الحوزة العلمية في الحلة الفيحاء
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 9/2/1443 هـ
تعريف:

الحوزة العلمية في الحلة الفيحاء

كتابة الفاضل د الخميس

قال الله العظيم في كتابه الكريم: ( ‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).صدق الله العلي العظيم 

انطلاقا من هذه الآية المباركة نشير الى فكرة تستل من هذه الآية حاصلها ان كل مجتمع من المجتمعات يوجد به قيم لتفاضل كيف يفضل هذا الانسان ذلك الانسان وكيف يقدم عليه وكيف يستجلب الاحترام والتكريم. في المجتمعات المادية والرأسمالية القيمة الأولى امتلاك المال. بمقدار ما تمتلك من الأموال انت تقدر وتكرم وهذا حتى في بعض المجتمعات غير الواعية التي مثلا من امثلتها الخاطئة: (عندك فلس تسوى فلس، عندك ألف تسوى ألف) هذه من جملة المفاهيم الباطلة التي ربما وجدة عند بعض افراد مجتمعنا التي يجعل قيمة الانسان كرامته احترامه مبنيا على أساسا ما يمتلك من الأموال.

 في بعض المجتمعات التي طبيعتها الحرب كما كانت مثلا في المجتمعات الرومانية في السابق. القيمة الأساسية عندهم لرجل القوي المقاتل حتى لو ما كان عنده علم ولا أموال ما دام المجتمع مجتمع محارب فهناك الذي يتقدم على غيره هو المقاتل الشرس والمحارب الشجاع. 

في دين الإسلام ماهي قيم التفاضل؟ يشير اليها القران الكريم في آيات متعدد منها هذه الآية المباركة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ)    فإذا هذا الاحترام هذا التكريم هذا التوقير لمن؟ 

أولا: لمن هو مؤمن (‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الانسان المؤمن الأنسان الملتزم بأحكام الدين هذا في شريعة الإسلام وفي المجتمع الإسلامي يحتل المرتبة الأولى. سوآءا كان قوي البدن او ضعيفا سوآءا كان مالكا للأموال الطائلة او قليل المال مادام مؤمنا فهو مقدر ومكرم وهو ينبغي ان يظهر لهم هذا الاحترام.

الثاني: (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) هؤلاء يرفعهم أيضا درجات.

فكأنما هذه التتمة هي تبرير وتعليل وسبب لماذا إذا قيل تفسحوا ففسحوا؟ لماذا إذا قيل انشزوا؟ تحركوا؟ قوموا من مكانكم؟ لماذا.    لان الله سبحانه وتعالى يرفع المؤمنين درجات ويرفع العلماء درجات وبتالي فأنه مطلوب منك أيها الانسان المؤمن ان تكرم من كرمه الله عز وجل.

 طبعا تضاف الى ذلك أمور أخرى إضافية فاذا مثلا كان هذا مؤمنا وكبير السن (ان الله يحب أن يكرم ذا الشيبة في الإسلام) نفس هذا الانسان المؤمن كونه كبير السن هذا يعطيه كرامة بالقياس الى هذا الشاب ولو لأجل انه هذا ايمانه عمله الصالح عمره في الدين عمره في عبادة الله اكثر من عندك. أنا بالتالي انسان شاب انسان عشر سنوات عشرين سنة فقط انا عابد لله انا عامل بالصالحات لكن هذا كبير السن نصف قرن من الزمان ربما ستين سنة وهو يعبد الله سبحانه وتعالى فقد يكون لهذه الجهة وقد يكون من جهة ضعف البدن وقد يكون لجهات أخرى فكلما زادت هذه الجهات زاد مستوى التكريم. انسان مؤمن له كرامة فاذا صار عالما بعد له كرامة أكثر فاذا صار كبير السن صار له كرامة أكثر فاذا كان هذا المؤمن العالم كبير السن من ذرية رسول الله صلى الله عليه واله فلأجل ذلك يكرم كرامة إضافية لأجل نبينا المصطفى محمد صلوات الله وسلامه عليه.

هذا الامر حينما يحدث في مجتمع من المجتمعات سوف يحفز الناس على تحصيل ما يكرمون به. فمثلا كنا في مجتمع عسكري محارب، الناس والشباب سوف يرون ان العسكري المحارب المقاتل هو الذي يكرم فيذهبون خلف الحرب والقتال والقوة وما شابه ذلك. إذا كانوا في مجتمع يكرم صاحب الأموال ولا يعتني بالفقراء وقليلي المال فترى الناس والشباب يذهبون وراء تحصيل الأموال. في مجتمع يرى ان العلم يكرم لسببه الانسان الايمان هو الذي يكرم بسببه الانسان العمل الصالح يكرم بسببه آن إذا يذهب وراءه. فالإسلام حين يكرم الذين امنوا ويكرم الذين عملوا الصالحات ويكرم العلماء ويكرم هذه الامثال أصحاب الاخلاق العالية وما شابه ذلك انما يدعوا بطريق غير مباشر لان يتجه المجتمع في هذا الاتجاه. ولذلك وجدا مثلا الروايات والآيات والأحاديث التي تعظم جدا العالم وتكرمه وتشير الى ثوابه الاخروي وتدعوا الى احترامه الى الحد الذي صار في بعض الروايات نظر الى وجه العالم عبادة. ليس الغرض منه النظر فقط في هذا العالم وانما المقصود ان توحي الى المجتمع ان الإسلام والدين يحب شيوع هذا الامر، يحب زيادة العلم في المجتمع ويحب نمو العلم في المجتمع وآن إذن كلما حدث هذا تزداد رقعة العلم في المجتمع فينموا العلم ويتطور. 

هذه مقدمة لحديثنا عن الحوزة العلمية في الحلة منطقة الحلة 

الحلة التي تسمى أحيانا بالحلة السيفية ليست نسبة لآل سيف وإنما نسبة لسيف الدولة صدقة المزيدي هذا واحد من الرجال الذين اسسوا المنطقة و مصروها وعمروها وتنقل رواية عن امير المؤمنين عليه السلام كما ذكر عن طريق الامامية عن الاصبغ ابن نباتة وهو احد أصحاب أمير المؤمنين الخلص -يذكر أحيانا في شهادة امير المؤمنين عليه السلام يذكره الخطباء والمتحدثون و كيف انه دخل على الامام ووجد وجه مصفرا الى اخر الرواية- يقول لما رجعنا من صفين وقف قرب منطقة مرتفعة : ( مدينة واي مدينة) فلما قال ذلك لفتة نظري وقلت له يا أمير المؤمنين تقصد مدينة كانت في السابق وتريد ان تُذَكر بها قال: (لا هي مدينة تكون فيما بعد و تسمى بالحلة ) ومدح أهلها بحسب هذه الرواية. الفاصلة بين هذه الحادثة وبين تأسيس وتمصير الحلة السيفية قريب من أربعمئة وخمسين سنة تقريباً عندما أسسها أحد الامراء من آل المزيدي ولذلك أيضا تمسى بالحلة المزيدية نسبة الى الاسرة او الحلة السيفية لأن لقبه كان سيف الدولة هذه البلدة وهذه المدينة تقع في المنتصف حيث تبعد عن بغداد ستون كيلومتر وعن النجف حوالي خمسون كيلومتر وفيها بعض المزارات المرتبطة بأولاد الائمة المعصومين عليهم السلام. هذه المنطقة تحولت الى عاصمة التشيع العلمية من بعد سنة خمسمئة وخمسون فصاعدا لمدة تقريبا ثلاثة قرون، ثلاثمئة سنة كانت هذه العاصمة العلمية لتشيع مثل ماكنت او أصبحت النجف وقم المقدس الآن. 

أسباب ذلك متعددة يقولون منها: 

أن النجف منذ بقائه الشيخ الطوسي اعلى الله مقامه ووفاته سنة اربعمئة وستين هجرية وبقاء عدد من تلامذته ومنهم ابنه. النجف بيئتها وجوها في الحقيقة متعب -جوها في الصيف يذكر الانسان ب فيح جهنم نعوذ بالله من ذلك وشتاءها شتاء قاس جدا- وبيئتها العامة ليست بيئة طبيعة جميلة او ما شابه ذلك وهي بلدة شحيحة الماء. بعبارة أخرى هي ليست مريحة للمعيشة الاعتيادية الذي يبقى هناك فعلا يبقى صابرا. كانوا يذهبون زمان الشيخ الطوسي وما بعده يبقون باعتبار انه هذا المستوى العلمي موجود بالنجف الاشرف شيخ الطائفة وتلامذته الكبار موجودين في هذا البلد فيتصبرون على كل هذه المتاعب من اجل العلم ولهذا صار العلم الديني بهذه المرتبة من الثواب لأنه غالبا مقترن بالتعب وبالجهد وما شابه ذلك حتى عندنا رواية ان الله جعل العلم -اجمالا والعلم الديني على وجه الخصوص- في التعب والغربة والناس يطلبونه في الوطن والراحة فلا يجدونه. ذاك الرجل الذي يتغرب خارج بلده يتعب نفسه ذاك الوقت يحصل العلم اما اذا داخل البلد مشغول يكون مشغولا بذاك وتلك وبامور معيشته ويبحث عن الراحة فلا يجد العلم الديني حتى في العلوم الطبيعية الناس عندما يذهبون ويتمحضون من اجل العلم ولا يلتفت الى أشياء أخرى يحصل اعلى الشهادات وطلب العلم الديني ايضا من هذا القبيل. المهم ان على أثر هذا الجو غير الحسن و هجرة بعض تلامذة الشيخ الطوسي رحمه الله مثل الشيخ محمد ابن ادريس الحلي – المعروف بابن ادريس ويصير شيخ الطائفة جده من جهة امه- هذه برز بعد جده حوالي مئة سنة او حوالي ذلك كواحد من العلماء الكبار والفحول مع انه كان شابا ولكن ذهنه كان قوي جدا ونشاطه كان نشاط مميز .فعندما كان في الحلة وجاء اليها أيضا اخرون صار اجتماع للوضع الديني والعلمي في الحلة من جهة أخرى بغداد اضطرب الامر فيها على اثر احتلال المغول لها سنة ستمئة وخمسة وستين هجرية احتلها المغول وعاثوا فيها فسادا وقد وقع للأسف تزويرٍ تاريخي بدأ من كلام ابن تيمية في حق الخاجا نصير الدين الطوسي رضوان الله تعالى عليه. الان عندما تتكلم مع غير الامامية هذه الفكرة موجودة عندهم وهي فكرة باطلة ان المغول تحالفوا مع علماء الشيعة ووزرائهم وسمحوا لهم بالدخول الى بغداد واحتلالها ففتكوا فيما يزعمون بالخليفة العباسي المستعصم آن إذن وفتكوا بالناس واحرقوا المكتبات وما شابه ذلك. ولذلك عندهم هذا التعبير البائس (هؤلاء احفاد ابن العلقمي-احد الوزراء الشيعة في البلاط العباسي-) وتوافق مع المغول حتى ادخلهم بغداد والقضية كاذبة من أصلا الى فصلها ومن أولها الى اخرها وافضل من كتب في رد هذه الفرية واحد ليس من شيعة أهل البيت من أبناء البلد دكتور سعد ابن حذيفة الغامدي عنده كتاب اسمه سقوط الدولة العباسية كتاب علمي قيم استطاع من خلاله بالوثائق ان يثبت انه لا يوجد أي دور للشيعة ولا الى ابن العلقمي و إنما هي الدولة كانت مهترئة هو الخليفة كان طايح كانت السهام تدخل الى داخل سور القصر وهو مشغول بمغنية عنده اسمها عرفة ومشغول بدق طبل وبالأغاني وبملازمة الجواري. الجيش كانت لمدة ثلاث سنوات لم يعطوا ارزاقهم -تصور لمدة ثلاث سنوات عسكري لا يجد راتبا ولا لشهر فلا يمكن لهؤلاء الدفاع عن وطنهم فبتالي لا يوجد جيش وهولاكوا عنده مئة وأربعين ألف مقاتل من المقاتلين الشرسين فشيء طبيعي انهم يقتحمون هذه المنطقة وأتوا بالمستعصم العباسي الى القائد المغولي ليجدوا أموال الدولة فلم يخبرهم في البداية فأمر بجلده الى ان أقر فوجدوا أقبية وسراديب مملوءة بالذهب. فقال الأمير المغولي للخليفة العباسي لو أنك أعطيت جندك عُشر هذه الأموال لحموك ودافعوا عنك -صار القائد المحتل أكثر تأسفاً على البلد من أصحابها-. قادته ومنهم من يقال له الدوات دار كان عنده طموحات معينة لقضية الرئاسة والوزارة -وتذكر هذه القضية في كتاب اعلام الامامية في الحديث عن شخصية خاجا نصير الدين الطوسي رضوان الله عليه-.

الشاهد ان هولاكو استطاع ان يحتل بغداد بلا أدنى مقاومة وبلا ادنى دفاع عنها بعجز وتخاذل من قبل الخليفة ومن قادته -هؤلاء القادة العسكريين الكبار لمن سمعوا ان الجيش المغولي وصل فروا بواسطة سفن عن طريق دجلة والفرات لهربوا من بغداد-. وهؤلاء الجماعة المغول كانوا في أولهم جماعة متوحشين وهدموا كل شيء وعطلوا كل شيء وسفكوا الدماء. 

الخاجا نصير الدين الطوسي قام بإنقاذ الحضارة الإسلامية في أنقذ المكتبات عندما اتفق مع الحاكم المغولي. فعندما سمع الحاكم المغولي ان الخاجا نصير الدين عنده علم بالفلك والنجوم لا يضارع والمغول كان عندهم اعتقاد في قضية النجوم والافلاك اعتقادا كبيرا جدا. فحقنوا دمه ليستفيدوا منه ولكن الخاجا اشترط عليهم ان لا يتلفوا ما تبقى من المكتبات لحاجته اليها -بقية المكتبات التي لم تتلف ولم تحرق حافظ عليها- فأبقى المكتبات في بغداد مصونة ولم تدمر الى حين وصوله. فهذا الوضع الي صار جعل العلماء وطلاب العلم والمفكرين والشعراء والادباء يهربون من بغداد الى الحلة. 

لماذا الحلة؟ وسبب ذلك لأن علماء الحلة مثل ال طاووس ال سعيد والحليون ذهبوا الى بغداد وطلبوا أماناً لمدينتهم فلم يكونوا اهل حرب او عسكر فسلموا الى المغول ولم يقاموهم فقبل منهم ذلك ولم تلمس الحلة بشيء فلم يحدث لهم قتل ولا احراق ولا تدمير فلما امنت المدينة جاء علماء بغداد والنجف اليها فتركزت الحوزة العلمية في هذه المدينة أكثر. فبرز منها علماء افذاذ مثل المحقق الحلي رضوان الله تعالى عليه -صاحب كتاب شرائع الإسلام- الشيخ جعفر ابن سعيد الحلي. يكفيك ان تأسيسه وبرمجته في الفقه الشيعي منذ زمانه الى يومنا هذا هو نفسه-يعني انه وضع تنظيم للفقه برنامج خاص فقال الأشياء اما ان تكون شرطا فيها قصد القربة (وهي العبادات) او ليست محتاج لقصد القربى وهو القسم الثاني وهذه بدورها تنقسم الى قسمين: قسم يحتاج الى انشاء لفظي(المعاملات أي معاملة تحتاج لفظ او كلام او عقد وهناك طرفين إعطاء وأخذ مثل بعتك واشتريت انكحتك وقبلت وامثال ذلك ) وقسم لا يحتاج (الاحكام مثل الميراث ان انسان اذا ورث من ابائه لا يحتاج لفظ يقول الأب أعطيت الميراث الى اولادي ولا الوارث يحتاج قبلت الميراث من ابائي). وكتابه شرائع الإسلام هو النص الذي تم الاتفاق عليه من علماء الشيعة في ترشيحه ان يكون مادة دراسية في الجامع الازهر-جامع الأزهر على أثر نشاط المرحوم سيد حسين البروجردي رضوان الله تعالى عليه رسل الشيخ محمد تقي القمي الى مصر وقاله له انت معني بخطوات التقريب بين المذاهب ومقاومة سياسة التفرقة فهذا المرحوم وصل الى انه يتفاوض مع أشياخ الازهر شيخ محمود شلتوت شيخ عبدالحليم محمود وغيرهم ووصل معهم الى انه لمى لم يدرس الفقه الشيعي الامامي في الجامع الازهر (وهو مؤسس من قبل شيعة أهل البيت الفاطميون وباسم فاطمة الزهراء عليها السلام ) فكيف لا يدرس فيه الفقه الامامي فوافقوا و طلبوا منهم كتاب سليم ممنهج بشكل سليم وجيد- اتفق العلماء في حينها ان افضل كتاب يعبر عن رأي الإمامية في دقة وسلامة وسلاسة هو كتاب المحقق الحلي في شرائع الإسلام وبالفعل اخذ الى هناك وصار يدرس في المراحل العالية من كليات الفقه المقارن في الجامع الازهر. وله من الكتب الشيء الكثير في الأصول والفقه وهو أيضا أستاذ العلامة الحلي وأستاذ الخاجا نصير الدين الطوسي في الفقه. حتى يخبرون ان الخاجا نصير الدين وهو فيلسوف وعالم فلكي متفوق جاء من بغداد الى الحلة والمحقق الحلي يبحث في مسألة فقهية فقال يستحب التياسر في اهل العراق قليلا الى القبلة فقال له نصير الدين ان كان الجهة الي يتوجهون اليها هي القبلة فهذا واجب واما ان كانت ليست القبلة فلا معنى للاستحباب فقال له المحقق: لا بل يتياسرون من القبلة الى القبلة فقال الخاجا: كيف؟ فقال له المحقق: فيما بعد اخبرك وكتب له رسالة فقهية مفصلة حول جهة هذا الحكم. فالمحقق الحلي كان محققا كما لقب حتى الان لما يذكر محقق يتبادر الى الذهن المحقق الحلي رضوان الله عليه. 

وجاء بعده العلامة الحلي وكان اعجوبة الدهر في الحقيقة. وهو من تلامذة خاله المحقق الحلي وكان في مدينة الحلة أيضا درسا وتدريسا. وحقا كان آية الله وهو اول من لقبة آية الله في تاريخ فقه أهل البيت هو العلامة الحلي. الان هو مصطلح يطلق على كل شخص يبلغ درجة الاجتهاد في الفقه يقال له آية الله. وبعضهم يقول انه كان آية الله على الاطلاق وكأنما الباقي ليسوا بمثابته. مثال على أعلمتيه الان علمائنا اعلى الله كلمتهم والماضون رحمهم الله يألفون كتاب واحد للفقه مثلا استدلالي يستدل به على المسائل الفقهية و العلامة الحلي عنده كتاب تذكرة الفقهاء في بعض طبعاته عشرون مجلد (فقه مقارن بين مذهب التشيع وسائر المذاهب الإسلامية أي واحد كان يطلع عليه يجد ان العلامة الحلي كان لديه احاطة كبير جدا بفقه المذاهب الأخرى الاحناف ,الشافعية ,المالكية ,الحنابلة ,مذهب الاوزاعي , مذهب الليث وفلان و فلان تسعة مذاهب تقريبا يتعرض اليها وآراء علمائهم الكبار في هذا الكتاب تذكرة الفقهاء ثم يستدل على ان ما يذهب اليه الامامية هو الصحيح وان تلك اراء لا تتمتع بالصحة), الثاني جاء الى الشيعة انفسهم وعندهم اراء مختلفة شيخ الطوسي عنده رأي الصدوق عنده رأي تلامذة الشيخ الطوسي ومن سبق العلامة الحلي فألف كتاب مختلف الشيعة ( تعنى بالمسائل التي اختلف فيها علماء الشيعة ويأتي بما يقول ويبرهن على صحة ما يذهب اليه ), الثالث الف كتاب باسم تحقيق المطلب جمع فيه ما جاء في المذاهب الأخرى وما كان من اختلافات علماء الشيعة ونقح المسائل . في موضوع الفقه عنده ثلاثة كتب مفصلة بمجلدات وعنده كتب في الرجال وفي الأصول وعنده في مختلف العلوم الإسلامية كتب كثيرة ولو لم يكن من جهده رحمة الله عليه الا انه اقنع السلطان محمد خدابنده الذي كان والياً على ايران فاقنعه بالتشيع الامامي فعندها اعلن الشاه محمد خدابندا ان ايران تتشيع لأهل البيت وهو المذهب الرسمي فيها هذا كان في المرحلة الثالثة او الرابعة من تشيع ايران فصارت كل ايران التي كانت في ذلك الزمان تحت سيطرت محمد خدابندا أصبحت شيعية. حتى جاء بعد ذلك الصفويون ونشروا التشيع فيما بقي من تلك البلاد. لكن عمل العلامة الحلي في ذلك الجانب كان عملا مميزا عندما اعتبر مذهب اهل البيت مذهبا رسميا في ايران كان على يده في قضية مفصلة. فكان العلامة من جهة علمية هكذا في التأليف وكان من جهة عملية هكذا. 

وتخرج على يده علماء كثر منهم ابنه واسمه فخر المحققين وقد توفي وهو لايزال شابا (قيل ستة وثلاثين سنة) لكن خلف اثارا علمية كبيرة جدا وهو أستاذ الشهيد الأول الذي ألف اللمعة الدمشقية وكان معروفا ومشهورا. المهم ان هذه الجماعات درسوا في الحلة وغير هؤلاء الشيخ احمد ابن فهد الحلي واحد من العلماء الكبار درس هناك كذلك خلال مئتين وخمسين سنة الى ثلاثمئة سنة الحلة احتضنت الحوزة العلمية وبقية فيها. فيما بعد سنة تسعمئة هجرية فصاعدا رجعت الحوزة العلمية من جديد الى النجف الاشرف في زمان أيام الشيخ علي عبدالعال الكركي وشيخ فاضل القطيفي وتلامذتهم وكأن جاذبية مرقد امير المؤمنين عليه السلام أثرت في ذلك فاجتذبت العلماء ان يتحملوا ما فيها من صعوبة الجو لأجل قربهم من وصي رسول الله محمد صلى الله عليه وال وسلم. 

وكان في هذه البلدة (الحلة) عوائل علمية كبيرة آل نما الحليون، وآل طاووس مثل السيد علي ابن طاووس الذي له دور مهم جدا في تاريخ فقه الامامي وأثاره معروفة عنده كتاب الاقبال وعنده كتاب اللهوف في قتلى الطفوف اكثر ما يقرء الان في المآتم بل أكثر التاريخ المدون عن نهضة كربلاء نجد له اصولا في كتاب سيد ابن طاووس الذي هو اللهوف. وكذلك ما يرتبط في الاحكام المستحبة صيام او أذكار وامثال ذلك عنده في كتاب الاقبال في الاعمال الحسنة إضافة الى أربعين كتاب على الأقل الفها القسم الأكبر منها مطبوع ويستفاد منه. كذلك السيد عبد الكريم ابن طاووس أيضا له كتاب فرحة الغري وهو من العلماء الكبار. وهؤلاء آل طاووس هم الذين ذهبوا وتفاوضوا مع المغول كما ذكرنا وبذلك امنوا وضَمِنُوا وصانوا بلدتهم من الخراب والتهديم والقتل والاغتصاب الذي كان يمارسه المغول بالنسبة لمن يقف أمامهم. 

وكان أيضا فيها شعراء فحول. الان لعل أهم القصائد التي تقرأ في المجالس الحسينية لمن تسألون أصحاب المنبر يقال انها لأبن العرندس (الشيخ صالح ابن عبدالوهاب ابن العرندس الحلي) له هذه القصيدة المشهورة: 

فيا ساكني ارض الطفوف عليكم              سلام محب ما له عنكم صبر

هذه متعارف عليها عند العلماء وقد ذكر ذلك صراحة الشيخ الأميني رضوان الله عليه (صاحب الغدير) والأميني رجل متثبت يقول المشهور عند علمائنا ان هذه القصيد إذا قرئت في محفل يكون مولانا صاحب العصر والزمان عليه السلام حاضرا في ذلك المحفل. حتى نقل عن الشيخ عبد الزهراء الكعبي رضوان الله تعالى عليه انه كان يبحث عن تلك القصيدة (لم يكن متيسرا في ذلك الزمان العثور عليها لم يكن الانترنت او الطباعة وبشيء بسيط من الجهد تعثر على ما تريد كان لابد من وجود كتاب او نسخة منه) الى ان رأى وراق (الشخص الذي يبيع الكتب القديمة والذي يشتريها من الناس) وكان بجوار قبر الحسين عليه السلام فقال له انا ابحث ع هذه القصيدة هل موجودة عندك فقال الوراق نعم وهي موجودة في كتاب من الكتب. فقال له اشتريها من بأي ثمن فقال الوراق له: لا، لا ابيعها لك الا ان تقرءها لي في مكاني هذا دكاني هذي ثمنها وخذها لك. وتعلمون ان الشيخ عبد الزهراء الكعبي رضوان الله عليه كيف هو في شجا صوته وإخلاص نفسه وتأثير قراءته لعله الى الان قراءة المقتل لشيخ عبد الزهراء مميز بين الجميع. فيقول الشيخ انه بدأ بقراءة القصيدة فرأى سيدا نورانيا مهيبا قد وصل وجلس عندهم يستمع الى ان وصل الشيخ الى قوله: 

ايُقتل ظمآناً حسينٌ بكربلاء                       وفي كل عضو من انامله بحرُ

ووالده الساقي على الحوض في غدٍ              وفاطمةٌ ماء الفرات لها مهرُ

فرأى الجمع ذلك السيد وهم لا يعرفونه انه كان يشير الى ضريح الحسين عليه السلام ويقول: أيقتل ظمآنا حسين بكربلاء وضل يكررها ويبكي، يقول الشيخ عبد الزهراء غفلنا عنه قليلا واذا بنا لا نراه كأنما قام ومشى عنا فحين ذلك التفت شيخ عبد الزهراء وتسائل عنه كيف عرف اننا نقرء هذه القصيدة وتأثره وإشارته الى قبر الحسين عليه السلام. 

السيد حيدر الحلي وقصائده الحوليات في الحسين سنة كاملة ينشئ قصيدة ويبقيها طول السنة ما يقرءها على أحد يصلحها حتى توصل السنة الثانية فعند إذا ينشدها ويرسلها فلذلك سميت بالحوليات. ويقال سنة من السنوات تعطل نظمه فكلما أراد ان ينشئ قصيدة حول الحسين عليه السلام قوية لم تسعفه القريحة وإذا به في الليل يرى في عالم الرؤيا سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام:    


مرات العرض: 3428
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 53749.98 KB
تشغيل:

الحوزة العلمية في النجف و بدايات التأسيس
الحوزة العلمية في الأحساء