قبسات من سيرة آية الله العظمى السيد سعيد الحكيم
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 17/2/1443 هـ
تعريف:

قبسات من سيرة آية الله العظمى السيد سعيد الحكيم

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

روي عن سيدنا ومولانا أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين سلام الله عليه أنه قال: (لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال أن أمقت عبادي إلي الجاهل المستخف بحق أهل العلم التارك للإقتداء بهم، وأن أحب عبادي إلي التقي الطالب لثوابي الجزيل الازم للعلماء التابع للحلماء القابل عن الحكماء) صدق سيدنا ومولانا زين العابدين سلام الله عليه.

الحديث الشريف عن إمامنا زين العابدين عليه السلام والذي نقله شيخنا الكليني في الكافي بسنده إلى الإمام السجاد يقول: لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج،

فسفك المهج وخوض اللجج تعبير عن الأثمان الكثيرة التي يستحق العلم بذلها من أجل الحصول عليه، بل وحتى لو وصل الإنسان لدرجة القتل أو إلى ان يخوض لجج البحار وقد كان خوض البحر عند العرب من الأمور الصعبة جداً فإن العلم يستحق ذلك، فهو تعبير كنائي عن أن كل جهد يبذل في طلب العلم فهو في محله ويستحقه ذلك.

من الواضح أولاً أن المقصود من طلب العلم هو طلب العلم الديني المرتبط بالآخرة وبالشريعة، فالعلم الدنيوي فيه فضل و ولكن هذه الروايات وهذا النمط من الروايات ناظر إلى طلب العلم الديني الذي ينجي الإنسان في حياته من الإنحراف والذي يكسبه الجنة فيي يوم القيامة

فما هو الشيء الذي يوجد في طلب العلم حتى يستحق كل ذلك؟

إن أول ما في طلب العلم هو الثواب الأخروي من الله عز وجل والذي وضع لطالب العلوم الإلهية مثل ما ورد عن سيدنا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (من سلك طريقاً يطلب به علم، سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به وإنه ليستغفر له حتى الحيتان في البحار رضاً بما يصنع)، فهذا الذي في طلب العلم أي الجهة الأخروية من الثواب والجزاء الإلهي الذي يستحق لأجله سفك المهج وخوض اللجج.

وأما ما في طلب العم في الدنيا، فأنت ترى أن طالب العلم عندما يطلبه لله وفي الله ولغرض ان يرشد عباد الله سبحانه وتعالى يعطيه الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا مثل ما رأيناه في هذا العالم الجليل الذي توفي في يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر محرم عام 1443هـ، فقد أعطاه الله العزة والمكانة والسمعة والإستغفار والترحم عليه، فإنه يندر أن يكون هناك بلد من بلاد شيعة أهل البيت هذه الليلة لا يذكر فيها السيد الحكيم رضوان الله تعالى عليه بالرحمة والمغفرة وكثير من المساجد يصلون له صلاة الهدية بالإضافة إل الختمات القرآنية وغير ذلك، فهذا مما يعطيه الله عز وجل لمثل هذا العالم في هذه الدنياً فضلاً عن الآخرة، إذاً فلو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج.

ثم يقول الإمام زين العابدين عليه السلام بعد ذلك: (إن أمقت عبادي إلى الجاهل المستخف بحق أهل العلم التارك للإقتداء بهم) أي الغير عالم ويستخف أيضاً بالعلماء فلا يتبعهم ولا يأخذ عنهم، فلا هو عنده هدى خاص ولا علم ولا معرفة ولا يتبع الهادي العالم فهو أكثر عباد الله مقتاً إليه.

القسم الثاني من الناس ما جاء في تكملة الحديث: (وإن أحب عبادي إلى التقي الطالب للثواب الازم للعلماء التابع للحلماء القابل عن الحكماء) فهذا الإنسان في بعض القضايا قد لا تكون لديه خبرة أو معرفة بكل شيء فهو متبع أمين للعلماء يلازمهم ويقبل عن الحكماء، وبالتالي يكون أحب عباد الله إليه.

إن هذا الحديث لهو مقدمة للكلام عن هذا المرجع العظيم السيد الحكيم رضوان الله تعالى عليه وقد علمنا أننا لا نستطيع أن نحيط بصفاته وبسيرة حياته، فقد عُمِّر 89 عاماً رضوان الله تعالى عليه وكل هذه السنوات هي سنوات نشاط وعمل وجهاد وتبليغ، لكننا نعنون بعض العناوين السريعة.

السيد سعيد الحكيم هو سبط مرجع الطائفة وزعيمها الأكبر السيد محسن الطباطبائي الحكيم، فهو ابن بنته وسبطه بالتالي، فهذه الأسرة من مئة سنة تقريباً بل تحقيقاً وهي في طريق رفد الطائفة بالعلم والعلماء والفقهاء بل والمراجع، أي من سنة 1340 للهجرة بدأ السيد محسن الحكيم بتدريس البحوث العالية في الفقه والأصول وتتابعت إلى الآن حتى انتقل سبطه إلى رحمة الله، فهي أسرة ولادة للعلماء وولادة للعلم، فقد جاء السيد محسن الحكيم رضوان الله تعالى عليه ولعل بعض الآباء قد أدركوا زمانه وقلدوه ورأوا عزة الطائفة في زمانه والتي ربما لم تتيسر لأحد من زعماء الطائفة في العصر الحديث، بالرغم من أنه في دولة معادية إلا أنه كان في عزة وفي عزته كانت عزة الطائفة، فلما انتقل إلى رضوان الله جاء ابنه السيد يوسف الحكيم رحمه الله وهو أيضاً كان فقيهاً من الطراز الأول وقد رُجِع إليه في التقليد ولكن بساحة محدودة ولم يمتد به العمر طويلاً.

أما من سائر العلماء الذين هم من هذه الأسرة فحدث ولا حرج، كالسيد محمد تقي الحكيم رضوان الله تعالى عليه الذي كان رجلاً فقيهاً وأصولياً من الدرجة الأولى وكان من أهل مدرسي كلية الفقه في الدراسات العالية وإلى الآن كتبه لا تزال تعتبر مناهج متينة ورزينة جداً تعتمدها الجامعات إما في أصل التدريس وإما في اعتمادها كمصادر.

كذلك المرحوم السيد عبد الصاحب الحكيم الذي كان يتوقه له المرجعية لولا أنه قتل على يد أزلام النظام السابق، وإن هذه الأسرة بالإضافة إلى ما فيها من العلم فقد كانت أسرة الشهادة فقد كان فيها ما يقارب السبعين شهيد طوال هذه المدة فإنها ينطبق عليها قوله تعالى: ((إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر)) أي كلما ضايقها الظالمون أنتجت أكثر فأكثر.

وأخيراً السيد محمد سعيد الحكيم الذي كان من الناجين بفضل الله تعالى من سجن في أيام الطاغية صدام الذي استمر لثمان سنوات وقد أوذي أذاً كثيراً جداً خلَّف آثاره إلى آخر حياته، فقد أصبحت رجله لا تطاوعه على المشي وكذلك ظهره أصبح دائماً مقوس وذلك كما يذكر أهله وعائله أنه بسبب التعذيب وقد كان الجلاوزة يتسابقون في أن يجعلوه ينطق كلمة (آخ) ويتوسل ويبكي، فيضربوه بكل ما يستطيعون ويعذبوه بأنواع التعذيب المختلفة وكان أقصى ما يقوله السيد الحكيم (يا الله.. يا الله)، وانتهى به الحال إلى أن بدنه الضعيف أصبح بهذه الطريقة، والغريب أنه في ذلك السجن ومع تلك الأوضاع كان لا يترك الدرس في كل يوم لأنه كان عدداً كبيراً من أسرته قد سجنوا معه، ثم انضم إليهم بعض الشباب المجاهدين فكان يحتضن أولئك الشباب ويوصيهم وينصحهم ويقوي عزائمهم، أما بالنسبة لأهل العلم من أسرته ومن غيرهم فقد كان يعقد الدروس معهم يومياً حتى أنه ذُكِر في سيرته أنه كتب كتاباً في مهمات مسائل الأصول ومواضيع الأصول في داخل السجن بالطرق المتوفرة عندهم، فقد كانوا يكتبون على أوراق السجائر وعلى بعض أوراق الكرتون، فإن مثل هذا العالم لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج ومثله تستغفر له حتى الحيتان في البحار.

عندما نأتي إلى إنتاجه العلمي وتدريسه، فإنه منذ 55 سنة كان يدرِّس البحوث التخصصية العالية والتي تسمى ببحوث الخارج فهي أعلى مستوى يبلغ إليه الإنسان الحوزوي بحيث أنه إذا درس مدة من الزمان يتعود على طرق الأستدلال ويسير في طريق الإجتهاد فإذا وفق الله يصبح واحداً من المجتهدين الفقهاء، فقد كان رحمه الله 55 سنة يدرس هذه البحوث بشكل دائم ولا يعطل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقد نتج عن ذلك عدد من الكتب منها (مصباح المنهاج) الذي يحوي عدد كبير من المجلدات، أيضاً (منهاج الصالحين) وهو الرسالة العملية التي ألفها جده السيد محسن الحكيم ثم جاء بعده العلماء وحشَّوا عليه، كالإمام الخوئي رضوان الله تعالى عليه الذي كتب حاشية عليه ثم أُدمِجت وكذلك بقية المراجع، فقد اعتُمِد هذا الكتاب كنص فقهي فأغلب العلماء ممن يريد أن يقدم رسالة فقهية عملية كان يعتمد على منهاج الصالحين، والبعض الآخر من العلماء كان يعتمد على كتاب (وسيلة النجاة) أو على كتاب السيد البروجردي رحمة الله عليه، ولكن الأكثر كانوا يعتمدون نص السيد الحكيم وهو (منهاج الصالحين).

جاء السيد محمد سعيد الحكيم وأخذ كتاب جده وأصبح يورد الأدلة تحت كل مسألة من المسائل، فإن وافق فيها جده وهو صاحب نظر وآراء مبتكرة فقد تتلمذ على يد أعلام كبار ولكنه لم يقف عندهم، ومن العلماء الذين تتلمذ على يدهم: المرحوم الإمام الخوئي أعلى الله مقامه، وجده السيد محسن الحكيم، وأستاذه الأكبر السيد حسين الحلي الذي يعتبر واحد من الآيات العظام الكبار وقد كان جديراً بالمرجعية ولكنه طوى عنها كشحاً وبقي يدرس العلماء والفقهاء إلى آخر حياته.

أخذ السيد محمد سعيد الحكيم هذا الكتاب وأخذ يستدل عليه وسماه بمصباح المنهاج لطلاب العلم ولأهل المعرفة ولطالبي الإستدلال الفقهي، كما أن لديه عدة كتب في الأصول منها (المحكم في أصول الفقه) و (الكافي)، وبالإضافة إلى هذه الكتب التخصصية كان لديه شيء آخر ربما لا يتوفر لغيره إلا القليل وهي الكتابات للطبقة المتوسطة والمثقفة، فكان قلمه قلماً جذاباً وسلساً، لذلك عنده بعض الكتب التي يستطيع أن يطلع عليها الشاب فيجد فيها عمق القرآن وكذلك سلاسة البيان، مثل كتابه (في رحاب العقيدة) وهو ثلاثة أجزاء أصلها أن طالباً في الجامعة الأردنية من غير أتباع مدرسة أهل البيت أرسل له رسالة فيها أسئلة عن المذهب، فحول السيد محمد الحكيم هذه الرسالة من استفتاء إلى كتاب مفصل في ثلاثة أجزاء وهو مفيد جداً ومطبوع وينبغي الرجوع إليه.

كذلك أيضاً عنده في قضية كربلاء كتاب ضخم جداً بعنوان (فاجعة الطف) حول القضية الحسينية من الناحية التاريخية وتحليل هذه الواقعة من مقدماتها ومؤخراتها ونتائجها، وهو كتاب قيم جداً مكتوب بمتانة ورزانة وفي نفس الوقت بسلاسة بيان متميزة.

ولديه كتب أخرى كـ (الأصولية والأخبارية فرقة واحدة) وهو مبحث لعله طرق بشكل قليل من قبل العلماء ولكنه جاء وكتبه في كتاب فصل فيه هذه الفكرة فحل بذلك بعض النزاعات ولاسيما في بلاد البحرين التي كانت عندهم الأمور تسير باتجاه غير حسن فقد كانت تحتاج إلى رؤية ومعرفة ومن جهة إلى مرجعية، فكتب هذا الكتاب وهو كتاب نافع ومفيد، وغيرها من الكتب التي كتبها.

فيما يرتبط بالإمام الحسين عليه السلام كان له اهتمام بارز ومهم، فتراه مثلاً في الأوقات العادية يُنقَل عنه بأنه لا يترك زيارة الإمام الحسين عليه السلام ليالي الجمعة بالذهاب من النجف إلى كربلاء، وحتى في الظروف الخانقة التي كانت في أيام النظام البائد كان يسعى قدر الإمكان لأن يكون هناك في ليلة الجمعة وأن يزور ويبقى فترة طويلة في حرم الإمام الحسين يصلي الجماعة ويرشد المسترشد ويجيب على السائل وهكذا مع العلم بأن وضعه الصحي كان وضعاً سيئاً وغير مساعد لمثل هذه الأسفار لا سيما عندما خرج من سجن الطاغية، بل وأن الأكثر من هذا كان يصر على أن يأتي ويمشي مقداراً من الطريق في يوم الأربعين مع من يمشون لزيارة الإمام الحسين سلام الله عليه بتلك الهيئة وبذلك الهيكل الضعيف المنحني كان يمشي مقداراً من الخطوات وسط إلحاح من معه على أنه كان يجهد نفسه بهذا ويعطل بدنه، ولكنه كان يقول: بأن الإمام الحسين عليه السلام قدم دمه الشريف وهذا شيء هين في سبيله، وكان بعد ذلك يركب على عربة ويأمر بدفعها قدر الإمكان حتى يسير مقداراً من الطريق لتعزيز مثل هذا الأمر وشعوراً منه بأن الإمام الحسين عليه اسلام قد قدم ما قدم من أجل الدين وأن كل ما نقدمه نحن هو شيء بسيط ويسير في حقه.

أيضاً كان له نشاط في رعاية الطبقات الضعيفة في المجتمع، فقد أسس مؤسسة خيرية باسم مؤسسة اليتيم وهذه ترعى عدة عشرات من آلاف اليتامى، فتوجد أرقام بعشرات الآلاف في العراق عن أن هؤلاء اليتامى الذين أُعدم آباؤهم مثلاً أو قُتِلوا في الحروب وغير ذلك، فكان رحمه الله قد احتضنهم كما فعل كثير من العلماء، لكنه أسس مؤسسة في هذا القبيل وهي تعتم وتعتني بهؤلاء اليتامى ونساء الشهداء ونساء المفقودين وأمثالهم.

ينقل أحد طلاب العلم شيئاً فوق هذا من مواساته الشخصية، فيقول: ذهبت عنده قبل عدة سنوات إلى النجف الأشرف وبعد زيارة أمير المؤمنين عليه السلام ذهبت لزيارته أي (السيد محمد سعيد الحكيم) فدخلت عليه في المجلس العام الذي يستقبل فيه ويدَرِّس فيه فوجدت المكان شبه مظلم لا توجد كهرباء بإعتبار أن الوضع العام في ذلك الوقت كانت فيه الكهرباء المحلية في أكثر الأوقات معطلة، فجلست مع السيد قليلاً وقد كان المكان حاراً، فلما جلسنا جاؤوا بمروحة صغيرة جداً تعمل على البطارية، فقلت للسيد بأن يسمح ليي بالذهاب إلى السوق لشراء مروحة عادية تعمل على الكهرباء ومعها مولد، فقال لي: أحسنت فأنا عندي المال الذي يكفي لشراء مولد يحرك أجهزة التكييف ولكني أفكر لو جئت يوم القيامة وسألتني جدتي الزهراء سلام الله عليها وقالت لي بأن هذا المولد سيبرد المكان الذي أكون فيه ولكن إزعاجه ودخانه يصل إلى الجيران، فبأي جواب أجيبها؟، فإن ذلك نوع من أنواع المواساة والله كما يعين أولئك أيضاً يعيننا.

مع أن الإنسان يستطيع أن يجد لنفسه المعاذير بأنه كبير في السن ويدرس علوم أهل البيت ولو توفر له الجو المناسب لأعطى أكثر، فكل هذه معاذير يستطيع الإنسان تقديمها ولكن المستوى الأخلاقي لهذا السيد لا يسمح له بأن يفعل ذلك، فهكذا كان رحمة الله عليه رحمة واسعة وقد رحل إلى لقاء ربه كما يذهب غيره وكما نحن نذهب، نسأل الله أن يقبضنا على طاعته وأن يخلف لنا حسن الذكر بين المسلمين، فقد كان لهذا المرجع الكبير التشييع العظيم وكانت عشرات الآلاف في كربلاء وأكثر من ذلك في النجف الأشرف والكل يقتتل ليجد له موطئ قدم حتى ينقله في تشييع هذا العالم الكبير والجليل.

مرات العرض: 3414
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 42014.09 KB
تشغيل:

كيف تم التشجيع على الشعر الحسيني 16
الآثار المتبادلة بين الشعروالقضية الحسينية تسجيل