من كلام لسيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه، كتبه لمعاوية: "وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَايَتِكَ عَلَيهَا" صدق سيدنا ومولانا أبو عبد الله الحسين صلوات الله عليه حديثنا - بإذن الله تعالى - يكون حول سيرة الحسين من سنة 50 للهجرة إلى سنة 60. وهذه الفترة التي امتدت عشر سنوات تعتبر من الفترات الزمنية المهمة على مستوى الأمة الإسلامية عموما، وعلى مستوى تاريخ شيعة أهل البيت (ع) على وجه الخصوص. نحاول في هذه الدقائق، التي لا ريب لا تسع لتفصيل الأمر، فإن اختصار عشر سنوات من تاريخ شخصية في نصف ساعة، أو 40 دقيقة أو ما يشاكل ذلك. كيف وأن الذي يراد التحدث عنه شخصية كالإمام الحسين (ع). عشر سنوات من الأعمال، من الجهد، في بحر مواج من الأحداث، لا يمكن للإنسان أن يحيط بكل أطراف هذه السيرة والتاريخ. ولكننا نحاول أن نذكر بعض الجوانب على سبيل الاختصار، ونعتمد فيما بقي على وعي الأخوة المؤمنين وهم بحمد الله والمؤمنات من أهل الوعي والمعرفة. في البداية، لا بد أن نشير إلى قضية: وهي أننا نعتقد أن الطريقة التي مشى عليها الإمام الحسين (ع) في السنوات العشر من 50 إلى 60 هجرية، 50 هي سنة شهادة الإمام الحسن المجتبى (ع)، وانتقال الإمامة إلى الإمام الحسين (ع)، على الرأي المشهور وإن كان هناك من يقول: إنها كانت في سنة 49. ولكننا سنعتمد سنة 50. سنة 60 للهجرة هي سنة موت معاوية بن أبي سفيان. وهذه الفترة، العشر سنوات، كانت فترة إمامة الإمام الحسين (ع) أيام حكم معاوية وبعد شهادة الإمام الحسن. ولنشر إلى ملاحظة: وهي أننا نعتقد أن الطريقة التي أدار بها الإمام الحسين (ع) شؤون الإمامة في هذه الفترة الزمنية، هي مشاكلة ومشابهة لطريقة الإدارة التي قام بها الإمام الحسن المجتبى. ونعتقد فوق ذلك أيضا: أن أئمة الهدى (ع)، أولا بالتسديد الإلهي الذي نعتقده، وثانيا: بمقتضى الحكمة العالية التي كانوا يملكونها، كانوا في كل دور، في كل مرحلة زمنية، يتخذون طرائق في غاية الدقة. فلو فرضنا أن إماما تبدل من زمان إلى زمان لكان يتخذ نفس الطريقة. أي: لو فرضنا أن الإمام الصادق (ع) كان في زمان الإمام الحسن، أيضا كان يتخذ نفس الطريقة التي مارس فيها الإمام الحسن دوره. لماذا؟ لجهة إلهية تسديدية، ولمقتضى الحكمة. فإن الإمام الحسن في زمانه قام لما تقتضيه الحكمة والإدارة السليمة للأوضاع، بحيث لو كان الإمام الصادق في ذلك الوقت، كان يتخذ نفس الطريقة، ونفس الأسلوب. وهذا ينفي ما يزعمه البعض من أن الإمام الفلاني كان مزاجه مثلا مزاج مهادنة ومسالمة، فاتخذ هذا الطريق. ومزاج الإمام الفلاني كان مزاجا حربيا وعسكريا، فاتخذ طريق الثورة. ومزاج الإمام الثالث كان مزاج التعليم والتدريس فاتخذ طريق التدريس. لم يكن الأمر هكذا مزاجيا أو خاضعا للجهات الشخصية. وإنما نعتقد فيه جانبين: جانب إلهي من التسديد وجانب حكمي تقتضيه أفضل أساليب إدارة الصراع في ذلك الوقت. والذي يدل على هذا المعنى، هو أننا عندما نتتبع طريقة الإمام الحسين (ع) في فترة السنوات العشر هذه التي كان فيه - أيام معاوية – إماما، نجدها تتطابق في أصولها العامة مع ما كان عليه الإمام المجتبى صلوات الله وسلامه عليه. فلندخل في هذا الأمر ونحاول أن نتعرف عليه. وهنا، أريد أن أشير إلى نقطة عابرة: أن هناك بحث أحيانا قد يطرح في بعض المنابر، أو في بعض المكتوبات، ولا أميل إليه، وهو قضية المفاضلة بين الأئمة (ع). يعني قد يأتي خطيب أو كاتب أو مثقف، لكي يبين من هو الأفضل بين الأئمة (ع)، هل الأفضلية بحسب الترتيب؟ فكلما تقدم شخص زمنا يعني تقدم مرتبة. بمعنى أن النبي المصطفى لذكره الشرف والصلوات – اللهم صل على محمد وآل محمد – أولا ثم الإمام أمير المؤمنين، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، وهكذا. باعتبار أن ما يصل من العلم لآخرهم، لا بد أن يأتي إلى أولهم. فإذن الأول يحوز على علم أكثر والسابق أفضل. أو أنه لا، أهل الكساء هم الأفضل ثم المهدي، أو غير ذلك. فهذا بحث لا أعتقد أن فيه نفعا كثيرا، مع أن الأمر فيه غير محسوم بشكل جازم، على مستوى الآراء. إذ يوجد هناك أربعة آراء بين علمائنا الكبار قديما وحديثا، لذلك الدخول في هذا الأمر قد لا يكون من الصالح، وقد أحببت التنبيه إلى هذا الأمر، فربما يكون نافعا. الإمام الحسين (ع)، ما هي الأدوار التي قام بها؟ وماذا كان عليه من سيرة في فترة السنوات العشر؟ فأول عمل من الأعمال قام به، هو ما يمثل مسؤولية الأئمة (ع) تجاه الدين والأمة. وهي: قضية بناء المعرفة الدينية من عقائد وأحكام ومفاهيم. وهذا أمر في غاية الأهمية، إذ هو لب رسالة الأنبياء. إذ أنهم جاؤوا ليبلغوا للناس، (فإنما على رسولنا) ماذا؟ ماذا على الرسول؟ وإنما للحصر، (فإنما على رسولنا البلاغ). أي كأنما لا شغل عنده غير هذا. لا حرب، لا كذا. وهذا يقال لتعظيم هذا الجانب، وإلا النبي كان عنده أمور أخرى أيضا. لكن الهدف الأول والأكبر والمسؤولية العظمى، أن يأتي المعصوم ليبني المعرفة الدينية في المجتمع بدءا من أصول العقائد، مرورا بالأحكام الشرعية إلى سائر المعارف الأخرى. وهذه تستحق التضحية، تستحق أن يقتل النبي، أن يقتل الولي، الإمام، من أجل أن يبين صفات الله، من أجل أن يبين أدوار النبي، من أجل أن يبين القرآن، من أجل أن يبين الأحكام. وهذا هو الأمر الذي كان عليه الأنبياء، وكان عليه الأوصياء النجباء صلوات الله عليهم. وهذا في كل أدوار الأئمة (ع) كان نقطة شاخصة وبارزة وواضحة في حياة كل واحد منهم. والإمام الحسين (ع) كان كذلك أيضا. ولعل قسم من الناس يتصورون أن الإمام الحسين هو تلك الصورة النمطية الموجودة في أذهاننا عنه، فهو رجل ثورة، وقتال، وإسالة دماء الأعداء، والقيام بهذه الأعمال البطولية الخارقة، فماذا ربطه بالتدريس والتعليم والمناقشات والمناظرات. له ربط. فالإمام الحسين (ع) له مسند. وأحد العلماء كتب كتابا: موسوعة كلمات الإمام الحسين، من عدة مجلدات. فويه ما أسند إلى الإمام الحسين في أمر التوحيد، وأمر الإمامة، والاحتجاجات، والفقه، والعقائد. أنا أنقل لك نموذجا منها: ما جرى بينهم وبين نافع الأزرق. نافع الأزرق أحد زعماء الخوارج، والخوراج افترقوا فرقتين بعد ما اصطدموا مع عبدالله بن الزبير. وقد بدأوا من أيام الإمام أمير المؤمنين (ع)، فتشكلوا كجماعة، ثم انضموا إلى ابن الزبير في حركته ضد الأمويين، فلما صار عندهم وضع خاص، الزبيريون انتصروا قليلا، الخوارج كانوا معهم، فسألوه أيضا عنه: أنه ما هو رأيك في علي وعثمان؟ فلم يتبرأ منهما أمامهم. بالتالي هو عنده حسابات معينة، فلما رأوا منه ذلك، انفرجوا عنه، وخرجوا، وانقسموا قسمين: قسم سموا بالنجدات، وقسم سموا بالأزارقة، تبعا للزعيم الذي اتبعوه. وواحد منهم، هو هذا: نافع الأزرق، من فرقة الأزارقة، زعيمها، جاء إلى المدينة في أيام معاوية، وطلب ابن عباس وكان في المسجد، وابن عباس كان مشهورا في ذلك الوقت أنه تلميذ علي بن أبي طالب (ع)، ومن الشخصيات التي يعترف بها الفريقان، فهو شخصيته - كشخصية - تحتاج إلى تحليل خاص، ولكن الآن هذا على سبيل الإرسال. فهو رجل من الناحية العلمية معترف به من الفريقين، ويعبر عنه بحبر الأمة. فجاؤوا يسألون عنه، وقد كان في المسجد، يفتي ويتحدث. فقال له نافع الأزرق: "يَا بْنَ عَبَاس، أَنْتَ تُفْتِي فِي النَّمْلَةِ وَالْقَمْلَةِ، هَلَّا وَصَفْتَ لِي رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ". أي القضية لا بد أن تصلحها من الأعلى، بدءا من العقائد، فماذا يعني أن تذهب وراء الأحكام، هذا نجس وذاك طاهر، فأولا لا بد أن تبحث في الموضوع العقدي. "فَهَلَّا وَصَفْتَ رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ". فأشار ابن عباس إلى الإمام الحسين (ع)، وقد كان ذلك الوقت في أوائل سنة 50 هجرية، أي، عمره بحدود 45، تزيد أو تقل، وابن عباس كان أكبر منه سنا بكثير، ومن العادة أن يُتوجه إلى كبير السن، فأشار إلى الإمام الحسين (ع)، فقال له نافع: "إِيَّاكَ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَ". فأنا لا أريد أن أسأل هذا. كأنما يعني أنه لم ير شيئا كثيرا عنده! فقال له ابن عباس: "وَيْحَك، إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنُ الْعِلْمِ وَالحِكْمَةِ، سَلْهُ إِنَّهُ الحُسَينُ". فجاء إلى الإمام (ع) وسأله نفس السؤال. وأنا أنقل لك نصا ما قاله الإمام الحسين (ع)، وأشير بعض الإشارات السريعة في هذا الجانب. قال: "يَا بْنَ الأَزْرَق"، أو "يَا نَافِع، إِنَّ مَنْ وَضَعَ دِينَهُ عَلَى الْقِيَاسِ، لَمْ يَزَلْ الدَّهْرَ فِي الْتِبَاس، نَاكِبًا عَنِ المْنْهَاج، ظَاعِنًا بِالاعْوِجَاج، ضَالًّا عَنِ السَّبِيلِ، قَائِلًا غَير الجَمِيلِ"، قاعدة عامة، فهذا الدين الذي إذا أنت تعمل فيه على القياس، وهو منهج بشري ليس موجودا في كل الموارد، وسيتبين أن الإمام قد قال له: أن هذا المنهج منهج خاطئ، مضل، فلا تستخدمه. بعد ذلك شرع بالقول: "يَا ابْنَ الأَزْرَق، أَصِفُ إِلَهِي بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسُهُ، وَأَعْرِّفُهُ بِمَا عَرَّفَ نَفْسَهُ، لَا يُدْرَكُ بِالحَوَاسِ"، "لَا يُدْرَكُ بِالحَوَاسِ": رد على نظرية غير الإمامية التي تقول: إنه بالإمكان رؤية الله يوم القيامة. وهذا عند أكثر أتباع مدرسة الخلفاء، في تفسير الآية المباركة: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة)، يقولون: تعني: ينظرون إلى الله، ويقولون حديثا، نعتقد أنه غير صحيح، عن النبي: "أَنَّكُم تَرَوْنَ رَبَّكُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ". فمثلما ترى القمر واضحا، ترى الله يوم القيامة! بل بعضهم يقول أكثر من هذا، يقول: يمكن في الدنيا أن نرى الله سبحانه وتعالى. كأنه لربما يخرج أحد ذات مرة. فيرتطم مثلا بأحد، فيجده يقول له: أنا ربك، على سبيل المثال. لذلك الإمام الحسين (ع) يقول له: هذا لا يدرك بالحواس، لا يمكن أن يرى بجارحة، بحاسة، "وَلَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ"، هذه "لَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ"، أيضا رد على نظرية أخرى عندهم. قالوا: أنه آيات القرآن الكريم، مثل: (وَلْتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، وما شابه ذلك - مما جاء فيه لفظ اليد والرجل - يقولون: إن له الله عين، له يد، له رجل، ولكن بما هو، لا بما نحن. فيدك أنت طولها مثلا متر، أما يد ربك فطولها 20، 30، 40 كيلو متر. ونحن نعتقد أن هذا غير صحيح، وأن هذه التعابير هي كنايات عن القوة والإحاطة والإبصار، ووو، إلى غير ذلك. فالإمام (ع) يقول: أنت لا تقسه بحالك، فأنت الإنسان الممكن الذي يحتاج إلى يد، وإلى رجل، وإلى عين، فلا تقس ربك بها، "وَلَا يُقَاسُ بالناس"، وأيضا: "قَرِيبٌ غَيْرُ مُلْتَصِقٍ، وَبَعِيدٍ غَيْرِ مُنْتَقِصٍ، يُوَحَّدُ وَلَا يُبَعَّضُ"، إلى آخر وصفه. تقول الرواية: "تَأَمَّلَ ابْنُ الأَزْرَقِ قَلِيلًا وَبَكَىَ"، مثلا: دمعت عيناه. وقال: "يَا حُسَينُ مَا أَحْسَنَ كَلَامَكَ"، كلامك جميل، فقال له الحسين: "يَا بْنَ الأَزْرَق، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَشْهَدُ عَلَى أَبِي وَعَلَى أَخِي وَعَلَيَّ بِالكُفْرِ"، فهؤلاء يكفِّرون الإمام أمير المؤمنين (ع)! وبالتالي يكفرون الحسن والحسين! فيقول له: بلغني ذلك. فقال: "أَمَا وَاللهِ يَا حُسَينُ إِنَّ كَانَ ذَلِكَ، لَقْد كُنْتُم مَنَارَ الإِسْلَامِ وَنُجُومَ الأَحْكَام". أي هذه الجلسة - مثلا - غيرت نظريتي عنك، وهذه المعارف والمعاني التي قلتها لي، والحديث المفصل في صفات الله: أنتم نجوم الأحكام، أنتم دعائم الإسلام. فكان الإمام (ع) يتصدى في هذا الموضوع تصديا كافيا وكبيرا في هذا الأمر. الجهة الأخرى: قضية بيان الخط الصحيح في الأمة، المتمثل في شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه. وأن هذا الإمام العظيم - أعني عليا (ع) - تمت الإشارة إليه والتصريح عليه، بكل الوسائل. أي ما ترك نبينا المصطفى محمد (ص) طريقة ولا وسيلة ولا أسلوبا لهداية الناس إلى منهج علي بن أبي طالب إلا وذكرها، فرديا، جماعيا، في أول الدعوة، في منتصف الدعوة، في الحرب، في السلم، في آخر حياته، في غدير خم، في غير ذلك. يعني: لو أراد واحد أن يقول: لم يبلغني في علي ما يقطع حجتي. نقول له: هذا الكلام غير طبيعي جدا. وهذا يبين مسؤولية شيعة أهل البيت في نشر أحاديث رسول الله (ص) في هذا الجانب. الإمام الحسين (ع) رأى أن الاتجاه الأموي قديما، وإلى الآن، يحاول أن يطمس شخصية علي وأن يكتم فضائله ومناقبه. وقضية الفضائل والمناقب، ليست قضية بسيطة. فالنبي ما أراد أن يمدح عليا بن أبي طالب. كأنت، يكون عندك ولد، وتريد تشجعه، فتقول له: أحسنت، ما شاء الله، حصلت على درجة كذائية. ليس الغرض هكذا. أو عندك عامل تريد – مثلا – أن تحثه على العمل، فتقول له: ما شاء الله، بارع أنت، ذكي، وفَهِم، إلى غير ذلك. الفضائل والمناقب في الأحاديث ليست هكذا. الفضائل والمناقب التي قالها رسول الله في حق علي بن أبي طالب، هي عقائد، هي إشارات ضوئية تعلم الإنسان الطريق الصحيح. لذلك بعضها - إذا يُتأمل فيها - تهدي جماعة. لاحظ حديثا واحدا، توجهت له جماعة: "يَا عَمَّارُ آخِرُ شَرَابِكَ ضِيَاحٌ مِنْ لَبَن، وَتَقْتُلُكَ الْفِئَةُ البَاغِيَةُ". فقط هذا، لكن انظر، لما استشهد عمار إلى جانب أمير المؤمنين (ع)، فإن قطعة من جيش معاوية انحازت إليه، أي إلى أمير المؤمنين (ع)، وبحديث واحد. فليست القضية قضية مدح وثناء مجرد، وإنما علامات ضوئية لبيان طريق العقيدة الصحيح. فالإمام الحسين (ع) كان يصنع ذلك. حج الإمام الحسين (ع) 25 حجة. مذكور في بعضها أنه كان ماشيا على قدميه، وفي روايتنا في الوسائل توضيح لهذا المشي. ورواية صحيحة عن الإمام الصادق (ع)، جاء فيها ما يفيد: أنه حج على قدميه من مكة إلى عرفات ذاهبا وراجعا. وليس من المدينة إلى مكة، 400 كيلو، وإنما أحرم بالحج من مكة إلى عرفات، قضى المناسك، ثم رجع ماشيا أيضا، بهذا المقدار. طبعا، من الممكن أنه في بعض الحجات، ذهب طول المسافة ماشيا، لكن هذه رواية تبين هذا المعنى. في هذه الحجات الخمسة وعشرين، كان الإمام الحسين (ع) - على الأقل في تلك الحجات التي كانت في الفترة الأخيرة - يتحين الفرصة لبيان مناقب وفضائل أمير المؤمنين (ع) ويبثها بين الناس. وأهم ما جاء في هذا الأمر: المؤتمر الكبير الذي عقده الإمام (ع) سنة 56 هجرية. فالإمام (ع)، سنة 56 هجرية، ذهب إلى الحج - وسيترافق في سنة 56 هجرية، في البحث الثالث: لماذا تحدث الإمام الحسين (ع) هكذا؟ - فلما صار في منى، ندب في الناس: بنو هاشم، أحلافهم، الأنصار، حجاج القرى والمناطق المختلفة، البلدان المختلفة، وجمعهم في فسطاطه. أنا أنقل لك قطعة مختصرة من ذلك؛ لبيان هذه الجهة. يقول: "ثُمَّ لَمْ يَدَعْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ، وَمِنْ أَبْنَائِهِم وَالتَابِعِينَ، وَمِنَ الأَنْصَارِ، المُعْرُوفِينَ بِالصَّلَاحِ وَالنُّسُكِ إِلَّا جَمَعَهُم". يعني: جاء بكل الصحابة الموجودين، والتابعين، الطبقة الثانية بعد الصحابة، وأبناءهم أيضا، وهكذا. "فَلَمَّا جَمَعَهُم قَامَ فِيهِم خَطِيبًا وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا الطَّاغِيَةَ قَدْ فَعَلَ بِنَا وَبِشِيعَتِنَا مَا قَدْ رَأَيْتُم" وهذا، تعبير: الطاغية، موجود في الرواية. "وَإِنِّي أُرِيدَ أَنْ أَسْأَلَكُم عَنْ شَيءٍ، فَإِنْ صَدَقْتُ فَصَدِّقُونِي، وَإِنْ كَذَبْتُ فَكَذِّبُونِي، اسْمَعُوا مَقَالَتِي وَاكْتُبُوْا قَوْلِي"، فلا بد أن يكون تدوين. "ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى أَنْصَارِكُم وَقَبَائِلِكُم فَمَنْ أَمِنْتُم مِنَ النَّاس وَوَثِقْتُم بِهِ فَادْعُوهُم إِلَى مَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَقِّنَا"، هذا عمل من الأعمال التي قام بها الإمام (ع)، إذ جاء فرأى الحجاج من مختلف الأقطار، من مختلف البلدان، فدعاهم، وقال لهم، سجلوا هذه الأحاديث التي سأذكرها. فإن كانت كاذبة - والعياذ بالله - فردوا علي. وإن كانت صادقة، فسجلوها. ثم اذهبوا بها إلى مناطقكم، وبلغوا هذه الأحاديث. أي: انشروا حق أهل البيت، بلغوا المذهب. وهذا ليس بخطاب لأولئك فقط، بل هذا خطاب لنا أيضا في هذا الزمان. من أمنتم من الناس، ومن وثقتم به، فالمجتمعات التي لا مشاكل فيها، اعمل فيها على أن تبين مذهب أهل البيت (ع)، وتبين هذا الفكر الذي حُجر عليه لمئات السنين، وحوصر تمام المحاصرة. فهذه رسالة الحسين (ع) إلى من اجتمع في منى ذلك الوقت، ورسالته إلينا في هذا الزمان. ثم لم يدع حديثا ورد في حق أمير المؤمنين عن رسول الله، إلا وذكره، والناس يقولون: صدقت، صدقت يا أبا عبد الله. فهذا مؤتمر إسلامي عام وكبير للحجاج. الغرض منه ماذا؟ تبليغ مذهب أهل البيت إلى سائر الأقطار والأماكن. هذا في القسم الأول من أعمال الإمام الحسين (ع). القسم الثاني في المواجهة مع المخطط الأموي، نتحدث عنها، بعد الصلاة على محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد. فأول خطوة: التزم الإمام الحسين (ع) بالعهد والعقد الذي أجراه الإمام الحسن، ولم يغير فيه شيئا، ولم يحرك ساكنا. مع أن وفودا كثيرة جاءت من العراق، ومن الكوفة، ومن البصرة، وجاءت إليه شخصيات، وبعضهم من خُلَّص الشيعة، واستنهضوه، وحرَّكوه، والمظالم على قدم وساق. فذا معاوية يقتل، ويصادر الأموال، وغير ذلك. لكن الإمام الحسين (ع) كان يجيبهم إجابة واحدة: "مَا دَامَ مُعَاوِيَةُ حَيًّا الْزِمُوْا بُيُوتَكُم، فَإِذَا مَاتَ مُعَاوِيَةَ يَأْتِكُم رَأْيِي"، فماذا سيفعل؟ لم يقل لهم. فالإمام الحسين (ع) ذكي، ويعرف أن قسما من الناس لا يأتمنون على سر. فاليوم أنت تقول له سرا، فيذهب يخبر به كل البشرية. لذلك لم يقل لهم: أصنع ماذا. وإنما قال: الزموا بيوتكم، فإذا مات معاوية يأتكم رأيي. فذاك الوقت، أنا أخبركم ماذا يحدث. هذا كان لسان حاله باستمرار. حافظ على ما أجراه الإمام الحسن، ولم يغير فيه شيئا. مع كثرة الداعين إلى الانتفاضة، وكثرة المبادرين إلى الدعوة إلى التغيير، لم يصنع الإمام الحسين شيئا من هذا القبيل. هذا. اثنين: استمر في فضح الحالة الأموية والجرائم المرتبكة. وفي هذه الخطبة التي قدمنا بها، وهي عبارة عن رسالة من الإمام الحسين إلى معاوية. إذ أن معاوية أرسل للإمام الحسين: أنني أسمع أن جماعات يأتون إليك، ويمرون عليك، فاعلم أنه متى تكدني أكدك. أي إذا تكيد لي، أكيد لك، وإذا تتآمر علي، أعمل كذا وكذا. فأرسل إليه الإمام الحسين (ع) رسالة صاخبة، صارخة، قوية، بدأها بتعداد موبقاته وجرائمه، فقال له: "أَوَلَسْتَ قَاتِلَ عُدَيَّ بِنَ حِجْر الكَنَدِي صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابَهُ البَرَرَةُ مِنْ بَعْدِ مَا أَعْطَيْتَهُم الأَيْمَانَ المُغَلَّظَةَ وَالمَوَاثِيقَ المُوَثَّقَة"! ألست أنت هكذا، "أَوَلَسْتَ قَاتِلَ عُمَرَ بْنَ الحَمَقِ الخُزَاعِي صَاحِبَ رَسُولَ اللهِ الَّذِي أَدْأَبَ نَفْسَهُ فِي العِبَادَةِ حَتَّى ذَابَ بَدَنَهُ، بَعْدَ أَنْ أَعْطَيْتَهُ مِنَ المَوَاثِيقِ مَا لَوْ أَعْطَيْتَهُ طَائِرًا عَلَى جَبَلٍ لَنَزَلَ إِلَيكَ ثُمَّ غَدَرْتَ بِهِ وَمَكَرْتَ بِهِ"، ألست أنت هذا، هذا أنت الوالي الذي ليس عنده كلمة، ولا شرف للعهد والميثاق. "أَوَلَسْتَ المُسْتَلْحِق زِيَادًا – زياد بن أبيه – وَهُوَ المُوْلُودُ عَلَى فِرَاشِ عُبَيدٍ تَجَرُّءًا عَلَى حُكْمِ اللهِ وَهُزْءًا عَلَى كَلَامِ رَسُولِ اللهِ "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَر""، ألست هذا ما قمت به. ألست، ألست، ألست، وثيقة اتهام مفصلة لا يستطيع أن يردها معاوية. ثم قال له: "وَقُلْتَ إِنَّنِي أَسْعَى فِي الْفِتْنَةِ! وَاللهِ إِنِّي لَا أَعْرِفُ أو لَا أَعْلَمُ فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى أُمَّةِ رَسُولِ اللهِ مِنْ وَلَايَتِكَ عَلَيْهَا"، فهذه هي الفتنة الحقيقية الضارة، هي: نفس ولايتك على هذه الأمة. فكان (ع) يعمل على هذا الاتجاه بشكل صريح وواضح ويتحدث. لكن المواجهة الأكبر ما كانت هنا، المواجهة الأكبر كانت في قضية تولية معاوية لابنه يزيد للعهد. فهذه كانت قضية مفصلية، وهي فاتحة الخراب الأكبر في الأمة، وهذا عند حتى غير المدرسة الإمامية، الذين يقولون: أن الخلافة الراشدة كانت إلى زمان علي بن أبي طالب، ثم تحولت إلى ملك عضوض، وقضية متوارثة كسروية وقيصرية وهرقلية. فالأب يولي الولد من غير كفاءة! وهذا عند غيرنا أيضا. وأما عندنا، فقد قال الإمام الحسين، مقالته المعروفة: "وَعَلَى الإِسْلَامِ السَّلَامُ إِذَا بُلِيَتْ الأُمَّةُ بِرَاعٍ مِثْلَ يَزِيد". معاوية في هذا الأمر، اشتغل كثيرا، لما يقارب عشر سنوات أو أكثر، أولا: بدأ بمحاولة تلميع صورة يزيد بن معاوية. فقد كان يزيد معروفا، متهتكا، فأراد أن يلمع صورته. فأرسله مع بعض الجيوش حتى يقال أن هذا قائدا من قواد المسلمين، مجاهد، مقاتل. وذهب أيضا إلى تلك المعركة، فزاد في طينها أكثر، حسب التعبير. فنحن تحدثنا عن الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري - في مناسبة من المناسبات – وقلنا: ماذا صنع يزيد هناك، إذ جعل الجيش الإسلامي يذهب ويقاتل في منطقة انتشر فيها وباء الحمى، والبعوض الناقل له، فسقط هناك من المسلمين الضحايا، وماتوا هكذا، هو أين؟ في دير مرَّان، في منطقة جبلية، في حلب، في البرد، والهواء اللطيف، ومعه أيضا زوجته هند بنت عبدالله، ويعاقر الخمر، ويقول: وما علي إذا لاقت جموعهم بالفرقدونة من حمى ومن موم - الموم: يعني البعوض الكبار. إذا اتكأت على الأنماط مرتفقا بدير مران عندي أم كلثوم، فماذا علي بشأن أولئك! ليموتوا. وهذا أيضا لم يحسن قضيته، مع محاولة معاوية أن يلمع صورته. فإذن، أتينا إلى ما بعد 52 هجرية، إذ اشتغل معاوية أولا: على تصفية من يمكن أن ينافس يزيد كشخصية من الشخصيات. فبعض الباحثين يقولون: أن اغتيال الإمام الحسن بالسم كان أيضا في هذا الاتجاه. فلا يمكن أن يقبل الناس بيزيد وليا للعهد والحال أن الحسن المجتبى - الذي وقَّع معاوية على أنه بعده – موجود. فإذن الطريقة ما هي؟ أن يتخلص منه، باتفاق مع الأشعث ومع ابنته جعدة. أيضا، أتى إلى داخل الدائرة الأموية نفسها، فبدأ "يقصقص" حسب التعبير، فخالد بن الوليد القائد المعروف، كان عنده ولدان، المهاجر بن خالد، وهو من أفضل خلص أصحاب أمير المؤمنين علي (ع)، صحابي جليل، وشهيد صفين إلى جانب أمير المؤمنين (ع). وسبق أن كان وتحدثت عن حياة هذا الرجل وعن عظمته، وهذا واحد. في الطرف المقابل تماما، كان أخوه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وهذا أموي إلى النخاع، وشديد الوطأة على شيعة أهل البيت (ع). ولَّاه الأمويون على حمص، وأذاق شيعة أهل البيت الأمرَّين من العذاب. هذا الرجل، كان مقربا عند بني أمية، فأصبحت له شخصية، فحاكم حمص هذا، فلما بدأ معاوية يمهد إلى قضية يزيد، سأل جمع من أهل دمشق، في جلسة معهم: أنه أنا الآن كبر سني - لأنه ذاك الوقت، من بعد الخمسين، عمر معاوية كان قد تجاوز السبعين، فهو توفي أو مات في سنة 60 هجرية، وعمره 78 سنة - فقال: أنا كبر سني، ودق عظمي، وأريد أن أولي أحدا، فمن ترونه مناسبا؟ فقال عدد منهم: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. لكنه لا يريد هذا الجواب، يريد الجواب: ابنك يزيد. فرأى أن هذا منافس له، فماذا صنع؟ استقدمه إلى حمص، وقال له: يا عبد الرحمن بن خالد، تعال، إنا لدينا شغل معك في حمص. فأبقاه مدة هناك، وصادف أن مرض عبد الرحمن بن خالد، فقال له: أنا عندي طبيب خاص، متخصص، من أفضل الأطباء، فلا تستدعي أحدا يعالجك. فهذا طبيبي الخاص أرسله لك. وأعوز إلى هذا الطبيب بأن يفصده بريشة مسمومة. فأتى له: فصد، وهو إخراج الدم بطريقة معينة، معروفة في الطب، وهذه كانت مسمومة. فمات من فوره. انتهى في نفس الوقت، وهذا فيه درس: أن الظالم الذي يعين الظالم، تكون هذه نتيجته، "مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيهِ"، فيكون هو أول من يقع في هذه المسألة. هذا عبد الرحمن بن خالد. سعد بن أبي وقاص، ينقل صاحب مقاتل الطالبيين: أن سعد بن أبي وقاص، في الذاكرة الإسلامية العامة، واحد من أصحاب رسول الله، ولا يمكن أن يقبل الناس بيزيد، وسعد بن أبي وقاص صحابي ومقاتل وقائد جيوش! فماذا يصنع؟ أغلق ملفه أيضا، إذ دس له السم حسبما نقل صاحب مقاتل الطالبيين. وأتى إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، أيضا نفس الشيء، في سنة 53 هجرية، نفس الكلام، هناك حديث عن أنه دس إليه السم، وبعض المؤلفين، يقولون: في تلك السنوات هلك كثير من الناس من أصحاب رسول الله ومن التابعين، لا يعلم كيف هلكوا! هل هي "إيبولا" أتت إليهم، أو كورونا هجمت عليهم، فانتهى أمرهم. فالقضية كان فيها، في قسم من هؤلاء، كانت عمليات اغتيال مخططة، وتصفية للساحة من المنافسين، هذا شيء أول قام به. الشيء الثاني: جاء وأمر الولاة أن يبدأوا ببث هذه الفكرة. فأرسل إلى مروان بن الحكم أن يبلغ في المدينة أنه: نحن نريد أن نولي يزيد ولاية العهد. ومروان نفسه طامع فيها، فكيف يبلغ أنها ليزيد، فأرسل له رسالة: أن أهل المدينة لا يقبلون. فهو يريدها إلى نفسه. فقال له: أهل المدينة لا يقبلون، فبعث له معاوية: اعتزل عملنا. أي: إذا لا يقبلون، ابتعد، ابق جانبا. فعزله، وبقي معزولا، وولى مكانه الوليد بن عتبة. قدم إلى ابن زياد بن أبيه في البصرة، وأسرل له أيضا. فأعظم زياد الأمر، وبدأ يستشير جماعته، فيزيد رجل متهتك وليس خاف أمره على أحد. ولكن، مع ذلك، أرسل رسالة إلى يزيد: أنه أبوك يقول هكذا، فأنت خفف قليلا، من شرب وكذا، فلا يكون منك ذلك ليل ونهار، ليكن في الليل فقط. اللعب أيضا، لا يكن أمام الناس، ليكن بالخفاء، وهذه نفس وصية معاوية. إذ ذكروا أنه قد خاطب ابنه يزيد بشعر، وقال: انصب نهارا في طلاب العلا واصبر على هجر القريب الحبيب حتى إذا الليل أتى بالدجى - ظلام واكتحلت بالغمض عين الرقيب - أي الناس ذهبوا وناموا فباشر الليل بما تشتهي فإنما الليل نهار الأريب فافعل في الليل كما يريحك، لا أحد يراك، ولا أحد يدري عنك. لكن ماذا يخفي! يخفي ماذا أم ماذا، حسب التعبير. لأنه معاوية لاحقا جاء بنفسه إلى الإمام الحسين في المدينة، سنة 53، وسنة 56 هجرية؛ لكي يؤكد موضوع ولاية يزيد. فقام في هذا الجمع الذي كان في طليعته العبادلة الأربعة: ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وأيضا كان الحسين (ع). فبدأ معاوية يتحدث عن يزيد، وعن نفعه للأمة، وأنه نظر إلى هذه الأمة، وهو يكبر الآن، فرأى أنه لا بد أن يولي عليها أحدا، فلا يصح أن تترك هذه الأمة بلا وال، وبلا شخص - فيما بعد - يتولى أمرها، وهو حرص منه عليها، يولي عليها. وبدأ يمدح يزيد. فأراد ابن عباس أن يقوم، لكن الإمام الحسين أجلسه. قال له: اجلس، الأمر عندي. فقام الإمام الحسين (ع) وخطب، فقال بعد أن ذكر النبي بما هو أهله: "يَا مُعَاوِيَة، وَذَكَرْتَ يَزِيدَ كَأَنَّكَ تَصِفُ مَحْجُوبًا أَوْ تَنْعَتُ غَائِبًا"، أي: كأنك تتحدث عن أحد ليس معروفا عندنا، "فَدَعْ عَنْكَ يَزِيد وَمَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنَ اللَّعِبِ بِالْفُهُودِ وَالْقُرُودِ وَالحَمَامِ السُّبَّقِ لِأَتْرَابِهِنَّ وَالْقِيَانِ وَالمَعَازِفِ، وَمُعَاقَرَةِ الخَمْرِ"، دع عنك هذا، "وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الِخلَافَة". دعه، فهذا عنده فن في كيف يلعب بالقرود والفهود، ونحن نشهد له، بارع. كيف يلعب مع البنات ويفسد، بارع. كيف يعاقر الخمر، بارع أيضا. لكن قضية الخلافة ليست قياسه، ولا نسيجه، ولا قماشه. فأفسد الإمام الحسين عليه ذلك المجلس، ولم يقم أحد لكي يتكلم بشيء. ورأى معاوية أن الحسين عقبة كأداء، ولذلك، في مكة، فهذا كان في المدينة، ثم لما ذهبوا إلى الحج، إلى مكة، عقد مجلسا، وأرسل إلى هؤلاء، وفي طليعتهم الحسين، وقال لهم: انظروا، أنا سأتكلم غدا، فلو قام أحد منكم وقال كلمة مؤيدة أو مخالفة، يضرب عنقه. فحتى التأييد لا نريده، لا نريد أن يتكلم أحد، حتى لو أراد أحد أن يقوم حتى يؤيدنا في الموضوع، فلا نريده، لا أحد يتكلم، نريد الصمت، نريد السكوت. وهذه إرادة الحكام، هي هكذا، أنه: لا تتكلم بشيء أصلا، لا تؤيد ولا تعارض، كن صما بكما. فأرسل إليهم، وأوعز إلى رئيس الحرس، فقال له: هؤلاء أربعة، اجعل على رأس كل واحد منهم اثنين من الحرس، بيدهم السيف، فلو قام واحد منهم ليتكلم بتصديق أو تكذيب، فليضربوا عنقه، من دون الرجوع إليك، ولا الرجوع إلي. أي: لا يسألوا في ذلك الوقت: أنضرب عنقه أم لا. فهذا أمر ناجز وجاهز، ولا بد أن يضرب عنقه مباشرة. وبالفعل كان ذلك، ولم يقم أحد من الجماعة. وبالتالي لو أن الحسين - في هذه الأثناء – قام، لكان قد أهدر دم نفسه من دون فائدة تذكر. لكن التصدي من الإمام (ع) كان بهذا المستوى، وحاول أن يفسد خطة معاوية، وأن يبلغ هذا الأمر بين الناس. وهو بنفسه أيضا لم يقبل هذه الولاية إلى أن مات معاوية في الخامس عشر من رجب سنة 60 هجرية. تعلمون أن البريد جاء من الشام إلى المدينة، إلى الوليد بن عتبة، والي المدينة، وفيه: - أي في هذا البريد - خبر موت معاوية. يقول الطبري في تاريخه: وبذيل ذلك قصاصة صغيرة، كأنها أذن فأرة، فهي صغيرة جدا، لأنها خطاب سري ملحق بالخبر، وفيه: انظر هؤلاء الأربعة: الحسين، ابن عباس، ابن الزبير، ابن عمر، وخذ عليهم البيعة مؤكدا في ذلك. فإن استجابوا، فهو. وإن لم يستجيبوا، فاضرب أعناقهم. فليس في المسألة لعب، إذ استُدعي الإمام الحسين إلى ديوان الوليد بن عتبة، وكان ذلك في الليل أيضا، والإمام الحسين (ع) كان يعلم بهذا الأمر، فاستسعى أن يأتي معه بعض بنو هاشم، أبو الفضل العباس، علي الأكبر، أمثال هؤلاء، أبناؤه، أبناء عمومته، وقال لهم: كونوا على باب القصر، على باب الدار، باب ديوان الإمارة، وأنا أدخل، فإذا حصل طارئ، اقتحموا الدار. دخل الإمام الحسين (ع) وكان مروان موجودا والوليد بن عتبة أيضا. ومروان رجل عجيب الشخصية، فهو يحتاج إلى تحليل. إذ كان من أيام عثمان بن عفان إلى أن هلك مخنوقا بوسادة زوجته، فهو رجل خنقته زوجته، التي هي أم خالد بن يزيد. يعني: زوجة يزيد، تزوجها هو، وكان يعير ابنه، يعير ابنها خالد، بأشياء قبيحة جدا، لا تناسب الرجل العادي، فضلا عن الخليفة، أي: كان يصفها أمام الناس أنها كذا، هذه الأشياء الداخلية الخاصة، التي يصعب على الواحد أن يقولها فوق المنبر، هو كان يقولها: أنت يا بن فلانة، التي كذا وكذا منها. إلى أن هي ما عادت تتحمل منه هذا الأمر، فجعلت وسادة عليه وخنقته في ذلك الوقت. هذا الرجل، من أيام عثمان إلى أن هلك بهذه الصورة، كان مسعر فتن، ومصدر مشاكل للأمة، وهذا واحد من أماكنها. لما دخل الإمام الحسين (ع)، قال له الوليد بن عتبة: أن معاوية قد توفي - فاسترجع الإمام الحسين (ع)، وهذا ذكر لا مشكلة فيه - وقد تولى الأمر من بعده ابنه يزيد، وهو يدعوك إلى بيعته. فإن تبايع، تكن من المقربين، و، و، و، إلى آخره. فالإمام الحسين أراد أن ينهي الأمر بسرعة، فقال له: "يَا أَمِير، مَا أَظُنُّك تَرْضَى بِبَيْعَتِي سِرُّا"، فأنا لست شخصية من داخل إلى داخل، رجل إذا أريد أعلن بيعتي، أعلنها أمام الملأ، وفي الضياء، "لَكِنْ نُصْبِحُ وَتُصْبِحُونَ وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُونَ أَيُّنَا أَحَقُّ بِالخِلَافَةِ"، وكانت هذه محاولة لتأجيل الصراع الحاسم. والوليد كان سيقبل بهذا الأمر. فهو في طبيعته ليس صداميا مثل مروان. لكن مروان بن الحكم يريد أن يصطدموا هذين الاثنين، فهو بهذا لا يخسر شيئا أبدا، فقال له، لأنه كان بينهما تنافس، فبين مروان وبين الوليد كان تنافسا على الإمارة، فقال: "يَا أَمِير فَإِنْ فَاتَكَ الثَّعْلَبُ فَلَنْ تَرَ إِلًّا غُبَارَهُ، الرَّأْيُ: أَنْ تُوثِقَهُ كِتَافَا"، تكتفه بحبل، وتدعوه إلى البيعة، "فَإِنْ بَايَعَ فَهُوَ وَإِلَّا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمُرْنِي حَتَّى أَضْرِبَ عُنُقَهُ". الإمام الحسين (ع) أبي الضيم صلوات الله وسلامه عليه، نفس أبيه بين جنبيه، عزيز العرب في داخله كامن، قال له: "يَا بْنَ الزَّرْقَاء" أأنت تعرف ماذا أصلك؟! ماذا فصلك؟! تاريخك، من أي أم جئت؟! فابن الزرقاء أيضا هو حكاية تحتاج إلى توضيح أكثر من هذا. "أَنْتَ تَقْتُلَنِي أَمْ هُوَ! كَذَبْتَ وَاللهِ وَلَؤُمْت". فلا أنت تقدر أن تقتل، ولا هو يقدر أن يقتل. ثم التفت، وأنهى الأمر بقوله: "يَا أَمِير، إِنَّا أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَعْدِنُ الرِّسَالَةِ، بِنَا فَتَحَ اللهُ وَبِنَا يَخْتُم"، هذا نحن، "وَيَزِيد رَجُلٌ فَاسِقٌ فَاجِرٌ شَارِبُ الخُمُورِ عَامِلٌ بِالفُجُورِ قَاتِلُ النَّفْسِ المُحْتَرَمَةِ، مِثْلِي لَا يُبَايِعُ مِثْلَهُ". انتهى الموضوع. طبعا لما صعد صوت الإمام (ع) بهذه الصورة، اقتحم بنو هاشم دار الإمارة، يتقدمهم أبو الفضل العباس، صاحب النجدة، صاحب الشهامة؛ لكي يدافعوا عن أخيهم الحسين (ع)، وكثيرا ما كانوا في مثل هذه المواقف وغيرها مدافعين، أشداء عن الإمام (ع). عزم الإمام الحسين في اليوم الثاني على الخروج من المدينة، فلماذا خرج من المدينة؟ لماذا اختار مكة؟ هذا يحتاج إلى بحث آخر، لكن خذها هكذا. وقد كان يريد أن يودع جده رسول الله وداع من لا يعود بعد. فعنده تجربة، فهذا أمير المؤمنين (ع) قد خرج من المدينة، واحتضنته الكوفة صريعا في محرابه مشقوق الرأس، ثم لم يرجع. وهذا الحسين أيضا يخرج من المدينة، ولن يرجع إليها؛ لذلك ودع وداع من لا يعود.