الأوقاف : كنز مخبوء
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 20/1/1433 هـ
تعريف:
 
الأوقاف كنز مخبوء

روي عن سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده). حديثنا يتناول موضوع (الأوقاف) هذا الكنز المخبوء الذي لو استثمر كما ينبغي لتغير وجه المجتمع.
ماذا يعني الوقف؟
في اللغة: الحبس والمنع، وقَفَ يعني حبس عن الحركة. أما في الاصطلاح: فالوقف في الفقه عبارة عن حبس الأصل وتسبيل المنفعة، بمعنى أن يقول إنسان: أوقفت هذا الشيء لله، وبه يخرج هذا الشيء من ملكه. وهو إيقاع، إما باللفظ أو بالفعل. كما في بناء مسجد وإقامة الصلاة فيه بالفعل، حتى لو لم يقل ذلك لفظا.
في الملْك الشخصي يمكن للمالك أن يستهلك الأصل والمنفعة. مثلا إذا كان يمتلك بيتا فهو يستطيع أن ينتفع منه بالسكنى ويمكنه أن يبيعه. لكنه إذا أوقف هذا البيت يصبح محبوسا وممنوعا، ولا يعود بإمكانه التصرف فيه ببيعه أو وهبه أو غير ذلك.
فالوقف إذن منع من التصرف في الأصل وتسبيل للمنفعة، سواء كانت منفعة مادية أو معنوية. الماديّة: مثل أن يؤجّر الأصل ويدر أموالا تصرف في الموضع (السبيل) الذي عينه الواقف. والمعنويّة: مثل أن توقف حسينية لأجل إقامة مآتم أهل البيت وأفراحهم وأفراح شيعتهم. ويمنع الاستفادة منها بتأجيرها حتى في الأيام التي تكون فيها فارغة.
من وجوه الإنفاق في الشريعة:
هناك توجيهات دينية كثيرة بشأن الإنفاق، وفي الإسلام "نفقات واجبة" كالخمس وزكاة الفطرة والزكاة العامة لمن يمتلك الأنعام والغلات الأربع أو النقدين، وتلحق بها النذورات والكفارات المتعلقة بذمة الإنسان.
وتوجد نفقات مستحبة مثل الصدقات المندوبة. ومن الصدقات ما هو مستهلك مثل الصدقة اليومية لدفع البلاء أو شفاء مريض أو استنزال الرزق أو طلب التوفيق. ويوجد من الصدقات ما تكون غير مستهلكة ولكنها جارية باقية، وهذه أهميتها أكبر بكثير من الصدقات المستهلكة. لأن الأولى منقطعة، ليس فيها استمرارية، بينما الصدقة الجارية تستمر مئات السنين.
أوقاف رسول الله وأمير المؤمنين:
قضى أمير المؤمنين عليه السلام ردحا من الزمان مستبعدا عن الحكم. وقام خلال تلك الفترة بمهام جليلة لخدمة الإسلام، من إرشاد ومشورة وتربية لأصحابه، إلى جانب هذا كان سلام الله عليه يستنبط الآبار في مناطق مختلفة، أهمها تلك سميت بـ (أبيار علي) وهي الآن ميقات خارج المدينة.
وتصدق سلام الله عليه بتلك الآبار التي استنبطها (ع) طوال ربع قرن من الزمان منذ وفاة النبي إلى توليه الحكم.
وقد عمد الأمير سلام الله عليه لحفر الآبار من أجل استصلاح الأراضي للزراعة، فالماء لم يكن متوفرا في المدينة، وكانت الآبار هي المصدر الوحيد للزراعة. فإذا وجدت الآبار زرعت تلك الأرض، وبهذا خلّف الإمام (ع)الكثير من البساتين، وتركها وقفا للمسلمين وصدقة لفقرائهم، وبقيت هذه الصدقات والوقوفات حية ونافعة وعليها متولٍّ لمدة مئة سنة تقريبا.
حيث نجد تاريخيا الحديث جاريا حول هذه الوقوفات إلى سنة ١٣٢ للهجرة، وكانت تسمى في ذلك الوقت بصدقة علي، وكان يتولى إدارة تلك الأوقاف أبناء فاطمة من أحفاد الحسن والحسين، وإن لم يوجد فمن سائر المسلمين.
تصدق الرسول الأكرم بالحوائط السبعة والتي وهبها لابنته فاطمة عليها السلام، بالإضافة إلى عدد من البساتين وهبها مخيريق بن النضير اليهودي للنبي صلوات الله وسلامه عليه وأوقفها النبي للمسلمين.
أوقاف المسلمين وغيرهم:
واقتدى المتمكنون ماديا من أصحاب النبي (ص) به وبأهل بيته صلوات الله عليهم، فأوقفوا وتركوا وراءهم صدقات جارية.
بل إن فكرة الوقف انتقلت إلى غير المسلمين، كما حصل في الأندلس بعد وصول الإسلام إليها، ونفذها حتى غير المسلمين من فاعلي الخير، وتسمى عندهم (ترست). كما حذا المجتمع الشيعي حذو أوليائه، فوقفوا الأوقاف لأهل البيت (ع) على مر التاريخ.
أوقاف الأحساء والقطيف:
وتشير إحصائية تمت في الأحساء عن الأوقاف إلى أن 70% من أصل 3700 موقع بين نخل ودكان وأرض وغير ذلك موقوفة للأمام الحسين وأهل البيت عليهم السلام. يعني قريب من 3200 منها. الحصة الكبرى منها للأمام الحسين عليه السلام بالخصوص.
وقدّر نخيل القطيف بـ 730 ألف نخلة، قبل المخططات والقطع الجائر، حوالي 60% منها موقوفة، وقد يشمل الوقف حتى الأراضي. يعني قريب من 400 ألف نخلة بأراضيها. وأغلبها موقوفة على مناسبات أهل البيت عليهم السلام.
الوقف كنز مخبوء:
ويعتبر الوقف من القضايا ‏المالية المهمة في مجتمعنا، لو تم إدارتها بشكل جيد فستعطي عائدات عظيمة سنويا، مما يعود بالمنفعة على المصالح التي تنفق عليها. ونحن مسؤولون عن صيانة هذا المال العام، حتى لو لم نكن من أصحاب الأوقاف ولا القيمين عليها. حتى لا تندثر تلك الأوقاف ولا تضيع ولا تسرق وتتحول ‏إلي أملاك شخصية. فالناس ليسوا على مستوى واحد من الإيمان والتدين، البعض يسمح لنفسه بأن يضم بعض الأمتار إلى أملاكه، يأكلها وكأنها له حلال زلال طيب.
وفي فترة ما كان في منطقتنا بعض القضاة الطائفيين، الذين لا يعترفون بقضية الوقف ‏لأهل البيت عليهم السلام، ولا يعتبرونها أوقافا شرعية، وهذا شجع بعض المغامرين الذين لا يراعون الدين على إزالة الوقفية، فيأتي أحدهم بشاهدين يشهدون له زورا على أنه  اشتراها، وهكذا يضيع الوقف. كذلك أوقاف كثيرة اندثرت لعدم وجود وثائق تثبت وقفيتها، أوعدم وجود متولٍّ، أو أحد يهتم بها.
‏مسؤولياتنا جميعا أن نحافظ على الأوقاف. يجب أن تتشكل لجان في المجتمع، تقوم بجمع المعلومات عن الأوقاف، وإذا لم تتوفر وثائق فيمكن أن يستعينوا بشهادات كبار السن، ثم تقديم إحصائيات، وبهذا نحول دون سرقة الأوقاف أو مصادرتها.
وتوجد أشكال أخرى للمساعدة في الحفاظ على الأوقاف، مثل أن يقوم من يمتلك المعرفة والخبرة التجارية في المجتمع بمساعدة أولياء الوقف وتوعيتهم بأفضل السبل الحديثة لاستثماره.
إعادة صياغة مصارف الوقف:
من الأمور التي ينبغي أن يتوجه إليها مجتمعنا إعادة صياغة مصارف الوقف. فالأحوال تغيرت وتبدلت الآن، ومن عدم الإنصاف أن توقف أرض بمساحة 20 أو 30 ألف متر بألفين أو ثلاثة آلاف ريال في السنة. في الواقع هذا نوع من المنفعة المعدومة وفيه تضييع وإنهاء لمنفعة هذه الأوقاف، في حين يمكن استئذان الحاكم الشرعي في تأسيس مشروع مربح على هذا الوقف.
ولربما كانت هذه الطريقة الوحيدة المعروفة والمتبعة سابقا، وكان الناس يحذرون من التصرف في الوقف، استنادا إلى بعض الأدلة كقول الله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة:181] وفِي رواية عن الإمام الحسن العسكري  وقد كتب إليه أحد أصحابه في الوقوف وما روى فيها عن آبائه (عليهم السلام)، فوقع (عليه السلام): "الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله تعالى". يعني يجب أن تبقى كما أوقفها المتبرع بها، بلا تغيير ولا تبديل.
فالوقف الذي أراده المتبرع للحسين (ع) لا يجوز أن يحوّل إلى الفقراء، وما وقِف لأجل الفقراء لا يبدل للإمام الحسين (ع).
إذا تم الوقف بشرائطه الشرعية من التنجيز والإقباض وقراءة الصيغة -لما يحتاج إلى الصيغة- فلا يمكن بعد ذلك الزيادة فيه ولا النقيصة ولا التوسعة ولا التضييق.
مصارف الوقف القديمة كانت أفضل وجوه الإنفاق في الزمن القديم، فقد كانوا يوقفون لإطعام الناس في مناسبات الأئمة. وهذا كان مناسبا لحال الناس قبل عقود، حيث كان الوضع المادي ضعيفا، والطعام شحيحا. فبذل الطعام يكون من
أفضل أعمال الخير، ويجعل الناس مرتبطين بأهل البيت عليهم السلام. وكانت تلك طريقة مثالية لنشر فكرهم عليهم السلام وإيصال صوتهم الذي حاول الظالمون إخفاءه.
أما اليوم فالطعام -بحمد الله- وفير، ولم يعد الإطعام حاجة ملحة، رغم ذلك لا يجوز لنا صرف أموال الأوقاف إلا في موردها، ولا يمكننا مثلا تقديمها إلى الجمعيات الخيرية.
الأوقاف الحديثة:
لكن بالنسبة إلى الأوقاف الجديدة، على الناس أن يلاحظوا تغير الأحوال والظروف، وأن يتوجهوا إلى أفكار جديدة للوقف. ففي هذا الزمان توجد عدة مجالات جديدة تعزز الحالة الدينية وتنشر الخير في المجتمع ولكنها  تحتاج إلى مصرف، فيمكن توجيه الأوقاف الجديدة لتغذية هذه الأنشطة، كوقف لطباعة الكتب عن الإمام الحسين عليه السّلام، ووقف يخدم قضايا التعليم وحفظ القرآن الكريم، وتطوير المنابر التي تخاطب مجاميع كبيرة من البشر،
كالإعلام الفضائي بشتى أنواعه، والأفلام، والمسرحيات.
فلا نتوقع من المأتم بصورته التقليدية أن يؤثر في غير أتباع المذهب، ولكن يمكن التأثير فيهم من خلال الطرح الفنّي والأدبي للقضية التاريخية.
مرات العرض: 5725
المدة: 00:54:43
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (4463) حجم الملف: 18.8 MB
تشغيل:

في بيتنا عاملة
لن تنالوا البر حتى تنفقوا