الامام علي عليه السلام والقاسطون
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 21/9/1430 هـ
تعريف:

الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والقاسطون

تحرير الفاضلة أفراح البراهيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبا القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

قال سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عليه السلام ( فلمّا قمت بالأمر نكثت طائفة وقسطت أخرى ومرق آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا قول الله عز وجل ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادًا ) 1 بلى لقد سمعوها و وعوها لكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زخرفها وزبرجها )2

صنّف أمير المؤمنين عليه السلام الفئات التي بغت عليه وحاربته إلى ثلاثة أصناف: 

1/ الناكثون وهم أصحاب حرب الجمل بايعوا الإمام ثم نكثوا بيعتهم.

2/ القاسطون أي الظالمون الجائرون وهم أصحاب الشام بقيادة معاوية.

3/ المارقون وهم فئة الخوارج.

تحدّثنا عن تطور الصراع بين الناكثين وبين أمير المؤمنين عليه السلام ، وفي هذه الليلة نتحدّث عن القاسطين ، والقاسطون جمع قاسط وهو الجائر والظالم ، بالرغم من أنّ القسط هو العدل ، ولكنّ معناها في الفعل ( قَسَطَ ) أي ظلم فهو ظالم ، أما أقسط فهو مقسط أي عادل ومنصف ، وقد ورد كلا التعبيرين في القرآن الكريم ، وحول المعنى الأول  بمعنى الظلم قال تعالى ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا )3

و حول المعنى الثاني قال تعالى ( وأقسطوا إنّ الله يحب المقسطين )4 بمعنى اعدلوا وانصفوا لأنّ الله يحب المنصفين.

وقال  تعالى ( هو أقسط عند الله )5 بمعنى أكثر عدلًا و إنصافًا

القاسطون هنا أصبح تعبيرًا عن الجور والظلم ، وإشارة الإمام لهم بهذه المعنى تحدّد موقفه منهم ، فكيف بدأت المشكلة مع هؤلاء؟

الشام كانت بلدة منذ فتحت وليّ عليها معاوية من قبل الخليفة الثاني ، و بقت مقاطعة محصورة لبني أمية ، ومع وفاة الخليفة الثاني و مجىء الخليفة الثالث أقرّ ولاية معاوية على الشام وأبقاه فيها ، وعندما تولى أمير المؤمنين الخلافة بدأ بتغيير الولاة وكان منهم معاوية الذي أرسل إليه خطاب العزل ، لكنّ معاوية  كان يخطّط لأن يستحوذ على أكثر من ولاية ، فبدأ يخطّط  لذلك ،  فمن ناحية  أرسل للزبير وإلى طلحة رسالة تفيد أنّهما يقبلهما بأمرة المؤمنين وقد طوّع لهما الشام ، ومن ناحية أخرى أرسل إلى عبدالله بن عمر ليستثيره و ويقول له بأنك مؤهل للخلافة  حيث أنك صحابي  و ابن صحابي وابن الخليفة الثاني ، وأرسل كذلك لسعد بن أبي وقاص بنفس هذا المضمون ، وكذلك لعمر بن العاص يستحثه للمطالبة بدم عثمان بحجة أنّه قتل مظلومًا ويجب الأخذ بحقه ويجب تغيير المنكر ، فأرسل له عارفًا بنواياه يطلب منه أن يكون شريكًا ، وتشاور ابن العاص مع ابنيه في ذلك فأشار الأول عليه بالابتعاد عن الأمر لأنه فتنة ، أما الآخر فقال له بأنها فرصة لا تعوض و بها سيحقق حلمه في حكم مصر و طلب منه أن يشترط على معاوية أن يمكنه من حكم مصر ، قال فيما بعد أنّ عبدالله أشار عليّ فيما فيه صلاح آخرتي ، وأنّ محمد أشار عليّ فيما فيه صلاح  دنياي ، وعمل بمشورة ابنه الأصغر والتحق بمعاوية ، ووصل لبلاد الشام ووقف عند المسجد ينعى عثمان ويؤبنه ويستثير الناس بكلامه ، والبعض ممن قدم من المدينة جاؤوا بقميص زعموا أنه قميص الخليفة الثالث لاستثارة الناس واستعطافهم وتحريك مشاعرهم عند رؤية القميص ، ومنذ ذلك الوقت إلى سنة ونصف تمّ تبادل اثنى عشر رسالة بين أمير المؤمنين ومعاوية ، وهذه الرسائل تحتاج لحديث مفصل حول المحاور التي تحدّثا فيها ، ومن بعض تلك المحاور:

1/ إصرار معاوية على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو قاتل عثمان بل حامي قتلته لأنهم موجودون عنده .

2/ يجب تسليم قتلة عثمان له حتى يقتص منهم .

3/ الخلافة يجب أن تكون شورى بين المسلمين ، حيث أنه يعتبر عليًا ليس من خيار صحابة رسول الله فلديه الكثير من الأعداء ، بل أنّه كان يحسد الخليفة الأول والثاني.

أما الإمام فكانت محاور رسائله تدور حول أفضليته وسابقيته في الإسلام وأنّ أهل البيت هم أهل رسول الله ، وكان ينكر أشدّ الإنكار أن يكون له يد في قتل الخليفة الثالث ، أما بشأن المطالبة بدمه فهو ليس من شأن معاوية بل من حق أولياء الدم .  

هذه الرسائل لم تنته إلى نتيجة معينة فلم يرجع معاوية عن رأيه وينصاع لأوامر السلطة الشرعية ، لذا لابدّ من المواجهة ، فبعد أن انتهى أمير المؤمنين من مواجهة أهل الجمل بدأ يستعد لمواجهة معاوية ، لكنّ الأخير استبق الأمر وذهب إلى صفين وسيطر على نهر الفرات وحاصره بجنوده ، فلما وصل أمير المؤمنين إلى النهر مع جنوده وصلوا عطاشى ومنعوهم ورود الماء ، فأرسل عليه السلام بعض الوفود ليسمحوا لهم بشرب الماء ، لكنهم رفضوا ، فأمر الإمام جنده بالهجوم عليهم وإزالتهم عن نهر الفرات وشربوا وسيطروا على النهر ، ثم إنّ البعض قال من أصحاب الإمام نمنعهم الماء لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام رفض ذلك و قال لهم لا يجوز المعاملة بالمثل ، فسمحوا لهم بالشرب ، وكان عليه السلام حريصًا على عدم حدوث القتال بينهم ، حتى طال الأمر واستمر إلى شهر  كامل ، لأنه يعلم أنّ كلا الجيشين قويان وإن احتدم القتال بينهما فستراق كثير من الدماء وأمير المؤمنين عليه السلام لا يرتضي ذلك ، فبدأ كل يوم ينزل إلى الميدان ويخطب فيهم ، أو يرسل عبدالله بن العباس ويخطب فيهم ، لكن أمراء الجيش خافوا من تأثير هذه الخطابات على الجيش فأمروا بدق الطبول وإحداث الضوضاء عندما يبدأ الخطاب معهم  ، بل كانوا يرشقون الخاطب فيهم بالسهام ، فبدأ القتال  خفيفًا ، و بعد ذلك أمير المؤمنين  قدّم اقتراحًا لمعاوية بالنزول إلى قتاله وأيّهم قتل الآخر فالأمر له  والحكم له ، فقام معاوية باستشارة عمرو بن العاص فاستحسن رأي الإمام ، فقال له ماغششتني إلا هذه المرة ، والله لا يبرز إلى علي أحد إلا وسقى الأرض من دمه ،  فقال له أنت لست بالهيّن فأنت رجل شجاع  وتستطيع قتل علي بن أبي طالب ، مع أنّه ذكر له موقف أثناء القتال وقد تواجه مع الإمام ففرّ منه هاربًا ، والكثير من أمثاله كعقبة بن مسرف الفهري الذي هاجم المدينة برز للإمام لكنه لم يواجه الإمام وهرب منه. 


 الإمام كان يريد قدر الإمكان أن لا يكون هناك قتال بين الطرفين ، لكنّ الطرف الثاني  أصرّ على القتال حتى اشتدّ القتال بين الطرفين وبلغ الحد به أنّه كان في  بعض الأيام يستمر  إلى الليل ، وفي ليلة الهرير استمر القتال إلى هزيع الليل حيث كان الناس يعرفون موقع أمير المؤمنين من خلال تكبيراته مع كل ضربة ، وفي الأيام الأخيرة حاول أمير المؤمنين تغيير بعض المراكز العسكرية وأعطى القيادة لمالك الأشتر و قدّم قبيلتان هما الأكثر ولاءً وإخلاصًا وهما همدان من اليمن  وربيعة وبكر بن وائل أسلاف هذه المنطقة وكان بينهما تنافس حول الولاء  والفداء لعلي بن أبي طالب عليه السلام ، حيث قال فيهم (  أنتم رمحي ودرعي وأعز حي من العرب في نفسي )6

فكانتا كلاهما تقاتلان بقوة وكفاءة وشجاعة ، ولعلّ البعض ممن يجد في نفسه الولاء والإخلاص ربما ينحدر من نسل هؤلاء الذي يقاتلون بحماس.

وعلى أثر  هذا التغيير سيطر على ميمنة وميسرة الجيش الأموي ، أما القلب فقد سيطر عليه مالك الأشتر حتى لاحت بوادر الهزيمة عندهم ، فلجأ معاوية لعمرو بن العاص ليخرج من هذا المأزق فقال له مر بأن يرفعوا المصاحف على الرماح ، بعض أصحاب الإمام عليه السلام كانوا ذو بصيرة ودراية أمثال عمار بن ياسر الذي كان يقول ( لو هزمونا وبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحق ) 7 ، ولديه من الأصحاب ما لديهم من أثر السجود ما يملأ جباههم ولكن بدون بصيرة ووعي ، لذا ترى أنّ العبادة أحيانًا إذا لم يرافقها الوعي والبصيرة فمن الممكن أن تتحوّل لشيء سيء ، فتلك قطام التي حرّضت عبدالرحمن بن ملجم على قتل أمير المؤمنين عليه السلام كانت معتكفة عندما جاء إليها عبدالرحمن فلم ينفعها اعتكافها و قد أقدمت على قتل إمام زمانها ، والآن لدينا من هؤلاء الكثير ممّن يحفظ الآيات ويكثر الصلوات وبالمقابل تراه يقتل الأبرياء في نهار شهر رمضان ذلك لأنّ عبادته بلا بصيرة ومعرفة .

إذن الإمام أمير المؤمنين لديه أصناف مختلفة من الجند فلما رفعت المصاحف على الرماح والرقع المكتوب فيها القرآن ، عندئذ تحرّك أهل القداسة المزيّفة والبصيرة العمياء و أشاروا على الإمام بإيقاف الحرب بحجة أنّ معاوية يدعوه لكتاب الله  ويجب الاحتكام للقرآن  وترك الحرب وسماع حجة الطرف الآخر ، لكنّ الإمام قال لهم بأنّ هؤلاء لا يعرفون القرآن ولا يعرفون أحكامه ولا يطبّقونها ، فأصرّوا على إيقاف الحرب واعتبروا أنّ عدم إيقاف الحرب هو  مقاتلة للقرآن ويجب مقاتلته ، حتى بلغ هؤلاء أكثر من مئتي مقاتل شهروا سيوفهم في وجه الإمام ، كأمثال عبدالرحمن بن ملجم  ، فوقف الإمام عن القتال ، وكان مالك الأشتر يقاتل في الجهة الأخرى فأرسل إليه أنّ الفتنة قد أطلعت قرنها فعد ، فقال للرسول : أمهلني فواق ناقة ، فردّ عليه  الرسول بأنّ  الإمام قد يقتل إذ أنهم شهروا سيفهم ، فرجع مالك الأشتر حزينًا مضطربًا .

العجيب أنّ هؤلاء صدق عليهم كلام رسول الله حين قال لعمار ( آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن وتقتلك الفئة الباغية ) 8 ، فقد قتل عمار بن ياسر على يد أحد جنود معاوية وهو أبو العادية الفزاري  ، حيث جرح وطلب ليشرب فجىء له بلبن وقال صدق رسول الله ( آخر  شرابك .. ) ، فحدث خلل في جيش معاوية وحاولوا أن يغيرّوا الحقيقة فقال عمر بن العاص لسنا نحن من قتل عمار إنّما قتله علي بن أبي طالب فهو الذي أخرجه للقتال ، فقال أمير المؤمنين لمن حوله إذن رسول الله هو من قتل حمزة فهو من أخرجه وليس الكفار ، هكذا كانوا يحرفوّن الحقائق.

بعد أن توقّف القتال اتفقوا على تعيين مندوب من كل طرف للتفاهم على نقاط الخلاف و من ثم  الاجتماع بعد ستة أشهر في دومة الجندل ، وقد عيّن جيش الشام عمر بن العاص وهو رجل داهية كثير المكر والحيلة ، أما أمير المؤمنين فأراد أن يعيّن عبدالله بن العباس ، لكن الفئة التي لا تملك المعرفة والبصيرة ومنهم الأشعث بن قيس قالوا لا يحكم في مصائرنا مضريان فطلبوا منه أن يعين مندوبًا من اليمن ، ومن هنا نشأت العصبية القبلية فقالوا لأن يحكم فينا يمني بما نكره خير لأن يحكم فينا مضري بما نحب  ، فطلبوا تعيين أبو موسى الأشعري الذي كان موقفه سلبيًا من الإمام منذ قضية الجمل حيث كان يتخاذل  ويخاذل غيره، فذهب إلى عمر بن العاص وتباحث معه واتفقوا على أن يأتيا بعد ستة أشهر في دومة الجندل ، فاجتمع به عمر وقال أنّ المشكلة تكمن في علي ومعاوية وأنت لست بأقل منهما  فلماذا نحتكم إليهما فما رأيك أن تخلع صاحبك علي وأنا أخلع صاحبي معاوية ونقول للناس الأمر شورى وقد يقع الاختيار عليك أو على عبدالله بن عمر ، فراقت الفكرة لأبي موسى الأشعري فهو لا يرتضي بالإمام  إمامًا و خليفة ، فاتفقوا على ذلك ، فأشار عبدالله بن العباس على أبي موسى الأشعري أن لا يتحدّث قبل عمر فهو رجل ذو حيلة ، فسكت عنه ، و عند مواجهة الجميع طلب أبو موسى من عمر بن العاص أن يتحدّث  أولاً لكنّه تعذر بأنّ له الأفضلية فهو صاحب رسول الله ومن السابقين للإسلام ولا يجوز أن يتقدّم عليه ، فخرج أبو موسى الأشعري وقال أيها الناس بعد اجتماعنا وجدنا أنّ المشكلة تكمن في علي ومعاوية وقد خلعناهما معّا من الخلافة ، ثم الأمر يكون شورى بينكم ، ثم صعد عمر بن العاص وقال أيها الناس قد سمعتم ما قال أبو موسى وقد خلع صاحبه وأنا أخلع عليًا من الخلافة وأنا أثبت معاوية فيها لأنه صاحب رسول الله  وبدأ يتحدث في فضائله المزعومة ،  فتفاجأ أبو موسى وقال ما على هكذا اتفقنا وقام الخلاف بينما و السب والشتم ، فاختل الوضع و قام الخوارج و عزموا على مقاتلتهم بعد أن وقفوا في وجه أمير المؤمنين من قبل ومنعوه من الاستمرار في القتال بعد رفع المصاحف ، وهكذا انشقّ الخوارج عن الإمام وانتهى بهم الحال إلى الغدر بأمير المؤمنين عليه السلام على يد الملعون عبد الرحمن بن ملجم الذي ضرب إمامنا في فجر هذه الليلة ضربة غدر في محراب صلاته ، بالرغم من عطف الإمام عليه حتى بعد أن ضربه ، فتراه يقول لأولاده ( انظروا إلى أسيركم فأطعموه ممّا تأكلون واسقوه مما تشربون ) 9

كل هذا الحنان والعطف يقابله الغدر و القسوة والإصرار  من هذا الخارجي الذي سمع إحدى بنات الإمام تقول ( إني لأرجو أن لا يكون بأبي بأس ) 

فضحك شامتا ( ابكي إن كنت باكية  والله لقد اشتريت هذا السيف بألف وسممته بألف درهم وضربته ضربة لو قسمت في حي من العرب لكفتهم )10

--------------------------------

1 القرآن الكريم / سورة القصص آية 83

2 الخطبة الشقشقية

3 القرآن الكريم / سورة الجن آية 15

4 القرآن الكريم / سورة الحجرات آية 9

5 القرآن الكريم / سورة الأحزاب آية 5

6 تاريخ الطبري

7 شرح نهج البلاغة ج10 ص104

8 كنز العمال

9 كتاب تاريخ الإمام علي عليه السلام

10 معجم أنصار الحسين عليه السلام


مرات العرض: 3517
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2550) حجم الملف: 100282.38 KB
تشغيل:

الامام عليه عليه السلام والناكثون
البعد العبادي في حياة الإمام علي عليه السلام