14 كيف تعرف تمامية العقل
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 26/3/1443 هـ
تعريف:

كيف تعرف تمامية العقل 14

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

لا يزال الحديث في وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم، وفيها جاء: (يا هشام، كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: ما من شيء عُبِد الله به أفضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى، الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول وفضل قوله مكفوف ونصيبه من الدنيا القوت، ولا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرهم في نفسه، وهو تمام العقل).

هذه الكلمات فيها من البراعة والبلاغة والإحاطة الشيء الكثير، ولا غرابة في ذلك فهي من كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كررها حفيده الإمام موسى بن جعفر وهي من الكلمات المشهورة جداً عن أمير المؤمنين عليه السلام، حتى أنها تدون في كتب الصوفية وهم بحسب الفرض لا يعتقدون بإمامة المعصومين بالنحو الذي يعتقده شيعة أهل البيت، ومع ذلك فإن هذه الكلمات عن أمير المؤمنين عليه السلام ينقلونها في أول كتبهم بإعتبارها أساسيات في طريق السلوك والزهد وما إلى غير ذلك.

ينقل الإمام الكاظم عليه السلام هذه الكلمات لهشام بن الحكم وقد مرَّ علينا في وقت سابق بأننا قلنا بعض الوجوه التي تفسر استشهاد الإمام بكلام إمام غيره مع أن الأئمة كلهم في مستوى التشريع والحجية هم واحد ولا يحتاج الإمام أن يستدل بقول من سبقه، ولكن هناك جهات متعددة تدعو الإمام اللاحق للإستشهاد بكلام المعصوم السابق.

أولاً: الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يغير الإطار العام في العبادة، فعندما يقال مثلاً لإنسان بأنه عابد متعبد فإنه سوف يتباذر إلى ذهننا بانه كثير العبادة قائم ليله وصائم نهاره وعامل بالمستحبات، لكن أمير المؤمنين عليه السلام يغير هذا الإطار ويبين أن العبادة المثلى والقصوى ليست هكذا فيقول: ما عُبِد الله بشيء أفضل من العقل، لأن العقل هو الذي يرشدك إلى حقيقة من تعبد، فأحياناً نرى إنساناً يعبد إلهاً فترة من الزمان لا تنطبق عليه الصفات الحقيقية لله عز وجل فيكون كثير العبادة والقيام ولكنه ضعيف في موضوع التعقل، فالمعرفة لله هي كل شيء وهي أصل الدين ولذلك جاء في كلام أمير المؤمنين عليه السلام وينقله الإمام الرضا عليه السلام وغيره من الأئمة أيضاً: (أول الدين معرفة الله)، فندما يقول الإنسان أشهد ألا إله إلا الله فإن هذه هي البداية والخطوة الأولى لمعرفة الله عز وجل، فإذا كان الإنسان لا يعرف الله سبحانه وتعالى كما ينبغي فإنه سوف يعبد شخصاً آخر وذاتاً أخرى، فسبب انحراف البشر ليس قلة العبادة وإنما عدم معرفة الله الذي ينبغي أن يُعبَد.

لذلك نجد المسيح الرهبان مع أنهم كثيرو العبادة وربما كثيرو الصيام أيضاً إلا أنهم أشركوا عيسى بن مريم وأشركوا معه روح القدس والعذراء، فنجدهم يصلون ويعبدون لكن لمجموعة أشخاص ليس بينهم الله الحقيقي، وكذلك بالنسبة إلى اليهود وأيضاً كفار قريش الذين كانوا يطوفون حول الكعبة ولكنهم يعبدون الأوثان مع علمهم بوجود الله، كما جاء في القرآن: ((ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)).

يقول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: ما من شيء عُبِد الله به أفضل من العقل، فكيف نستطيع أن نشخص إنساناً بأن عنده عقل؟، فالعقل ليس عضواً مجسداً وإنما يستدل عليه من خلال مجموعة من سلوكيات الإنسان التي من خلالها نقول أن هذا الإنسان تام العقل، فيقول أمير المؤمنين عليه السلام: (وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى، الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان)، نلاحظ هنا التقابل بين مأمون ومأمون وأن الفرق بينهما هو فقط حرف واحد وهو اللام والنون وهذا يعد من البلاغة في الكلام.

فالإمام عليه السلام يبين لنا بأن الكفر له أنحاء متعددة وكثيرة، فالمعنى الأول للكفر هو جحود الله وعدم الإيمان به، والكفر هو بمعنى التغطية ولذلك جاءت كلمة الكفارة، فالكفارة تكفر الذنب أي تغطيه، وأصله في اللغة هو الفلاح فيقال له كافر لأن يغطي البذرة بالتراب ويسقيها حتى تنمو، فجحود الله سبحانه وتعالى هو نوع تغطية لهذه الحقيقة أو تغطية العقل عن الوصول إليها. 

المعنى الثاني: جحود النعمة وهو كفر عملي كما ورد في الآية المباركة: ((ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)) فالكفر هنا ليس من كفر بالله عقيدةً وإنما من جحد نعمته عليه.

إذاً أول خصلة لتمامية العقل هي أن يكون الكفر والشر منه مأمونان والرشد والخير منه مأمولان، فلأنه إنسان عاقل نجده لا يمنع عقله من الوصول إلى الحقائق وبالتالي فإنه يصل إلى الحقيقة الأولى في الكون وهي حقيقة الله عز وجل فنأمن من أن يكون كافراً، ولذلك نعتقد بأن من لا يعتقد بالله عز وجل ليس عاقلاً وإن كان عالماً في شتى المجالات، فالإنسان العاقل نأمن شره أيضاً لأن الشر ليس متوقعاً منه لأنه لو حكَّم عقله في تلك اللحظة لرأى أن إيصال الشر على غيره هو أمر على خلاف ما يريد العقل، فإذا كان التوقع من شخص هو الشر اللفظي أو العملي فهذا يعني أن هذا الشخص ليس بعاقل، والعاقل أيضاً هو من يفعل أموراً ضمن إطار الرشد أي أنه إن لم يعجبه كلام ما او أمراً ما فلن يتعدى على من قاله أو فعله بالضرب أو الشتم وأقصى ما يمكنه فعله هو الإبتعاد عن هذا الشيء الذي لا يعجبه.

الخصلة الثانية لتمامية العقل هي أن يكون فضل ماله مبذول وفضل قوله مكفوف، فالفضل في الأشياء هو الزيادة، كأن نقول: شربت الماء وبقيت فضلة، ومن هنا يأتي الفضل وهو كصفة وخصلة للإنسان فنقول أن هذا إنسان فاضل عنده فضل، ويعني أنه يملك أكثر من الحد العادي الذي يملكه سائر الناس من العلم أو الأخلاق وغيرها، فالإمام عليه السلام يقول ان هناك فضلان: فضل المال وفضل الكلام، ففضل المال هو بعدما يقوم بالأمور الواجبة عليه في ماله كالخمس والزكاة يستخدم الزائد منه في التصدق والإنفاق على الرحم أو المساهمة في المشاريع الخيرية، فهذا يعتبر فضل فوق الواجب، وهذا يعتبر من أمارات فضل الإنسان لأنه بين أن ينفق فضل ماله على مزيد من الكماليات كشراء سيارات جديدة وملابس جديدة وليس في ذلك مشكلة، لكنه كإنسان عاقل لا يهتم بهذه الأمور كثيراً وإنما يقوم بإنفاق فضل ماله في موضع سيعود عليه بأرباح كثيرة كما قال تعالى: ((مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة))، مثلاً لو قام شخص بشراء ثوباً بقيمة 100 ريال وبعد سنة أصبح هذا الثوب لا يُتَجَمَل به فأصبحت قيمته عشرين ريالاً وقام بالتصدق به فهنا يكون قد تصدق بعشرين ريال، لكنه لو أنفق هذه المئة في الصدقة بدلاً من شراء الثوب فإنها ستتضاعف إلى 700ريالاً، فيجد هنا أن فضل ماله مبذول أي باقي له ليستعين به.

كذلك فضل قول الإنسان العاقل مكفوف، وهذه حقيقة لو أن الإنسان عمل بها في حياته لوقي من المشاكل ولحاز على محبة الناس لأن فضل القول مزعج ومتعب وغير حسن، فالجملة التي تستطيع ان تقولها بثلاث عبارات لا تجعلها عشرين عبارة، فمن كثر لغطه كثر غلطه

 

 

مرات العرض: 3407
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 27857.13 KB
تشغيل:

ادمان التشكيك كيف نتعامل معه ؟
عملي قليل وإن كثر وعملك كثير وإن قل 16