إني أرغب إليك وأشهد بالربوبية لك 4
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 21/7/1441 هـ
تعريف:

 

 إني أرغب إليك وأشهد بالربوبية


تحرير الفاضلة أمجاد حسن

جاء في دعاء الإمام الحسين (ع)، في يوم عرفة، الفقرة التالية، من قوله: "اللهم إني أرغب إليك، وأشهد بالربوبية لك، مقرا بأنك ربي، وأن إليك مردي، ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئا مذكورا، وخلقتني من التراب ثم أسكنتني الأصلاب، آمنا لريب المنون، واختلاف الدهور والسنين، فلم أزل ظاعنا من صلب إلى رحم، في تقادم من الأيام الماضية، والقرون الخالية، لم تخرجني لرأفتك بي، ولطفك لي، وإحسانك إلي في دولة أئمة الكفر، الذين نقضوا عهدك، وكذبوا رسلك"، صدق سيدنا ومولانا أبو عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه.

هذه الفقرة هي الفقرة الثانية في ترتيب الدعاء، وتبدأ بإبراز الرغبة إلى الله عز وجل والشهادة والإقرار. ثلاثة أمور وثلاث مفردات تتقدم هذه الفقرة لتمهد ذكر بعض نعم الله عز وجل. "اللهم إني أرغب إليك"، الرغبة فيما ذكروا في اللغة هي: طلب الشيء عن إصرار، وعن توجه. وتتأثر بما يضاف إليها من الحروف بل قد تتغير في معناها. 

قد يقول الإنسان: أنا راغب فيك، وقد يقول: أنا راغب إليك، وقد يقول: أنا راغب عنك. الرغبة في الشيء وإلى الشيء: تعني الطلب والحرص على الوصول إليه، تقول: أنا راغب في عفو الله عز وجل، بعدما أتبعت فعل أرغب بحرف في، هذا يدل على شدة الحرص والطلب لذلك الشيء، أنت تطلب عفو الله عز وجل بقوة وبحرص، وقد تكون هذه الرغبة، رغبة مادية، وقد تكون الرغبة معنوية. أنت ترغب في الأكل الفلاني، تحرص على الوصول إليه، وترغب – إذا كنت رجلا – في المرأة الفلانية، هذه طلب مادي ورغبة مادية. وبالعكس المرأة ترغب في زوجها. 

وكذلك الأمر، في الرغبة إلى، لكن يظهر من بعض الاستعمالات أن الرغبة التي يأتي بعدها حرف: إلى، غالبا ما تأتي في المسائل المعنوية، في العلاقات، التي هي ذات جانب معنوي، إيماني، روحي، لهذا يستخدم الدعاء هذا اللفظ، مثلا هنا، لا يستخدم: اللهم إني أرغب فيك، إنما "اللهم إني أرغب إليك"، لأن الرغبة التي يتلوها حرف إلى، غالبا ما تشير إلى طلب وحرص على أمر معنوي، غالبا الأمر هكذا. والرغبة في الشيء، غالبا ما تشير إلى طلب وحرص مادي. فلان يرغب في المال، فلان يرغب في الطعام، فلان يرغب في النكاح، وهكذا. 

فأولا: يبدأ الدعاء الشريف بهذا القول: اللهم إني أرغب إليك"، ها واحد: بيان موقف الداعي في شدة طلبه لله عز وجل، وشدة حرصه في بناء علاقة معه، إذا كان غيرك في أمور المادة، ويقتل نفسه من أجل الشهوات، فأنت في مقام من يرغب إلى الله عز وجل، شدة حرصك وغاية طلبك، هو بناء علاقة مع الله عز وجل، هذا واحد. 

ثم يقول: "وأشهد بالربوبية لك"، الشهادة في اللغة، كما ذكروا أصلها: الحضور مع علم وإعلام، في القرآن الكريم: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، الشهر هنا بمعنى: الهلال، الذي يشهد الشهر، يعني يكون حاضرا ورائيا للهلال ويكون في بلده، "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، الشهادة هي: نوع حضور، تقول: فلان شهد الموقف الفلاني، يعني كان شنو؟ حاضرا فيه، لا بد أن يكون عالما به، ومنه أخذ القيام بالشهادة، أن الإنسان إذا أراد أن يشهد، أن يكون حاضرا للحدث عالما به، ثم يؤدي علمه. الشهادة فيها حضور، فيها علم بذلك الشيء المشهود، وفيها أيضا فيما بعد: إعلام، أداء الشهادة. 

لاحظوا هاي، قضية الشهادة، عندما نقف أمام قبر أحد المعصومين، نؤدي الشهادة، "نشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة، "أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة ونصحت الأمة" بالنسبة إلى رسول الله، الشهادة شيء فوق مسألة العلم، تارة الإنسان يكون عالما أن رسول الله قد بلغ رسالة ربه، ومرة أخرى لا، كأنه كان شاهدا وحاضرا في تفاصيل رسول الله، يقول: أنا العلم اللي عندي من اليقين والقطع والوثاقة كما لو كنت شاهدا كيفيات أداء رسول الله لرسالة ربه، مع أن الفاصلة بينك وبينه، بين النبي وبين جهادة قد تمتد إلى أربعة عشر قرنا، ولكن في وثاقتك ووكادة أمرك، تنزل نفسك منزلة من كان حاضرا: "أشهد أنك قد بلغت عن الله"، كأني أنا كنت حاضر وقاعد وياك في طول هذه الفترة، فالشهادة هي من العلم بهذه الدرجة، كأن الإنسان حاضر، ولذلك ورد في الروايات عنهم (ع)، وقد أشار إلى الشمس، وقال: "ترى هذه؟"، يعني الشمس، قال: "بلى"، قال: "على مثل هذا فاشهد، وإلا فدع".

لا تشهد على أنه يقولون، سمعت هالشكل، بعض الناس، معروف في البلاد، لا، تريد تؤدي شهادة، هذا ما ينفع، على مثل هذه، ترى الشمس بعينك؟ نعم، أد الشهادة بهذا المقدار إذا كان لديك من العلم. فيما يرتبط برسول الله والسابقين، نقول: نحن ننزل أنفسنا منزلة من كان شاهدا لذلك الحدث بتفاصيله، فنقول: نحن نشهد، مو بس هذا، في بعض الأدعية: "أشهد بها مع كل شاهد، وأتحملها عن كل جاحد"، طيب.

"أشهد لك بالربوبية"، الربوبية: جاية من ربى، يربي، فهو رب، وهي: ربوبية. ربى يعني: قام على الشيء بما يصلحه، والرب سمي ربا، ربنا سبحانه وتعالى، باعتبار أنه هو القائم على شؤون العباد بما يصلحهم، في صحتهم، في رزقهم، في أمورهم المختلفة. الله سبحانه وتعالى في أصل خلقته خلقهم، بأحسن ما يمكن، ثم بعد ذلك، زودهم بالرزق، بما يصلح أمور حياتهم، وراح يجي في الدعاء: كيف أن الدعاء يتعرض إلى تفاصيل دقيقة جدا من قبل الخلق، كيف أصلح ربك إياك، كيف أصلحك، كيف رعاك، كيف تابع حياتك قبل الحياة، وهذا من الإصلاح الذي لا يصنعه أحد، يعني مثلا: رب الشجرة، من متى يقدر يصلحها، من عندما تكون بذرة، يخليها ويداريها، ويرتب أمورها، إلى أن تنبت، بهالمقدار. رب البيت الذي يبنيه، كيف يصلحه؟ أول ما يأتي بالمواد، قبل ذلك لا يستطيع أن يصنع شيئا. لكن ربك كما سيأتي، مو من هذا الوقت كان يصلح أمرك، كان يصلح أمرك من الأزل، قبل أن تكون شيئا مذكورا، قبل أن تصير نطفة في بدن أبيك، وبويضة في رحم أمك، قبل هذا بملايين السنوات، ربك سبحانه وتعالى، كان يرعاك، ويلاحظك، فأي رب هو هذا الرب، وأي مصلح لشأنك وشأن الخلائق هو هذا. 

"أشهد بالربوبية لك"، ربوبية من هذا النوع: أنك تصلح شأني، مو من يوم اللي أولد، ولا من يوم اللي أصير حمل وجنين، لا. من "فلم تزل ظاعنا من صلب إلى رحم في تقادم من الأيام الماضية والقرون الخالية"، من ذاك الوقت، ملايين السنوات، وأنت تجري كنطفة من صلب إلى رحم، وأنت بعين ربك سبحانه وتعالى، ولو حلقة واحدة من هذه الحلقات المليونية تعطلت، لما وجدت على هذه الحياة، لو هالسلسلة هذي في ملايين السنوات، بس صار فيها قطع واحد، أحد الآباء لم يكن بالغا، مات وهو طفل، خلاص، أنت ما تجي. لو إحدى الأمهات في هذه السلسلة الطويلة العريضة كانت سقطا، جنينا، ما إجت تي، خلاص، أنت أيضا ما تكن لتأتي. من بعد آدم إلى يومك هذا: كم من الآباء، كم من الأمهات، مررت بهم حتى وصلت إلى هذه النقطة، لو تعطل مرورك في حلقة واحدة، لما وصلت إلى هذه النقطة، والله سبحانه وتعالى، كان يرعاك طول هذه المدة. هذا هو الرب الحقيقي الذي يقوم على خلقه بما يصلحهم، مو من اليوم اللي يجون الدنيا، من قبل أن يكونوا شيئا مذكورا. 

"مقرا لك بأنك ربي، وإليك مردي"، وهاي ثنائية البداية، والنهاية، نحن نراها، هي جوهر عقائد الإنسان المؤمن. من جهة: ربك الذي بدأك، ومن جهة: (وأن إلى ربك المنتهى)، تعود إليه كما جئت، تحشر لكي تعطى، تجازى - لا سمح الله - أو تجزى الخير إن شاء الله. "وأن إليك مردي".

زين، ما هو مبرر هذه الشهادة: أنا أرغب إليك، مقرا، شاهد، أشهد بأني ربي، مقرا بكل ذلك، ليش كل هالأمور هذه؟ من باب شكر المنعم، في العقائد يذكرون: قواعد مترتبة كثيرة على موضوع شكر المنعم، أولها: قضية العبادة، أول شيء قضية العبادة، لماذا يعبد الإنسان ربه؟ يقول لك: منتهاه: إلى حكم العقل بلزوم شكر المنعم، أي عاقل إذا أنعم عليه أحد نعمة، عقله يحكم عليه بأن يقول إلى من أنعم عليه: شكرا. أن يشكره بموقفه، فإذا كان أنعم عليك بنعمة ما، عقلك يقضي بلزوم شكره، فكيف إذا طوقك بإنعامه من ملايين السنوات، ولم يكتف بذلك إلى أن ترجع إليه، شكر المنعم هنا، لازم، ولذلك بدأ الدعاء بعض نعم الله عز وجل على الإنسان. 

فقال: "ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئا مذكورا"، أولا: نفس البدء بالنعمة هو فضل عظيم، فرق بين أن يأتي شخص ويسألك المعونة، فتعطيه، وبين أنه لا يسألك، وإنما أنت تبتدئه، أنت تبادر إلى الإنعام عليه. الله سبحانه وتعالى ابتدأنا بالنعمة مو في أول حياتنا، مو من أيام حمل أمنا بنا، وإنما ابتدأتني بنعمتك، وفي بعض النسخ "بنعمك"، بنعمك: جمع، بنعمتك يصير جنس النعمة، مو نعمة واحدة، هناك راح يصير لفظ فيه عموم، نعم، جمعة نعمة، جمع تكسير، وإذا لا، اللفظ كان: نعمتك، النعمة هنا لا تعني النعمة الواحدة، التاء هنا ليست تاء الإفراد، وإنما هي جنس النعمة، كل شيء يصح أن يطلق عليه نعمة، داخل فيها، "ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئا مذكورا". 

في عندنا تفسير عن الإمام الباقر (ع)، "قبل أن أكون شيئا مذكورا"، يقول: "كان الإنسان مذكورا في علم الله، ولم يكن مذكورا في عالم الخلق". في علم الله مذكور، منظور، منعم عليه، ملاحظ، إله نصيبه، لولا ذلك لألغي من قائمة الوجود فيما بعد، لكن كما ذكرنا قبل قليل، قبل ملايين السنين، الله سبحانه وتعالى يلحظ وجودك أنت ويحيطك بنظره، ويسهل الأمور بنحو، أنت بعد مليون سنة تجي، ولو ألغاك عن نظره، ولو أسقطك من حسابه، لما وصلت نعمة الوجود إليك، لبقيت شيئا غير مذكور إلى الأبد، لكن كنت في عالم الخلق غير مذكور، إلى أن وجدت، أصبحت شيئا مذكورا. أما عند الله سبحانه وتعالى فأنت قبل هذه الأزمنة كنت شيئا مذكورا عنده. كنت شيئا مذكورا عنده، مع أن أنت في ذاك الوقت، لو أردت أن تفكر في نفسك في ذلك الوقت، ربما كنت في صورة ذرات متفرقة هنا وهناك، هاي نطفة والدك، وبويضة والدتك التي نشأت منها، قبل آلاف وملايين السنين، هي عبارة عن ذرات متفرقة في الكون، جدك وجد جدك وهكذا إلى ما لا نهاية، هذا أكل وذاك طعم، فتكون بدنه وبدنه كون هذا الماء المهين، وأمك أيضا كذلك، فكونت البويضة، هذا احسبه في أمك وأبيك المباشر، وما قبله، وما قبلهما من آلاف وعشرات الآلاف من الآباء والأجداد والأمهات والجدات.

"قبل أن أكون شيئا مذكورا، خلقتني من التراب"، إشارة سريعة وننهي بها الحديث هذا اليوم، خلقتني من التراب، يحتمل أن يكون إشارة إلى أصل الإنسان، وهو نبي الله آدم، على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام، مثلما أشار الله سبحانه وتعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)، فلما قال هنا في الدعاء "خلقتني من التراب"، هناك احتمال أن يكون إشارة إلى جد البشرية، أساس البشرية آدم (ع)، خلقه من تراب، وأنا أيضا باعتباري ضمن هذه السلسلة، فأنا مخلوق من التراب أيضا، هذا احتمال. 

هناك احتمال آخر: أنا الشخص مخلوق أيضا من تراب، ولكن بتكييف آخر، ذلك أن مرجع طعام الإنسان إلى التراب، إما منشأه منشأ نباتي، أو منشأ حيواني، هذا طعام الإنسان، ماكو إله منشأ ثالث، إما أن يأكل من النبات، أو أن يأكل من الحيوان، ومن خلال ذلك ينمو. لاحظ، تتبع طعام الإنسان، كله مصدره أحد هذين الأمرين، ماكو مصدر ثالث، طيب، الطعام هو هكذا، بناء جسم الإنسان يعتمد على هذين المصدرين، يتغذى الإنسان فينمو، يتغذى الإنسان فيكبر، هذان المصدران، كلاهما، سواء كان مصدر نباتي، أو كان مصدر حيواني، هو معتمد على التراب، فلا يمكن أن، لو لم تكن أرض، ولو لم تكن تربة، وما شابه ذلك، لما كان طعام الإنسان مهيأ بالدرجة الأساسية، هذا الطعام الذي يتحول في بدن الإنسان إلى قوة، يتحول إلى قدرة، يتحول إلى عضلات، يتحول إلى أنسجة، يتحول إلى بويضة في بدن المرأة، ويتحول إلى سائل منوي في جسم الرجل، ومنه ومن أصله التراب، يتخلق هذا الإنسان. 

فسواء كان على التفسير الأول، وهو أن الإشارة في "خلقتني من تراب"، إشارة إلى آدم، الخلق المباشر، أو حتى إذا أردنا أن نقول بالتفسير الثاني: "خلقتني من تراب، ثم أسكنتني الأصلاب"، سواء كان أصلاب آبائي. "خلقتني من تراب"، باعتبار آدم رأس هذه السلسلة، ثم بعد ذلك أنا صرت جزءا من حياة آبائي وأمهاتي، وبدأت هذه الرحلة، "فلم أزل ظاعنا من صلب إلى رحم"، أو " ثم أسكنتني الأصلاب"، على المعنى الثاني: أنه أنا تكون من الطعام، ثم صرت جزءا من جسم والدي في صلبه، وفي رحم أمي، ثم حصلت لي الولادة. 

"فلم أزل ظاعنا من صلب إلى رحم في تقادم من الأيام الماضية والقرون الخالية"، يبقى فقرة: "لم تخرجني لرأفتك بي، ولطفك لي"، إلى وقت آخر، هي أيضا من النعم العظيمة. 

نسأل الله أن يتمم علينا نعمه إنه على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

مرات العرض: 3420
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2594) حجم الملف: 23615.45 KB
تشغيل:

آثار الصيام المستحب صوم رجب
لم تخرجني في دولة أئمة الكفر الذين نقضوا عهدك 5