مصعب بن عمير فاتح المدينة بالقرآن
تصحيح زهرة اليوسف
رملة الخضراوي
تمهيد :
بِسْم الله الرحمن الرحيم :( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) [1] حديثنا يتناول بإذن الله تعالى جوانب من سيرة رجل فتح مدينة النبي - صلى الله عليه واله - بالتبليغ وأنهى حياته بالشهادة في سبيل الله عزوجل , و قارئ مقرئ للقرآن.
وهو قبل كل هذا ترك ما كان فيه من النعيم والرفاهية لكي يلتحق بركب الإسلام منتميًا إلى رسول الله تاركا تلك الحياة المادية المترفة ، هذا الرجل هو مصعب بن عُمير العبدري- أي من بني عبد الدار - هذا الرجل العظيم والصحابي الجليل هو الذي تلا عليه رسول الله - صلى الله عليه واله – الآية الكريمة التي افتتحنا بها حديثنا ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .....) عندما مر عليه مقتولا شهيدا في معركة أحد .
دوره المجهول تاريخيًا :
لا تكاد تجد ذكراً لهذا الرجل الذي غُمط حقه , إلا النزر اليسير في كتب التاريخ , مع أنه هو فاتح المدينة ، إذا كان البعض يؤرخ ذكرى الفاتحين في الحروب ويعلي من شأن القادة العسكريين الذين قادوا الجيوش فإن هذا الرجل ؛ قد فتح المدينة سلماً , ولَم تُرق فيها قطرة دم واحدة , وأسلم على يده وبحنكته وبحسن أخلاقه وبأسلوبه في الدعوة كل أهل المدينة , بحيث عندما جاء رسول الله مهاجراً من مكة إلى المدينة كانت المدينة قد أسلمت وقرأت القرآن وصلت الجمعة وكل ذلك من جهود هذا الرجل مصعب بن عُمير رضوان الله عليه.
البداية :
نجد مصعبا في نشأته , وحياته قبل الإسلام كان رجلاً في الخامسة والعشرين - أو يزيد قليلاً - شاباً منعماً , يتحدث عنه رسول الله - صلى الله عليه واله - فيقول : لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب , فدعاه حب الله و حب رسوله إلى ما ترون.[2] بعد أن رأى هذا الشاب الناعم المرفه الذي كان يحرص أبوه وأمه على أن يطعمانه خير ما يملكان , ويلبسانه أفضل ما يملكان , وإذا به في آخر أمره يلبس الخشن ويأكل الجشب .
لم يكن ذلك كما قال الرسول – صلى اله عليه واله - إلا لحب رسول الله , وإلا لضريبة الانتماء لمنهجه صلوات الله عليه , مع ذلك قدم هذا راغباً طائعاً من غير منّة . أسلم مصعب بن عُمير وطرده أبواه وضغطا عليه في البداية ، بل في الروايات أنهما سجناه , وقيدا يديه ورجليه , وحبساه حتى لا يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه واله , لكنه استطاع أن يتخلص من ذلك الحبس , وهاجر مع المهاجرين إلى خارج مكة الهجرة الاولى .
لقاء أسعد بن زرارة مع رسول الله :
فيما بعد في موسم الحج جاء من المدينة أشخاص قد سمعوا عن رسول الله , وكان منهم أسعد بن زرارة [3] - جاء من مكة المكرمة ليجدد حلفاً مع المكيين - حلف دفاعي بينهم وبين أهل المدينة , إذا اعتدى أحد على أهل المدينة يستعينون بقريش - فلما جلس مع زعماء مكة القرشيين , ومن ضمن الحديث قالوا له نحن في هذه الفترة مشغولو البال بما حدث عندنا في مكة . قال وما حدث عندكم في مكة ؟ قالوا جاء رجل يُزعم أنه نبي من عند الله واتبعه بعض غلماننا وبعض عبيدنا فأقلق راحتنا لانه يشتم آلهتنا ويسفه أحلامنا وآرائنا وعبادتنا . فتعجب أسد بن زرارة من ذلك وسألهم : أين يكون ؟ أخبروه أنه يمكن أن يجده في البيت الحرام .. وحذروه من الذهاب إليه أو سماع ما يقول .
قال : ما أصنع ؟ قالوا : ضع قطناً في أُذنك حتى لا تسمع له . يقول أسعد بن زرارة : ذهبت للطواف حول الكعبة , فوجدت أناس متحلقين حول رجل , سألت من هذا ؟ قالوا : محمد بن عبد الله يزعم أنه نبي من قِبل الله عز وجل . يقول : فوضعت قطناً في أذني و طفت الشوط الأول والثاني ثم في الثالث قلت لنفسي ألا ترى هذا حمقاً !! تسد أذنيك حتى لا تسمع منه , ولو تُسأل عنه تقول وضعت قطناً !! هذا حمق , فأنا رجل أستطيع أن ازن الامور والأقوال ولن أُخدع, فلأستمع إليه . فرفعت القطن من أذني , وجئت إليه ؛ فقلت له من أنت ؟ قال : أنا محمد بن عبد الله , أرسلني الله سبحانه وتعالى ، فقلت له وماذا عندك ما رسالتك ما قضيتك ؟ قال : اجلس ، فجلس أسعد بن زرارة , و بدأ رسول الله - صلى الله عليه واله - يتلوا عليه هذه الآيات المباركة: (( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّـهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[4] .
قضايا الآيات المكية :
هذه الآيات المباركة , يستفيد منها علماء الفقه أن عدداً من التشريعات نزلت في مكة ؛ لان هناك فكرة مشهورة وهي أن المرحلة المكية كانت تشهد تنزل الآيات التي تتناول أصول العقيدة العامة كقضايا الجزاء والثواب باعتبار الدعوة كانت باتجاه الإيمان . لما انتقل النبي – صلى الله عليه واله – وأصحابه إلى المدينة , واستقر المجتمع الإسلامي وأصبح عدد المسلمين معتدا به , بدأت التشريعات وتفاصيلها مثل العبادات , المعاملات , قضايا الأخلاق وما شابه ذلك .
هاتن الآيتان من الآيات التي يستفيد منها العلماء خصوصاً الذين يبحثون في تاريخ التشريع الاسلامي , أن عدداً من التشريعات الاسلامية نزلت آياتها في مكة المكرمة , كما هو واضح في قوله تعالى : ( ألا تشركوا به شيئاً ) أنها قضية عقيدية , لكن ( بالوالدين إحسانا ) قضية البر بالوالدين هذا تشريع من التشريعات قضية فقهية وأخلاقية وليس عقيدية , وأيضا في قوله تعالى :( لا تقتلوا أولادكم من إملاق ) حرمة قتل الأولاد ، ومثل ذلك ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) . هذه تشريعات اَي محرمات وواجبات , أحكام أخلاقية نزلت في مكة المكرمة .
فيقول أسعد بن زرارة لما سمعت هذا الكلام وعقلته , قلت له : أمدد يدك أبايعك ،أشهد أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله . يقول ثم رجعت إلى المدينة , وتحدثت مع من أعرف , قرر عدد منهم الذهاب إلى رسول الله في مكة - وتسمى بيعة العقبة ـ وهم اثنا عشر شخصا ممن أسلم وآمن برسول الله , بايعوه على الثبات على الإيمان والنصرة والمعونة .
اختيار النبي لمصعب بن عمير :
قال أسعد بن زرارة لرسول الله : يا رسول الله لو بعثت إلينا رجلاً يعلمنا القرآن والأحكام , ويصلي بِنَا ويدعو من كان في حينا . طلب أسعد بن زرارة أن يبعث النبي معهم رجلا أولا : يعلمهم القرآن والأحكام , ثانيا: : يقيم الصلاة عندهم ثالثاً : يدعو من في المدينة إلى الإسلام بلسانه , بمعرفته القرآنية .
طبعاً قضية التبليغ ليست أمراً متيسراً لكل الناس , قد ترى شخص عنده إمكانيات مادية قوية , كمحطة إذاعة أو قناة فضائية ويفسد أكثر مما يصلح , وقد تجد شخص آخر عنده قدرة على التبليغ والدعوة والاقناع , عنده لسان يُذَكّر الناس , يستقطبهم , يقول لهم حسناً , يدعوهم الى محاسن الكلم فيؤثر فيهم . تحتاج بعض الامور إلى تدرج , ومستوى أخلاقي رفيع , أيضا اُسلوب في الدعوة والخطاب ، هذه مؤهلات خاصة , فليس كل من حمل علماً قادر على الدعوة والتبليغ .
فاختار الرسول صلى الله عليه وآله ، مصعبا بن عُمير الذي كان قد رجع من الحبشة .
مصعب بن عمير داعية ومبلغ في المدينة :
اختيار النبي - صلى الله عليه واله وسلم - لهذا الشاب ينبئ عن معرفة به , وأنه صالح لهذه المهمة وتبين بالفعل أنه كان كفؤا لهذه المسؤولية . عندما ذهب مصعب بن عُمير إلى المدينة نزل ضيفاً على أسعد بن زرارة , وأقام أول صلاة جمعة في المدينة صلى باثني عشر شخصًا , هم فقط كل المسلمين في المدينة . هذه ليست صلاة عامة على العلن ولكن كان في مضيف أسعد بن زرارة في حيهم ، فأول صلاة جمعة صلاها كما هو معروف ركعتين وخطب قبلها خطبتين تقومان مقام الركعتين الأخيرتين .
هذا يُبين مقدار وأهمية الخطبة فكل خطبة تعادل ركعة فالخطبة تحتوي على مضمون عقائدي ومضمون أخلاقي , هي مكان ركعة للإمام والمأمومين – نتساءل هنا هل ان بعض الخطب التي ليس فيها غير الشتائم والتحريض والكلام غير النافع .. هل تكون في مقام ركعة من الركعات الصلاتية ؟ بدأ يصلي بالمسلمين و يُقرئ القرآن فهو قارئ وُمقرئ [5]. مصعب كان قارئًا مجيدًا , تلاوته تلاوة عذبة , وهذا منصوص في سيرته , وصوته كان صوتًا مؤثرًا بالإضافة إلى إحاطته ومعرفته بآيات القرآن والقراءة الصحيحة التامة .
أيضًا كان يعقد جلسة وقت العصر قرب بئر من آبار المدينة , ويتحلق حوله شباب المنطقة وغيرهم يسألونه عن الاسلام والدين والقرآن , أخذ الناس ينجذبون إليه لحسن أخلاقه ، تلك الجلسات أصبحت مزدحمة , من أبناء الحي وغير الحي , يأتون إليه يجلسون , ويتعلمون منه.
لم يكن زعماء المدينة مسلمين في ذلك الوقت , فانزعجوا من هذا الوضع ، الذي تدخل فيه منافسات بين الاوس والخزرج كل فريق يأتي بشخص ويجعله محور لاستقطاب المجتمع , ومن هؤلاء الزعماء سعد بن معاذ . كان سعد بن معاذ كبير أهل المدينة من الناحية الاجتماعية ويعد تقريباً أكبر شخصية اجتماعية في المدينة , أكبر من سعد بن زرارة . رأى سعد بن معاذ نفسه معنيًا بهذا الموضوع , فكيف يأتون برجل من مكة هنا !! ويغير أفكار الشباب ويبدل توجهاتهم!! فأرسل سعد بن معاذ أحد معاونيه , وهو أسيد بن حضير وقال له : اذهب وقل لأسعد بن زرارة أن هذا الذي يقوم بالتغيير والتخريب ؛ أمطه جانباً وكف عنا أذاه وإلا فإننا نناجزك[6]. جاء أسيد بن حضير ومصعب كان يتلو القرآن الكريم فانجذب إلى صوته وإلى الآيات التي تتلى . فاختيار الآيات مؤثر وإن كان كله من عند الله تعالى ولكن أي آية نختار ؟
قيل- على سبيل الدعابة - أن امرأة في مقبرة رأت رجلًا يقرأ القرآن , فطلبت منه أن يقرأ على قبر ابنها المتوفى حديثًا , وأعطته درهم , فقرأ الرجل: ( خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه ) , فقالت : رفقًا بولدي , اقرأ آيات أخرى . قال لها الرجل : بدرهم لا يكون إلا قراءة هذه الآيات ، لكن إن دفعتي لي دينار أو دينارين يصير: ( فروح وريحان وجنة نعيم )!. إذن حتى انتخاب الآيات المناسبة له تأثير , لاحظوا كان الرسول - صلى الله عليه واله وسلم – يمكنه أن يقرأ الآيات التي فيها تعنيف الكفار على سمع أسعد بن زرارة , ولكن لا ، بل قرأ ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً ....) هذه المبادئ الاخلاقية ( وبالوالدين احساناً ) و ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) فأي إنسان عادي يستقبلها .
بدأ مصعب بن عُمير يقرأ الآيات , وأسيد بن حضير يستمع وقد تأثر بها و انفعل , فلان قلبه , وأراد أن يحضر الزعيم الكبير سعد بن معاذ بنفسه ليستمع ويحكم .
بلغ أسيد بن حضير , أسعد بن زرارة عدم ارتياح سعد بن معاذ لوجود مصعب بن عمير بينهم , ثم رجع إلى سعد بن معاذ , وأخبره بأنه بلغ الرسالة . فقال سعد : ما أغنيت شيئاً أنا ذاهب إليه. فأخذ سعد حربته وجاء للقتال ووقف عليهم , وقال لمصعب بن عُمير مباشرة : لماذا جئت إلينا في حينا تؤذينا إن لم تنصرف عنا وعن إيذائنا ناجزناك الحرب .
أي شخص غير حكيم سيقول نحن أيضاً عندنا قوة ونستطيع أن نحاربك , عقلية هل من مبارز موجودة , لكن مصعب بن عُمير رد عليه بقوله :أو شيء خير من ذلك ؟ قال سعد : وما هو ؟ قال : نجلس فنتحدث فإن رضيت ما جئنا به وإلا انصرفنا عنك . طبيعة الانسان اذا كان منفعلا وغاضبا , والطرف الاخر يحدثه بتسامح ولين , تسكن فورة غضبه ويهدأ.. إذا كان بينك وبين زوجتك مشكلة , وقلت لها : قولي كلمة حتى أرد عليك , فإن قالت لك : رحم الله والديك انتهى الموضوع وإن ردت عليك ردا عنيفا قد يتطور الأمر الى نزاع سيء . مصعب بن عُمير قال له اجلس فتسمع منا ونسمع منك فإن رضيت وإلا انصرفنا عنك ، لان سعد وجلس , وبدأ مصعب يقرأ آيات القرآن الكريم التفت إليه سعد بن معاذ ، وقال : هذا الذي أنتم عليه إذا أراد أحد أن يدخل فيه ماذا يصنع ؟ قال مصعب : لا يصنع شيئاً فقط يقول أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويغتسل . يقول العلماء يستحب للإنسان الذي يسلم أن يغتسل ؛ اعتمادًا على بعض الروايات وهذه الحادثة . ولكن لأن الكل عليه غسل جنابة , فإن الاسلام لا يغير الجنابة فعليه أن يغتسل .
سعد بن معاذ لم يسأل كيف الغسل ولا هل هو ترتيبي أم ارتماسي ولا نزع ثيابه ، قام بثيابه الى البئر وطمس فيه وخرج وهو مبلل بالكامل هذا اغتساله . سعد بن معاذ كبير أهل المدينة لما عرف الاسلام من مصعب بن عُمير و تعلم منه ، ذهب وجمع كل أهل الحي و الجماعة الذين يتأثرون به فجمعهم في مكان كبير فقال : يا أهل يثرب كيف أنا فيكم ؟ قالوا : أنت سيدنا وكبيرنا وزعيمنا قولك مقبول وطاعتك لازمة ، قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بمحمد . وهكذا أسلم جميع من في ذلك المجلس وآمنوا برسول الله – صلى الله عليه واله - استثنوا بيتًا واحدًا لم يكن حاضرًا , فلما جاء النبي أسلم ذاك البيت ، وإلا باقي أهل المدينة كلهم دخلوا في الإسلام .
دور مصعب بعد إسلام أهل المدينة :
لو لم يكن مصعب بن عُمير عنده هذه الاخلاقية العالية والأسلوب الراقي , لمن خالفه في الدين واختيار الآيات المناسبة للقران الكريم ، ربما تطور الامر إلى الحرب ، فأسلمت المدينة وأصبحت كلها تتبع مصعب تصلي خلفه وتستمع كلامه . بعد فترة قريبة انتقل رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم - إلى المدينة فاستقبله أهل المدينة كلها استقبالًا كبيرًا جداً . بعض الناس يتعجبون كيف استقبله أهل المدينة بهذا الاستقبال والترحيب ورسول الله لم يذهب إليهم للدعوة إلى الاسلام ؛ لكن هذا ما قام به المُبلّغ المثالي المؤمن القارئ , المقرئ : مصعب بن عُمير , رجل من الذين ضحو في سبيل دين الله عز وجل ، وكانت خاتمتهم بالشهادة .
شارك مصعب في معركة بدر مع رسول الله وكان الوحيد من بني عبد الدار في مكة وشخص آخر يقال سويبط ، وإلا هذه العشيرة - عبد الدار - من القبائل التي كانت عنيفة وشديدة في موقفها ضد الاسلام حتى قيل أن الآية الكريمة : ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون )[7] نزلت في هؤلاء أنهم مثل الدواب لا يسمعون كلاماً ولا يتفاعلون مع الهداية , مصعب بن عُمير أحد الذين حملوا راية رسول الله. في بدر قيل أن الامام علي عليه السلام قتل خمسة اخوة من بني عبد الدار كل واحد من يقتل يأخذ الراية اخوه ويقتله الامام فيرميها الى الثاني ، خمسة أخوة يحملون راية الكفار .
وقد أسر المسلمون سبعين رجلًا من كفار قريش , ويُنْقَـل أن أبا سعيد بن عُمير أخو مصعب , كان من ضمن الأسرى ، فمرعليه ويده في يد أحد المسلمين , وقال : شُدَّ يده , فوالداه عندهما مال كثير, حتى يستنفذ نفسه ويفتديها بالمال فهو ليس فقيرا . وهذا الموقف يدل على أنه رفيق بالمؤمنين , وشديد على الكفار المحاربين وان كانوا من أقاربه .
معركة أحد :
في معركة أحد التي فيها كانت شهادته ، ثبت مصعب ولَم يفر كما فرَّ غيره ، وكانت له مشاركة قوية جدًا بالذات في دفاعه عن رسول الله ـ صلى الله عليه واله - لمّا حلت الهزيمة الاولى بالمسلمين على اثر التفاف خالد بن الوليد على ذلك الجبل , وبدأ المسلمون يتراجعون وينهزمون . الأغلب من المسلمين فروا , وثبت عدد منهم كان من بينهم مصعب بن عُمير , كان بمثابة درع أمام رسول الله هو , وأبو دجانة , وأمير المؤمنين ( ع) ونسيبة بنت كعب الأنصارية امرأة ولكنها بخمسين رجلاً من الذين فروا .
رأى مصعب أن النبي صلى الله عليه واله يحتاج لحماية وان كان النبي مقاتلًا في أحد ، قاتل وقتل عددًا من المشركين وكان الكل يريد أن ينال من رسول الله - صلى الله عليه واله - فمن هؤلاء عاصم بن أبي عوف بن صبيرة السهمي ، فإنه لما جال الناس واختلطوا ، جاء كأنه ذئب ، وهو يقول يا معشر قريش ، عليكم بالقاطع مفرق الجماعة ، الآتي بما لا يعرف ، محمد ، لا نجوت إن نجا .. فقالوا أن أبا دجانة قد طعنه قبل وصوله للنبي ..
,وجاء مشرك آخر يقال له ابن قميئة الليثي كان مستأسدًا ليقتل رسول الله صلى الله عليه وآله فواجههُ مصعب بن عُمير في المعركة , قطع ذلك الرجل اليد اليمنى لمصعب واستمر مصعب يقاتل بيساره ثم قطع يده اليسرى , ثم ضربه على رأسه وخر صريعاً شهيدًا . تصور ابن قميئة أن هذا الشخص هو رسول الله صلى الله عليه وآله فرجع فرحًا , وهو يقول قتلت محمدًا , ويخبر الكفار أنه قتل النبي صلى الله عليه وآله وهذا ما زاد في تراجع وهزيمة بعض المسلمين لدرجة أن منهم تداولوا الامر فيما بينهم هل لنا أن نطلب أمانًا من عبد الله بن أبي سلول زعيم المنافقين ما دام النبي قُتِل . ( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين )[8] تبين فيما بعد أن القتيل والشهيد هو مصعب بن عُمير رضوان الله تعالى عليه ، وأن النبي صلى الله عليه واله كان سالماً ولم يُصَبْ بأذى ، تجمع حوله بعض المسلمين , ولما انتهت المعركة مر النبي (ص ) على القتلى فلما نظر لمصعب بن عُمير تلا الآية المباركة : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) .
[1] ) سورة الأحزاب آية 23
[2] ) أخرجه أبو نعيم في الحلية بسند حسن .
[3] ) أحد زعماء المدينة ومن وجهاء المجتمع
[4] ) سورة الأنعام آية 151-152
[5] ) ) مُقرئ أي يقرأ للآخرين , ويعلمهم , أما من يقرأ القرآن ويجوده يقال له قارئ ، فإذا علم غيره وأقرأ غيره صار مقرئ.
[6] ) ناجز أي قاتل في الحرب
[7] ) سورة الأنفال 55
[8] ) سورة آل عمران 144
|