عملي قليل وإن كثر وعملك كثير وإن قل 16
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 7/4/1443 هـ
تعريف:

15/ عملي قليل وإن كثر وعملك كثير وإن قل

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

لا يزال الحديث في وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم وقد وصلنا إلى تعريف الإمام عليه السلام للصفات التي من خلالها يعرف تمامية العقل عند إنسان وقد مرَّ الكلام في أربع من الصفات، وأما الصفة الخامسة فإنه كما نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرهم في نفسه وهو تمام الأمر).

بالنسبة إلى الصفة الأولى ترتبط بعمله وعمل غيره، والصفة الثانية ترتبط بذاته ونفسه في مقابل ذوات الآخرين وأنفسهم، فالصفة الأولى من صفات العاقل  والتي بحسب هذا الترتيب تكون الخامسة أنه ينظر إلى أعماله على أنها قليلة ضئيلة حتى مع كثرتها، وينظر إلى عمل الآخرين مع قلة ذلك العمل أنه كثير، وقد نقرأ في دعاء مكارم الأخلاق عندما يسأل الإنسان ربه ان يبلغه مكارم الأخلاق فيقول: (واستقلال الخير من عملي وإن كثر واستكثار الشر من عملي وإن قل)، وهذه في الواقع تماماً على خلاف الحالة العادية لكثير من الناس، فأغلب الناس يحبون ذواتهم وهذه غريزة في الأنسان ولولا حب الإنسان لنفسه لما حماها من الأمراض والأخطار ولما سعى إلى إشباع طنه وإكساء جلده وتحصيل الخير لنفسه، لكن هذا يكون جيداً إلى مقدار معين وأما بعد ذلك المقدار فإن بعض الناس يتحول حب الذات في انفسهم إلى ما يشبه عبادة الذات وعبادة النفس، ففي داخل نفسه هو أفضل من غيره ولا يُعدَم أيضاً وسيلة للتبرير فنجده يرى نفسه أفضل من غيره لأنه طالب علم مثلاً أو لأنه أجمل منه أو يأتي بمبرر آخر ليقول أنه الأفضل، فعلى الإنسان أن يختبر نفسه فإن وجد غيره أفضل منه فهو آنئذ يكون في مستوى أخلاقي مرتفع، فلا ينبغي أن يغتر بنفسه لأجل صلاته أو عمرته أو زيارته وما إلى شابه ذلك لأنه لا يعلم إن كانت هذه الأعمال مقبولة عند الله أو لا وربما قد أطلع الله إلى قلبه فوجد نيته ليست سليمة، وقد يكون ذلك الشخص المقتحم في نظره قد وقف تاباً إلى ربه فقبله والتائب عن الذنب لا ذنب له، فليس عند الإنسان تضمين بأنه أعماله مقبولة ولذلك فإن الإنسان العاقل يستقل العمل الخير من نفسه وإن كثر هذا العمل في حجمه وعدده في الظاهر لاحتمال أنه قد لا يكون كثيراً في الواقع، فإذا نظر الإنسان إلى نفسه بشعور التقصير ونقص العمل فإن ذلك سوف يحجب عنه العجب والكبر لنفسه وسيدفعه إلى المزيد من الأعمال، بعكس الشخص الذي لا يجد نفسه مقصراً أبداً فإنه لن يزيد من عمله.

نجد أن النمط غير العاقل يستقل كثير العمل من غيره، فيرى أن أعمال الآخرين هي أعمال بسيطة، بينما العاقل يستكثر قليل العمل من غيره، فمثلاً لو أن أحدهم بنى مسجداً فإن غير العاقل يرى أن من بنى هذا المسجد عمله جداً قليل مقارنة بما عنده من الأموال، بينما العاقل يقول ما يدريني لعل هذا المسجد الصغير الذي بناه ذلك الشخص يكون كخاتم أمير المؤمنين عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى اطلع إلى أن بعض أصحاب رسول الله أنفقوا عشرات الآلاف من الأموال ولكن لم يأتي ذكرها في القرآن ولكن علي بن أبي طالب عليه السلام عندما مدَّ خاتمه الزهيد ثمناً قال الله في ذلك: ((يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)) بالرغم من أن قيمته المادية بسيطة، وكذلك لو أن أحدهم ألقى كلمة في مجلس مدتها عشر دقائق لا ينبغي ان نقارنه بالخطباء الفحول لأننا لا نعلم لعل هذه الكلمة القصيرة قد أثرت في شخص وأهدته إلى سواء السبيل، لكن الوضع الاجتماعي غالباً ما يكون عكس ذلك فيرى الإنسان نفسه شيئاً كبيراً ويرى بأن عمله عملاً مهماً ولذلك أسهل شيء عندنا هو الإنتقاد، فالإتقاد هو أن يستقل عمل الآخرين، فقدر الإمكان إن استطعنا تعظيم عمل الآخرين  وتقليل عملنا فلنفعل.

فلو عظم الإنسان عمله واستقل عمل الآخرين فهذا يعتبر من كمال قلة العقل، ولكنه لو استقل عمله واستنقصه فلن يشعر بالغرور والعجب كصفة شخصية ولن يقلل من أعماله كصفة عملية لأنه لو شعر بأن عمله قليل في هذا اليوم فسيدفعه هذا الشعور إلى المزيد من العمل وهذا تمام العقل.

يقول الإمام عليه السلام: (ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرهم في نفسه وهو تمام الأمر)، فيُنقَل عن السيد محمد مهدي بحر العلوم وهو طباطبائي كان يحظى بلقاء الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف، قيل أنه لما ألَّف المولى النراقي كتاباً جاء إلى النجف الأشرف وذهب السيد بحر العلوم إلى زيارة صاحب هذا الكتاب فرحب به، وبعد ذلك رد صاحب الكتاب تلك الزيارة إلى السيد بحر العلوم فلم يقف له السيد بحر العلوم وكان سلامه له جداً عادياً، فتعجب الحاضرون من ذلك لأنها ليست من أخلاق السيد بحر العلوم ولا هو مقتضى التقاليد أيضاً وعندما انهى صاحب الكتاب الزيارة وانصرف سأل أحد الحاضرون السيد بحر العلوم عن سبب هذا التصرف فقال لهم بحسب تعبيرنا: ولتعلمن نبأه بعد حين، وصاحب الكتاب أيضاً لم يتشكى ولم يبدي أي استياء من تصرف السيد بحر العلوم معه، وقيل أن السيد بحر العلوم بعد عدة أيام قال: أني اطلعت على كتابه ووجدته كتاباً جيداً فأردت أن أختبر التزامه به وبالفعل هو ملتزم، ويبين له أن صاحب هذا الكتاب لم يرى نفسه شيئاً عظيماً ومن يهين نفسه يكرمه الله عز وجل.

ثم يكمل الإمام الكاظم عليه السلام فيقول: (يا هشام من صدق لسانه زكى عمله)، فالصدق والكذب لهما ارتباط بالأعمال، فالصدق له ارتباط بزكاة الأعمال ونموها، بينما الكذب له ارتباط مع ضعف العمل وتراجعه، فمثلاً لو ان تاجراً عنده دكان في السوق وكان صادقاً مع من يتعامل معه فيخبره بالنوع الجيد من غير الجيد فإن هذا التاجر يزكو عمله لأنه عامل الناس بصدق ولم يتعامل بالغش فانجذب الناس إليه، بعكس ذلك الذي يكذب فإن حبل الكذب قصير وسيكتشف الآخرين أنه كذب عليهم ولم يعاملهم بصدق ففشلت تجارته، كذلك أيضاً ينبغي أن نكون صادقين في الأمور المعنوية أي صادقي النية لا نخدع الآخرين.

 

مرات العرض: 3397
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 27679.64 KB
تشغيل:

14 كيف تعرف تمامية العقل
بين الحكمة والأموال أيهما تأخذ 17