شرح دعاء الافتتاح 12
تحرير الفاضلة فاطمة الخويلدي
تدقيق الفاضل عبد العزيز العباد
جاء في بعض فقرات دعاء الافتتاح:
(فَاِنْ اَبْطأَ عَنّي عَتَبْتُ بِجَهْلي عَلَيْكَ، وَلَعَلَّ الَّذي اَبْطأَ عَنّي هُوَ خَيْرٌ لي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الأُمُورِ، فَلَمْ اَرَ مَوْلاً كَريماً اَصْبَرَ عَلى عَبْد لَئيم مِنْكَ عَلَيَّ يا رَبِّ، اِنَّكَ تَدْعُوني فَاُوَلّي عَنْكَ، وَتَتَحَبَّبُ اِلَيَّ فَاَتَبَغَّضُ اِلَيْكَ، وَتَتَوَدَّدُ اِلَىَّ فَلا اَقْبَلُ مِنْكَ، كَاَنَّ لِيَ التَّطَوُّلَ عَلَيْكَ، فَلَمْ يَمْنَعْكَ ذلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ لي، وَالاحسانِ اِلَىَّ، وَالتَّفَضُّلِ عَلَيَّ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ، فَارْحَمْ عَبْدَكَ الْجاهِلَ وَجُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ اِحْسانِكَ اِنَّكَ جَوادٌ كَريمٌ، اَلْحَمْدُ للهِ مالِكِ الْمُلْكِ، مُجْرِي الْفُلْكِ، مُسَخِّرِ الرِّياحِ، فالِقِ الاْصْباحِ، دَيّانِ الدّينِ رَبِّ الْعَالَمينَ)
استعجال الإنسان الإجابة
هذه الفقرات الواردة في دعاء الافتتاح تستكمل الحديث في فقرته الأولى عن حكمة الله تعالى وعن جهل هذا العبد الداعي وذلك إنّ استجابة الله سبحانه وتعالى لعبده في قضاياه لا تخرج عن سبيل الحكمة، بينما يتعجل هذا الإنسان استجابة أغراضه بغض النظر عن سائر الامور الأخرى، هذا الإنسان عجول فهو يلاحظ جانبه الذاتي من غير أن يلاحظ سائر الموارد الجوانب الأخرى يطلب اليوم من الله تعالى المال، ويريد أن يحصل عليه بأي طريقة وبسرعة، حتى إذا تأخرت استجابة الله تعالى له عتب بجهله على الله واحتج.
لماذا لم يستجب لي ربي في أن يرزقني مالاً؟ لماذا لم يستجب لي ربي في أن يرزقني عافية؟
لماذا لم يستجب لي ربي في أن يملكني بيتاً أو في أن يزوجني زوجةً أو في أن يرزقني أولاداً أو في أن يعطيني جاهاً؟
لماذا لا يكون ذلك على الفور وبسرعة؟
الله أعلم بحالك أيها الإنسان
في الواقع قد يكون تأخير هذه المطالب لمصلحة الإنسان نفسه، لكن هذا الإنسان لما لم يكن يرى أبعد من أرنبة أنفه ولا ينظر للمستقبل ولا يفكر في جميع الجوانب كان يصر على مطلبه مهما كانت النتائج.
لقد نقلوا أن رجلاً – يسمى ثعلبة - أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان رجلاً فقيراً من أهل الصّفة، وكان يصلي مع رسول الله صلاة الجماعة في أوقاتها المختلفة، ويحضر مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله في السلم والحرب، ولكنه كان فقيراً لا يملك شيئاً فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله: يا رسول الله ادعوا الله أن يرزقني مالاً - رسول الله يعرف مقدار استيعاب هذا الإنسان فإنّ مِن الناس مَن لا يصلحه الغنى وإنّ مِن الناس مَن يفسده الفقر - فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا ثعلبة اتقِ الله وأحسن – أي لا تطلب هذا الأمر كأنه يريد أن يقول له ضمن هذه النفسية والشخصية التي أنت عليها لا ينفعك الغنى - فسكت عنه، وأعاد عليه ثعلبة القول مرة أخرى، فكان الجواب نفس السابق، وأعاد عليه مرة ثالثة بإلحاح فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أفعل، اللهم أرزق ثعلبة مالاً )
فحصل ثعلبة على غنمة وبدأ بالتجارة وظل يضارب فيها ويشتري ويبيع ويربي ويستولد إلى أن خرج من الصّفة إلى مكان آخر ثم إلى مكان آخر أكبر وأوسع حتى كثرت أغنامه، فخرج إلى خارج المدينة لأنه أقرب للمرعى، وفي هذه الأثناء انقطع بطبيعة الحال
عن بعض صلوات الجماعة لكي يداري غنمه وأمواله، ثم انقطع عن جميع الصلوات، فنزلت فيما بعد آية الزكاة، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله خلفه جابي الزكاة والصدقة كما أرسل لغيره إلى غيره من الناس فرفض ذلك، وقال إن هي إلا جزية فأفهمه الجابي أنّ هذا ليس شيئاً خاصاً بك، وإنما آيات من القرآن نزلت وأنّ غيرك قد أعطى خير ما عنده من المال، فلم يفعل ثعلبة ذلك وقال للجابي: إن رجعت مُر عليّ حتى اعطيك، فعمد إلى أسوأ غنمه فاختار منها العرجاء والمكسورة والعمياء وهكذا المريضة اختارها كلها ليعطيها إلى جابي الزكاة.
لعل الذي أبطأ عن هذا الشخص من الغنى والمال كان خيراً له في دينه وفي أخلاقه وكان خيراً له في قلبه لكن هذا الإنسان يتعجل النتائج.
يريد أن يصل إلى الامور من زاوية واحدة وبإلحاح، إذا كان يحتاج إلى حاجة فلا ينظر إلى غيرها أبداً يريد أن تتحقق على الفور حتى إذا طلب ذلك من الله ولم يستجب له تمرد وتجرأ وقال كلاماً لا ينفع واعتقد اعتقاداً لا ينفع.
لماذا يؤخر الله عني ذلك؟ ما هو السبب؟
لماذا اختارني من بين الناس لكي يبتليني بكذا وكذا؟
القاعدة تقول ( وَلَعَلَّ الَّذي اَبْطأَ عَنّي هُوَ خَيْرٌ لي ) لماذا ؟ ( لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الأُمُورِ) أنا لا أعرف النتائج بدقة أنا لا ألحظ الصورة كاملة، فلعل جوانب خفية تؤثر في هذه النتيجة وأنا لا أراها لعلمك بعاقبة الأمور، ومع هذا أنا أعتب عليك يا رب أواجهك فيما لا ينبغي وأنت في المقابل تتفضل حتى الذي تؤخره عني هو نعمة عليّ أنت تؤخر عني هذا المطلب لأنه يفسدني، إنه يفسد أخلاقي ويفسد ديني ويفسد حياتي الاجتماعية ويفسد علاقاتي مع الناس، ولكنني لا أقبل بذلك ( فَلَمْ اَرَ مَوْلاً كَريماً اَصْبَرَ عَلى عَبْد لَئيم مِنْكَ عَلَيَّ يا رَبِّ) إنك تدعوني وتوجّه لي الدعوة وتتحبب إليّ وتتودد إلّي وتتابع علي النعم لكني في المقابل أتبغض منك.
كيف يتبغض العبد إلى ربه؟
عندما أقوم بما يغضبك عندما اقارف المعاصي عندما لا استجيب لنداءاتك، فهذا يكون سبباً لغضبك عليّ وبغضك لي، (فَارْحَمْ عَبْدَكَ الْجاهِلَ) أنا أعترف يا رب أني في كُل ذلك جاهلٌ غير عارف بما يصلحني وما يفسدني، أنا جاهل غير حكيم أنت أحكم الحكماء فارحمني، ارحم عبدك الجاهل فهل يرحم الجاهل إلا العالم وهل يرحم الضعيف إلا القوي، (فَارْحَمْ عَبْدَكَ الْجاهِلَ وَجُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ اِحْسانِكَ اِنَّكَ جَوادٌ كَريمٌ،)
بعد ذلك تتعرض هذه الفقرة من دعاء الإفتتاح إلى توجيه الإنسان لبعض مظاهر عظمة الله في الكون:
(اَلْحَمْدُ للهِ مالِكِ الْمُلْكِ، مُجْرِي الْفُلْكِ، مُسَخِّرِ الرِّياحِ، فالِقِ الاْصْباحِ، دَيّانِ الدّينِ رَبِّ الْعَالَمينَ)
الحمد لله مالك الملك كل الحمد لله جنس الحمد لله طبيعة الحمد لله كمال الحمد لله تعالى الحمد لله مالك الملك، الملك هو بيد الله تعالى يرفع ملوكاً، يضع آخرين، يستخلف أُناساً، يستبعد آخرين، وهكذا هو الذي يتحكم عن طريق سننه، بالطبع ليس الامر أمراً غيبياً مطلقاً وإنما هو خاضع لسنن، هذه السنن وضعها ربنا سبحانه وتعالى فهو مالك السنن وتلك السنن هي التي تستبعد هذا وتستقرب ذاك.
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) الملك كله بيد الله مَلّكَنا للأشياء، ايضاً هو في طول ملك الله تعالى لنا ولتلك الأشياء فالمالك الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، له الملك وما احتويه أنا وما أسيطر عليه وما هو في حيازتي ليس هو الا مُلكاً اعتبارياً مؤقتاً زائلاً لا استطيع حمايته للأخير
ولا يخلد عندي إنما ينتقل هذا الشيئ المملوك مني لغيري ولولا ذلك لما وصل إليّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى.
يُوجّه الدعاء الإنسان إلى التدبر والتأمل في صفات الله تعالى وهي مظاهر عظمته وقدرته في هذا الكون.
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا في جميع أمورنا إنه على كل شيئ قدرير
|