قال الله العظيم في كتابه الكريم: ((ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً)).
من هذه الآية المباركة ندخل إلى موضوع تكريم الله عز وجل للإنسان، نحن نلاحظ في القرآن الكريم ان الله عز وجل أشار وصرح وأكد على أنه سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان، كرمه، سخر له الأشياء، رزقه من الطيبات، أعطاه ما لا يتوقعه وسخر له الشمس والقمر والليل والنهار من غير استحقاق من هذا الإنسان لهذه الأمور، فالغرض من التذكير بهذه الأمور هو إيجاد أرضية عند هذا الإنسان إذا تفكر فيها أن يشكر المنعم عليه، والعلماء يقولون أن الإنسان العاقل إذا أعمل عقله بعيداً عن الأوهام والشهوات يلتفت إلى فكرة شكر المنعم، فحتى لو أنعم عليك إنسان بنعم فإن عقلك يهديك إلى لزوم شكره والشعور بالإمتنان لهذه النعم والعطايا التي جعلها لك، هذا إذا كان إنسان وأعطاك نعماً أو عطايا بسيطة فكيف إذا كان هو الباري سبحانه وتتعالى الذي أعطا كل شيء وأكرمك بكل شيء وحملك في البر والبحر، هنا لا بد لعقل الإنسان أن يحكم بان هذا الذي أعطى كل هذه الأشياء لا بد من شكره وشكر المنعم باتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه، وشكر المنعم والعبادة هي بدورها نعمة أخرى وفضل للإنسان يبلغ بها مستوى عالي من الكمال، وإلا ربنا سبحانه وتعالى لا يزيد في ملكه أن صلينا ركعتين أو صمنا له يومين او غير ذلك، لهذا نجد أن القرآن الكريم يؤكد على معاني كثيرة في تكريم الإنسان وتفضيله وإعطائه من قبل الله عز وجل.
تكريم بني آدم له أنحاء مختلفة جداً:
أولاً: كرم الله سبحانه وتعالى بني آدم بتلك الخلقة المستوية التي هي أعجوبة، فسائر الخلائق إما انها تمشي على أربع أو تزحف او تطير وغير ذلك، لكن هذا الإنسان خلق على أساس القوام العمودي الذي يجعله يمشي على رجليه.
ثانياً: أن الإنسان هو الوحيد الذي يأكل بيده ويستخدمها في كل الأشياء، فالحضارة البشرية الآن من الزراعة والثقافة والتأليف وغير ذلك كلها قائمة على أساس هذه اليد التي يستطيع من خلالها ان يضرب بكل قوته بفأس كبير، ويكتب الفكرة الناضجة السليمة، ويصلح الساعة الدقيقة، وينقش الذهب في أدق تفاصيله، فهذه اليد تلبي حاجة الإنسان في كل شيء من أكله وشربه وإصلاحه لأمره ومسحه على مواضع العاطفة، فنفسها التي تضرب بقوة تستطيع أن تمسح على رأس اليتيم فتتحول إلى حنو وعاطفة.
ثالثاً: كرم الإنسان بالعقل، حتى أن الملائكة وغير الملائكة من الجن والإنس والحيوانات لا يمتلكون مثل ما أعطى الله سبحانه وتعالى هذا الإنسان من العقل الذي يسيطر على الشهوة، فكما جاء في الرواية عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: (أن الله ركب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركب في الحيوانات شهوة بلا عقل، وركب في الإنسان عقلاً وشهوةً فمن غلب عقله شهوته كان أعظم من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله كان أسوأ من الحيوان)، فهذا البدن المتعامد بالإضافة إلى أدواته الموجودة فيه عبر الله عنها في قوله: ((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم))، وبعد أن جعل الروح في ذلك البدن وجعل له العقل عبر عنه في قوله: ((ثم انشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)) فلم نجد ذلك التعبير عندما خلق السماوات على سعتها والأرضين بأفجاجها.
فمن جهة البدن والخلقة الظاهرية جعل الله سبحانه وتعالى هذا الأنسان صاحب الكرامة وصاحب الفضيلة العالية وجعله في احسن تقويم بل وقال تعالى: ((وحملناهم في البر والبحر))، سواءً كان في الأزمنة القديمة فقد حمل هذا الإنسان على الحيوانات التي سخرها الله له، فلولا أن الله سخر هذا الحيوان للإنسان وأعطى الإنسان العقل الذي يستطيع به ان يحرك هذا الحيوان بطريقة من الطرق لكان الأمر صعباً، فهل رأيت حيواناً يركب حيوان آخر ليقطع به مسافات طويلة؟ فقط الإنسان الذي يستطيع أن يفعل ذلك، فقد قال عز وجل: ((تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس)).
وقد سخر له البحر أيضاً وهو أمر عجيب، فهذا البحر الذي تغرق فيه الإبرة وتنزل إلى القاع جعل عليه سفينة هائلة ناقله وزنها عشران الآلاف من الاطنان تسير على ذلك الماء بدون أن تغرق، ولولا أن الله جعل في ماء البحر والنهر خاصية معينة تطفو عليها الأشياء لكان كل شيء يوضع على الماء يغرق وينزل للأسفل.
وفوق هذا وبعد هذا قال تعالى: ((ورزقكم من الطيبات))، فالله سبحانه وتعالى أعطى هذا الإنسان ما يحتاج من الطعام والشراب منوعاً لذيذاً كثيراً يسيراً بحيث لولا ذلك لكان هذا الإنسان في مشكلة، فلو تخيلنا أن هذا الماء الذي نستعمله في كل أمورنا كان ملوناً مثلاً وأن طبيعته كانت لون أسود أو أحمر فكيف ستكون صورة الحياة؟ ولو كان قوامه أثخن ولم يكن يتلك المقدار ولا الكثافة التي نرها به الآن التي تنفذ إلى كل شيء وتغسل به الثياب ويخفف غلظة وكثافة الدم الموجود داخل بدن الإنسان فلو لم يكن كذلك كيف سيكون حال الإنسان؟
فقد جعل الله في هذا الماء هذه الخاصية والشفافية بحيث يقضي الإنسان به كل حاجاته المتصورة، وقد رزق الله الإنسان من الطيبات مأكلاً ومشرباً وملبساً وغير ذلك وكل هذا تكريم من قبل الله عز وجل للإنسان والغرض من ذكر ذلك في القرآن الكريم ان ينبه الإنسان إلى حق الله عليه، فأنت أيها الإنسان مديون بوجودك في هذه الدنيا كما قال عز وجل: ((أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً)) فالله تفضل علينا بالإيجاد وهذا الإيجاد أيضاً كان من أفضل الأنحاء في أحسن تقويم وجعل لنا البدن والجسد المتكامل الذي كل شيء فيه بما يؤدي الوظيفة الكاملة.
لم يكتفي الله سبحانه وتعالى بهذه النعم بل أرسل إلينا رسلاً وواتر إلينا أنبياءه وأنزل إلينا كتبه وبين لنا طريق الحياة الطيبة السعيدة في هذه الدنيا ومصير الجنة في الآخرة وهذه أيضاً نعمة أعظم مما سبقها، فإذا كانت الخلقة البدنية عظيمة فإن الأعظم منها هو أنه أكرمنا بمحمد وآل محمد، لذلك يلتفت بعض المفسرين في الآية المباركة أن الله عز وجل عندما يذكر أنه سخر لنا الشمس والقمر والنجوم والكواكب وغير ذلك فإنه يذكرها بشكل عادي ولكن عندما يأتي إلى نعمة الرسالة يقول: ((لقد منَ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم)) فهذه منة من الله سبحانه وتعالى على البشر بانه بعث إليهم هؤلاء من اجل أن يعرف هذا الإنسان ربه ويهتدي إلى الطريق الموصل إليه وكلها نعمة وراء نعمة، فقد أعطانا العقل وأرسل الرسل لنهتدي إلى منهاجه وبعد الإهتداء تصبح حياتنا سعيدة في الدنيا ونحصل يوم القيامة على جنات عدن التي جعلها الله سبحانه وتعالى لخاصة اوليائه.
هذا كله في أمور دنيوية من الكرامة والعطاء والتفضيل والطيبات والحمل من مكان إلى مكان آخر، فلو تصورنا ان هذا الحمل لم يكن موجوداً ولا يستطيع الإنسان أن ينتقل من مكان إلى مكان آخر وأن الحيوانات كانت عصية على التطويع أو أن الإنسان عجز عن ابتكار شيء ينقله من مكان إلى آخر وأن الله سبحانه وتعالى لم يعطي الإنسان قدرة عقلية بهذا المقدار للإبتكار، حينها لن تكون هناك حضارة ولا مدنية ولن يكون الإنسان كما نراه هذا اليوم، أبداً لأن الله له القدرة والحق بأن لا يعطيك كل هذه الأمور وأنت ليس لك حق على الله، لكنه سبحانه وتعالى أكرمنا بما هو أهله لا بما نحن أهله فهو الفياض المعطاء الجواد الكريم الذي أعطانا ما نستحق وفوق ما نستحق.
لكن أيضاً قال تعالى: ((قتل الإنسان ما أكفره)) فبقدر ما أعطاه الله ومنحه وفضله وعلمه وكرمه إلا أنه يبارز الله بالمعصية ويجاهره بالمخالفة ويبرز إلى حربه بترك واجبات وارتكاب المعاصي، فترك الواجبات وارتكاب المعاصي عمداً هو من أنواع المحاربة لله عز وجل بدرجة من الدرجات، وأحياناً الإنسان يحارب ربه ويخالفه بنعمة الله عليه كلسانه مثلاً عندما يتكلم بالسوء على رسول الله وأهل بيت رسول الله ويجحد نعمة الله عليه، أو نعمة الجمال عندما تبارز تلك المرأة الله بالتكشف وإثارة الشهوات، مثلاً نرى بعضهم يقولون أن من التحديث بنعمة الله هو إظهار المفاتن لأنها نعمة من الله والله قال في كتابه: ((وأما بنعمة ربك فحدث)) والبعض يقول أيضاً إن الله جميل يحب الجمال فلابد من إظهار الجمال للناس، هنا نقول لهم أن هذا كلام باطل وتبرير خاطئ بل هو حرب على الله عز وجل، فكما أمر الله بالصلاة أمر أيضاً بالحجاب وكما جعل طاعته في الصوم جعلها أيضاً في العفة، وكما حرم الخمر حرم أيضاً التهتك والتكشف، فهذا كله تكريم من الله للإنسان في حياته بل وحتى في مماته كرمه الله فقال أن حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً فلا يجوز التمثيل به وقطع أعضائه وإن كان لا يتألم لذلك بل لا بد من إقامة المراسم له فيشيع من مكان موته إلى مكان تغسيله فيغسل بثلاثة أغسال، أولاً بالسدر والماء ثم بالكافور والماء ثم بالماء المطلق وهذا تطهير معنوي للميت وبعد ذلك يجب تكفينه ودفنه في قبره مستقبلاً القبلة بنحو حتى يصير من بدايته إلى نهايته ((فولوا وجوهكم شطره))، وهذا يبين لنا حقيقة أننا مهما شكرنا الله عز وجل ومهما شعرنا بالتقصير وهو كذلك في شكره وحمد فلن نبلغ غاية شكره.
نجد أن كل مراسم الميت لا بد أن تكون لسائر الناس ولكن هناك موارد من أعظمها وأفجعها وأوجعها ما جرى على الحسين بن علي عليه السلام، فكما قال الشاعر:
عادة الميت يجون له هله
هذا جايب ماي وهذا يغسله
هذا جايب كفن هذا يفصله
هذا يحفر قبر هذا ينزله
كل هذه الأمور حصلت لسائر الناس إلا الحسين عليه السلام الذي بقيت جنازته على الرمضاء بعدما طحنت بحوافر الخيل، فالله يقول ان قطع إصبع الميت حرام فكيف بمن قطع رأسه وعلق برمح طويل، وقطع خنصره ووزعت أعضاءه عظامه ورض صدره، فهذا ما حصل لأبي عبد الله الحسين وهو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.
فالسلام على الحسين وعلى علي بن الحسن وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.