مودة عترة النبي وزيارة مشاهدهم 26
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
المكان:
التاريخ: 27/9/1443 هـ
تعريف:

26- مودة عترة النبي وزيارة مشاهدهم

كتابة سماحة الشيخ جعفر البناوي

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبًا أمير المؤمنين عليه السلام: (من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس) [ ].  

 أحد أنحاء المودة - وهو اظهار الحب - يرتبط بزيارة مشاهدهم وأضرحتهم ومقابرهم وإعمار هذه المشاهد بالمستويين الإعمار البنائي والحضوري، وألّا تكون خالية من الحضور البشري.

 عناصر الموضوع:

 قبل أن نتناول هذا الموضوع لا بد من تحديد عناصره:  

 - لا كلام بين المسلمين جميعًا في استحباب زيارة القبور من قبل الرجال ويستند اتباع مدرسة الخلفاء إلى روايات منها: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة)[ ].

وهذا عندهم خاص بالرجال بالأخص في المدرسة السلفية التي سناتي على ذكرها.

 إذن: نقطة الاتفاق بين المسلمين جميعًا أنه يستحب ويحسن أن يزور الإنسان المقابر والقبور لما فيه من أثر وعظي وتربوي واخلاقي.  

وانفردت المدرسة السلفية بين المسلمين جميعًا من السنة والشيعة بأمرين:

الأول: منع النساء من زيارة القبور والمقابر واستندوا إلى رواية ناقشها سائر المسلمين مفادها أن النبي صلى الله عليه وآله (لعن زوّارات القبور)[ ]، وفي هذه الرواية نقاش طويل من حيث سندها ودلالتها ومعارضتها بما هو أقوى من الروايات، وبما عليه سيرة المسلمات في أدوار مختلفة من تاريخ الإسلام، كما أن سيرة المتشرعة من المسلمين والمسلمات تخالف ذلك.

الأخر: المنع المشدد من بناء الأضرحة والمشاهد والقباب والسقوف على القبور سواء أكانت قبور أنبياء أم أوصياء هم اولياء صالحين

 فلا يجوز عندهم ذلك، بل إذا ضم إليه بعض الممارسات كالطواف حول القبر -كما يقولون- أو الدعاء والاستغاثة بصاحب القبر هناك؛ فإن هذا ليس بدعة فقط، بل يرقي إلى حد الشرك بالله عز وجل.

هذا فيما يرتبط بالمدرسة السلفية، وبناء على ذلك فإنهم يرون هدم الأبنية والأضرحة والقباب المقامة على القبور أمرًا طبيعيًا؛ فإنه يمنع في نظرهم الشرك وهو إزالة البدع، وعلى هذا الأساس تم تهديم مقابر وأضرحة وقباب في فترات مختلفة من سيطرة أصحاب هذا الرأي[ ].

وهذا الرأي - أي رأي المدرسة السلفية - لا يتفق وعموم المسلمين الذين يرون مشروعية البناء على القبور وجواز اتخاذ الأضرحة بما في ذلك القباب، بل استحباب ذلك أيضًا لما يقيمونه من الأدلة وما عليه من سيرة المسلمين في تاريخ الإسلام.

المدرسة الإمامية في طليعة المسلمين الذين يرون اتخاذ المقابر والمشاهد الأضرحة والقباب على قبور الانبياء وعلى قبور الأوصياء هو من مظاهر مودتهم لأنبياء الله وأوليائه، ومن مظاهر مودتهم لعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وخلفائه.

وهذا يرقى في أحاديث كثيره التي منها (من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس) ينقلونه عن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما سأله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: ما لمن عمّر قبورنا؟ فقال له صلى الله عليه وآله: (من عمر قبوركم ... فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس) يشكل نقطة جذب لعباد الله لكي يذكروا يذكر الله في ذلك المسجد، ويصلون إليه ويقرؤون آياته، ويتعبدونه.

كذلك هذه الأضرحة والمشاهد والمقابر المبنية ستقوم بنفس الدور في جذب الناس باتجاه الايمان، وعبادة الله وذكره وقراءة القرآن، وهو الدور ذاته الذي مارسه بناء بيت المقدس وسوف تمارسه المقابر وهذه المشاهد والاضرحة.

وعند الامامية روايات أكثر من هذا[ ].

أدلة المسلمين على بناء القبور:

 وأما إجمالي المطلب عند عموم المسلمين - عدا الفئة المانعة المحرمة - يمكن أن يستدل عامة المسلمين من الأشاعرة -وهم القسم الأكبر من المسلمين- في مدرسة الخلفاء على مشروعية البناء على القبور اتخاذ الأضرحة والمشاهد بالأمور التالية:

 الأمر الأول: ما يستدل به من القرآن الكريم؛ لان القرآن الكريم عندما تحدث عن قصه أصحاب الكهف وبعد عده مئات من السنين التي ناموها في ذلك الكهف توفاهم الله.

أنئذن حصل خلاف وحوار بين أبناء ذلك المجتمع وكان فيهم فئة مؤمنة، وفئة غير مؤمنة وهم القائلون: {ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}[ ]، وهذا يشبه تمامًا المتاحف والمعالم الأثرية التي تكون محل جذب سياحي، باعتبار أن قضيتهم قضية غريبة، فبعد أكثر من ثلاثمائة سنة ناموا ثم استيقظوا، إذ لم تؤثر تلك السنوات في أعمارهم، ثم انتقلوا إلى رحاب الله.

 فحينما يتسامع بهم الناس من كل مكان سيزورون هذه البلدة وما يرافق ذلك من نمو اقتصادي وغير ذلك.

 والرأي الآخر كان للفئة المؤمنة وهي الغالبة {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}[ ]، فكانت الفكرة: لنتخذن عليهم مسجدًا نجعل بنيانًا من قماشتهم وما يتماهى مع قصتهم التي كانت في عبادة الله عز وجل، فكيف أنهم صمدوا في هذه العبادة وهربوا بدينهم وحافظوا عليه؟ 

المعلم الذي ينبغي أن يكون لهم هو ما يتناسب وقصتهم، وليكن مسجدًا، مكان عبادة، دار توجه إلى الله سبحانه وتعالى، وفعلًا هذا الذي حدث، إذ اتخذ عليهم مسجدًا. 

دفع وهم!!

لعل الطرف الأخر يشكل بأن هذه المسألة كانت في قديم الزمان، وفي مجتمع آخر لا يتناسب مع زماننا، ولا يلتقي مع ديننا.

ويرد على ذلك بالتالي:

 إن القران الكريم من شأنه إذا ذكر مسألة عقائدية، أو عبادية، أو حكم شرعي مخالفة للدين الصحيح لا بد أن ينبه عليه، وهذا التنبيه كثير في القرآن منها:

 قول اليهود: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[ ]، فالقرآن يرد على هذا: {ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ}.

أو يستبق الأمر فيصف الفكرة بأنها خاطئة، وما أكثر ذلك في القرآن الكريم، كقول الكفار {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[ ]، فيرد على ذلك القول بآيات: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[ ].

الشاهد: لو كان كلام الذين آمنوا ممن شهدوا حادثة أهل الكهف، ونقل القرآن كلامهم {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} يدعو إلى الشرك، وأنه خلاف التوحيد، لنبه القرآن الكريم على ذلك، ولم يترك الأمر كما هو.

فإذا كانت فئة عادية لم تتسلح سوى بإيمانها بني عليهم مسجد، واتخذ مكانًا لذكر الله عزّ وجلّ، ولتذكر قصتهم على تعاقب الأزمان، فما ظنك إذا كان نبيًّا من أنبياء الله؟! أو وليًّا من أولياء الله؟! أو وصيًّا من أوصياء الله عزّ وجلّ فمن باب أولى.

الأمر الثاني: إن أبرز ما يذكره أتباع المدرسة السلفية من إشكالات حول البناء على القبور وزيارتها من أن الطواف حول تلك القبور بدعة، أو شرك[ ]؛ لأنهم سوف يلجؤون بالدعاء إلى غير الله، وهذا شرك.

ويجاب على ذلك بالتالي:

1/ الادعاء بأن من يذهب إلى تلك القبور أنه يدعو من دون الله، ادعاء باطل لا قيمة له، بل الأمر على خلافه؛ فإن من يتوجه إلى تلك الأماكن يدعو الله وحده لا شريك له، ويتقرب إليه سبحانه وتعالى.

2/ هل أن الشرك ألفاظ وكلمات أم اعتقادات؟! هل هو أفعال خارجية أم أفعال منضم إليها الاعتقاد؟!

إذا كان مجرد الألفاظ، أو الممارسة المجردة دون اعتقاد شركًا، فهذا من المخالف لكتاب الله عزّ وجلّ، ومخالف لما عليه أنبياء الله عزّ وجلّ، وما أكثر الآيات والقصص في ذلك، نستعرض بعض منها: 

•     ما جرى لعمار بن ياسر حينما قال كلمة الكفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه، فنزلت الآية الشريفة: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}[ ].

فهذا بحسب ادعاء بأن الشرك ألفاظ يكون عمار بن ياسر قد خرج من الإسلام، بينما الله سبحانه وتعالى برأه من الشرك، ونفى عنه ذلك.

•     ما جرى لنبي الله يعقوب عليه السلام وأبناؤه حينما التقوا بيوسف عليه السلام في مصر واستقبلهم خرّوا له سجدًا {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖوَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}[ ].

إن يعقوب نبي من أعاظم الأنبياء فجده نبي، ووالده نبي، وعمه نبي، وابنه نبي، وقام بفعل لابنه يوسف عليه السلام من أعظم أفعال التعظيم، ومن أحسن العبادات، وهو السجود، فلو سجدوا ليوسف حقًا معتقدين أنّه هو الله، أو ابن الله، أو شريك مع الله، لحلّت عليهم صاعقة العذاب.

إنما خرّوا لله سجدًا لجهة يوسف شاكرين الله وحامديه بما مَنّ الله عليهم بيوسف.

إذن: الفعل بنفسه لا يدل على الشرك إلا إذا انضم إليه الاعتقاد.

•     ما جرى لأبليس والملائكة في قصة السجود لآدم، فإن الله سبحانه وتعالى أمر الملائكة بأن يسجدوا لآدم ليس باعتباره ربّ؛ وإنما لأنه عبد من عبيد الله عزّ وجلّ، وهذا أمر من الله، ولذا حينما امتنع إبليس من السجود طرد من رحمة الله.

السجود بحد ذاته خضوع وعبادة، فلماذا لم يعتبر هذا عبادة لآدم؟!

جميع الملائكة سجدوا لآدم، وحري -بناء على ذلك القول- بأن يشكل عليهم أن ذلك عبادة لآدم، والعبادة ينبغي أن تكون لله وحده.

هذا السجود وهذا الفعل لآدم ليس بعبادة؛ لأنه لم يتضمن خضوعًا، بل مجرد استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.

إذن: مسألة الشرك والإيمان ليست كلامًا، وليس فعلًا فقط، وإنما هو الكلام والفعل المشتملان على الاعتقاد والإيمان، فالسجود بالخضوع والذّلة، والافتقار إلى الله معتقدًا بذلك في قرارة نفسه، تصبح هذه عبادة.

•     لو أن مسلمًا طلب من رسول الله صلى الله عليه وآله المغفرة [ ] والعطاء معتقدًا بأن رسول الله عبد من عبيد الله لا يصنع شيئًا إلا بإذن الله وأمره وإرادته، فهذا عين التوحيد، حتى لو طلب ذلك من أولياء الله [ ].  

•    مسألة الطواف والادعاء بأنه شرك، فإن ذلك من شأنه أن يجعل جميع حجاج بيت الله الحرام مشركين والعياذ بالله؛ لأنهم يطوفون حول قبر إسماعيل وهاجر [ ] .

فمنذ أن فرض الله الحج وحتى يومنا هذا والحجاج يطوفون حول قبريهما، بل أن بعض أعلام مدرسة الخلفاء كالقرطبي الذي يذهب بأن نبي الله شعيب مدفون مقابل الحجر الأسود، وما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيًا جاءوا حجاجًا فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين[ ].

فكيف يكون الحجاج في مركز الأرض للتوحيد في الكعبة المشرفة يطوفون قبر أحد الأنبياء، وإحدى الأولياء لله سبحانه وتعالى -بالقدر المتيقن من مدفن إسماعيل وأمه-.

فأين دعوة الطواف بأنها مدعاة للشرك، وكيف تصمد أمام هذه الشواهد؟!

•     قبر سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله حيث دفن في منزله[ ]، وفي حجرة زوجته.

السؤال المطروح: هل كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله جدران وعليه سقف وبناء؟!

إذا لم يكن فيه بناء فهذا غير معهود!! وإذا كان كذلك فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله بما في ذلك زوجاته خالفوا هذا الأمر، إذ لا يجوز أن يكون هناك بناء على القبر -على رأي المدرسة السلفية- وليس ثمة فرق بين أن يكون البناء قائم أم تم تشييده فيما بعد؟

وكيف سوّغ وجوّز أن يدفن رسول الله في مكان عليه بناء وفيه سقف وما شابه ذلك؟

الخلفاء الذين دفنوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليسوا بأنبياء، ولم يقبضوا في نفس المكان، بل أُوتي بهم إلى محل ما دفن فيه الرسول، وكان ذلك بمحضر الصحابة الذين -كما تدعي هذه المدرسة- بأن قولهم وفعلهم وتقريرهم حجة، فهل يعقل بأن يقروا على شيء باطل؟ وكيف سكت أصحاب رسول الله قاطبة على مثل هذا الأمر؟!

الأدهى من ذلك والأمرّ في العهد الأموي المرواني[ ] ضم بيت رسول الله إلى داخل المسجد، فصار كلّه مسجد بما فيه البيت النبوي الذي فيه قبور لعدد من الأشخاص.

ولم يكن ذلك محلّ استنكار لأصحاب رسول الله، ولا لأهل البيت النبوي، في أن يكون ذلك من البدع، أو يجانبه المغالاة بالأخص مع النبي صلى الله عليه وآله، فلماذا لم تسد بهذه الدريعة؟

لم نجد أن أحدًا اعترض على هذا الأمر، بل كانوا يتبركون بتراب قبره، ويضعون رؤوسهم على قبره كما كان يصنع أبو أيوب الأنصاري[ ]. 

فهذا قبر رسول الله اتخذ عليه القباب في طول تاريخ المسلمين، لم يكن هناك إنكار على هذا الأمر، وعلى أثر ذلك يذهب عموم المسلمين إلى أن إعمار المشاهد والأضرحة والمقابر ليست فقط مشروعة، بل هو من سيرة المتشرعة من المسلمين.

في البلدان الإسلامية هناك العشرات من القبور والأضرحة للأولياء والمؤمنين، كتركيـا ومصر والعراق وإيران وبخارى وسمرقند وسائر بلاد المسلمين، وهذا يكشف عن أن هذه الممارسات وهذه السيرة كانت مستمرة متصلة بالزمان الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وتسلمها الأخلاف عن الأسلاف من غير إنكار ولا منع.

أما بالنسبة للإمامية فعندهم من الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ما شاء الله ذكرنا بعضها.

دفع وهم وحلّ إشكال!!

اعتمد الفريق المخالف لبناء القبور وزيارة الأضرحة على أدلة، وعمدة أدلتهم ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته[ ]. 

وقد أجاب عامة المسلمين على ذلك بإشكالين على الرواية أبي الهيجاء:

الإشكال الأول في السند:

ففي سلسلة الحديث أربعة رواة يشكل عليهم وهم:

1/ أبو وائل: هو شقيق بن سلمة الكوفي وكان من الخوارج المبغضين لأمير المؤمنين عليه السلام[ ]، فكيف يتسنى لشخص من مبغضي أمير المؤمنين أن ينقل حديثًا عنه.

2/ سفيان الثوري: وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، قال عنه الذهبي: إنه كان يدلس عن الضعفاء[ ].

3/ حبيب بن أبي ثابت، وصفه ابن حبان في كتابه (الثقات) بأنه مدلس، وقال ابن حجر أيضًا: كان كثير الإرسال والتدليس.

4/ أبو الهياج فهو نكرة في المدرسة الإمامية، ولم يكن له حديث سوى هذا الحديث.

الإشكال في المتن، ويكون في نقطتين:

•    الأولى: في معاني الحديث

في معنى (لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته) فمفهوم (سويته) -عند المدرسة السلفية المحرمة للبناء على القبور- أي ساويته بالأرض، سواء أكان البناء جدارًا، أم قببًا، أم أعمدة، وهذا ما صنع بقبور أئمة البقيع عليهم السلام، وغيرها في أماكن سيطرتهم وقوتهم، حيث يفجروا المشاهد ويهدموا القبور والأضرحة، بل كانوا يتمنون أنهم لو تمكنوا ما أبقوا ضريحًا مبنيًّا على الإطلاق.

والمفهوم الأخر لكلمة (سويته) عند بقية المسلمين -وهم يرونه الأصح- أن التسوية في الشيء هو عبارة عن إزالة النتوءات والارتفاعات والانخفاضات.

فكانت القبور آنذاك مسنمة كسنام البعير -على فرض صحة الحديث- فيراد جعلها مسطحة مستقيمة، وليس بالشكل المثلث.

وهذا هو الأقرب؛ لأنه لو أراد أن يقول بذلك المعنى من التسوية وهو الهدم والمساواة بالأرض، لصح أن يقول: (ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته بالأرض) وفي هذا يستقيم والمعنى الذي أرادوه.

أما التسوية المجردة لا يعدوا كونها على مستوى واحد، متساوية الأجزاء مستقيمة.

فإن كان كلا المعنيين محتملين، فلماذا الاقدام على هدم تلك الأماكن الحضارية؟ وإزالة ما من شأنه أن يذكر فيها اسم الله، ويعظم فيها أولياؤه؟ على أثر حديث يشكل في سنده، وغير تام الدلالة؟!

•    الأخرى: إشكال في الممارسة لا في المعتقد؟!

هناك مدرسة عريضة تضم أكثر المسلمين التابعين لمدرسة الخلفاء الذين توحدت كلمتهم على عدم جواز هدم هذه المقابر، والأضرحة، والمشاهد، حتى لو كان فيها بعض الممارسات غير الصحيحة؛ فأن الحل يكمن في إرشاد الناس وتوجيههم، لا في هدم تلك الأماكن.

فلو أن شخصًا يصلي في المسجد خلاف القبلة، فهل من الصحيح هدم المسجد؟! أم توجيهه إلى القبلة.

بل أعظم من ذلك لو أن شخصًا أشرك بالله في المسجد، فهل من الصحيح هدم المسجد؟! أم توجيهه وإرشاده إلى الصواب، والعمل الصحيح.

فهدم القبور والمشاهد والأضرحة التي هي مألف الناس، ومحل تجمعهم على فعل الطاعات، بدلا من أن يألفوا أماكن الفساد، وأماكن اللهو، التي يغض الطرف عنها، وتوجه السهام إلى الأماكن التي يتلو فيها كتاب الله، ويذكر فيها اسمه، ويصلى إليه، ولا يدعى إلا هو، تهدم بحجة حديث ملتبس من كل الجهات.

وأمثال ذلك مما ذكروه كرواية لعن اليهود والنصارى القائل:(لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) [ ].

فهل الإشكال على اليهود والنصارى في اللعن أنهم اتخذوها مساجد فقط؟ أم أنهم قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، وعلى هذا الأساس اعتقادهم أنهم أبناء الله، وهذا عين الشرك.

ولكن أين هذا ممن يوحد الله ويؤمن به، ويتوجه إلى الكعبة ويصلي إلى ربه، ولكن بجانبه قبر من قبور أنبياء الله، أو أوليائه، فما الضير في ذلك؟

بالعكس فإن إعمار قبورهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله مخاطبًا أمير المؤمنين عليه السلام: (من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس) وهو دور مشترك وغاية واحدة في جمع الناس إلى حياطة الله وفي حيطته، وضمن عبادته.

لذا اعتمد أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم على هذا الأمر، ودعوا إليه، وشجعوا عليه، فكأن في التاريخ طريقين:

- طريق الطواغيت وفراعنة الأمة الداعية إلى هدم القبور، وتحطيم الأضرحة، كالمتوكل العباسي وأمثاله.

- وطريق الصالحين والأولياء وعترة النبي في إعمارها وتشييدها.

لقد أشارت العقيلة زينب عليه السلام إلى هذه الحقيقة بصفاء بصيرتها، فقالت لابن أخيها الإمام زين العابدين عليه السلام: (لقد اخذ الله الميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة وهم معروفون في اهل السماوات انهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرجة وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتميحه فلا يزداد أثره إلا ظهورا وأمره إلا علوا) [ ].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[ ] وسائل الشيعة: ج14، ص383. 

[ ] صحيح مسلم: ج3، ص65. 

[ ] مسند أحمد بن حنبل: ج2، ص337، وسنن الترمذي: ج2، ص259. 

[ ] كهدم مرقد الإمامين العسكريين، ومرقد نبي الله يونس وشيث، وغير ذلك الكثير. 

[ ] ما قاله رسول الله (ص) للإمام علي (ع): يا أبا الحسن إن الله جعل قبرك وقبر ولدك بقاعا من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها، وان الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحن إليكم وتحتمل المذلة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقربا منهم إلى الله مودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي والواردون حوضي، وهم زواري غدا في الجنة.

[ ] سورة الكهف، الآية: 21. 

[ ] سورة الكهف، الآية: 21. 

[ ] سورة التوبة، الآية: 30. 

[ ] سورة الجاثية، الآية: 24. 

[ ] سورة الجاثية، الآية: 26. 

[ ] يقول الشيخ ابن باز: إذا طاف يريد التقرب إلى أهلها فقد أشرك، وإذا طاف بقصد التقرب إلى الله فقد ابتدع وفعل منكرًا. (راجع موقعه الإلكتروني: https://binbaz.org.sa/) 

[ ] سورة النحل، الآية: 106. 

[ ] سورة يوسف، الآية: 100. 

[ ] بناء على قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} 

[ ] [يقول الحافظ محمد بن حبان (ت: 354هـ)، في كتابه الثقات: ج8، ص456، في ترجمة الإمام الرضا عليه السلام: علي بن موسى الرضا له قبر مشهور قد زرته مراراً كثيرة وما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس، فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جدّه وعليه ودعوت الله إزالتها عنى إلا أستجيب لي وزالت عنى تلك الشدة، وهذا شيء جربته مراراً فوجدته كذلك أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم أجمعين]

[ ] وهو ما يعرف بـ(حجر إسماعيل) والذي بناه إسماعيل بعد أن ماتت أمه هاجر. 

[ ] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج2، ص130. 

[ ] يرى أعلام مدرسة الخلفاء بأن كلّ نبي يدفن محلّ قبضه، ولا يدفن في مكان آخر [راجع: سنن الترمذي: ج2، ص242]. 

[ ] في زمن الوليد بن عبد الملك[سنة: 88هـ].                               

[ ] روي الحاكم النيسابوري في [المستدرك: ج4، ص515]: أن أبا أيوب الأنصاري وضع وجهه على قبر رسول الله فمر مروان بن الحكم فقال: ما يصنع هذا؟! فالتفت أبو أيوب رضي الله عنه فعرفه مروان ومضى، فقال أبو أيوب: ((إني لم آت الحجر إنما أتيت رسول الله، إني سمعت رسول الله يقول: لا تبكوا على الإسلام إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله)                              

[ ] صحيح مسلم [كتاب الجنائز]: ج2، ص667.                               

[ ] ويكفي في قدحه أنه كان من ولاة عبيد الله بن زياد، قال ابن أبي الحديد: قال أبو وائل: استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة.                   

[ ] ميزان الاعتدال: ج2، ص169.                               

[ ] مسند أحمد: ج5، ص184.                               

[ ] جامع أحاديث الشيعة: ج12، ص439.                               

  

      

 


مرات العرض: 3461
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 57945.05 KB
تشغيل:

واجب الأمة تجاه عترة النبي 25
زيارات المعصومين قراءة في فوائدها ونصوصها 27