الوعي بالحياة الدنيا وخارطتها
كتابة الفاضل عبد الأمير العجمي
قال رسول الله ( صل الله عليه واله وسلم ) " أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته "
نبدأ حديثنا بأذن الله تعالى والذي سيكون بعنوان " نافذة على العالم الباقي "
في شرح العنوان نجد ان هناك عالمان ، عالم فاني بطبعه ، والانسان فيه فان ، العالم لا إستمرار له ولا بقاء وفان بعد مدة من الزمان - الله اعلم بها – وهو هذا العالم الذي نعيش فيه ، وقد يطلق عليه عنوان " الحياة الدنيا " ، وهناك عالم اخر وُصف في القران الكريم وفي احاديث المعصومين بكلمة تشير الى الاستمرار والبقاء والخلود ، فاذا بالقران الكريم يقول " ,ان الدارالاخرة لهي الحيوان " مبالغة في الحياة ، مبالغة في الاستمرار ، " وان الاخرة لهي دار القرار " هنا دار المرور وهناك دار القرار والبقاء ، هنا عالم الفناء وهناك عالم البقاء ، فحديثنا سوف يكون باذن الله تعالى عن ذلك العالم بقدر ما يتسع المقام والوقت .
ولذلك عبرنا عنه بانه نافذة على ذلك العالم ، أولا لأننا لا نعرف كنه وحقيقة وتفاصيل ما يجري في ذلك العالم ، والذي وصل الينا من الوحي القراني ، او من احاديث المعصومين ع ، هو شي قليل وفي هذا القليل أيضا ليس واضح او بين بالتفصيل ، نعم ، هو بالمقدار الذي تقوم به الحجة ، بالمقدار الذي يشجع الانسان على ان يمضي على الطريق المستقيم والى جنات النعيم ، هو كاف بالمقدار الذي يصنع فيه عزوفا عما ينتظر الفاسقين والظالمين من عذاب ، هو كاف في تفاصيله ، لكن بهذا المقدار يعرفنا القران الكريم ، وتعرفنا الاحاديث لا بتفاصيل التفاصيل ، لاسيما اذا اردنا ان نتحدث عن ما هو معتبر من الاحاديث والروايات ، فاذن اصل العنوان انه نافذة على العالم الباقي ، عالم الاخرة ، ما بعد هذا العالم (الحياة الدُنيا) ، بداً من خطوات الانتقال والرحيل الى ذلك العالم وما ينتظر الانسان المؤمن – جعلكم الله وايانا من المؤمنين - من جنات النعيم ان شاء الله تعالى .
أهمية هذا الموضوع هو : ان الانسان اذا أراد ان يتخذ له منزلا يسكنه عدة سنوات يحتاج الى ان يعرفه ، يذهب اليه ، يرى ما فيه من الأشياء ، ان يعرف الطريق اليه ، هذا بالنسبة لمنزل يسكنه الانسان لعدة سنوات ، فكيف اذا كانت حياته الحقيقية وبقائه الدائم وهدف خلقته أصلا ، عندنا في بعض الاثار " خلقتم للبقاء لا للفناء " ، صحيح انكم تفنون ، ولكن اصل خلقكم ليس للفناء وانما للبقاء – وان شاء الله تعالى - في جنات النعيم ، لاجل ذلك خُلقتم ، نعم هناك فترة مؤقته من الزمان عبارة عن امتحان ، ثم بعد ذلك يكون دار القرار ، فاذا كان الانسان له بيت يسكنه لعدة سنوات يحتاج الى ان ينظر اليه ، وان يتعرف عليه ، وان يستهدي الطريق القريب اليه ، فما ظنك بدار القرار ، بالبيت الابدي والمقام النهائي ، نحن نحتاج ان نتعرف على ذلك العالم ، وان نستشرف طريقة الوصول اليه ، يضاف الى هذا ، أن هناك اثر تربوي واخلاقي ، الانسان اذا راى ما وعد الصالحون من الثواب ، ورأى ما توعد به الطالحون من العقاب :ان ذلك ادعى واحرى بالإنسان الى ان يبادر الى العمل الصالح ، وان يتراجع عن العمل الفاسد ، مثلا : من ذكَرَ الصلاة على محمد وال محمد – صلوات – مرة واحدة ، صل الله عليه عشرا وهكذا من ذكرها عشرا ، صل الله عليه مائة صلاة ، وهكذا بهذه المعادلة ، حماس الانسان عندما يتعرف على الجزاء والثواب ، هو اكثر مما لو لم يتعرف على ذلك ، مثلا : يقول للناس من صلى في كل ليلة الصلاة الفلانية كان ثوابها كذا وكذا وكذا ، ترى ان الحماس والمبادرة اليها اكثر مما لو لم يذكر الثواب الموعود عليها ، كذلك بالنسبة الى قضايا الاخرة والثواب المترتب عليها للإنسان في العالم الباقي ، عندما يتسمع اليه ، عندما يتعلمه ويعرفه ، يكون ذلك ادعى الى ان يبادر الى الاعمال الصالحة بنفس المقدار اذا ذكر له ما توعد به الطالحون والفاسقون من العذاب الأليم ،وهذا امر يجده كل انسان في نفسه ، معرفة ذلك العالم بقدر الإمكان ، الاطلاع عليه ينفع في هذا ويتقي الانسان المزالق والعقبات ، بالنحو الذي يناسب ، فهذه تشكل ضرورة وحاجة للتعرف على هذا العالم ، اذن هذا هو لزوم الحديث في هذا الموضوع ، فهو ليس موضوع علمياً مجرداً ، مع ان بعض المواضيع العلمية في ذاتها توجد فائدة بالإضافة الى الجانب العلمي الذي فيه ، هناك جانب عملي وتربوي واخلاقي وعضي يحث الانسان على الاعمال الصالحه ويحذره من الاعمال السيئه ، فاذن صار عندنا عالم باقي عالم دائم وعالم دانىء .
الحياة الدنيا : مؤنث ادنى ، بمعنى نسبة الدنيا الى العليا ، فهذه مستواها مستوى داني منخفض ، نقول كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفرو السفلى ، الدنيا ، الساقطة ، فقد يقال يراد به الحياة بالقياس الى ذلك العالم هي حياة دنيا حياة قليلة القيمة ، بالقياس الى ذلك العالم الأعظم الأكبر فهذا احتمال معنى الحياة الدنيا ، وهناك احتمال اخر الى معني الحياة القريبة ، تقول فلانٌ ادنى الـي منك ، أي اقرب الي منك ، هذا البلد ادنى من ذلك البلد ، اقرب ، فاذا تم القياس بين الدنيا وبين الاخرة ، باعتبار ان الدنيا تعيش حاليا فيها ، فهي اقرب اليك من الاخرة ، التي تبتعد عنك بمقدار طويل من الزمان ، فقد يقصد من الحياة الدنيا ، هذا المعنى ، انها بالقياس الى عالم الاخرة ، الذي هو بعيد الذي هو بالمستقبل ، هذه حياة قريبة منك ، الحياة الدنيا .
هل نفهم – ونحن نعيش فالحياة الدنيا – الدنيا؟ لعل انسانا يجيب نعم ، كيف نعيش فالدنيا ولانفهمها ؟ والانسان منذ مولده في هذه الحياة الى مماته وهو موجود فيها ويدرك الأشياء فيها بالتدريج من صغره الى ان يصير بالغ شاب مكتمل ويصير رجل بالغ الرشد ، فهو يعيش في هذه الحياة الدنيا ن فكيف لا يفهمها ؟الجواب نعم ، يمكن بعض الناس – مثل الحاضرين والمستمعين زادهم الله بصيرة – يفهمون الحياة الدنيا على حقيقتها ، ولكن هناك كثيرا من الناس لا يعرفون حقيقة الحياة الدنيا ، او اقلا لا يتصرفون فيها تصرف العارف بالدنيا ، الواعي لها الخبير بها ، الشاهد على ذلك ، ثم انظر الى كثرة توجيهات الدين في تعريف الحياة الدنيا ، نحن وجدنا القران الكريم تحدث كثيرا عن الحياة الدنيا ، لوكان الناس يعرفون حقائق الحياة الدنيا كما ينبغي ، لم يكن يحتاج القران الكريم ان يذكر كل هذه التفاصيل ، مثلا ، هل رايت احد يأتي يعلمك أسماء ابنائك ؟ فكانه يقوم بالعبث وترد عليه انك تعرف أسمائهم ، عندما يتحدث القران الكريم كثيرا عن الحياة الدنيا وباساليب مختلفة كما سنذكر لاحقا – ويتحدث سيد الأنبياء محمد – صلوات – كثيرا عن الدنيا ويتحدث أمير المؤمنين ع في خطب كثيرة في نهج البلاغة ، فمثلا افتح عشوائيا كتاب نهج البلاغة سترى ان امير المؤمنين بين كل صفحتين يتحدث عن الحياة الدنيا واحوالها ، نعم عنوان الخُطب ذم للدنيا ، ولكن هي بالواقع وعي بالدنيا ، الامام امير المؤمنين ع عندما يكتب يريد ان يصنع فالناس وعيا بهذه الحياة الدنيا ، فمن الشواهد على ان الحياة الدنيا ليس معروفة كما ينبغي من كثير من الناس – استثنى امثالكم والسامعين – اننا نجد القران الكريم والمعصومين عليهم السلام ، اكثرو من الحديث في هذا الموضوع .
ثانيا : والشاهد الثاني ، هو اننا عندما ننظر الى الحياة العملية لكثيرا من الناس وتجاربهم في الحياة الدنيا ، ننتهي الى نتيجة أن هذا لم يكن يفهم حقيقة الحياة الدنيا وما اريد فيه منها؟ وما غرضه منها؟ وما هي خارطة طريقه التي ينبغي ان تكون ؟ فإننا نجد اعداد كبيرة من البشر يتخبطون في مسارهم ومصائرهم ، يتبين ان هؤلاء لم يعرفو حقيقة هذا العالم الذي نطلق عليه عالم الحياة الدنيا .
فالقران الكريم عندما يتحدث عن هذه الحياة الدنيا يقول " وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ٱلرِّيَٰحُ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ مُّقْتَدِرًا " تعلمون ان ضرب المثل مهم كوسيلة في إبقاء الفكرة ، اكثر من الفكرة المجردة ، ولذلك ضربت الامثال في القران الكريم كثيرا لعلهم يتفكرون ، لعلهم يتذكرون ، كلما مر الانسان بهذا المثل انتقل بسرعة الى الفكرة التي هي من وراء المثل فيقول القران الكريم لرسول الله ص واله " اضرب لهم مثل الحياة الدنيا .. ماهو مثل الحياة الدنيا ؟ " كماء انزلنه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض " اذا ماء نزل من السماء واختلط بنبات الأرض ، مالذي يحصل ؟ تنتعش هذه الزهور ، تنمو هذه الازهار ، تحصل تلك الثمار ، وفي اية أخرى يقول جل جلاله " حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ " وفي مكان ثالث يقول عزوجل " وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ " على اثر نزول هذا الماء من السماء ، وفي الاية الأولى يذكر تبارك وتعالى انه اختلط به نبات الأرض وهي عبارة سريعة كما يقولون " تلغرافيه " وبعدما اختلط بنبات الأرض ، اصبح ازهارا ورداً ، ثم عشبا مما يأكل منه الناس والانعام ، وبعد مدة من الزمان لا يبقى على حاله وانما يبدأ في الذبول ، دورة حياة ، يصير يابساً ، ثم يصفر ، ويصبح هشيماً تذروه الرياح ، هذا المرج الذي كان يضج بالحركة ، والحياة ، والثمار ، والرواء ، اذا به يصبح اعشاب يابسه ، لا تُمسك بالأرض وانما الريح تذروها معها ، تلك الريح التي تعتبر شيئاً بسيطاً لكنها تحمل معها هذا الهشيم ، هكذا مثل الحياة الدنيا ، دورة ، انتعاش ، نمو ، اثمار ، ثم يصبح هشيما ، هذا الهشيم تذروه الرياح ، والله مقتدر على تكرار هذا الامر واعادته مرة بعد مره ، فاذا كان الامر هكذا ، والحياة الدنيا بهذه الصورة ، أفمن العقل للإنسان ، افمن الوعي للإنسان ان يجعل استثماره في شيء سيصبح هشيما تذروه الرياح ؟ أمن العقل ان يتعامل معه على انها دار القرار ؟ واكثر من ذلك ، يأتي القران الكريم في مكان اخر ويقول رب العزة تبارك وتعالى " وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ " ما هو سبيل الرشاد ؟ يقول ، عندي فكرة تنتهي بكم الى عمل راشد ، ماهي ؟ " يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ " مثل ما هناك اختلط به نبات الأرض فاستمتع الانسان بمنظره الجميل ، واستمتع بفاكهته ، واستمتع بأكله ، واطعم منه دابته وحيوانه ، لكن انتهى الامر ، هو متاع فقط ، وان الاخرة لهي دار القرار ، وهذه كلمة متاع تكررت بالنسبة الى الحياة الدنيا كثيراً في القران الكريم ، بل ووصفت الحياة الدنيا " وما متاع الحياة الدنيا في الاخرة الا قليل " واساس كلمة المتاع فاللغة العربية تدل على شيئين : الأول ، انها ذات فترة قصيرة ، والثاني ، انها تغطي جانباً من جوانب حياة الانسان ، مثلا ، انت تستمتع بالثوب الجديد ، لكن الاستمتاع بالثوب الجديد لا يشبعك في نهار الصوم ، نعم انه يُقيك من الحر والبرد ، لكن ان يتحول الى طعام فلا ، يكفيك في جهة ولا يكفيك في سائر الجهات ، الاكل الذي تأكله وتستمتع به ، نفس الكلام ، يُغنيك ويُشبع بدنك ، لكن هل يكسوك ؟ وهل يُغطيك عن الشمس والبرد ؟ كلا ، ليس هذا بعمله ، فهذا متاع في جانب واحد فقط ، والامر الثاني انه لقترة مؤقته ، مثلا ، زواج المتعة ماهو ؟ لفترة مؤقته ، فكل المتع في الحياة مؤقته ولولا انها مؤقته لم تكن متعة ، فمثلا تصور لو أن انسان يجلس على الطعام نهار كامل يأكل ، فهل يستمتع بهذا الاكل ؟ لا ، قيمة الطعام والمتعة فيه والتلذذ به ان يأكل بمقدار لوقت قليل ، وينصرف ، فجوع ، فيشتاق اليه ، فلو فرضنا ان هذا الانسان على طول الوقت يأكل ، فهو لن يستمتع بهذا الطعام ، إنما وسيسأمه ، فالمتعه ماخوذ منها الانفصال ، الانصراف ، الابتعاد عن مصدر اللذة والمتعة ، فالحياة الدنيا هي متاع ، انما تكفيك في بعض الأمور دون بعض ، وأيضاً متعتها في انها قليلة ، ضئيلة ، محدودة ، لكن الاخرة هي دار القرار ، " يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ " ترى هذه الحياة الدنيا متاع ، دار القرار ، دار البقاء هي تلك الدار ، هذا المعني القران الكريم كثيرا يركز عليه ، في بعض الأحيان يقول " أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ " وهذه كلها تنقضي ، وانما هي مراحل كما يذكر المفسرون ، فاللهو غير فترة اللعب فهذه مرحلة زمنية ، وتلك مرحلة زمنية أخرى ، فاللعب فترته غير فترة التفاخر ، وفترة التفاخر غير فترة التكاثر فالاموال والأولاد ، وهي مراحل الى ان ينتهي هذا الانسان ، فينبغي ادراك هذه الحياة الدنيا لكي يضع الانسان خارطة طريقة سليمة توصله الى العالم الباقي ، ان لابد ان تعيش في هذه الحياة الدنيا فترة من الزمان ، وان يكون لك خارطة طريق سليمة وصحيحة تتناسب مع عمرك حتى توصل للعالم الباقي وانت آمن ، من الممكن ان هناك أناس يعشون طيلة حياتهم بلا خريطة " إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ" " وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ" فهذا الانسان لا توجد له خريطة ، او ربما توجد له خريطة ولكن خريطة باطلة ، لا توصله الى ذلك المكان ، فذلك الذي تصور ان هذه الحياة هي متع متلاحقة ، علاقات غير مشروعة واحدة بعد الأخرى ، سرقات ، سرقة بعد سرقة ، لهو بعد لهو ، فهذا اما ان يكون غير فاهم الحياة الدنيا كما ينبغي ، او انه لا يوجد لدية خارطة تتناسب مع هذه الحياة الدنيا ، لابد ان يعيد النظر وافضل الأوقات لاعادة النظر في حياة الانسان هو شهر رمضان الكريم ، فشهر رمضان من فوائده وفضائله أنه يوقف الاسترسال عند الانسان ، فالانسان المسلم طول سنته غالبا مسترسل ، وشهر رمضان بما جاء فيه ، وبما وُضْع فيه من الإمكانات المفروض ان يقف الانسان فيه عن هذا الاسترسال ، فالله سبحانه وتعالى قد حبس الشياطين في هذا الشهر " الشياطين فيه مغلولة " محبوسة وُكَل بها ملائكة يمنعون تعديها على الانسان ، احدهم سأل سؤالاً ظريفاً قال : اذن لماذا نرى بعض الناس في شهر رمضان ذنوبهم كثيرة ؟ فأجابه ظريفٌ آخر : هذا من الشياطين التي لم تُغل ، هذا لا يحده شيطان ، هذا بنفسه شيطان ، فالشياطين لا تصنع المعصية للإنسان ، وانما تُزين وتُسول للإنسان ، لكن هو يتخذ القرار ، هذا العنصر في شهر رمضان يُحبس ، أي يعطى للإنسان إمكانية وقدرة أكبر للتغلب على المعاصي ، وإلا ليس يعني اذا غُلت الشياطين في هذا الشهر ، فالشهر يكون ليس به ذنبٌ ، لا ، فالذنب يصنعه الانسان نفسه ، والمعصية يقوم بها الانسان بنفسه ، لكن مرة تكون الطريق سالكه ويوجد احد يقوم بتشجيعك ، ومرة العكس ، لكن اذا هذا هو الانسان نفسه نيته نية سوء وارادته للمعصية إرادة قوية ، يأتي بالمعصية و لا يوجد لديه مانع لذلك ، فشهر رمضان شهر مناسب للتأمل والتفكر في خارطة الطريق للإنسان ، وطريقته للحياة ، كيف يقضيها ، اين يصل بها ، فهذا الانسان اذا قرر يسلك طريق 50 كيلومتر يطلب خريطة ، سابقا يسأل ( يمين – شمال – مستقيم ) ؟ ألان تطورت الحياة فيوجد تطبيقات الارشاد للطرق وغيرها فهي التي تصنع خارطة ، مسافة 50 كيلومتر يحتاج لها الى خريطة ، وفي مسيرة 80 سنة ألا يحتاج الى خريطة ؟ اذا كان هذا المقدار من الوقت يحتاج الى وقود ؟ وكل ساعه يرى كم بقي من المسافة ؟ وكم لا يزال من الوقود لديه ؟ الا يتطلب ان يُراجع الانسان نفسه كم باقي من وقُود حياته ؟ كم من المسافة لابد ان يقطع ؟ كم من الواجبات ان يؤدي ؟ كم من الاعمال الصالحة لابد ان يقوم بها ؟ الا ينبغي للإنسان ان يفكر لاسيما في هذا الشهر المُبارك ، سنةٌ جديدةٌ ، وشهرٌ جديدٌ ، وعمرٌ جديدٌ ، فالواقع اذا الانسان يُفكر بحقيقة ، هذي ليست بسنة جديدة ، انما سنةٌ خسرها الانسان من رصيد حياته ،ال 365 يوم نقص من رصيدنا ، ومن عمرنا المقدر عند الله عزوجل ذهب بمقدار معين ، فحريٌ بالإنسان ان يُفكر في خارطة الطريق لهذه الدُنيا التي وصفت بأنها ممر ، فقال امير المؤمنين ع : " فخذو من ممركم لمقركم " ، " وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ " فالمقر النهائي هناك ، خذو من هذا الممر لذلك المقر ، خذو من هذا المتاع لذلك الحيوان " وان الدار الاخرة لهي دار الحيوان " ونحن وجدنا أئمة الهدى عليهم السلام ، يؤكدون على تعريف الناس بالحياة الدنيا ، هذه الايات القرانية والخُطب التي قالها رسول الله صل الله عليه واله وسلم والائمة عليهم السلام – أنا اتعجب في كثير من الأحيان - ان عنوانها " في ذم الدنيا ، والتزهيد فالدنيا " هو جانب صحيح ، اما الجانب الأكبر فهي فالوعي بالدنيا ، فالقران يريد ان يعطي لنا وعياً فالدنيا ، ماهي هذه الدُنيا ، نحن نعيش فيها ، لكن ماهي حقيقتها ؟ ماهي خارطتها ؟ وهكذا الحال بالنسبة للمعصومين عليهم السلام ، فسيدنا ومولانا الامامُ الحُسين عليه السلام ، فاليوم العاشر وفي خُطبته الأولى ، تحدث عن الدُنيا ، وهذا مُلفت للنظر ، أئمة الهُدى عليهم السلام ، كُلُ كلماتهم نافعة ، ولكن الاختيار أيضا مهم ، فلو أن زينبً عليها السلام في مجلس يزيد – لعنه الله – تكلمت مثلا حول بعض المسائل الشرعية ، هو بنفسه هذا الموضوع فيه فائدة ، لكن الموقف لا يقتضي هذا ، اختيار الصحيح والمناسب لابد ان يكون ، فبدأت عليها السلام بقولها " وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين " حتى تقول للناس ، يا أيها الناس ترى هذا الرجل انتقل من مرحلة الفسق الجوارحي الى مرحلة الكفر الجوانحي ، فهذا الشخص – يزيد لعنه الله – انتقل من كونه فاسقا الى ما بعد ذلك – لاسيماعندما قال " لعبت هاشم بالملك .. فلا خبر جاء .. ولا وحيٌ نزل " وكان بإمكانها ان تتكلم في قضايا الفقه ، في تفسير الايات القصار للقران الكريم ، وفي تبيين بعض الكلمات الأخلاقية ، وانما تنتخب هذا الكلام المناسب لهذا الموضع ، مولانا الامام الحُسين عليه السلام ، لاحظو خطبته هذه والخُطبة الثانية له " تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً ، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين " تختلف تمام الاختلاف في موضوعها ، في ادبها وبلاغتها ، في طريقة كلماتها عن الخُطبة الأولى ، لماذا ؟ مع ان القوم نفس القوم لكن الظرف يختلف ، فاول ما افتتح الحُسين عليه السلام خطبته في يوم عاشوراء بعدما تواقف الصفان استنصتهم وأشار اليهم بيده الشريفة على ان لديه خُطبة ، لديه كلام ، لعل احد منهم يهتدي ، لعل قسما يتراجع ، وحتى لو لم يكن هذا او ذاك يبقى وثيقة للتاريخ يتعرف عليها الناس ، ويستفيدون منها وينتفعون بها ، فبدا بخطابه والحديث عن الدنيا ، فقال :
" الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، مُتصرفةً بأهلها حالاً بعد حال " بمعنى لا تتصور يا قائد الجيش ان الدنيا ستبقى لك ، هي تتقلب وتزول ، وانت أيضا لا تبقى فيها ، فهذا الذي اخذ المال ، لا يبقى المال له ، وذاك الذي اخذ المنصب ، لا يبقى المنصب له ، فعليه ان يعتبر بذلك .