من فقهيات القضية الحسينية
كتابة الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال
قال سيدنا رسول الله (ص): "إِنَّ الحُسَينَ مِصْبَاحُ الهُدَى وَسَفِينَةُ النَّجَاة". صدق سيدنا ومولانا رسول الله (ص). عطروا مجالسكم بذكر محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد.
مسيرة الحسين (ع) قد بدأت في أواخر شهر رجب، منطلقا من المدينة المنورة باتجاه مكة المكرمة، ثم إلى كربلاء. في سفرة استغرقت خمسة أشهر، تزيد قليلا. هذه الفترة لا ريب أنها احتضنت من تفاصيل الأعمال والأقوال ما يشكل إجابة عن أسئلة، وما يثير أيضا أسئلة أخرى. خصوصا أن صاحب هذا السفر الذي تحرك فيه هو إمام معصوم عند الشيعة الامامية، وبالتالي فإن أقواله كأفعاله كتقريراته للأفعال، تصبح إحدى الحجج الشرعية التي تستنبط منها الأحكام.
فالأعمال التي قام بها، ومنها أصل هذه الحركة، تجيب على سؤال يجوز أو لا يجوز. ففي تفاصيل هذه الحركة هناك أعمال أيضا، كما سيأتي بعد قليل. بل حتى على رأي مدرسة الخلفاء، فإنهم وإن لم يعترفوا بالحسين (ع) كإمام معصوم، إلا أنهم يرونه صحابيا من صحابة رسول الله، وصحابة رسول الله عندهم عملهم يعتبر حجة من الحجج. أي أن عمل الصحابي في مدرسة الخلفاء يعتبر أحد الأدلة على الأحكام الشرعية، والإمام الحسين وغيره كانوا من صغار الصحابة الذين يمكن لهم أن يتلقوا عن رسول الله العلم والحديث.
فمثلما عند الامامية، وإن كان في درجة أعلى، أقوال الإمام الحسين، أفعاله، حركاته، هي إجابات على أسئلة، وتعريف بالأحكام. كذلك يفترض أيضا أن تكون حتى على رأي أتباع مدرسة الخلفاء؛ لأنهم يرون الحسين صحابيا من الصحابة، وعمل الصحابي عندهم من أدلة الأحكام الشرعية.
في هذه الحركة الحسينية، نجد أسئلة كبرى تحتاج إلى إجابات، ونجد أسئلة تفصيلية، ونجد أيضا بعض القضايا التي ترتبط بالحادثة بعد انتهائها. فمثلا من القسم الأول: نجد موضوع أصل الخروج على الحاكم المسلم الجائر، الحاكم المسلم الظالم، هل يجوز أو يجب الخروج عليه؟ وضمن أية ظروف وشروط؟
فحركة الإمام الحسين (ع) في نتيجتها هي حركة معارضة، حركة خروج، حركة إعلان خلع لهذا الحاكم الظالم. فإذن، هي: عمل قام به إمام معصوم عند الامامية، وعمل قام به صحابي جليل عند غير الامامية، ينتهي إلى أن هذا العمل إما أن يخطأ فيه الإمام أو أن يصبح دليلا على جواز ذلك.
إما تقول، وهذا سؤال محرج، وبالفعل، بالذات في فقه مدرسة الخلفاء، كان هذا السؤال عريضا ومحرجا: هل أن الحسين (ع) كان مخطئا في هذا الخروج؟ أم أن خروجه ينبغي أن يكون سنة لمن بعده؟ يعني: سائر المسلمين ينبغي أن يستنوا بسنته. هذا في أصل قضية الخروج.
أما عند الامامية فالقضية محسومة: أن الحاكم الجائر، لا سيما الذي لم تنعقد له بيعة شرعية، فأمر الخروج والثورة عليه إذا ظلم واضطهد، يجوز. وهذا تاريخ الشيعة، وممارساتهم، شاهد على هذا المعنى. لكن السؤال موجود في المدرسة الأخرى، وبالذات في المدرسة التقليدية، التي تحمل رايتها اليوم المدرسة السلفية: أنه الحاكم المسلم الذي يجور ويظلم، هل يجوز الخروج عليه أم لا؟
عندهم رأي يقول: أنه لا يجوز الخروج على الحاكم الجائر وإن ظلم، وإن فسق، إلا أن يظهر منه الكفر. وليس الفسق، فلو إن شاء الله يعمل من الفسوق ما يشاء، لكن لم يكفر، وليس كفرا عاديا، بل كفرا لا تأويل فيه، لا مجال لأن يفسر. فإذا ثم مجال أن يفسر، فلا يصح الخروج عليه. هذا شرط من الشروط. وشرط آخر: أن يكون عند القائم والثائر قدرة كافية لخلعه ونزعه، وأن لا يكون ذلك الحاكم أقوى منه، وأن لا يلزم منه فتنة اجتماعية، وعلى هذا المعدل.
أما سائر المدارس، في ضمن الإطار العام لتوجه مدرسة الخلفاء، ليس عندهم هذا الرأي، واستدلالهم في الغالب هو: بخروج الحسين سلام الله عليه. فإذن هذه من القضايا الكبرى، التي فيها نفس خروج الحسين هو قضية فقهية، فهل يجوز الخروج على الحاكم الجائر المسلم أو لا يجوز؟ هذه من القضايا الكبرى التي تجيب عليها قضية خروج الإمام الحسين (ع).
فإن جاز الخروج، هل يجوز الخروج إلى حد القتل، والقتال، وحتى سبي النساء، كما حصل بالنسبة إلى الإمام الحسين (ع)، وهذا أيضا من جملة الإجابات. وفي مدرسة الامامية - كما قلت - باعتبار أن الحسين معصوم (ع)، فالإجابات واضحة.
عندنا قضايا أخرى فقهية تفصيلية، في أثناء هذه الحركة الحسينية، مثلا: ما ورد في قضية مسلم بن عقيل، عندما استدرج عبيد الله بن زياد إلى بيت هانئ بن عروة المرادي، وكان قد أنزل فيه شريك بن الأعور، وكان مريضا، وهو من شيعة أهل البيت (ع)، ومن شخصياتهم، فنزل عنده، وهو بصري، ولكن جاء إلى الكوفة، ونزل عنده، ومرض هناك. فزاره عبيد الله بن زياد. وهنا صار كلام: أنه هل يمكن اغتيال عبيد الله بن زياد في بيت هانئ بن عروة، وهو غافل أم لا؟ الأمر الذي لم يفعله مسلم بن عقيل، وقال: "الإِيمَانُ قَيْدُ الْفَتْكِ"، أو "قَيَّدَ الْفَتْكَ"، في حديث نقله عن النبي (ص). وهذا أيضا من المسائل: فهل يصح - مثلا - أن تستدرج عدوا ظالما فاسقا إلى مكان مأمن، ثم تفتك به؟ يجوز أو لا؟
من المسائل، قضايا تفصيلية، مثل الصلاة التي صلاها الإمام (ع) في يوم عاشوراء، هل هي صلاة المسايفة التي ينطبق عليها عنوان: صلاة الخوف. فعندما يلتحم الجيشان ويتقاتلان بحيث لا يكون هناك فترة فاصلة بينهما، وهذا يحدث أحيانا، اشتباك مستمر بين المتقاتلين، فلا هذا الطرف لديه فرصة، ولا ذاك الطرف، فهل يتركون الصلاة؟ لا يمكن. فيصلون صلاة الخوف. فهل صنع ذلك الإمام الحسين (ع)، أم أنه لا، قصر الصلاة، باعتبار أن الإمام الحسين يعلم أن لن يكون في كربلاء عشرة أيام، وبالتالي غاية الأمر: سيصلي قصرا مع اتخاذ الاحتياطات أن لا يرموا بالنبال.
خروج الإمام الحسين من مكة، هل كان قد أحرم لعمرة التمتع، أم لا، وبالتالي كيف يمكن أن تخرَّج فقهيا قضية أن يحل إنسان من إحرامه لعمرة التمتع، لحج التمتع، حتى بعد ذلك يستطيع أن يتحلل. وأمثال هذا موجود من القضايا التفصيلية في هذه المسيرة.
عندنا قضايا فقهية أعقبت حادثة كربلاء، وهي تحتاج إلى إجابات. بدءا من قضية البكاء على الإمام (ع) وعلى أصحابه، إقامة المأتم - فالبكاء على الحسين شيء، وإقامة المأتم شيء آخر - الوقف على الحسين وعلى القضية الحسينية، يجوز أو لا يجوز؟ صرف المال في الإطعام، هل هو سائغ أم لا؟ فهذه الآن عند أتباع مذهب أهل البيت (ع) محسومة من الناحية الفقهية باتجاه الجواز بما دوَّنه علماؤنا وفقهاؤنا رضوان الله تعالى عليهم، وأقاموا أدلته.
وأشير هنا إلى الجهد الرائع الذي قام به الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي، صاحب المراجعات، ونحن لما نقول: صاحب المراجعات، فباعتبار شهرة الكتاب، وإلا الرجل فقيه من فقهاء الدرجة الأولى، أي لديه كتب في الفقه الاستدلالي، لديه في الأصول، قامة علمية من القامات الشاهقة، رجل مجاهد، قاوم الاستعمار الفرنسي، وطارده الاستعمار الفرنسي في لبنان وسوريا، وحاول إلقاء القبض عليه، وأيضا أحرق مكتبته التي كانت في لبنان، وذهب منها - على الأقل - 17 مخطوطا من كتبه النفيسة التي أشار إليها فيما بعد. وقد ذهبت من القائمة؛ لأنه لم يكن فيها إلا نسخة واحدة.
فالرجل فيه ميزات، أنا تحدثت عنه في أحد المناسبات، وهو منهج، إذ ينبغي أن يلتفت شيعة أهل البيت إلى الأشخاص، إلى العلماء، الذين عندهم منهج. فالعلماء كثيرون، والحمد لله، فهذه المدرسة مباركة، لكن أصحاب المناهج الخاصة والمدارس الخاصة، هؤلاء ليسوا بتلك الكثرة، وواحد منهم: السيد عبد الحسين شرف الدين، كان عنده تجديد في قضايا المنبر، وكان عنده كتب في هذا المجال. وعنده كتاب أيضا دوَّن فيه هذه المسائل، القضايا الأدلة، الأدلة الفقهية على ما يقوم به الشيعة الامامية.
فإذن عندنا، مثل هذه القضايا محسومة. لكن عند الأطراف الأخرى قد لا تكون محسومة. لذلك نحن نحاول أن نتعرض هذه الليلة إلى بعض منها، بالرغم من أنها – كما قلنا – بعضها هي محسومة من الناحية الفقهية، لكن نحن لا يغنينا فقط أن يكون دليلنا عندنا موجودا، وإنما ينبغي أن نصحر في معارف أهل البيت، وفي علوم أهل البيت، إلى عامة المسلمين حتى يتعرفوا على هذا المنهج..
إذن نتعرض إلى هذا القسم الأخير، ما يرتبط بالممارسات التي يقوم بها شيعة أهل البيت (ع) فيما يتصل بالقضية الحسينية، وأوضحها: قضية الحزن، والبكاء، وإقامة المأتم، وما يرتبط بذلك من نشاطات. فهل هذا أمر سائد أم لا.
أشير هنا إلى منهجين في المعالجات الفقهية، سواء عند مدرسة الخلفاء، أو عند مدرسة أهل البيت.
المنهج الأول: يعتقد أن الأنبياء عندما يأتون إلى المجتمع البشرية، يأتون وأمامهم صفحة بيضاء، فيكتبون على هذه الصفحة البيضاء تشريعات ودساتير مفصلة. ولهذا يعتقد هؤلاء أنه إذا جئنا فرأينا نصا يصرح بجواز هذا العمل، يكون جائزا. فإذا ليس هناك من أثر يقول لنا: افعلوا، أو أن النبي فعل. فالمفروض أن نتوقف. لماذا؟ لأن الأنبياء عندما يأتون، يأتون بالتفاصيل كلها، ويكتبونها على صفحة الحياة البشرية. وهذا المنهج غالبا يلتزم به أهل الحديث من مدرسة الخلفاء.
فأهل الحديث من مدرسة الخلفاء، عندما تقول له أي شيء، يقول لك: هات لي شيئا من رسول الله، حتى فيما بينهم، وليس فقط فيما يرتبط بنا. فمثلا: قضية المولد النبوي. قضية المولد النبوي عند أكثر المسلمين من مدرسة الخلفاء راجحة ومستحبة ويهتمون بها اهتماما كبيرا، لا سيما أتباع المذهبين المالكي والشافعي، يهتمون بها اهتماما عظيما. لكن أتباع المدرسة السلفية يخالفون هذا الأمر بنفس القوة والحدة.
فيأتي ويقول لك: هل أن النبي قد احتفل بمولده؟ فأقام له عيد ميلاد مثلا؟ لم يفعل. هل أن الجيل الأول من المسلمين، الصحابة، احتفلوا بميلاد رسول الله، وجلبوا له كعكا مثلا، وقطعوها، وإلى آخره؟ لم يفعلوا. فإن لم يكن كذلك، يكون هذا عمل غير مشروع. لماذا؟ يقول لك: لاعتماده على أن الدين عندما يأتي، يكتب التفاصيل على صفحة الحياة البشرية، فإذا رأينا فلان مكان ليس هناك من شيء، فمعنى ذلك: لا يسوغ لنا. وهذا عادة عند أهل الحديث، ولا سيما في المدرسة الأخرى، مدرسة الخلفاء، وبعض أتباع المدرسة الامامية ولكن بنسبة قليلة. هذا المنهج الأول.
المنهج الثاني ينتهي إلى شيء آخر. يقول لك: نحن لا بد أن نفرق بين أمرين، قسمين: قسم العبادات، وقسم المعاملات. العبادات: من صلاة وصوم وحج واعتكاف وما شابه ذلك، فهذه أمور تعتمد على التوقيف. فلا يتدخل فيها الإنسان أبدا. فقد جاءت بشكل معين، فهي لا بد أن تؤدى بنفس ذلك الشكل زمانا ومكانا وكيفية. فلا مجال فيها أصلا للاقتراح.
جاءكم الحج، والموقف فيه هو يوم التاسع من ذي الحجة. فيأتي أحد ويقترح: بدل هذه الزحمة، لماذا لا يكون كل تاسع، من كل شهر، حج؟ بحيث يتوزع الناس، فتاسع محرم: موقف الجماعة الفلانية، وتاسع صفر: موقف جماعة، وتاسع ربيع، وعلى هذا المعدل. لا يمكنك أن تفعل هذا. هذا أمر عبادي لا مجال للدخول فيه، ولا التغيير، ولا التبديل، ولا الاقتراح. الصوم كذلك، الصلاة كذلك. لكن أمر المعاملات وإدارة الحياة الإنسانية ليست هكذا.
إدارة الحياة الإنسانية، الدين لا يأتي مؤسسا فيها. لا يبتكر، لا يؤسس، وإنما يمضي. يعني ماذا؟ يعني ليس عندنا نبي يأتي ويعلم الناس كيف تبيعون وتشترون؟ كيف تبيع، تعال أعلمك. كيف تقوم بمضاربة، تعال أعلمك. كيف تتزوج، تعال أعلمك من جديد. لا يوجد هذا الشيء. وإنما هي في الغالب إمضاءات أو ردع؛ لأن النبي يأتي في مجتمع، هو مجتمع موجود وقد أقام العقلاء فيه نظاما معينا. فقالوا: نحتاج إلى أن نبدل السلع، فابتكروا فكرة البيع. أرادوا أن يشغِّلوا أموالهم، ابتكروا فكرة المضاربة. أرادوا أن يتناسلوا، فكان موضوع الزواج. أرادوا أن يفترقوا إذا لم يتفقوا، فكانت فكرة الطلاق.
هنا، يأتي الدين إما يمضي شيئا بكامله، فيقول ماذا: (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ). أي هذا البيع الذي عندكم، هو عندكم قبل أن يأتي النبي محمد (ص)، ومن قبل أن يولد، إذ كان يوجد بيع وشراء. فلما أتى النبي (ص) أحل هذا البيع الموجود عندكم، أي جعل هذا حلال، جائز. لكن بعض أنواع المعاملات مرفوضة، مثل: الربا. فالربا فيه آثار أخلاقية سيئة، وآثار اقتصادية مدمرة، فهو حرام وغير جائز.
فيأتي يعدل بعض الشروط، فهذا الأصل موجود. في الطلاق على سبيل المثال، كان يكفي في زمان الجاهلية أن يقول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك، أو غيبي وجهك عني، لا أريد أن أراك. يطردها، فيحصل الطلاق.
فجاء الدين، وقال: لا. نحن نريد أن نقلل فرص الطلاق. لا نريده سهلا، فإذن لا بد من ماذا؟ من شروط إضافية فيه، على قاعدة: إذا كثرت القيود، قل الموجود. فيقول: لا بد أن يكون هناك شاهدان، وشاهدان عادلان، يسمعا الطلاق. لا توجد مسألة أنك لاحقا تذهب إليهم وتخبرهم. وأن لا تكون المرأة غير طاهر، وأن لا تكون هناك مواقعة في هذا الطهر، حتى يؤخر ويدفع إلى الخلف، إلى عدم الطلاق. فليست المسألة أنك الآن أتيت، فرأيت الطعام غير جاهز، غضبت، وقلت: الحقي بأهلك. فوقع الطلاق! لا، انتظر، اذهب ابحث لك عن الشهود، ربما يبرد غضبك.
ثم إذا أتيت بالشهود، فهل هي الآن في غير طهر، في حالة الدورة الشهرية، فانتظر أسبوعا كاملا حتى تطهر، ثم إلى أسبوع "أفراج" حسب التعبير. فيأتي الشرع هنا، فلا يصنع الطلاق، لا يبتكر الطلاق، فالطلاق موجود عند المجتمعات، وإنما يصنع شروطا له وقواعد تحدده. المضاربة أيضا، يأتي الدين ويقول لك: لا بد أن تكون هكذا، بنسبة، وليس بمبلغ معين. وعلى هذا المعدل.
فإذا كان هكذا، وجئنا ورأينا أن المجتمع قائم على نظام معين، فإذا الشرع لم يقل لنا أنه ذا ليس زينا، وما ردع عنه، وما منع منه، فما قال: (حَرَّمَ الرِّبَا)، أي لو فرضنا أنه ما جاء في القرآن: (حَرَّمَ الرِّبَا)، وما جاء في الأحاديث: "دِرْهَمُ رِبَا أَشَدُّ مِنْ زِنْيَةٍ بِمِحْرَمٍ فِي بَيْتِ اللهِ الحَرَام"، فلو هذا ما جاء، كانت حتى المعاملات الربوية، جائزة أيضا. لماذا؟ لأنه لا يوجد ردع عنها، لا يوجد منع.
فإذن، سأجمع لك المبحث، المنهج الثاني يقول: لا بد أن نفرق بين العبادات وبين المعاملات. فالعبادات لا يمكن للواحد منا أن يتصرف فيها، فهي ليست شغل المجتمعات. فأي اقتراح فيها، مرفوض. أي عالم لا يمكن أن يغير ويبدل فيها. لكن المعاملات شيء آخر، فهي اعتبارات عقلائية، بين عقلاء الناس، يقومون بها لتنظيم حياتهم الاجتماعية، والشرع يأتي: إما يمضيها بالكامل، فيقول: هذه مجازة. أو يقول: لا، هذه باطلة، ولا تقوموا بها، أو هذه صحيحة بهذه الشروط.
فإذا جئنا مكانا ورأينا عملا من الأعمال التي ما قال الشرع فيها شيئا، ما منع عنها، فهنا نقول: هذا العمل من الأعمال الجائزة. ومن ذلك: قضية المراثي، وإظهار الحزن على المفقودين، وإظهار التألم والبكاء. فإن هذا الأمر كان موجودا، ولا يزال، حتى في غير المجتمعات المتدينة والمسلمة. فهي حالة من الرحمة، حالة من العاطفة. الإنسان ليس أسطوانة، ليس شجرة، يتأثر، وهذا الذي يشير إليه النبي المصطفى محمد (ص)، فيقول: "إِنَّ القَلْبَ لَيَحْزَن وَإِنَّ العَيْنَ لَتَدْمَع".
يعني هذا القلب الذي لا يحزن ليس بقلب. وهذه العين التي لا تدمع ليست بعين. هذه جدار، هذه شجرة، هذه خشب. ليس إنسانا. فالإنسان عواطف ومشاعر، فإذا لم تظهر عليه هذه الآثار، فجزء من إنسانيته مخدوش. وهذا موجود حتى في زمان الجاهلية.
ومما ينقل في زمان الجاهلية، كثرة بكاء الخنساء على أخيها صخر. فالخنساء السلمية: امرأة، كانت في الجاهلية، أدركت الإسلام، فأسلمت. توفيت في حدود سنة 24 هجرية. وهذه تعتبر - في الأدب العربي - من أفخم من رثت أخا من الإخوة. أي لا يوجد شعر في اللغة العربية قبلها، كان بفخامة رثائها لأخيها. ولها الكثير من القصائد.
قذى بعينك أم بالعين عوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار
وإن صخرا لتاتم الهداة به كانه علم في رأسه نار
وإن صخرا لمولانا وسيدنا وإن صخرا إذا نشتو لنحار
إلى غير ذلك. شعر فخم عندها. ينقل في كتب مدرسة الخلفاء، يعني: الكتب التي دُوِّنت في أحوال الصحابة؛ لأنها تعتبر من الصحابيات، باعتبار أنها أدركت رسول الله وأسلمت. ينقل في هذه الكتب: كالاستيعاب، والإصابة، وغيرها، الإصابة في معرفة الصحابة. والاستيعاب في أحوال الأصحاب. يذكرون: أن النبي (ص) كان إذا رآها أو جاءت إليه، كان يشير إليها أن تقرأ بعض أشعارها في رثاء أخيها، ويقول لها: إيه يا خِناس أو يا خُناس. يعني اقرئي، أنشدي من شعرك. وهذا منقول في كتب مدرسة الخلفاء.
المحقق التستري أعلى الله مقامه، أحد علماءنا الكبار الرجاليين، في كتابه: قاموس الرجال، نقل هذا المعنى أيضا في حياتها، ولم يعقب عليه، يعني: لم يقل هذا مخالف لشأن رسول الله، أو هذا غير ثابت، أو شيئا من هذا القبيل.
الشاهد أين؟ إذا صح هذا الخبر، فمعنى هذا: أن النبي (ص) كان يرى هذا الأمر أمرا طبيعيا، أن أختا ترثي أخاها. وقد كان صخر بالنسبة إليها عمود خيمتها، كما يقولون. ومن يراجع، يجد كيف كان حنونا عليها ويرعاها، فيعذرها لماذا كانت تنشد فيه بهذا الشكل. فهناك بعض الأخوة، ربما الأخت تقول يا رب: عجل به إلى الجنة بسرعة، على الأقل، حتى نحصل على الميراث سريعا. وهذا أخ. يا رب عجل أمره، حتى أمورنا تسهل. وهناك أخو، لا، الأخت تنوح عليه طوال عمرها، وتشعر مع ذلك بأنها مقصرة في حقه.
فإذا صحت هذه الرواية، أي رأى النبي (ص) امرأة تنوح على أخيها، وهو رجل قُتل في الجاهلية، ومع ذلك يعتبر هذا من المشاعر الإنسانية العادية، ومعنى هذا: لم يكن هناك ردع أو منع. فكيف إذا كان الأخ مؤمنا؟ وكيف إذا كان من علية المؤمنين؟ وكيف إذا كان مثل الحسين صلوات الله وسلامه عليه؟
هذا إذا كنا نقول: أننا لا نحتاج إلى أحاديث ولا إلى روايات، ويكفي أن تكون هناك سيرة عقلاء، وأن الشارع المقدس لم يمنع منها ولم يردع. فالشرع جاء ورأى أنهم يبكون على أحبائهم ومن يعظمونهم. وهذا شيء طبيعي، هذه قلوب حية، يقظة، هذه مشاعر إنسانية، طبيعية، والشرع لم يقل: هذا ممنوع.
ولعل واحد يأتي ويقول: أنه أتباع مدرسة الخلفاء ينقلون بعض الروايات عن النبي مخالفة لهذا، مثل: رواية عندهم، عن بن عمر، وعن عمر بن الخطاب: أن النبي (ص) مر على جنازة رجل، وكان أهله يبكون، فقال: "إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيهِ". فإذا هذه الرواية موجودة، فمعناها ماذا؟ أنه يوجد ردع ومنع من هذا الأمر. وهذه الرواية هي في مدرسة الخلفاء عبارة عن معركة كبيرة. لأنه توجد رواية مخالفة لها تماما، ينقلونها عن عائشة، زوجة النبي، وعائشة عندهم أضبط في هذه الجهة، بل هي تقول: "أَنَّ ابْنَ عُمَر وَهِمِ". أي هو متوهم لما نقل هذا الكلام. وإنما قال النبي: "إِنَّهُم لَيَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ"؛ لأنها كانت جنازة يهودي، واليهودي محله العذاب. وهؤلاء يبكون عليه! وهذا الكلام لا مشكلة فيه، فمصيره إلى النار، حتى لو أهله بكوا عليه.
وهذا أين، وذاك أين: أنه إذا أحد مسلم يبكي عليه أهله، يُعذب! فأولا: هي الرواية تعارضها روايات أخرى عندهم، لذلك وقعت معركة حامية الوطيس، وغبارها ما خمد إلى الآن. فأي الروايتين صحيحة، هذه منقولة في صحاحهم، وتلك منقولة في صحاحهم. هذه عن صحابي، وهذه عن صحابي. أما نحن فنعتقد أن هذه الرواية ليست صادرة عن رسول الله (ص).
ثم إذا كان هذا الكلام صحيح، فهو يخالف ما كان عليه رسول الله (ص). فرسول الله (ص) بكى. بكى على حمزة، وبكى على زيد بن حارثة، وبكى على جعفر بن أبي طالب، وبكى على إبراهيم، وبكى على عدد كبير ممن ذكرهم صاحب العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي. إذ ذكر عددا كبيرا ممن بكى عليهم رسول الله (ص) في باب المراثي.
فإذا كان الذي يبكي على واحد يُعذب هذا الواحد ببكاء الحي عليه، فالنبي لم يقم بعمل طيب مع حمزة، ولا بعمل طيب مع زيد وجعفر، ولا بعمل طيب مع إبراهيم. فهذا الحديث مخالف لسنة رسول الله (ص) فلا يعتبر به، على أنه مخالف للقرآن الكريم: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
وإذا التزمنا بهذا الحديث، معنى ذلك: لو أريد أن أعذب أحدا بنحو زائد، سأقتل نفسي من البكاء عليه، حتى هناك يتولونه بالعذاب. وهذا أمر غير معقول. بالإضافة إلى ذلك أن النبي المصطفى صلوات الله عليه نقل عنه كثيرا أنه بكى على أصحابه بكاء ظاهرا إلى حد النشيج.
ينقلون: لما استشهد حمزة ابن عبد المطلب رضوان الله تعالى عليه، جاء النبي ومعه فاطمة، إلى صفية بنت عبد المطلب، أخت حمزة، عمة النبي، كنوع من المواساة. فكان كلما بكت صفية بكى رسول الله، وإذا نشجت صفية نشج رسول الله. فإذا فرغت صفية، بكت فاطمة، فبكى رسول الله، وإذا نشجت فاطمة، نشج رسول الله.
تدري، عادة النساء أرق قلبا، أسرع دمعة من الرجال. فإذا يجتمعون، خصوصا في مصيبة، فعادة سرعة البكاء عندهن أكثر. فهذه أخت حمزة وفاطمة الزهراء (ع) كن يبكين ورسول الله يبكي معهن. وليس فقط بكاء، لأن البكاء يصدق حتى على سيلان الدمع. بل نشيج، كان ينشج رسول الله، وهو ظهور الصوت والأنفاس المتلاحقة، يسمى نشيج. فلو كان الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، فكيف ينسجم مع هذا!
كان يبكي على زيد بن حارثة، وعلى جعفر بن أبي طالب، عندما وصل خبر استشهاده، حتى قال له بعض أصحابه، ويظهر من خلال بعض القرائن أن هذه الحالة كانت موجودة عند قسم من أصحاب رسول الله، وهي حالة بدوية خشنة، وإلى الآن موجودة، إذ يعتبر قسم من هؤلاء أن البكاء ليس من شيمة الرجال. البكاء للنساء، والرجل لا يبكي، الرجل خشب، كنكريت مسلح. ليس له قلب، ليس له عواطف، ليس له مشاعر.
أذكر مرة من المرات، كنا في البقيع، فجاء أحد هؤلاء ممن لا ينهجون منهج أهل البيت الحق، فرأى جموع الناس تبكي، وتتألم، وتدمع، فظل يصرخ: الرجل لا يبكي، الرجل لا يبكي، المرأة التي تبكي. نعم، الرجل عنده لا يبكي، لأنه خشب، ولا يتأثر، فلا في الدعاء يبكي، لا في القرآن يبكي، لا في المصيبة يبكي، هذا إنسان مخلوق من نوع ثان أصلا.
فسأله بعض الحاضرين، قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، حَتَّى أَنْت؟!" أو "هَذَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!" أي أنت أيضا تبكي. قال: "إِنَّمَا هِيَ رَحْمَةٌ، كَانَا يُؤْنِسَانِي وَيُحَدِثَانِي"، أو "كَانَ مُؤْنِسَايَ وَمُحَدِّثَايَ". أي هؤلاء كانوا هكذا، بالتالي أنا أمتلك عواطف خاصة تجاه هؤلاء، بالإضافة إلى أنهم شهداء.
وقولته المعروفة عند إبراهيم: "مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَم، إِنَّ العَيْنَ لَتَدْمَعُ وَإِنَّ القَلْبَ لَيَحْزَنُ، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ". فإذن النبي المصطفى (ص) يدشن هذا المعنى. وفي خصوص قضية الحسين، نجد عناية خاصة من رسول الله بإثارة مشاعر الحزن، حتى تصبح سنة أيضا.
وحتى تصبح سنة مطلقة. أي بعض الأحيان، نقول: أنه الواحد منا يبكي على إنسان لما لتوه توفي أو لتوه مستشهد، أما بعد 1000 سنة، فماذا تبكون؟ فإذا جاز الشيء وصار مستحبا، فلا يختلف الحال، بين يوم، أو بعد أسبوع، أو بعد شهر. فالقضية مربوطة بالجانب العاطفي. وربما إنسان قد لا يتأثر ولا يتحرك في نفس الوقت، وإنسان آخر، يظل لما بعد السنة، مع ذلك قلبه كلما يذكر فيه هذا الإنسان يتفاعل.
الشاعر يقول:
إذا ذكر الحسين فأي عين تصون دموعها صون احتشام
بكته الأنبياء وليس بدعا بأن يبكي الكرام على الكرام
فالنبي بكى قبل الحادثة وأبكى، حتى يقول إلى من يستشكل: أن هذه القضية في استحبابها، ليست مربوطة بأن تكون بعد الحادثة مباشرة تجوز، وبعدها بشهر لا تجوز. لا. أنا النبي المصطفى أبكي لهذه الحادثة قبل حصولها حتى؛ لأدشن بذلك سنة الاستحباب، والتأكيد عليه في هذه الجهة.
وقضيته مع أم سلمة، مشهورة ومعروفة، ونحن نستشهد بها، باعتبار موجودة في كتب الفريقين. فهي ليست منقولة فقط من طرق الشيعة، وإنما من طرق مختلفة. إن أم سلمة قالت: جاءني رسول الله (ص) ذات يوم ودخل الدار وقال لي: أنا أدخل أستريح قليلا. يعني: لا تجعلي أحدا يدخل علي. فبعد قليل، إذا بالحسين أقبل - بأبي وأمي - وهو غلام صغير، لعل عمره ثلاث سنوات، أو أربع سنوات، في هذه الحدود. ويعرف دار جده، وغرفة جده. فانفلت إليها سريعا. وأنا ما استطعت أن أمسك به. فدخل على جده رسول الله. هنيهة، أنا قلت سأدخل إلى هذه الدار، وأخرج منها الحسين (ع) حتى يرتاح النبي، ويخلد إلى النوم. فلما دخلت تلك الدار، سالت دموع عيني لما رأيته من الحسين ومن رسول الله. فماذا رأيت يا أم سلمة؟
تقول: رأيت رسول الله وقد اضطجع وقد وضع الحسين على صدره، وهو يقبله تارة في صدره، وأخرى في نحره. أنت تعرف لماذا يقبل في هذين الموضعين. لماذا تقبل يا رسول الله في هذين الموضعين على وجه الخصوص؟ لا أدري، أم سلمة تدري أنه كما جلس الحسين على صدر رسول الله، سيجلس شمر على صدره! هل تعلم بذلك. هي لا تستطيع أن تتحمل رؤية هذا المعنى مع رسول الله، أن يقبله ويدمع، تدمع عينا رسول الله، ويقول: "أَعْزِزْ عَلَيَّ أَبَا عَبْدِالله"، عزيز علي أبا عبد الله، "مَا لِي وَلِيَزِيد لَعْنَةُ اللهِ عَلَى يَزِيد". وهذا مجرد منظر، أثار فيها الشجى والأسى، كيف لو علمت أنه سيجلس شمر على صدر الحسين ويهبر أوداجه، بأبي وأمي، وأخرجت الإمام الحسين (ع).
هذه أم سلمة، وهي ليست أما مباشرة للحسين (ع) وهكذا تألمت، فكيف حال الزهراء (ع) وهي تعلم ما الذي سيجري على الحسين (ع). في الخبر، في مصادرنا، أنه لما حملت الزهراء بالحسين (ع) نزل الأمين جبرائيل على رسول الله: "يَا رَسُولَ اللهِ، العَلِّيُّ الأَعْلَى يَقْرَأُ عَلَيكَ السَّلَامَ، وَيُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ لِفَاطِمَة، اسْمُهُ الحُسَين، تَقْتُلُهُ أُمَّتُكَ". يعني جبرائيل، أول من يقرأ المأتم في ذلك المكان، في ذلك التوقيت، قبل ولادة الحسين (ع). فلما سمع رسول الله (ص) ذلك حزن وبكى. هذا والحسين لم يولد بعد! وأخبر فاطمة (ع) بنفس الخبر، مبشرا من جهة، ومن جهة أخرى قال لها: تقتله أمتي. فبكت، وصاحت: ووالداه. |