قال الله العظيم في كتابه الكريم (يا أيها الذين أمنوا أتقوا الله حق تقاته ولا تموتن والا وأنتم مسلمون)
حديثنا يتناول ثلاثة انواع من الخطاب في النصوص الدينية والآيات القرآنية وهي الخطاب الفقهي، والخطاب القانوني، والخطاب الأخلاقي والوعظي.
من المهم ان يتم التفريق بين هذه الخطابات لان كل منها له مواصفات خاصة، عندما يتم الخلط بينها والفرض ان بينها تمايز وتفاوت يحدث سوء في الفهم مثلا في الخطاب العقائدي فهو خطاب صارم فيقول الله (انما انا بشر مثلكم يوحى الي وإلهكم إله واحد) فليس بالإمكان التساهل في امر الالوهية فالله واحد لا يمكن التغيير او التساهل في هذا الامر ورسول الله وسيلته التبليغ في هذا الامر وهو مأمور بذلك من قبل الله.
في الخطاب العبادي والفقهي في اصله صارم وحازم ولكن فيه مجال للزيادة على نحوا الاستحباب وفي مجال للنقصان في بعض الاحيان عندما لا تتوفر الشروط فالصلوات المفروضة خمس صلوات في اليوم لا يمكن النقصان منها ولا التغيير في كيفيتها وعدد ركعاتها ولكن هناك مجال للزيادة بعنوان المستحب، و احيانا يحصل في بعض العبادات انها ينتفي الخطاب بوجوبها عندما لا تتوفر الشروط لتحقيقها لدى العبد مثلا في الخطاب بوجوب الحج(ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا) فالحج بالإمكان الزيادة فيه بالتكرار فالحجة الاولى تكون واجبة وما بعدها من تكرار الحج فيكون مستحب، وقد لا تتوفر بعض الشروط فينتفي الوجوب ويؤجل الى حين توفر الشروط كالاستطاعة المالية والاستطاعة الجسدية وغيرها من شروط وجوب الحج على الانسان البالغ.
يوجد خطاب ثالث وهو الخطاب الاخلاقي في الجملة لا يوجد فيه الزام ولكن من اراد الوصول الى اعلى الدرجات يستطيع المؤمن ان يسلك فيه درجة بعد درجة وهذا ما جمع فيه ما ورد في الآيتين المباركتين اية(فاتقوا الله حق تقاته) وبين الآية الاخرة(فاتقوا الله ما استطعتم) فالأمر في الآية الاولى معناها اتقوا الله تقاة كاملة، جاهدوا في الله حق جهاده اي بمنتهى الكمال والاتقان والافضل، ولكن في الآية الثانية يكون فيه فرصة للإنسان بان يتقي الانسان حسب قدرته واستطاعته فيكون هناك تفاوت بين الناس في تقوى الله فحينما نأخذ بالآية الاولى فيكون التوجه بالوجوب ان تكون التقوى مئة بالمئة وجميع الناس في درجة واحدة بلا تفاوت بينما الآية الثانية تبين ان بالإمكان ان يكون في تقوى الناس لله تفاوت وتباين فهناك من يتمكن من تقوى الله مئة بالمئة وهناك من لا يفعل الا بمقدار اقل من ذلك فالمطلوب على نحو الالزام لجميع الناس ان يتقوا الله حسب استطاعتهم ولكن هناك من يستطيع ان يتقي الله حق التقوى، حينما يحدث خلط بين الخطابين الفقهي والقانوني، فينتج لدينا انه يجب تقوى الله وتأدية الواجبات بمقدار الاستطاعة ففي تشريع الصلاة على جميع المسلمين اداءها كاملة بالكيفية التي ذكرت ولكن من لا يستطيع تحقيق تلك الكيفية يجب عليه ان يؤديها بالكيفية التي يتمكن منها فمن يستطيع الوقوف يجب عليه ذلك ولكن من لا يستطيع بإمكانه ان يؤدي الصلاة وهو جالس او بالكيفية التي يتمكن منها المهم ادائها باي نحو يتمكن منه وان لا يتركها ابدا ويؤديها كاملة بلا زيادة او نقصان .
بينما في حق التقوى والجهاد بالإمكان الزيادة والنقصان والاشكال حينما يحدث خلط بين الخطابين فيؤدي الى عدم تقوى الله وتجاوز حدوده، مثلا حديث رسول الله صل الله عليه واله قال لاحد الشباب (انت ومالك لأبيك) - وهذه الرواية ثابته لدينا ولدى مدرسة الخلفاء- بينما هناك حديث اخر(لا يحل مال أمرئ الا بطيبة نفسه) فلا يستطيع اي انسان وان كان أب ان يأخذ من اموال غيره الا برضاه، فلا يحق للاب ان يأخذ بدون أذن ورضى ابنه، الخطاب الاول في حديث الرسول خطاب اخلاقي وعظي يريد تربية الانسان على احترام الاب وتقديره وعدم الاعتراض عليه ويكون التعامل معه مختلف عن تعامله مع بقية الناس فلا يكون تعامله معه تعامل مادي فلا يكون بينهما حساب على الصرف المادي وهذا تفسير الامام الصادق لهذا الحديث حينما سأل في تفسير حديث رسول الله هل يحق للاب الاستيلاء على مال وممتلكات ابنه التي كسبها بنفسه فقال الامام الصادق - هذا الحديث له قصة وكان الهدف من قول الرسول ذلك تربية شاب على الاخلاق فقد كان رجل لديه زوجة ومولود فماتت ام ذلك المولود وخلفت لولدها ميراث الاب لم يكن لديه اموال فأخذ يصرف من اموال الابن على نفس المولود حتى حينما بلغ الشاب طالب والده بميراث امه فأجابه باني صرفت المال عليك فرفع الشاب الامر الى رسول الله فعندما استخبر النبي عرف اصل القصة فقال النبي موجه الكلام الى ذلك الشاب انت ومالك لأبيك - فهذا توجيه خاص واخلاقي لا يدل على جواز استيلاء الاب على مال ابنه وقتما يشاء، فالقانون والفقه يقول لا يجوز اخذ مال اي انسان الا برضاه وان كان ابنه .
مثال أخر العلاقة بين الزوج والزوجة، فيجب على الزوجة اطاعة زوجها في مسائلة الخروج من المنزل فلا بد ان تستأذن منه وفي جانب أخر هو وجوب التمكين الجنسي في الفراش من قبل الزوجة لزوجها، ولكن لا يجوز للزوج شرعا وقانونا المطالبة بأكثر من ذلك وان كان من المطلوب لتحقيق الانسجام بينهما ان تطيعه في امور أخرى.
يوجد خطاب أخر في طرق مدرسة اهل البيت وفي مصادر الخلفاء الحديث المروي عن رسول الله (لو أمرت احدا ان يسجد لاحد لأمرت الزوجة ان تسجد لزوجها) هذا خطاب وعظي واخلاقي يبين مكانة الزوج لدى زوجته فلا بد من احترامه وتقديره فمقامه مقام كبير، وتعتبر العلاقة الحسنة مع الزوج نوع من أنواع العبادة وفيها طاعة لله، ومن الخطأ استغلال هذا الخطاب الأخلاقي الذي يحث على طاعة الزوجة لزوجها بان يستغلها وينتهك حقوقها المادية ويجبرها بتقديم مالا يجب عليها له كالاستيلاء على راتبها او تحميلها القروض والديون، فعلى الزوج احترام زوجته وتقديرها والمحافظة على حقوقها وتأديتها اليها وسوف يثاب على ذلك من قبل الله بالمقابل فالتعامل بالأخلاق الحسنة مع الزوجة يعتبر نوع من أنواع العبادة وفيه طاعة لله فهناك روايات اخرى اعتبرها الخطاب الاخلاقي ان من نعم الله على الانسان الزوجة الصالحة فيقول (لا يوجد بعد الإسلام نعمة أفضل من الزوجة الصالحة) فينبغي ان يكون هناك انسجام كامل بين الزوجين والاحترام متبادل من قبل الطرفين لبعضهما لبعض، وتأويل الامر بالسجود هو أن تسجد لله شكرا لوجود الزوج الصالح في حياتها فلا يصح السجود لغير الله سبحانه وتعالى.
فهناك خطاب قانوني وخطاب أخلاقي ووعظي الخطاب الوعظي يرغب في رفع الانسان لأرفع الدرجات والخطاب القانوني هو وضع الأمور في مواضعها والامر يكون بمقدار الواجب، اما الخطاب الأخلاقي هو الذي يطلب من الانسان ان يتكامل بأخلاقه وحسن سلوكياته فيفعل أكثر مما يجب عليه وهو الامر بالمستحب.
هناك من يخلط بين الخطاب القانوني والفقهي مع الخطاب الأخلاقي والوعظي فيطالب بأكثر مما يجب عليه ويتعدى على حقوق غيره فمثلا حينما يحصل الطلاق بين الزوجين تكون حضانة الأطفال بنين وبنات الى عمر سنتين للام بعد ذلك كقانون وفقه لا يكونون لها، بل يحق للاب أخذهم منها وان اعترضت على ذلك، ولكن لو الزوج تعامل بالقانون الأخلاقي والوعظي بأمكانه ان يتركهم لدى الام ان كان يرى انه افضل لهم و كانت قادرة على تحمل مسؤوليتهم وتربيتهم ويدفع لهم حقوقهم المادية كنفقه للصرف عليهم وهم لدى الام ويساعدهم على تربيتهم.
ومن الأمور التي يحدث فيها خلط ان الانسان يبرر لنفسه بعض التجاوزات الأخلاقية مع الغير بسبب ظروف يمر بها فمثلا حينما يكون البعض صائم أو يمر بضائقة مادية او بضغوط في عمله يبرر لنفسه العصبية والغلط على الأخرين لأنه صائم ومتعب ومضغوط وأعصابه تعبانة وهو تبرير خاطئ فلا يوجد عذر لسوء الاخلاق مع الاخرين فالأخلاق أمر مطلوب من الانسان تحت أي ظرف وفي كل الاحول ففي الغضب يطلب الحلم وفي الصيام مطلوب التحمل وفي حالة الضائقة المادية والفقر مطلوب الصبر وعدم التعدي على حقوق الاخرين بحجة الحاجة والفقر، وعدم تبرير سوء الاخلاق مع الزوجة والعيال بحجة ضغوطات العمل والتعب فيه فحينما يقدم الزوج لأهله وعياله ويكون لديه مشاكل في عمله يصب جام غضبه عليهم حينما يحاسب على ذلك يبرر انه متعب ومثقل بالمشاكل والمسؤوليات.
فالغضب والجوع وعدم الراحة لا تبرر للإنسان ان يكون سيء الاخلاق مع الاخرين وهذا نجده في أهل البيت سلام الله عليهم فالقصص التي تروى عنهم وصور الحلم التي تظهر في تصرفاتهم مع من يخطأ معهم كثيرة منها القصة التي تروى قيل أنها حدثت للإمام زين العابدين وقيل عن الإمام الكاظم مع جاريته حينما كانت تسكب الماء على يده فوقع الابريق عليه والمه فخشيت على أثر ذلك فقالت والكاظمين الغيظ قال كظمت غيظي فقالت والعافين عن الناس قال قد عفوت عنك فقالت والله يحب المحسنين فقال أنتي حرة لوجه الله، فالإمام لم يسامحها وانما من عليها بالحرية، وفي أوقات الضيق والتعب تتبين حقيقة الانسان هل هو يمتلك خلق حسن ام سيء الاخلاق فالإنسان لا تتبين حقيقته الا في أوقات الشدة والحاجة والغضب وهذا ما تبينه الآية القرآنية حينما يتحدث عن أخلاق أهل البيت سلام الله عليهم ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسير وهم بحاجة لذلك الطعام كما يقول الله في كتابه الكريم ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.