الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله، وعلى ابن عمه أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
قال سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله يصف خديجة عليها السلام: (ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها، قد آمنت بي إذا كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدا إذ حرمني أولاد النساء)، صدق سيدنا ومولانا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله.
نتحدث هذه الليلة باعتبار أن المعروف هو ذكرى وفاة أم المؤمنين، أم فاطمة الزهراء، أم الأئمة المعصومين عليهم السلام، السيدة خديجة الكبرى صلوات الله وسلامه عليها، وفاءً رسول الله، ومحبةً لها، واستشفاعا بموقعها، وتقربا إلى ابنتها الصديقة الزهراء عليها السلام، وطلبا لنيل الأجر من الله عز وجل.
ونحن نعلم أنه لا يمكن أن يحاط بأبعاد هذه الشخصية الجميلة في حديث أو حديثين، ولقد ألف مؤلفون جزاهم الله خيرا في شأنها كتبا، منهم العلامة السيد نبيل الحسني، ألف في شأن خديجة بنت خويلد كتابا من (4) أجزاء، طبعته العتبة الحسينية المقدسة، وحتى هذه الأجزاء الأربعة على إحاطتها وجلالتها لا يمكن أن تحيط بمناقب ومفاخر هذه السيدة الجليلة سلام الله عليها، ولكن كما يقولون: (لا يترك الميسور بالمعسور)، بالمقدار الذي يتيح لنا الوقت من جهة، وتتيحه لنا القدرة البيانية للمتحدث، نتحدث بما يناسب المقام، طلبا للأجر من الله سبحانه وتعالى، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله، والتوسل بها سلام الله عليها في قضاء الحوائج، وتيسير الأمور.
نستعرض أولا بعض ما يتصور من حقوقها عليها السلام علينا، ثم نعطف بالقول على شيء من سيرتها عليها السلام، أما في قضية حقوقها علينا:
أولا: من حقوق هذه السيدة الجليلة علينا زيارة قبرها، والدعاء لها في ذلك المكان، وهو مقبرة المعلاة في مكة المكرمة، الذين يذهبون إلى العمرة، سواء كانت العمرة المفردة أو عمرة الحج، عمرة التمتع، من المهم جدا أن يقصدوا بالزيارة قبر أمهم، أم المؤمنين خديجة عليها السلام، وهو قريب من الحرم المكي وليس بعيدا، حتى لقد رأيت بعض المؤمنين يتقيدون بأن يذهبوا مشيا على الأقدام من مكان سكنهم إلى مقبرة المعلاة لزيارة السيدة خديجة عليها السلام، وزيارة أبي طالب عليه السلام، نصيري رسول الله، وداعمي الإسلام في أول أيامه.
ليس طبيعيا أبدا من مؤمن أو مؤمنة أن يذهب إلى مكة المكرمة هذه المسافة، وعلى بعد مسافة (10) دقائق بالسيارة، من مكان سكنه حول الحرم إلى مقبرة المعلاة، وقبر السيدة خديجة، ثم لا يذهب إليها، وهي من هي؟ وخديجة وما أدراك من خديجة، ثم لا يذهب إلى زيارة قبرها، والدعاء لها، وقراءة الزيارة هناك، هناك زيارات متعددة للسيدة خديجة مذكورة في كتب الأدعية، المرحوم آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري رضوان الله تعالى عليه، رجع إليه في التقليد بعد المرحوم السيد الخوئي لفترة وجيزة من الزمان، لأنه لم يعمر إلا فترة قصيرة بعد وفاة السيد الخوئي، يذكر في كتابه المهم في الفقه الاستدلالي: (كتاب مهذب الأحكام)، هذا الكتاب من الكتب المهمة في الفقه الاستدلالي التي يستفيد منها العلماء، وطلاب البحوث العالية في الفقه، يذكر في أحد أجزاء هذا الكتاب، يقول: (من البر بأم المؤمنين خديجة بنت خويلد زيارة قبرها، فإن ذلك من حقوق الأم على أبنائها).
أنت الآن لو فرضنا كانت والدتك التي أنجبتك قريبة منك، ثم لا تذهب إلى قبرها، قد يعد هذا مخالفا للبر، أنت تذهب مئات الكيلومترات من بلدك إلى مكة المكرمة، وربما أيضا بعد ذلك كما هو المستحب تذهب إلى السوق وتأخذ الهدايا لمن سوف ترجع إليهم، وأمك هناك على بعد (10) (10) دقائق أو ربع ساعة، ولا يتطلب منك شيء، فمن البر بها أن تذهب إلى زيارة قبرها، وأن تعرب عن محبتك إياها، وأن تدعو الله لها بعلو الدرجات، هذا واحد من الحقوق التي لهذه السيدة الجليلة علينا.
ثانيا: التسمية باسمها، سواء في داخل الأسرة، أو في المستوى العام، قد يكون الإنسان يريد أن يسمي بناته أسماء، وهو حر في ذلك ما دامت لا تحمل شينا ولا عارا، هو مختار في ذلك، ولكن كلما كان هذا الاسم أقرب إلى معنى أخلاقي، وإلى قدوة من القدوات، فهو أفضل، لا ريب أن اسم خديجة من هذه الجهة، أنسب من (تمارا) و(شمارا) وغير ذلك من الأسماء، لا أريد أن أقول إن تلك أسماء سيئة، لا، وإنما عند المفاضلة والموازنة بين الآثار التي يعطيها هذا الاسم والمعنى أنك تسمي باسم هذه السيدة الجليلة أو أشباهها، اسم الزهراء، اسم زينب، سائر الأسماء، لا ريب أن هذه الأسماء تستدعي المعاني الكبيرة، والمهمة الأخلاقية، مما لا يصنعه سائر الأسماء التي لا تنتمي إلى هذه البيئة، هذا على مستوى الفرد والأسرة.
على المستوى العام أيضا، تسمية المؤسسات الدينية، المساجد وغير ذلك، باسم السيدة خديجة، هذا أمر مهم، كأن الإنسان يريد أن يقول نحن نحترم تضحيات هذه السيدة، نحن نقدر دورها، وإنفاقها، وحياتها مع رسول الله، أليس غريبا مثلا في بعض البيئات قد تجد مثلا في منطقة (30) أو (40) مسجدا، لا يوجد فيها اسم مسجد السيدة خديجة؟ وهي أساس الخير، أساس البركة، قام الإسلام على تضحياتها، رسول الله صلى الله عليه وآله يقول هي أفضل من زوجاته، بل كل زوجاته مجتمعات لا يصلن إليها، المناسب جدا، الحسينيات لمَ لا نجد اسم هذه السيدة الجليلة في الحسينيات لاسيما الحسينيات النسائية، بل والرجالية أيضا كذلك، على المساجد، على المؤسسات الدينية، فضلا عن المستوى الشخصي والأسري في داخل البيت، هذا أيضا من حقها ولفائدتنا أيضا.
تمر على الأسماء والعناوين، كل اسم يستدعي في ذلك معنى من المعاني، لو أنك رأيت اسم شخص من أعداء الله على مكان، عادة يأتي في بالك ماذا؟ أن هذا العدو لله يقدر ويقيم ويرفع، ولو رأيت اسم ولي من أولياء الله على هذا الدكان، أو على هذه المؤسسة، وعلى هذا المسجد، أو في هذا المكان بما يناسب، طبعا بعض الأماكن قد لا يناسبها أن توضع عليها أسماء أولياء الله عز وجل، ولكن أقول في المؤسسات الدينية، المساجد، الحسينيات، ما أشبه ذلك، هذا أمر مهم نلفت إليه النظر، هذه من حقوق هذه السيدة، أن نحيي اسمها وذكرها، ونستدعي معاني الفداء والتضحية والعطاء التي قدمتها.
ثالثا: من حقوقها أيضا نشر سيرتها، وأحوالها، وقضاياها، وهذه واحدة من التي تقربهم إلى الله عز وجل، ويتوسل بهم إليه، ويستجلب الثواب، وتستمطر الرحمة من عند الله عز وجل، تريد أن تَسُر رسول الله صلى الله عليه وآله؟ سُرَّ خديجة، تريد أن تَسُر فاطمة الزهراء عليها السلام؟ سُرَّ خديجة، تريد أن يحبوك النبي؟ افعل ذلك، تحبوك فاطمة الزهراء كذلك؟ بل بعض الأحيان الإنسان لو خير بين أن واحد يحسن إليه هو شخصيا أو يحسن إلى أمه لاختار الإحسان إلى أمه، وهذا المعنى أيضا موجود في حق فاطمة الزهراء عليها السلام، لا ريب أنها عندما ترى محسنا، ذاكرا بخير، مترحما على الأم، زائرا لها، متوسلا بها، هذا تتلقاه السيدة الزهراء عليها السلام بأحسن القبول.
فمن المهم هنا أيضا أن الإنسان ينشر عنها، يذكرها، عندك قدرة على الكتابة؟ اكتب، ليست عندك قدرة على الكتابة؟ عندك قدرة مال؟ أعط المال في هذا السبيل، للنشر والتبليغ والإعلام بشأنها وقضاياها، ليس عندك لا هذا ولا هذا؟ بحر الإنترنت الآن أصبح لا يحتاج إلى كثير من الصرف، ولا إلى الكثير من العناء، خذ لك كتبا وانشرها هناك، املأ هذا البحر بفضائل السيدة خديجة، من كتب، من محاضرات، من أحاديث، من شرائح تشرح حياتها، وأمثال ذلك، هذا أيضا من حقوقها سلام الله عليها.
ومن حقوقها التي تنفعنا نحن هو التوسل بها صلوات الله عليها، أصل التوسل عندنا نحن الإمامية، وعند أكثر المسلمين بالذوات المقدسة مشروع ومستحب من الناحية الدينية، وتترتب عليه أيضا آثار في قضاء الحوائج وتيسير الأمور، ولا يحتاج أن نستدل الآن على هذا الموضوع، لأنه من القضايا الواضحة والثابتة.
بعض المؤمنين كانوا ينشرون عن السيدة خديجة كتبا وغير ذلك، وجزاهم الله خيرا، ليس هذا فقط، بل كان عندهم برنامج أنهم يذهبون إلى مكة المكرمة ليعتمروا نيابة عن السيدة خديجة، عادة الإنسان يذهب إلى هناك حتى يعمل عمرة عن نفسه، أو عن والده، هؤلاء مقصدهم جزاهم الله خيرا كما أخبروني ذات مرة يخرجون من هنا إلى مكة، نيتهم أن يعتمروا عمرة كاملة عن السيدة خديجة عليها السلام.
قد لا تعتمر عمرة كاملة عن السيدة خديجة، أشركها بالاسم في عمرتك، بعدما تنتهي من العمرة تقول: (اللهم أشرك في ثواب عمرتي هذه رسول الله محمد صلى الله عليه وآله، وزوجته الصديقة الطاهرة خديجة، وابنته الصديقة فاطمة، والأئمة المعصومين عليهم السلام، لما تشركها في هذا الثواب، هؤلاء هم أهل الكرم والجود، (إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها)، هم أولى بذلك، أنت تقدم عمرة، من الممكن أن تقدم إليك الجنة، هذه أحسن منها، فأنت في الربح.
التوسل بهؤلاء، بهذه الذوات الطاهرة المقدسة، مما هو فيه نفع الإنسان، وفي فائدته، حتى إذا تحسبها حسبة تجارية هي تسوى فضلا عما إذا كانت حسبة دينية، أنا أذهب وأعطي عمرة، (4) ساعات، وأكسب من الثواب ما شاء الله، لأن كما ورد في الزيارة الجامعة: (وسجيتكم الكرم)، أنت أعطيت لواحد كريم شيئا، لا يرد عليك نفس المقدار، وإنما يرد عليك بأضعاف مضاعفة، لأن سجيته الكرم.
زوروا قبر السيدة خديجة، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لذلك، اعملوا الأعمال الصالحة، وأشركوها في ذلك، الآن أنت تقرأ القرآن، جزء يوم الغد، قل: (اللهم أشرك في ثواب تلاوتي لهذا القرآن الكريم -ما دام مناسبة السيدة خديجة- أشرك اللهم في ثواب هذه التلاوة خديجة أم الزهراء زوجة الرسول صلى الله عليه وآله، صليت صلاة الليل؟ بعدما تنتهي أشركها في الثواب، وعلى هذا المعدل، اذكر قبل أن تنام ذكرا مستحبا، المستحب عند الإنسان قبل نومه أن يذكر الله سبحانه وتعالى، ولا سيما بتسبيحة الزهراء، أشرك السيدة خديجة في ذلك، تحصل على آثار عظيمة جدا في هذه الدنيا، وعلى ثواب أعظم في الآخرة، هذه بعض ما يرتبط بحقوق هذه السيدة الفاضلة الجليلة أمنا، (وأزواجه أمهاتهم)، بعض حقوقها علينا.
والآن نشير إلى شيء من سيرتها، ونفتتحه بما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد نقل عن بعض زوجات النبي أيضا، أنه كان رسول الله يكثر من ذكر خديجة، هذا متى؟ بعد (5) سنوات من وفاتها، أحيانا الإنسان لما يتزوج امرأة وتتوفى عنه، يحزن عليها سنة، وبعد ذلك الأمور تقل وتقل، بعد (5) سنوات بعدها تصبح طيفا يمر أحيانا، الانفعالات التي كانت من بعض نساء رسول الله هي بعد زواجه بهن، أول زواج لرسول الله صلى الله عليه وآله هو في السنة الثانية للهجرة، يعني بعد (5) سنوات من وفاة السيدة خديجة، وقد لا يكون في أول سنة حدث هذا الذكر.
فكان يكثر من ذِكر خديجة عليها السلام، حتى لما أُريد تزويج فاطمة الزهراء عليها السلام توسلوا بذكر خديجة، أم سلمة قبل أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله، تعطل قليلا زواج أمير المؤمنين بفاطمة الزهراء، فماذا فعلوا؟ ماذا يقولون؟ كيف؟ قالت أنا أذهب إلى رسول الله، وهي من أقاربه أيضا، من بنات عماته، فجاءت إلى رسول الله، فقالت له يا رسول الله بأبي أنت وأمي، جئتك في أمر لو كانت خديجة حاضرة لسرها ذلك، تقول فدمعت عينا رسول الله، وقال خديجة! وأين مثل خديجة؟! أين مثل خديجة؟! قالت له لقد ذهبت إلى خالقها راضية مرضية، ولكن جئناك في زفاف علي لفاطمة، وهذا الشيء لو كانت خديجة موجودة كانت تُسر بذلك، فأمرها بأن ترتب والنساء ما يلزم، لاحظوا أن أم سلمة هذه المرأة العاقلة التي هي عند الإمامية ثانية زوجات رسول الله في الفضل بعد خديجة عليه السلام تأتي وتقول إلى النبي حتى تسير الأمور، أن هذا الأمر يَسُر خديجة، وأن تبحث عن سرور خديجة.
في المقابل بعض زوجاته لما رأوا كَثُر ذكر رسول الله لخديجة، قالت له بعض النساء: كم تكثر من ذكر خديجة وقد أبدلك الله خيرا منها؟! نساء بعضهن باكرات شابات، في بعض الروايات فغضب رسول الله غضبا لم أره من قبل، ورسول الله لا يغضب غضبا انفعاليا، وإنما يغضب لله عز وجل، الغضب الرسالي، الغضب الذي منطلقاته إلهية، نعم، أما يغضب لنفسه، وبانفعال من منطلق الذات، أبدا، فغضب غضبا لم أره من قبل قط، وقال: لا والله، ما أبدلني الله خيرا منها، لماذا؟ قال: آمنت بي حين كفر بي الناس، ضع دائرة على (حين) كفر بي الناس، صدقتني (حين) كذبني الناس، واستني بمالها (حين) حرمني الناس، لماذا؟ لأن بعض الأحيان (الحين) و(الوقت) هو فاصل بين الموت والحياة، واحد الآن عطشان على شفا الموت، تأتي له بنصف كأس ماء، هذا ينقذه من الموت إذا جئت به في الحين والوقت المناسبين، لكن لو جئت به وهو مرتاح وريان، لو جئت له بجرة كاملة باردة، لا يكون له نفس ذاك الأثر، لكن ذاك نصف كأس هو مؤثر في بقائه على قيد الحياة، (حين) كذبني الناس، كانت تصدق، (حين) كفر الناس، كانت تؤمن، (حين) حرم الناس، كانت هي المواسية المعطية، وهذا هو المهم.
ورزقت الولد منها، ولم أرزق من غيرها، (6) من الأولاد بين (4) بنات وذكرين، رزقه الله سبحانه وتعالى من خديجة، آخرهم وآخرهن كانت فاطمة الزهراء سلام الله عليها، حيث ولدت بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله بـ(5) سنين، وتوفيت السيدة الطاهرة خديجة بنت خويلد بعد بعثته بـ(10) سنين، يعني في سنة (10) من البعثة النبوية في شعب أبي طالب.
النبي يقول فيها غير هذا: (كمل من الرجال كثير، وكمل من النساء: مريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)، هذه امرأة كاملة، من النوادر، والكمال في النساء ليس واسعا نظرا لضغط العواطف عليهن، فالكمال يحتاج إلى قدرة تربوية، وترويض نفسي استثنائي، ولكنها كملت سلام الله عليها، كما كملت باقي النساء، طبعا الفارق كبير بين فاطمة وبين سائر النساء بمن فيهن أمها، ولكن كون فاطمة قد أنجبتها خديجة هي بحد ذاتها منزلة ومرتبة عالية، فهي امرأة كاملة أيضا.
أنفقت (كل) مالها، وليس (جل) مالها، بل (كل) مالها في سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله، وقارن، خديجة قبل أن يبعث رسول الله، قبل أن يبعث رسول الله بـ(10) سنوات، يعني إلى الآن رسميا عند الناس ليس نبيا، وإن كان هو نبيا عند الله عز وجل وآدم بين الماء والطين، ولكن الأمور الظاهرية عند الناس، لما تزوجها رسول الله وزواجها كان مبادرة منها، وهو كمال، هو أيضا كمال، الآن إذا امرأة تريد أن تتزوج الغالب يكون في بالها (فارس الأحلام) حسب التعبير، أيام زمان كان يأتي على فرس أبيض الآن يأتي على إحدى هذه السيارات العالية، مع بيت ذاك الطول والعرض، هذا فارس الأحلام، لماذا لا يقولون هذه الأيام سائق الأحلام؟ ذاك الوقت كان فرس وفارس.
هذه المرأة هي التي انتخبت النبي، قبل أن يبعث بالنبوة، نقلنا هذه القصة ذات مرة، أنقلها سريعا، مر رجل من الأحبار على نساء مجتمعات بفناء الكعبة، فقال لهن: )إنه يوشك أن يُبعث نبي في أرض مكة، فمن أرادت منكن فلتكن زوجة له(، النساء ضحكن عليه، خديجة جعلت الأمر في بالها، مَن مِن الممكن أن يكون؟ فبدأت تبحث، وتسأل، وتطبق الصفات، فما وجدت شخصا يمكن أن تنطبق عليه الصفات إلا ما أخبرها عنه أهل العلم والمعرفة، وإن كانوا من اليهود والمسيحيين وأمثالهم، وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله.
وفي ذات الوقت كان رسول الله صلى الله عليه وآله عمره (25) سنة، فتوسلت بمختلف الطرق لكي تتعرف عليه، وطلبت منه أن يكون في تجارتها شريكا على قانون المضاربة، أنا أعطيك مبالغ وبضائع، تعمل وتتاجر، والربح فيما بيننا، وهكذا صار، وذهب رسول الله إلى بلاد الشام، وضعت (مَيْسَرة) الذي هو مدير أعمالها حسب تعبير هذه الأيام، قالت له ليس عملك التجارة ولكن راقب محمدا ماذا يفعل، وماذا يقول، كيف يتصرف، وذهب فعلا، ورجع (مَيْسَرة)، وسألته، وقد مُلئ إعجابا برسول الله، قال لها هذا رجل لا يمشي تحت الشمس إلا والغمام يظلله، لم نر أحدا بهذا الشكل، صفقة يمينه كأنها هي البركة، ليس فيها البركة، بل هي البركة، لا يضع يده في مكان إلا وحصل الخير والربح والنفع، وكان متمسكا بالأخلاق في السوق وفي المعاملة، ليس عنده مثلما يقول بعض الناس: (الدِين دِين والبزنس بزنس)، فيلعب، ويغش، ويكذب وغير ذلك، باعتبار أن السوق لا تحتاج إلى هذه الأمور، هذه اجعلها في المسجد، لا، فلما أخبرها بذلك اشتد عزمها على الزواج به، وكانت لم تتزوج بعد لما سنشير إليه بعد قليل، وعمرها في ذلك الوقت حوالي (27) أو (28) سنة، لما سنشير إليه بعد قليل أيضا.
فأرسلت إليه بعد ذلك امرأة من خواصها، اسمها (نفيسة)، وقالت لها اعرضي على محمد بن عبدالله أنه أنا أرغب في الزواج، هذه امرأة أيضا ذكية، فجاءت وقالت لرسول الله: يا محمد أما آن لك أن تتزوج؟ الآن عمرك (25) سنة، لماذا لم تتزوج؟ فقال لها: مَن؟ قالت: إليك حيث الشرف والمال والجمال، فقال رسول الله وهو العالم: مَن؟ قالت: خديجة، قال لها: خديجة؟! خديجة امرأة ذات مال عريض، وأنا إنسان لا أمتلك هذه الأموال التي تتصوريها، فقالت: لا، هي أرسلتني إليك، فحدث ترتيب الزواج.
شاهدنا ليس هنا، شاهدنا أنه لما صار العقد، في اليوم الثاني من عقدها به، جاءت إلى فناء بيت الله الحرام، وهو كان المجتمع هناك، بدل أن يجلسوا في السوق، كانوا يجلسون حول فناء البيت، بعض الروايات تقول هي خطبت، بعض الروايات تقول أمرت من يتكلم عنها، بأنه هذه خديجة بنت خويلد، قد أشهدتكم يا معشر العرب أنها وهبت كلما تملك من ذهب، وفضة، وأعبد، وماشية، وعقار، وغير ذلك، كله لزوجها محمد بن عبدالله، يهب ما يشاء لمن يشاء، ويمسك ما يشاء عمن يشاء، هذه الأموال كلها إليه وهو يتصرف فيها، هذا الكلام متى؟ قبل (15) سنة من بعثة رسول الله، تصور؟
واليوم عندنا يحدث الطلاق نعوذ بالله، لأنه لم يسجل البيت أو نصف البيت باسم الزوجة، أو في الطرف الآخر لأن الزوجة لم تعط الزوج نصف راتبها، انظر إلى الفرق بين الصورتين، هذه صورة معاصرة، وصورة تاريخية، لما تزوج رسول الله في المدينة بدءا من سنة (2) للهجرة عدة زوجات، هذه الزوجات بعدما صارت غزوات وغنائم جئن إلى رسول الله، قلن له: أعطنا من متاع الدنيا نريد الذهب والملابس والأموال، لماذا لا تعطينا؟ أكرمنا، نحن زوجاتك، فنزل التخيير لهن من الله عز وجل، تريدون النبي بهذه الطريقة أهلا وسهلا، التي لا تريد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 49]، الله معاكم، خذي (100) درهم أكثر أقل ومع السلامة، تريد أن تبقي مع رسول الله هذه طريقة معيشته، وهذا أسلوبه في الحياة.
لاحظوا الفرق بين زوجات بعد النبوة، بعد النبوة يعني يعلمن بأن هذا نبي، ويُؤمِنَّ به، ويطعنه في كل شيء، لكن مع ذلك يردن ماذا؟ أموالا، وتلك إلى الآن بحسب الوضع الرسمي إلى الآن لم يبعث بالنبوة، تعطيك كل أموالها، وليس النصف مثلا أو الربع أو الثلث، كل أموالها وإلى الآن عند الناس لم يصبح نبيا، (15) سنة، وليس بعد (6) أشهر سيصبح نبيا مثلا أو سنة، لا، إنما بعد (15) سنة قبل بعثته بالنبوة، وهبته مالها كله.
فكان رسول الله يعمل فيه ما يشاء، وبارك الله في هذا المال إلى أن بقي أيام البعثة، استعمله رسول الله في الاعتاق، وفي شراء العبيد من مواليهم، وفي الصرف على المهاجرين إلى الحبشة، الهجرة الأولى والهجرة الثانية، إلى الحد الذي يأتي أحدهم يسأل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، يقول له: أنت تقول أعتق رسول الله، ووهب رسول الله، وحمل رسول الله، واشترى من الدواب كذا، من أين كانت للرسول كل تلك الأموال؟ هو لا يمتلك الأموال، كشخص هو لا يمتلك الأموال، ليس من طبيعة النبي أن يجمع الأموال، فقال له: ويحك فأين ذهب مال خديجة إذن؟ أموال خديجة التي صرفته فيها، وحولتها عليه، أين ذهبت؟ لم يشتروا أثاثا مثلا، أو كماليات، وإنما كان يشتري هذا العبد من سيده لأن ذاك يريد أن يقتله لإسلامه، وهؤلاء المهاجرون إلى الحبشة (70) شخصا -على حسب التعبير- حفاة عراة لا يملكون شيئا، كيف يستطيعون أن يسافروا؟ من يحملهم؟ من اللازم من تزويدهم بما يحتاجون، هذا يحتاج ثويا وذاك حذاء، وأموال السفينة، ومصرف النفقة والأكل والشرب، وغير ذلك، هكذا ذهب مالها.
فالفرق، لاحظ بين امرأة قبل النبوة تعطي مالها كله، وإلى ما بعد، وبين نساء أخريات بعد النبوة تقول له أعطنا زيادة من الأموال، لذلك يتعجب الإنسان كيف أن بعض المسلمين يوازن ويقول هل أن خديجة أفضل لو فلانة من النساء أفضل؟ سبحان الله!
السيدة خديجة سلام الله عليها كان إنفاقها بهذا الشكل، وبهذا الشكل عطاؤها، وقد عوضها الله سبحانه وتعالى عن ذلك بما قاله رسول الله: (ورزقت الولد منها، ولم أرزق من غيرها)، رسول الله حاشاه أن يكون عقيما، لأنه كان لديه أولاد، نساء رسول الله بعضهن قد أنجبن من غيره أيضا، حتى تنتفي الحجة، لا تكون تلك عقيم مثلا، لا، بعضهن باكرات، بعضهن ثيبات، بعضهن ذات أولاد، لكن المقرر عند الله عز وجل أن يكون نسل رسول الله من خديجة عبر فاطمة يبقى إلى يوم القيامة، يحمل النور والوعي والمعرفة والدين، وهذه خاصية من خاصية هذا الرحم الطاهر لخديجة الصديقة صلوات الله وسلامه عليها، نعم السيدة ماريا القبطية أنجبت إبراهيم وتوفي صغيرا، وذلك في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله، يعني من بعد سنة (8) هجرية، والحديث هذا في بدايات ذهابه للمدينة سلام الله عليه، فهذا ما كان من خديجة.
أما قضية زواجها، فمما تعرض للتشويه أمران: أمر عمر السيدة خديجة، وأمر زواجها، أما عمر خديجة فالمعروف عند قسم من المسلمين أن رسول الله تزوجها وعمرها (40) سنة، طيلة هذه المدة ماذا كانت تفعل؟ جاؤوا بزوجين بدل الزوج، عتيق المخزومي، أبو هالة، هؤلاء مَن؟ مَن كانوا؟ أين كانوا؟ ما هو شأنهم؟ ما هو تاريخهم؟ متى ولدوا؟ متى ماتوا؟ ماذا صنعوا؟ لا يوجد في التاريخ عنهم سوى الاسم فقط، والاسم أيضا مختلف فيه، بعد ذلك تزوجها رسول الله وعمرها (40) سنة، على أساس أنها لما ماتت كان عمرها (65) سنة، احذف منها (25) سنة مدة بقائها مع رسول الله، وبالتالي يبقى عمرها (40) سنة.
تأتي تقول إن هذا العمر (65) سنة غير مُسَلَّم حتى عند الفريق الآخر، الحاكم النيشابوري في (المستدرك على الصحيحين)، ويعتبر هذا الكتاب من حيث قوة أسانيده في مستوى البخاري ومسلم، لكن أُبعد من الساحة باعتبار قالوا أن هذا قد يتشيع، لديه أشياء كثيرة من فضائل علي بن أبي طالب، وفضائل أهل البيت، وما شابه ذلك، فكان هذا سببا لاستبعاد مستدركه عن الساحة، وإلا رجل يفيض علما، يقول: (وهناك قول شاذ أنها توفيت وعمرها 65 سنة، والأصح أنها توفيت قبل الـ(60))، لم تصل حتى إلى الـ(60)، لما تذهب إلى ابن عساكر صاحب (كتاب تاريخ دمشق)، هذا تحديده بعد أكثر، يقول حين توفيت كان عمرها (55) سنة، اعتقادنا من خلال بعض القرائن أنها توفيت وعمرها (53) سنة، فهذا يحتاج إلى بحث تاريخي مفصل، والوقت يتداركنا، إذا تحسب عمرها (53) سنة وتنقص منها (25) سنة، يصبح عمر زواجها (27) سنة، (28) سنة، أو نحو ذلك.
وحكاية زواجها السابق ليس لأنه كما قال بعضهم لابد أن يتزوج النبي امرأة بكرا، فإن الله يكرم النبي بذلك، هذا ليس هو السبب، لا نعتقد أنه سبب كاف، فإن النبي قد تزوج أم سلمة، وهي ثيب، وهي ثانية نساء النبي عند الإمامية من حيث الفضل، وتزوج زينب بنت جحش التي زوجها الله إياها، ﴿...فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾،[الأحزاب: 37]، تزوجها وهي ثيب، كانت ذات بعل قبل ذلك، وهو زيد، فهذا ليس السبب، وإنما السبب طبيعة القضايا، والقرائن الحافة بخديجة.
الآن لو شخص جاء لك، رجل فقير حسب التعبير، وليس له وضع اجتماعي، وقال لك إنه أنا تزوجت بنت الملك الفلاني، أول موقف هو أن تتشكك في ذلك، يقول أثبت هذا، لماذا؟ بينما إذا نفسه يأتي ويقول لك أنا البارحة تزوجت ابنة عمي تقول له بالرفاه والبنين، لا تتوقف بلماذا، لماذا؟ لأن الأمر الأول يحتاج إلى إثبات، لأن القرائن المحيطة به تخالف هذا، رجل مثلا ليس لديه مستوى مالي كبير، ليس لديه مستوى اجتماعي كبير.
لو تنقل هذا المعنى إلى السيدة خديجة، السيدة خديجة أولا في زمانها كانت تلقب بالطاهرة، زمان الجاهلية الذي كان أمر الفحشاء والعلاقات وغيرها أمرا عاديا، أبو سفيان يأتي ويقول أنا وضعته في رحم أمه، يقصد زياد، ليست لديه مشكلة أن يقول أنا مارست هذا العمل الشنيع مع أمه، هذه بيئة عادية فيها هذا الأمر، أن تكون هناك امرأة بهذا المستوى بحيث تعرف بالطاهرة، وترد كبار قريش عن خطبتها، أبو سفيان خطبها، هذا عليه إجماع المؤرخين، أن أبا سفيان وذاك الوقت كان أشبه بملك قريش، الرجل الأول فيها، عقبة بن أبي معيط أيضا من بني أمية، رجل متمول، لديه أسرة، ولديه عشيرة، ردته في خطبتها، وردت أبا سفيان، هذه التي ترد هؤلاء تذهب وتتزوج شخصا لا معروف أصله ولا فصله ولا حتى اسمه؟ عندهم ملاحظات في الأسماء، غير متفقين عليها، وإنما كانت تتحين من يناسبها في طهارتها، ومن يكون كفؤا لها، ولذلك رفضت هؤلاء، إلى أن اختارها الله زوجة لسيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله.
فمن جهة عمرها في الزواج كان عمرها بين (27) و(28) سنة، وهي التي دبرت هذا الأمر لكمال عقلها، لأن المرأة العاقلة تبحث عمن ينفعها في هذه الحياة، وإذا كانت من أهل الآخرة أيضا فمن ينفعها في الآخرة، تبحث عن الشخص الأعلى أخلاقا، تذهب وتسأل الأحبار، من هذا؟ ما هو اسمه؟ من أين لديكم هذه الأخبار؟ تحاول أن ترصد الوضع المحيط لكي تتزوج برسول لله، باب الزواج إذا كان مثل عتيق التميمي وفلان المخزومي وأبو هالة، (على قولتهم على قفا من يشيل)، لكنها سلام الله عليها، وهي الطاهرة لم تكن لتفعل ذلك، وتزوجت رسول الله.
تأخر زواجها أيضا كان لهذا السبب، وهي كانت مالكة أمرها، والدها خويلد توفي مبكرا في حرب الفُجَّار أو الفِجار قبل سنوات طويلة، وبقي عمها أسد بن خويلد، وهي كانت امرأة ذات شخصية، في وقت العقد أبو طالب خطب خطبة عصماء، (قال الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وجعلنا عمار بيته الحرام...)، وبعد ذلك بدأ يصف رسول الله، (ثم إن ابن أخي هذا محمدا مِمَن لا يقاس به رجل إلا رجح به)، أي شخص تأتي به في هذا المجتمع هذا وتقايسه برسول الله، رسول الله يرجح عليه، ذاك الوقت إلى الآن لم يبعث بالنبوة، وقرأ خطبة العقد، فقام عمها أسد بن خويلد، وأراد أن يعلن الموافقة، فأصابه (البهر)، (البهر) مثل الربو تقريبا عندما في هذه الأزمنة، هناك بعض الناس لما يبذل شيئا من المجهود يبدأ يتنفس بصعوبة، ذاك الوقت يسمونه (البهر)، الآن يقال (الربو)، فأصابه (البهر) فقامت من وراء الستار، وأكملت الخطبة، وقبلت لنفسها ذلك العقد، وتم العقد على هذا الأساس، امرأة ذات شخصية متميزة، من هو فلان التميمي والمخزومي وغيرهم الذي لا أصل ولا فصل ولا معرفة ولا تاريخ؟
لما بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وبُعث بالنبوة، كانت العون الأول له، الذاهبون لمكة -أنا لم أصعد- ولكن الذين يتحدثون عمن صعد إلى غار حراء يتحدثون عن (3) ساعات من الصعود لا سيما في تلك الأزمنة، كان المكان غير معبد، وكانت تأتي له صلوات الله عليها وعليه بما يحتاج من الطعام والشراب إلى الأعلى، هذه خديجة سلام الله عليها، نسأل الله أن يجعل لنا شفاعتها وشفاعة زوجها، وشفاعة أبنائها الكرام، وأن يحشرنا معها وفي زمرتها.
أنفقت أموالها، أعطت العطاءات الكثيرة، إلى أن حوصروا في شعب أبي طالب، (1000) يوم، (1000) يوم حصار في مكان لا أحد يأتي بطعام ولا أحد يبيع عليهم، كان إذا هناك بعض الطعام يدفعه بعضهم في جوف الليل، يترك بعيره محملا بذلك، وانظر إلى المقدار الذي يتقاسمونه، حتى بلغ الحال كما ذكروا أن بعضهم من شدة الجوع كانوا يقضمون ورق الأشجار المتناثرة هناك حتى يرطب فمه بخلاصة تلك الأوراق، هذه قريش الذي بعد ذلك سيقولون (قدِّمُوا قريشًا ولا تَقَدَّمُوهَا)، وهذه قريش التي يقول فيها أمير المؤمنين: (فجزى قريشا عني الجوازي، فإنهم قطعوا رحمي، وإنهم ظلموني حقي، واغتصبوني سلطان ابن أمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي).
فـ(1000) يوم قد بقوا، أموال استنفذت، الأكل استنفذ، ومات بعض الناس جوعا في ذلك الشعب، وخديجة وهي تحمل كل هذه الآلام والمعاناة أيضا في داخل ذلك الشعب، وقد أنفقت كل مالها، وقد حضرتها الوفاة، في آخر عمرها، ومعها ابنتها الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام، لأن باقي أولادها قد توفوا، فقالت لابنتها فاطمة الزهراء: (بنية يا فاطمة، إني لما بي راحلة)، أنا مودعة، انتهى الأمر، (فاذهبي إلى أبيك، وأبلغيه عني السلام، وقولي له إن أمي تستميحك رداءك يكون كفنا لها)، انظر، امرأة ليس عندها كفن يكفي لها، وقد كانت مالكة الدنيا، والأموال العريضة، هذا هو العطاء، هذا هو الفداء، هذا هو الإنفاق، قولي لوالدك أنا أطلب منك رداءك، عباءتك، لكي تكون كفني، وأنتفع بها يوم القيامة، تلفني بعباءتك يا رسول الله.
فجاءت فاطمة الزهراء وعمرها (5) سنوات أو دون ذلك، وهي تبكي، أبلغت رسالة أمها إلى أبيها، فلما سمع ذلك تحادرت دموعه على خده الشريف، وجاء مسرعا إلى خديجة، فوجدها على حصير تقضي نحبها، فالتفت إليها، وعينه دامعة كما ورد في بعض المرويات، وقال لها: (بالكره مني ما أرى يا خديجة)، يعني غصبا علي أشوفك بهذه الحالة، كنت أتمنى أن يكون وضعك أحسن من هذا، أنت الآن تموتين جائعة وعطشانة، وعلى حصير ليس عندك من الثياب ما يكفي للكفن، هذا غصبا علي، (بالكره مني ما أرى يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا)، نزع رداءه، وألقاه على خديجة عليها السلام، ليكون كفنا لها بعد وفاتها.
قال أرباب الخبر في الأثناء نزل الأمين جبرائيل، وقال السلام عليك يا رسول الله، ثم التفت إلى خديجة، وقال لها يا خديجة، العلي الجليل يقرأ عليه السلام، (ويقول كفن خديجة منا)، هذا كفني إلهي، كفن من الجنة، أرسلني الله سبحانه وتعالى إليك لكي تكفني به جزاء ما قمت به، وما قدمت، في سبيل هذا الدين، وتستحق خديجة، كفنت بكفن إلهي من الجنة، ووضع على ذلك الكفن أيضا رداء رسول الله صلى الله عليه وآله، ووالله لو كفنت بـ(5) أكفان لكانت مستحقة لذلك لما أعطت، وما قدمت في سبيل الله.
الذي بقى بلا غسل ولا كفن ذلك الذي يقول فيه الشاعر:
مَا غَسَّلُوه وَلاَ لَفُّوه في كَفَن... عَار تَجُولُ عليه الخيلُ عاديةً
يومَ الطفوفِ وَلاَ مَدُّوا عليه رِدَا.... حَاكَتْ له الريحُ ضَافِي مِئْزَر وَرِدَا
نسألك اللهم وندعوك باسمك الأعظم، الأعز الأجل الأكرم، يا الله، وبحق السيدة الصديقة أم المؤمنين خديجة عليها السلام وأبنائها المعصومين فرج عنا يا الله، اغفر لنا ذنوبنا، كفر عنا سيئاتنا، آمنا في أوطاننا، لا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآله طرفة عين أبدا، احفظ اللهم إخواني السامعين فردا فردا، واقض حوائجهم، شاف اللهم مرضاهم، لا سيما المرضى المنظورين ومن أوصانا بالدعاء، واقض اللهم حوائج المحتاجين، وفرج عن المكروبين، وتقبل اللهم عمل المؤسسين بأحسن القبول، إلى موتاهم وموتى السامعين نهدي ثواب الفاتحة تسبقها الصلوات على محمد وآل محمد، اللهم صل على محمد وآل محمد.