حديثنا بإذن الله تعالى يتناول شيئاً عن دور الزوجات في القضية الحسينية، في الغالب أن الحديث يتم عن الرجال الشهداء والأصحاب الفدائيين المضحين بين يدي أبي عبد الله الحسين، ولا يذكر إلا نادراً دور الزوجات الصالحات والمؤمنات والاتي كان لبعضهن الدور الأكبر في تحفيز الزوج أو الابن من أجل أن يكون شهيداً بين يدي الحسين عليه السلام، فكأنما هؤلاء الزوجات كن بمثابة المحرك ولكن باعتبار أن المحرك مخفي في داخل السيارة فلا يلتفت إليه الإنسان، لا نريد أن نقول بأن الشهداء أنفسهم ما كان لهم إلا دور الانفعال والتحرك والتأثر، كلا وإنما نريد أن نقول بأن للزوجات دور كبير في تحريك هذا الصنف نحو الشهادة ولكن لا يذكر في الغالب هذا الدور المؤثر.
نقدم لذلك مقدمة تنطلق من حديث رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقل عنه في قوله: (تنكح المرأة لخصال: لجمالها ومالها وحسبها ونسبها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) أي أن العوامل التي تجعل الزوج يرغب في امرأة معينة هو واحد من أمور قد تجتمع وقد تفترق وقد يتعارض بعضها مع البعض الآخر، فقد يتزوج رجل امرأة لأنها جميلة، فالجمال هو ميزة من الميزات التي تحظى بها المرأة عند الزوج، فقسم من الناس يسارعون إلى الارتباط بالمرأة الجميلة.
وأحياناً تكون المرأة ذات مال قد ورثته من أبيها أو أمها، فهي لديها ثروة وتعمل أيضاً فبالإمكان أن تساعد زوجها مما يجعل الرجل راغباً فيها لأجل هذه الجهة.
قد تُنكَح المرأة أيضاً لأجل نسبها، فمثلاً لو كانت من العترة النبوية (سيدة أو علوية) قد يرغب بها الرجل ليكون بينه وبين رسول الله وفاطمة الزهراء نوع من الارتباط.
وقد تكون المرأة لديها مجد معين كمشاركتها في قضية اجتماعية معينة أو أسرتها تكون مشاركة في قضية معينة فتكون لديها مجد اجتماعي مما يجعل الرجل يرغب بالارتباط بها.
هذه صفات يعددها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناءً على هذا الحديث تجعل الرجل يرغب في المرأة لأحدها، فإذا اجتمعت كان أفضل، ولكن أحياناً قد تتعارض فربما تكون امرأة جميلة ولكن ليست ذات مال، أو امرأة ذات مال ولكن نسبها ليس نسباً عالياً، وهكذا.
ما هو وجه التفاضل بين هذه الأمور؟ أو ما هو الشيء الذي إذا توفر يغني عن غيره؟
النبي صلى الله عليه وآله يقول بأن هذه الأمور الأربعة ليست هي الفيصل، بل الفيصل هو (فاظفر بذات الدين تربت يداك) أي أنك عندما تحصل على امرأة مؤمنة متدينة حتى لو لم تتوفر فيها باقي الصفات فهذا يغنيك عن كل شيء وهذا هو الشرط الأساس، وكذلك الأمر أيضاً من جهة الزوج هو مطلوب كما جاء في حديث آخر عندنا: (زوِّج ابنتك المؤمن فإنه إن أحبها أكرمها، وإن لم يحببها لم يظلمها) أي أنت أيها الأب عندما يأتي أحدهم ليخطب ابنتك فاجعل تفكيرك في عنصر الإيمان لديه، إن توفرت فيه باقي الأمور كالعلم والمال وغيرها فهذا خير وبركة ولكن لو فرضنا أنه تعارض مع هذه الأمور ففكر أولاً في إيمانه، فالحب ليس بالجمال كما يعتقد البعض بأنه لو تزوج ملكة جمال فستسعده، هذا أمر خاطئ فالقلوب معادن قد تنسجم أنت مع هذه وقد لا تنسجم وهي كذلك قد تنسجم معك وقد لا تنسجم معك، لكن الإنسان المؤمن إن أحب زوجته أكرمها وإن لم يحبها لم يظلمها، أي أنه قد لا يعطيها كل قلبه لأن قضية حركة القلوب ليست بالقرار ولكن هناك ضابط وهو الإيمان فإن لم يحببها فلن يعاشرها معاشرة ظالمة وسيعطيها حقها قدر الإمكان.
تربت يداك: المعنى اللغوي الحرفي لها هو أن يداك أصبحت في التراب، ولكن المعنى الحقيقي أنت رابح، فبعض التركيبات في اللغة العربية وحتى أحياناً في سائر اللغات أنه عندما تترجمها ترجمة حرفية فلن تعطي المعنى الذي تريده، فمثلاً عندما تمر على شخص وهو يعمل في الزراعة فستقول له (قوة) أي أنك تدعو له بأن يقويه الله، فهذا مصطلح عندنا وعندما تريد أن تترجمها بالغة الإنجليزية فلن تستطيع لأنها ستعطيك كلمة (power, energy)، كذلك هو معنى كلمة (تربت يداك) فالمعنى الحقيقي لها هو أنك رابح وظافر عندما تحصل على امرأة ذات الدين.
لماذا؟
لأن المرأة كالزوج كل منهما يؤثر في الآخر وأحياناً أثر المرأة الزوجة في زوجها قد يكون كبيراً من دون أن يلتفت الزوج لذلك، وتسمى في هذه الأزمنة بالقوة الناعمة، فالزوجة الصالحة من أقوى درجات القوة الناعمة فإن أصبحت إنسانة مؤمنة تحثك على الخير فسيكون تأثيرها فيك تأثير كبير.
ينقلون عن تأثير المرأة قصة الفرزدق بن غالب صاحب الشعر المشهور في مدح الإمام زين العابدين عليه السلام، كانت لديه امرأة تسمى النوار وكانت جيدة كما يُذكَر في صفاتها وقد أصبح بينهما خلاف حتى أنه طلقها وبتَّها أي طلقها ثلاث طلقات، ثم ندم بعد ذلك وقال:
ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار
وكان جنتي فخرجت منها كما إبليس أخرجه الضرار
وقد أراد أن يرجعها ولكنها رفضت، وبعد ذلك خطبها رجل فوكلت الفرزدق أن يزوجها هذا الرجل وأن مهرها كذا وكذا، فوافق الفرزدق على ذلك، وقال: زوجت نفسي موكلتي النوار على مهر قدره كذا وكذا، أي أنه أصبح زوجها مره أخرى فلم تقبل ذلك ولكنها وكلته فأصبح العقد صحيحاً، كانت ذلك الحادثة في زمان عبد الله بن الزبير في الفترة التي سيطر فيها على المدينة بعد نهضة الحسين عليه السلام واستشهاده وحربه مع المختار الثقفي فقد سيطر على المدينة لفترة قصيرة، على كل حال قامت النوار ورفعت أمرها إلى عبد الله بن الزبير لأنها تعلم بأنه ليس على وفاق مع الفرزدق وتوجهاته، الفرزدق ذهب وتحدث إلى أحد أبناء عبد الله بن الزبير يقال له حمزة ليتحدث مع والده بشأنه، وهي ذهبت إلى زوجة عبد الله بن الزبير وتدعى بنت منظور بن زبَّان وأخبرتها بقضيتها، وعندما جاء اليوم التالي ذهب الفرزدق وزوجته إلى عبد الله بن الزبير وكان قد أبطل العقد الذي أجراه الفرزدق، فذهب ناشداً بشعره المشهور:
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزراً مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
أما بنوه فقد رُدَّت شفاعتهم وشُفِّعت بنت منظر بن زبانا
وهذا مثال على أن الزوجة تؤثر في الزوج، فإذا كانت الزوجة توجهاتها دنيوية كالمال والسفر قد يستجيب لها الزوج إما إرضاءً لها أو ليرتاح من كثرة المشاكل وهذا تأثير من الناحية السلبية، لكن التأثير الإيجابي هو مثلاً عندما تكون توجهات الزوج دنيوية تقوم الزوجة بإرشاده للإلتفات لأمور الآخرة، وإذا به هم من الدنيا فإنها تخفف عنه.
كما جاء في الحديث المعروف ان أحدهم جاء إلى الإمام عليه السام أو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: (إن زوجتي امرأة عندما آتي إلى المنزل إذا رأتني متضايق تقول لي: إذا كان همك من أجل الدين فزادك الله هماً، وإن كان همك من أجل الدنيا فلا بارك الله فيه، فقيل له: عليك بها فإنها من عمال الله في الأرض) فهذه امرأة تشترى بوزنها ذهباً لأنها تحثك على الدين والإيمان وتخفف عليك هموم الدنيا، فالذي يُرزَق بامرأة متدينة مؤمنة تنفعه في مواقع كثيرة بعضها حساس للغاية يكون فيها مصير لكن هذا المصير يتوقف على كلمة صالحة من امرأة صالحة.
من ذلك ما ذكروه في شأن امرأة زهير بن القين البجلي، فكما تقول الرواية بأنه جاء رسول الإمام الحسين عليه السلام إلى خيمة زهير بن القين وكانت زوجته في جانب وراء الستار وقال له بأني رسول الحسين وأن الحسين عليه السلام يدعوك إليه، تقول الرواية بأنهم جلسوا وكأنما على رؤوسهم الطير وظلوا مدة على هذا الوضع حتى تكلمت زوجته وقالت له: يا زهير يدعوك بن بنت رسول الله إلى لقائه وأنت جالس؟ قم وانظر ماذا يريد وما شأنه فإنه ابن بنت رسول الله.
هذا الأمر حسم الموقف عند زهير بن القين وذهب إلى لقاء الحسين عليه السلام وهناك تحدث معه الإمام عليه السلام حول نصرته ونهضته فاستجاب زهير بن القين وذهب إلى زوجته وقال لها الحقي بأهلك ولا أريد أن يصيبك مكروه بسببي، هنا اختلفت الروايات فبعضها قال بأن امرأة زهير أصرت على المرافقة وبعضها قال بأنها قالت له: إذا رزقك الله الشهادة ولقيت جده رسول الله فأبلغه عني السلام وأخبره عن موقفي، كلا الأمرين يكَذِّب كلاماً أشرنا له إشارة سريعاً وقلنا بأنه غير صحيح وهو أن زهير بن القين كان أموياً وعثمانياً لأنه ليس من العادة أن تبقى امرأة بهذا المستوى من الولاء لمحمد وآل محمد وهي أموية وزوجها أموي، فهذه امرأة كان لها دور مهم في أن يصل زهير بن القين إلى ما وصل إليه، بالطبع هو الذي اختار وجاهد ولكن كان المحرك للقضية هو كلامها، فلو كان كلامها عكس ذلك كأن تقول له اترك الأمر ولا نريد أن نتورط فلا شك بأن هذا سوف يؤثر ولو بدرجة من الدرجات في اندفاعه إليه.
النساء الاتي جئن إلى كربلاء عددهم مختلف فيه، البعض كصاحب معالي السبطين المازندراني يقول بأنهن كن حوالي 42 امرأة ما بين كبيرة السن وبين صغيرة، والمحقق الكرباسي حفظه الله تعالى صاحب موسوعة دائرة المعارف الحسينية الذي طبع منه حتى الآن حوالي 200 مجلد ولا يزال ينشر فيه، تتبع عدداً كبيراً من النساء الاتي كنَّ في كربلاء ولديه مجلد خاص كامل بأسمائهن بعنوان (أنصار الحسين قسم النساء) وذكر فيه متعددات منهن من كان من الأسرة الهاشمية والطالبية ومنهن من كان من أسر شتى، ومن جملة من ذُكِر من الأسر الأخرى هي جويرية بنت مسعود الخزرجية التي جاءت مع زوجها جنادة بن كعب الخزرجي ومع ابنها الذي كان عمره حوالي 12 أو 13 عاماً، فجاؤوا جميعاً والتحقوا بالحسين عليه السلام، فأصل موافقتها في مجيئها ومسايرة زوجها في هذا الأمر هذا يعتبر موقف يذكر لها بالخير.
عندما قاتل زوجها حتى استشهد إلى رضوان الله تعالى، قامت هي وألبست ابنها لامة الحرب وشدت عليه حمائل السيف وهي عبارة عن حبال لكنها تكون طويلة بالنسبة إلى غلام عمره 12 سنة، فقالت له اذهب وقاتل بين يدي الحسين عليه السلام، فجاء الغلام إلى الحسين يستأذنه في القتال فقال الحسين: هذا غلام قد قُتِل أبوه الساعة وأخشى أن أمه تكره خروجه وقتاله فلا نجمع عليها مصيبتين.
نقول له سيدي كم مصيبة اجتمعت على الزهراء في كربلاء في يوم واحد؟ لكن هذه هي إنسانية الحسين لا يقبل على غيره بأن تجتمع عليه مصيبتين لكن هو وابناءه وأبناء أخيه الحسن وستة عشر شخص كلهم ارتكضوا في بطن فاطمة الزهراء عليها السلام.
فقال الغلام: سيدي أمي هي التي ألبستني لامتي وشدت علي حمائل سيفي، قال: إذا كان كذلك فابرز وفقك الله، وخرج وهو يقول: أميري حسين ونعم الأمير سرور فؤادي البشير النذير علي وفاطمة والداه فهل تعلمون له من نظير، وقاتل حتى استشهد.
ينقل أيضاً إن تم هذا النقل عن زوجة علي بن مظاهر الأسدي، أنا لم أتحق من مصدر هذه القصة ولكنها مذكورة في كثير من الكتب ونحن هنا نريدها للشاهد:
يقال بأن زوجة علي بن مظاهر الأسدي لما قال الإمام الحسين عليه السلام في ليلة العاشر من محرم أن غداً يكون مصرعنا ومقتلنا وقد أذنت لكم بالإنصراف وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيته وتفرقوا في سواد هذا الليل فإن القوم إنما يطلبوني ولو وجدوني لذهلوا عن طلب غيري، ليس عليكم مني ذمام ولا في أعناقكم لي بيعة، ومن أراد أن يبقى معنا فليأخذ زوجته إلى بني أسد وهناك تنجو من السبي ومن أن تسير مع هؤلاء الأجلاف الأمويين.
بنو أسد كانوا قريبون من كربلاء ابتعدوا عدة كيلو مترات، فعندما أتى علي بن مظاهر إلى زوجته وقال لها بما قاله الحسين عليه السلام وأخبرها بأنه سيأخذها إلى مضارب بنو أسد فقالت له: تذهب أنت لتواسي الحسين بدمك وتبيض وجهك بين يدي فاطمة الزهراء ورسول الله وأنا لا أكون مواسية لنساء الحسين وأخواته؟ لا والله لا أذهب إلا معهم، فرجع علي بن مظاهر الأسدي إلى الحسين عليه السلام وقال له: أبت الأسدية إلا مواساتكم.
وبالفعل كان في اليوم الحادي عشر رحلة النساء من البيت الهاشمي والعلوي والطالبي ومن سائر القبائل ذهبوا إلى الكوفة وكان قسم من النساء انفصلوا عنهن عندما أتى من كل قبيلة كبيرها وخلصوهن من هذا الأسر إلا بني هاشم، إلا آل أبي طالب.