صحف النبي ابراهيم وشريعته
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 6/9/1437 هـ
تعريف:

صحف النبي ابراهيم وشريعته

كتابة الأخت الفاضلة ليلى الشافعي             

   قال الله العظيم في كتابه الكريم : ( ومَن يرغبُ عن ملةِ إبراهيم إلا من سَفِه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين )

    يتناول حديثنا صحف إبراهيم وشريعة إبراهيم ويضم أيضًا تتمةً لحديثنا السابق فيما يرتبط بقصة الذبيح الإبراهيمي .

من هو الولد الذي قدمه إبراهيم للذبح :

   من هو الولد الذي قربه إبراهيم للذبح وأمر بذلك من قبل الله ؟ الرأي الموجود لدى اليهود والمسيحيين بشكلٍ عام هو أن الذبيح هو إسحاق . بينما إجماع الإمامية تقريبًا على أن الذبيح ومن قرب للذبح هو إسماعيل عليه السلام . وفي مدرسة الخلفاء انقسم الرأي ، فالأكثر منهم ذهبوا إلى أنه إسماعيل بينما ذهب علماء آخرون من مدرسة الخلفاء وبعضهم من العلماء المعتبرين والمشهورين إلى أن الذبيح هو إسحاق ، وتبعهم بعض الباحثين القرآنيين المعاصرين أيضًا من مدرسة الخلفاء .

     بالنسبة إلى اليهود والمسيحيين فالأمر مبررٌ وواضح ، نظرًا لأن اليهود يعتبرون إسحاق نبيهم الأعلى بعد إبراهيم و يعقوب واسمه إسرائيل وينقلون عنهما كلامًا كثيرًا في مدح اليهود والثناء عليهم كما سيأتي في حديثنا عن اليهودية . بينما بالنسبة لإسماعيل فهم يعتبرونه رأس هذه الأمة الأمية : ( ليس علينا في الأميين سبيل )

   فمن الطبيعي أن يعظموا شأن إسحاق لأنه في تعظيم إسحاق تعظيمًا للمجتمع الإسرائيلي ، لذلك لا غرابة هنا ، إنما المستغرب هو في ذهاب بعض العلماء والمفسرين من المسلمين من مدرسة الخلفاء إلى نفس هذا الرأي بالرغم من أن هناك وضوحًا في القرآن الكريم وفي الروايات عن أن الذبيح هو إسماعيل .

   فالإمامية يكاد يكون إجماعا عندهم على أن من قرب للذبح كان إسماعيل ويقيم الإمامية والأكثر من أتباع مدرسة الخلفاء ممن يذهبون أن الذبيح هو إسماعيل عددًا من الأدلة نشير إلى بعضها باختصار:

الأدلة التي تثبت أن الذبيح هو إسماعيل :

   الدليل الأول : الدليل القرآني ففي سورة الصافات يقول ربنا سبحانه وتعالى :

( فبشرناه بغلامٍ حليم * فلما بلغ معه السعي قال إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتي افعل ما تؤمر ..... )

بعد هذه الآية بست آيات ولا يزال الحديث عن نبي الله إبراهيم الذي بشره الله أولًا بغلامٍ حليم بعدها بست آيات قال ( وبشرناه بإسحاق نبيًا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ) بناءًا على هذا فالآيات المباركة في سورة الصافات بحسب هذا التفسير تتحدث عن بشارتين وولدين : ولد أو غلام حليم وبعد ذلك بغلام آخر وهو إسحاق . فالغلام الحليم الأول بلغ معه السعي وهو الذي حصلت معه القصة ثم بعد ذلك قال وبشرناه بإسحاق فبشارتان وولدان والولد الأول بعد البشارة تحدث عن أنه هو الذي بلغ به السعي وإسحاق مجرد بشارة ثم البركة على الاثنين ، وباركنا عليه يعني الأول وعلى إسحاق ، يعني كلاهما كانا نبيين ومحل البركة من الله عز وجل . فهذه الآيات المباركة في سورة الصافات واضحة جدًا وإلى هذا المعنى أشارت أكثر من رواية من روايات المعصومين ، فهذا الدليل القرآني الأول .

     والدليل القرآني الثاني : ما يذكرونه من أن الله سبحانه وتعالى عندما بشر إبراهيم وزوجته سارة بإسحاق ماذا يقول ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) يعني من بعد إسحاق سيأتي ابنه يعقوب حفيد لإبراهيم وحفيد لسارة وهو يعقوب بعد إسحاق . فهنا إذا كان الله قد بشر إبراهيم وسارة بأنه سيكون لهما إسحاق ثم من بعد إسحاق سيأتي يعقوب ولدًا له ، فحين يطلب منه أن يذبح إسحاق فأي إنسان حتى لو كان عادي وليس نبي سيتساءل : يارب أنت قلت بشرناك بإسحاق وسيأتي من بعده يعقوب ، فهل نسيت الموضوع ؟

فإما أن يكون الوعد الإلهي كذبًا ومزحًا أو أن هذا أمرٌ غير جاد ، فأنا الله وعدتك بأن إسحاق سيتزوج وسينجب يعقوب والآن أقول لك اذبحه . فمن الطبيعي أن أي إنسان فضلًا عن إبراهيم سيتساءل :هل تخليت عن وعدك يا رب؟ أو أن الأمر غير جاد ؟

فإذا كان الأمر غير جاد فهو ليس امتحان ! وإذا كان كذبً فنعود بالله أن يكون منه هذا . فإذن هذه البشارة من الله لإبراهيم وسارة من أن الله سيرزقهما إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب يخالف أن يأمره بذبح ابنه إسحاق .

   الدليل الثالث : أنه لا خلاف بين اليهود والنصارى والمسلمين أن إسماعيل هو الابن البكر للنبي إبراهيم سواء كان أكبر من إسحاق بخمس سنوات كما يقول البعض أو بعشر سنوات كما يقول آخرون ، فالابتلاء الحقيقي للإنسان الذي يقول سبحانه ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن ) يتناسب مع ألا يكون عند إبراهيم إلا ولدٌ واحدٌ . فالامتحان صار في وقتٍ كان عنده إسماعيل ولم يأتِ إسحاق بعد . أما لو كان إسحاق موجود وهو المفترض أن يكون التضحية فيه فهذا الوقت لا معنى لهذا الامتحان ، كأن يكون لدى أحدكم مليوني ريال ، فأحدهم قال لك : نريد أن نختبرك ادفع نصف المليون والنصف الآخر يبقى لك وتبلغ مراتب عظيمة ، تقول له : هذا امتحان سهل . متى يكون الامتحان صعب ؟ عندما تكون لا تملك سوى مليون واحد ويقول لك : ادفع هذا المليون في سبيل الله . هنا يكون الامتحان الحقيقي .

   أوإذا كان لدى واحد عدة أولاد ، وقال له الله تعالى : اذبح أحدهم وعندك غيره فلديك إسماعيل كبير وناشئ ، فاذبح إسحاق . لا يكون هذا امتحان حقيقي ، فالامتحان الحقيقي يكون عندما لا يكون عند إبراهيم إلا ولد واحد ويقول له اذبحه مع كبر سنك ولا يوجد رجاء لولد آخر ، وما جاءت البشارة إلا بعد خمس أو عشر سنوات وهذا هو الرأي الأرجح . هنا تكون كلمات صعبة ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن ) تحتاج إلى إتمام .

   وهناك أدلة غيرها من الروايات كثيرة جدًا .

   وقد تحدثنا في العام السابق عن عبدالله والد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونقلنا الرواية المتداولة ( أنا ابن الذبيحين ) ولا نريد أن نستدل بها لأننا تأملنا فيها وذكرنا أنه يوجد عليها ملاحظات ، لكن هناك روايات كثيرة جدًا عن النبي وعن المعصومين عليهم السلام تصرح بأن من أخذه إبراهيم للذبح هو إسماعيل ليس إلا . فهذا مما قام عليه الاتفاق والتسالم بين الإمامية وبين أكثر علماء مدرسة الخلفاء ، وذهب قسمٌ آخر من الباحثين القرآنيين المعاصرين إلى خلاف هذا وأخذوا ما ذكرته المصادر اليهودية من أن الذبيح هو إسحاق وهذا لا ريب أنه رأيٌ غير سليم .

تعظيم القرآن لصحف وملة إبراهيم :

   حديثنا الآخر مرتبط بصحف وملة وشريعة وديانة إبراهيم . ذكرت ملة إبراهيم بهذا اللفظ في القرآن الكريم ثماني مرات ، وذكرت بأنحاء متعددة فيها غاية التكريم نقرأ بعضها :
1.أول آية هي ما توجنا به المجلس قال تعالى : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه )
2.كلمة يرغب إذا اتبعت بفي يعني : أقبل عليه . رغبتُ في المجئ إلى المسجد ، رغبت في صداقتك ، يعني أنا مشتاق إلى هذا وأريد هذا وأحب هذا .

أما إذا جاءت بعدها عن يصبح المعنى معاكس ، رغب عنه يعني تركه ، ورغب عن الهدى يعني ترك الهدى وتولى عن الهدى .

من يرغب عن ملة إبراهيم يعني من يتولى عنها ويتركها هذا سفيهُ النفس ، لأن هذه الملة تطابق الفطرة السليمة والعقول الحصيفة والقيم الأخلاقية فلا ينبغي أن يرغب عنها الإنسان .
1.آية أخرى تنسب الهداية لملة إبراهيم لا من كان عنوانه يهوديًا أو نصرانيًا ، يقول القرآن الكريم : ( وقالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا بل ملة إبراهيم )

فليس يهودًا ولا نصارى ولا هذا العنوان ولا ذاك العنوان وإنما ملة إبراهيم .
•يأمر الله تعالى نبيه محمدًا (ص) في القرآن الكريم أن يقول للناس أنه من أتباع ملة إبراهيم : ( قل إنني هداني ربي إلى صراطٍ مستقيمٍ دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا ) فهذا الصراط المستقيم والدين القويم هو ملة إبراهيم فهذه محور الأصول الدينية لكل الديانات .
•وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى : ( قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم )

فهذه الآيات وسواها تشير إلى أن الملة الإبراهيمية هي الأساس لكل الديانات وهي الجوهر لكل التشريعات .

ماهي ملة إبراهيم ؟

   فماهي هذه الملة ؟ وهل كان لها صحف ؟ وهل كان فيها تشريعات وسنن ونظام حياتي ؟

   أولًا : صحف إبراهيم كما ورد في الروايات هي عشرون صحيفة ، ونحن لا نعلم عن حجم هذه الصحف . ولكن ورد في الروايات كما أن للقرآن الكريم ثلاثون جزءًا فإن صحف إبراهيم عشرون صحيفةً وكما أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان فإن صحف إبراهيم بل سائر الصحف والكتب السماوية نزلت في شهر رمضان . وهذه جاءت فيها روايات من الفريقين من مدرسة الخلفاء ومن مدرسة أهل البيت عليهم السلام .

     ولعل أحدهم يقول قبل عشرة آلاف سنة أو ثمانية آلاف سنة أو خمسة آلاف سنة في زمن إبراهيم هل كان شهر رمضان موجود ؟

     ربما هذا الاسم غير موجود لكن الفترة الزمنية موجودة . فالفترة الزمنية في علم الله عز وجل والتي ينطبق عليها عنوان شهر رمضان هذه السنة يعادل شهر جولاي مثلًا لكن بعد ثلاثين سنة قد يصادف سبتمبر أو ديسمبر أو فبراير ، لكن هو شهر رمضان كقطعة زمانية محفوظة ، نعم قياس الأشياء الأخرى له مختلفة ولكن هو كقطعة زمانية مقدسة هذه ثابتة في علم الله . والله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه القطعة الزمانية التي ستسمى في زمان العرب والمسلمين برمضان والتي هو انتخبها لهم بالصيام هذه موجودة .

   الرواية موجودة في مسند أحمد بن حنبل وموجودة أيضًا في الكافي لثقة الإسلام الكليني وفي كلا المصدرين نفس النص وهي عن رسول الله محمد ( صلى الله عليه وآله ) ففي نص الكافي رواية معتبرة من حيث السند ينقلها حفص بن إياس عن الإمام الصادق عليه السلام وينقلها الإمام عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( نزلت صحف إبراهيم في أول ليلةٍ من رمضان ، وأنزلت التوراة لستٍ مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشر خلت من رمضان ، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان ) طبعًا لابد أن يفسر هذا في نحوٍ يتناسب مع ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وعلى الأكثر عند الإمامية أن ليلة القدر لا يمكن تحديدها بالدقة لكن أكثر الروايات تشير إلى ثلاث وعشرين فإذن هذه الصحف السماوية ومنها صحف إبراهيم نزلت في شهر رمضان في أول ليلة . وكأن هذه من المراحل الزمنية فإبراهيم في الأسبوع الأول وموسى في الأسبوع الثاني وعيسى في الأسبوع الثالث والنبي ( صلى الله عليه وآله) في ليلة القدر المباركة في الأسبوع الرابع .

ما طبيعة صحف إبراهيم ؟

عندنا رواية عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الراوي لها أبو ذر الغفاري رضوان الله عليه وهي موجودةٌ في كتاب الخصال للشيخ الصدوق المتوفى سنة 381هـ من علمائنا الكبار مؤلف كتاب ( من لا يحضره الفقيه ) وعدد كبير من الكتب يقول : في الحديث عن أبي ذر أنه رأى رسول الله في خلوةٍ في المسجد فاستفاد من هذه الخلوة فقال : يا رسول الله أي آيةٍ أنزلها الله عليك أعظم ؟ فقال له آية الكرسي . ( فآية الكرسي آية واحدة ولكن قيل إذا جاء في خبر أن تقرأ آية في الصلاة بعد الفاتحة بآية الكرسي فالاحتياط يقتضي أن تقرأ الآيات الثلات إلى ( هم فيها خالدون )

قال : قلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم ؟ فقال : كانت أمثالًا . مثل :

نظام الحكم والقضاء في صحف إبراهيم :

( أيها الملك المسلط المبتلى إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كانت من كافر ). فيها توجيه لقادة المجتمعات والسلاطين والرؤساء أنه أنا الله سبحانه وتعالى ما جعلت الحكم والملك والسلطان لك أيها الحاكم حتى تجمع الأموال وتكدس الكنوز وتزيد أرصدتك ، ليس هذا هو المطلوب منك . وإنما المطلوب هو أن تحجب عني دعوة المظلوم وذلك بأن توفيه حقه . فإذا وجد المظلوم قضاءً عادلًا ورأى أنه إذا ذهب إلى المحكمة حصل على حقه ، فإنه لن يدعو الله في جوف الليل على ظالميه فأنا جعلتك أيها الحاكم لتقيم نظامًا قضائيًا عادلًا لا يلجئ المظلوم لأن يدعو على ظالميه على أثر عدم امتلاك حيلةً وسبيل .

     هذا جزءمن صحف إبراهيم وهو ما يرتبط بموضوع القضاء والحكومة والسياسة .

     العقائد في صحف إبراهيم :

     أيضًا توجد فيها أمور أخرى ، فيها قسم من العقائد مثل التبشير برسول الله محمد ( صلى الله عليه وآله ) فقد جاء في روايةٍ عن الإمام الباقر عليه السلام قال : ( إن اسم النبي (صلى الله عليه وآله ) في صحف إبراهيم عليه السلام الماحي )

     إما بمعنى أنه يمحو بمحبته سيئات الخلق ، وإما بمعنى أنه يمحو عبادة الأصنام ويزيل هذه العبادة الوثنية ويمحوها من وجه الأرض وهذا ما حصل فعلًا على أثر جهود رسول الله صلى الله عليه وآله . فهذا وارد في حق رسول الله .

قوانين الحياة في صحف إبراهيم :

     قوانين الحياة قوانين الجزاء قوانين الكسب وقوانين الفلاح الدنيوي والأخروي كلها موجودةٌ في صحف إبراهيم وبعبارةٍ أخرى فنظام الجزاء والعطاء في الدنيا والآخرة أصولها موجودةٌ في صحف إبراهيم .

   مثال على ذلك ما يقوله القرآن الكريم : ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى *وإبراهيم الذي وفى *ألا تزرُ وازرةٌ وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى *وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى)

     فالإنسان بنفسه يتحمل مسؤولية أعماله دنيا وأخرى وأن غيره لا يحمل وزره عنه ، فلا يصح عقوبة غير الجاني والمجرم . كأن يؤخذ ابنه رهينة أو زوجته وتهدده إذا لم ترجع سنفعل كذا وكذا . وأيضًا وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فلا تغرر نفسك بالأسماء فتقول أنا مسلم وأنا موالي وغير ذلك فليس للإنسان إلا ما سعى ، فهذا جاء في صحف إبراهيم وموسى ودونه القرآن الكريم أي أن الكتب السماوية الثلاث فيها هذا المعنى .

وأيضًا (أن سعيه سوف يرى ) فحين تعمل خيرًا في هذه الدنيا تلقى خيرًا فيها ولا تلقى شرًا فهذا المثل الذي يقول : تفعل خير تلقى شر .

هذا المثل وبعض الأمثال الأخرى هي مخالفة صريحة للقرآن الكريم ومع ذلك هي مستحكمة في نفوس الناس . فهذا المثل كذب وليس صحيحًا . فنتيجة العمل ليس في الآخرة فقط بل في هذه الدنيا .( ثم يجزاه الجزاء الأوفى )

ففي الدنيا تلقى خيرًا وفي الآخرة جزاء أوفى ، ففي الدنيا بمقدار سعيك وفي الآخرة أوفى وأكبر .

     أيضًا الفلاح والنجاح رهن العبادة والعطاء والقرب من الله ( قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خيرٌ وأبقى * إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى )

الحاجة إلى الإمام :

     القضايا العقائدية كالحاجة إلى الإمام والقائد موجود في صحف إبراهيم وهذا ما أخبرنا عنه الإمام الصادق عليه السلام في روايةٍ أختصرها : دخل هشام بن الحكم على الإمام الصادق وهو رجل عالم متمكن بالرغم من صغر سنه وعندنا في الدين أن الإنسان العالم والمؤمن مرفوع الدرجة ) يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتو العلم درجات ) فأجلسه الإمام إلى جانبه وقربه بجنبه . فبعض الحاضرين من كبار السن لم يعجبهم هذا الأمر . فأراد الإمام أن يبين لهم منزلة هشام وأن يطلب منهم قضية سيبينها ، فقال له : يا هشام ألا تخبرني ماذا صنعت بعمرو بن عبيد فقال له : سيدي إن لساني لا يعمل في حضرتك . فقال له : أنا آمرك بهذا . فقال هشام : ذهبت إلى البصرة ودخلت أحد مساجدها وكان هناك جمع كبير وأحدهم متصدر والناس يسألونه وحين فرغ الناس من أسئلتهم ، قلت له : لدي سؤال . فقال : ادنُ مني . فاقتربت إليه وقلت له : عندي سؤال وأرجو ألا تؤاخذني . فقال : سل . فقلت له : ألك عين ؟ فقال : ماهذا السؤال ؟ فقلت له : تحمل أسئلتي . قال : بلى . ما تصنع بها ؟ قال : أنظر بها . فقلت : ألك أذن ؟ قال : بلى . ما تصنع بها ؟ قال : أسمع بها . ألك رجل ؟ قال : نعم . ما تصنع بها ؟ قال : أسعى بها . ألك يد ؟ قال : نعم . ما تصنع بها قال : أبطش بها وآكل بها . فقلت له : هذه الأشياء تعمل أم لا؟ قال : بلى . قال : ألك قلب ( بمعنى العقل ) قال بلى . فما تصنع به ؟ قال : إذا اشتبه على هذه الأشياء شيئ رجعت إليه . فإذا اشتبه شيئ على عيني رجعت إلى القلب فميزه وهكذا بقية الجوارح .

فقلت : يا عمرو ربك ما رضي لجسمك مع وجود جوارحك السليمة فيه حتى جعل له إمامًا يرشد تلك الجوارح ، وترك هذا الخلق كله بلا إمام ؟!

فقال : من أنت ؟ فقلت له : من عباد الله . فقال من أين ؟ قلت : من الكوفة . فقال : أنت هشام بن الحكم . فأدناني إليه وأجلسني إلى جنبه وما تكلم بعد ذلك . الشاهد أن الإمام سأله : من أين أخذت هذا ؟ قال له : بعضه أخذته منك ورتبته من عندي . قال له: أتعلم أين هذا ؟ قال : بلى . قال : هذا في صحف إبراهيم.

فالحاجة إلى الإمام والقائد كقضية عقائدية مذكورة في صحف إبراهيم . فكما ذكر في القرآن (وجعلنا منهم أئمة ) لبيان أهمية دور القائد كذلك في صحف إبراهيم .

المستحبات في صحف إبراهيم :

   يوجد في هذه الصحف أيضًا أحكام وتشريعات منها ما هو واجبٌ ومنها ما هو مستحب مثل ماجاء في الرواية عن النبي (ص) ونقلها العلامة المجلسي في البحار في ذيل الآية ( أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا ) قال : (هي الحنيفية العشرة التي جاء بها إبراهيم عليه السلام خمسةٌ في الرأس وخمسةٌ في البدن)

فبعضها أمور مستحبة وهذا يشير إلى أن المنهج الإلهي كما يعنى بترتيب علاقة الإنسان مع الكون كله مع الطبيعة والأفلاك والأشجار والحيوانات... يرتب أيضًا علاقته مع بدنه ، ما هو الأفضل لبدنك ؟ فالأنظمة الأخرى ترتب الأمور الخارجية ، أمور المجتمع العامة أما بدنك فلا دخل لي فيه . أما الدين فهو يرتب من علاقتنا بالكون كله وهي أوسع دائرة إلى علاقتك بدائرتك الخاصة . فيعطي رأيه بأدق التفاصيل .

( فالتي في الرأس فطمه -أي جزه وتهذيبه - وأخذ الشارب وإعفاء اللحى والسواك والخلال ، وأما التي في البدن فالغسل من الجنابة – كما كان مفروضًا في زمان إبراهيم كذلك هو مفروضٌ في زماننا – والطهور بالماء – خلافًا لما كان يعمله أهل البادية ربما لقلة توفر الماء فكانوا قليلًا ما يستخدمون الماء ، ولذلك مدح الأنصار ففي الرواية عندنا أن النبي ( ص ) لما وصل المدينة ونزلت الآية المباركة : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) قال لبعض أهل المدينة : ماذا صنعتم حتى أثنى عليكم الله ومدحكم ؟ قالوا : نحن لا نتطهر إلا بالماء ، لا نستنجي إلا بالماء ، لا نطهر موضع النجو والغائط إلا بالماء ، ونكثر من استخدام الماء ، فالنبي يعلم ولكنه سألهم حتى يعرف الحاضرين – وتقليم الأظفار وحلق الشعر من البدن وهذه كما تقول الرواية لم تنسخ إلى يوم القيامة .

   وهذا شيئٌ مما ورد في قضية صحف إبراهيم ، في توقيتها وعددها فيما جاء فيها وهي التي أمر الله سبحانه نبيه أن يقول أنني أيضًا على ملة إبراهيم يعني في هذا الخط العام الموجود في كل الديانات ومنها الديانة التي جاء بها رسول الله ( ص ) وحضور نبي الله إبراهيم في الذاكرة الإسلامية وفي أحداث الإسلام شيئ كثير . وقد نقلنا فيما مضى أنه سئل النبي إبرهيم من جبرئيل عن الله عز وجل : أنه قال من أحب الخلق إليك ؟ فقال : رسول الله محمد (ص) قال : فبعده؟ قال : ولده . قال : فهل ولده أحب إليك من ولدك ؟ قال : بلى . قال : هل تتمنى أن يذبح ولدك ولا يذبح ولده ؟ قال : بلى ._ وهذا من حقائق الإيمان فعندنا في الحديث ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ويكون ولدي أحب إليه من ولده ) فحزن إبراهيم عليه السلام على الإمام الحسين أشير إليه في الروايات وهذا غير مستبعد باعتبار أنه حلقات متصلة بعضها بالبعض الآخر .

كما قال أحد شعراء أهل البيت في رثائه للإمام الحسين عليه السلام :

   ونار فقدك في قلب الخليل بها       نيران نمرود عنه الله قد دفعا .

 

 

 

مرات العرض: 3442
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2559) حجم الملف: 56471.07 KB
تشغيل:

الفرق المسيحية والموقف الاسلامي منها
العهد القديم ماذا حرف منه وماذا سلم