلاقي على جنب مؤقتا، (وخلص شغلك)، ذاك كلام مسلم بن عقيل يقول لا، المنطق الأخلاقي فوق كل شيء، نفس الكلام الذي يقوله الإمام عليه السلام: (ولولا الإيمان لكنت من أدهى العرب)، ولولا أنه هذا غدر والغدر يعتبر فجورا، لما كان معاوية يغلبني ولا غيره يغلبني، فهذا هو المنطق الأخلاقي، وذاك المنطق السياسي.
عبدالله بن شريك كان يعمل على أساس أنه يجب أن تنتهي من عملك بأي طريقة من الطرق، وأن هذا يبرر أن نبعد موضوع الأخلاق جانبا، بينما مسلم بن عقيل وهو أثبت بهذا وغيره أنه فعلا اختيار الإمام الحسين إليه كان في محله المناسب تماما، فلم يفعل ذلك.
هذا في مقابل ابن زياد نفسه الذي جيش الجيوش، وجيش الجواسيس، بل أعطى الأمان لمسلم بن عقيل عن طريق قيس بن الأشعث، قال له قيس بن الأشعث لما بدأ الاشتباك بينهم في قضية منزل طوعى، قال له أنت آمن يا ابن عقيل على نفسك، سلم نفسك وأنت آمن، عندي أمان من الأمير ابن زياد، قال لا والله، ولما صار أيضا أخذوه وفعلوا به ما علمتم.
هذا المنطق منطق الغدر، وذكرنا في ليلة مضت في قصة شريح القاضي مع هاني بن عروة، كيف قال لهم، استدرجوا الرجل، هذا أمير وقادم ويفتقدك، يقول لماذا لم يزرنا فلان وهو كبير البلد، مثلك لا يتأخر، إلى أن جيء به هناك وشُتر وجهه وألقاه في السجن، هذا منطق الغدر وذاك منطق الوفاء، هذا هو الذي ينبغي أن يتمسك به المؤمنون مهما غدر بهم، لأن هذا هو الأليق بطريقة سادتهم ومواليهم وقادتهم من أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وكانت النتيجة ما علمتم من أن ابن زياد لعنة الله عليه بعدما أرسل إلى مسلم بن عقيل عن طريق قيس بن الأشعث وأخيه محمد بن الأشعث أنه أنت آمن على نفسك، لا تقتل نفسك، وفي نفس الوقت كانوا يقاتلوه، فبمجرد أن ندر السيف من يده، ووقع السيف من يده، أحاطوا به وأوثقوه كتافا، وذهب إلى ذلك المصير الذي إليه يصير الشهداء السعداء بعدما قاتلهم قتال الأبطال، وبرهن في ميدان الأخلاق أنه بطل الأخلاق، وفي ميدان الشجاعة أنه كذلك، وفي ميدان الالتزام الشرعي.
قضية مسلم فيها كثير من الدروس، الآن لو أن واحدا عطشانا ووجد ماء نجسا مثلا أو متنجسا ربما البعض يقول أنا مضطر إلى ذلك، ولا توجد مشكلة، فأنا مضطر أن أشرب، مسلم بن عقيل كان يمكن أن يتمسك بمثل هذا التوجيه، لكنه لما سقطت ثناياه في ذلك القدح، وبالتالي تنجس بالدم، أصبح هذا الماء غير جائز الشرب، هو الآن لو شربه، سيروى اللحظة وبعد ذلك يقتل، لكن لما لم يشربه يعطي لنا درسا إلى الآن في أن المهم أن يتقدم الالتزام الديني على الحاجات المؤقتة.
وبالفعل لم يشرب، قال لو كان من الرزق المقسوم لشربته، وعندها أمر اللعين بأن يصعد به إلى أعلى القصر، صُعد به إلى أعلى القصر، وجه وجهه ناحية الحجاز، وسلم على الحسين، أنا وأنت نسلم على الحسين، السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا ابن رسول الله، السلام عليك يا ابن أمير المؤمنين، السلام عليك يا ابن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.