25 رؤية في القصص القرآني
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 25/9/1440 هـ
تعريف:

رؤيةٌ في القَصَصِ القُرآنِي

 

كتابة الاخت الفاضلة فاطمة آل السيد

 

قال الله العظيم في كتابه الكريم: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ” صدق اللهُ العليُّ العظيم.

 

حديثُنا بإذن الله تعالي يُقدِمُ رؤيةً موجزةً عن موضوع القصَصِ القرآني أو قصص القرآن.

القصَص في القرآن الكريم تحتلُ مساحةً واسعةً من آياته المباركة، فلو نظر الإنسان إلى عناوينِ السور كمثال، سيجدُ عددًا كبيرًا من هذه العناوين هي عبارة عن إشارة إلى القصص فيها. كسورةِ البقرة، وهي أطولُ سور القرآن، عنوانُها يُشير إلى قصة من القصص التي حدثت في زمان بني إسرائيل وتحدث عنها القرآن الكريم في هذه السورة. أيضاً سورة آل عمران هي عنوانُ هذه الأسرة الذين اصطفاهم الله سبحانه، وفي هذه السورة شيء من الحديث عن تاريخ المصطفين منها.

وهكذا بالنسبةِ إلى سائِر السور كيُونس وهُود، التي تجدُ في استعراض سريعٍ لعناوينها أن هذه العناوين ترتبطُ بقصصٍ وقضايا إما تحتلُ كامل السورة كما هو الحال في سورة يوسف، التي ذكرت مرة واحدة في القرآن لكنها أخذت مساحةَ سورةٍ كاملة من بدايتها لنهايتها. وأحيانا قد تكون قصة متكررة في سور متعددة ومن زوايا مختلفة، كما هو الحال في قصة نبي الله أدم وخلق البشرية وموضوع إباء ابليس السجود لآدم، نجد أن هذه الأحداث تكررت في سور متعددة.

 وكذلك قصص بني إسرائيل، وقصص نبي الله موسى وما جرى من المواجهة بينه وبين فرعون فإنها تكررت في سور متعددة، تارةً بشكلٍ مختصر وتارةً بشيءٍ من التفصيل. المهم هنا هو أنّ قصص القرآن تحتلُ قسمًا كبيرًا وواسعًا من مساحة القرآن الكريم حتى وردَ في بعضِ أخبار المعصومين في تفسير أن القرآن على سبعة أحرف أو سبعة بطون وما شابه ذلك، القصص القرآني عُد واحدًا من هذه الأحرف.

هذا يدعو الإنسان إلى أن يُلقِي بنظرةٍ على هذه القصص باعتبار أنها تشكلُ قسمًا كبيرًا من آيات القرآن الكريم.

 نجدُ أيضًا أن قضية القصة في القرآن الكريم أصبحت مدخلا لبعض المستشرقين المُعادين للقرآن والإسلام لكي يزعموا بأن هذه القصص فيها علاماتٌ تدلُ على أن القرآن ليس من الله وإنما عبارة عن استعارة من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل ثم نُقلت إلى القرآن، وبالتالي - بحسب زعمهم- يدلُ هذا على أن هذه الآيات لم تنزل من السماء. هذا أيضا يدعو الإنسان لأن يُلاحظ ويُراقب هذا الموضوع.

بشكلٍ عام يُمكن القول أن قصص القرآن تختلفُ عن سائر القصص بمُميزاتٍ تُميزُها عن غيرها من الحكايا، وهذا ما لم ينتبه لهُ الغربيون، وحتى لو التفتوا إليه فإنهم لم يُركزوا عليه.

القصة في القرآن لها ميزات لا توجد في القصص البشرية، ولها أهداف لا توجد بالضرورة في القصص الأخرى، ولها نمط خاصٌ بها أيضًا.

 

مُميزات قصص القرآن الكريم:

الميزة الأولى من هذه الميزات هو كونها حقا وصدقًا، لا يتطرق إليها الكذب أو المبالغة أو حتى ما يُسمى بلسان الحال. ما يقُصُه القرآن هو ما حصل فعلا، ونحن نعتقد بهذا الأمر لأن الذي تكلم عن هذه القصص هو خالقُ شخصياتها.

الله سبحانه حين خلق آدم (ع) كان أقرب إليه من حبل الوريد، وكان أخبرَ بهِ من نفسه، فلا بد أنه لو تكلم عنه فسيقولُ الحق، ولذلك وصف الله القصص في القرآن بالقول “إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ” . إذا كان عند الغير باطلٌ ومبالغاتٌ وإغفالٌ أو خطأ في بعض الأمور فإن هذه القصص في القرآن هي القول الحق “وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا” وفي آيةٍٍ أخرى “وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا” فهل يمكن أن يكون هناك أحدٌ من غير الله أصدقُ من الله عز وجل؟ هذا لا يمكن. لأنه عندما كان آدم طينا وترابا فإنه لم يكن هناك خلق أصلا حتى يأتي ويقص.

 فإذا كان هناك طرفٌ سوف يتحدث عن تلك المرحلة فهو الخالق، لا آدم ولا غيره يستطيع أن يقول بأنهُ خُلق بهذه الطريقة، الوحيد الذي يستطيع أن يقص الحق هو الله سبحانه وقد فعل ذلك وقدمهُ للإنسان “إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ”.

 لماذا نؤكد على هذا الكلام؟

 السبب الأول أن القصة كلما اقتربت من الحقيقة والدقة فإن مُتعتها وجاذبيتها تذهب، لو أراد أحد أن يقص قصة ويلتزم تمامًا بما حصل بدون تفخيمٍ أو مبالغةٍ أو صناعةِ سيناريو فإن القصة تصبح مملة. متى يكون في القصة جاذبية ؟ حين يكونُ فيها سيناريو بديع وتفاصيل ليست موجودة بالضرورة، وكلما كانت القصة فيها إبهار وجاذبية ومتعة فإن القاص يبتعد فيها عن الدقة والمصداقية.

مثالٌ على ذلك نراه الآن، لو أحدهم أراد أن يعرف بدقةٍ ما حصل لنبي الله يوسف، قد يُجاب بمثل ما قالهُ البعض “يوسف فد ولد ضاع ولقوه” هذا إذا تقيدت بالضبط بما جرى وحصل، ولكن إذا لم تتقيد بما حدث بدقة، وأعطيت بعض التفاصيل للقصة، سيتكونُ لديك فيلمٌ من ثلاثين أو ستين حلقة. مثلما رأيناه في مسلسل النبي يوسف، قسمٌ من الناس يسأل هل ما جرى في المسلسل من حوارٍ وحديثٍ بين الأطراف كلُهُ صحيح؟ فنقول لا، ليس كلُ هذا حدث وإنما هذا ما كتبهُ كاتب السيناريو حتى يُعطي القصة بعض التفاصيل والتشويق. وهذا ما يُميز هؤلاء الكتاب ويجعلهم يبرعون أكثر من غيرهم، ولكن كل ما أعطى الكاتب القصة إبهار وتشويق وإثارة وحبكة، كلما كانت القصة ذات جاذبية أكبر. ولهذا نرى في مسابقات الأفلام أن الأفلام الفائِزة يرجع فوزها أولًا إلى الحبكة وكتابة السيناريو، بعدا يأتي التمثيل والإتقان والأمور الفنية.

 إذن كُلما اقتربت القصة إلى الواقعية والدقة والصدق فإنها تكون أقل إثارة ومتعة وإعجاب وإبهار، لكننا لا نجد هذا في القرآن الكريم. فنحن نقرأ سورة يوسف ونُعجب بها، نقرأها مرة أخرى ونزدادُ إعجابًا وهكذا، جاذبيتها لا تَقِل لدينا، أيضًا قصة آدم وقصة بني إسرائِيل، مع أنها هذه القصص ملتزمة بالدقة والصدق.

نحنُ عندما نقرأُ القرآن لا نستشعر الملل أو السأم، مع أننا نقرأه عدةَ مرات، أو مئات المرات في حياتنا، إلا أن جاذبيتَهُ لا تقِل، ولا تزال هذه القصص فيها مقدار من التشويق والإعجاب.

 الميزة الثانية التي يُمكن أن يلاحظها الإنسان في قصص القرآن هي هدفيةُ هذه القصص، لو أرادَ الله عز وجل أن يأتي بقصص التاريخ، وهو الُمهيمن على هذا التاريخ والقادر على سردِ هذه القصص بتفاصيلها، فكم سيكون حجم القرآن؟ مئة مجلد؟ مئتان؟ نحن نرى المؤرخين الذين لم يكونوا موجودين ونقلوا بعض ما عرفوا من الأحداث لبعضِ القضايا التاريخية، ومع ذلك نراهم كتبوا مجلداتٍ إلى ما شاء الله بحسب زعمهم من بدء الخليقة إلى زمان نبينا محمد (ص).

فكيف لو أن الله سبحانه أراد أن يتكلم عن القصص التي حدثت منذ آدم إلى زمان رسول الله. سيكونُ حجم القرآن شيءٌ هائل، وسيكون هذا بلا غايةٍ أيضا. فما هي الغاية من أن يعرف الإنسان قصص أقوامٍ سبقوه وهي ليس فيها تأثيرٌ في حاضره، ولا تُضيف علمًا حقيقيا يستفيدُ به، ولا تضيفُ موعظةً في نفسه؟ ما الداعي لأن يعرف الإنسان مثلا أوصاف قصور السلاطين الماضيين؟ مالذي يصنع هذا فينا؟ ربما الشيء الوحيد سيكون الإعجاب بالدنيا وهذا يُخالف ما جاء به القرآن الكريم.

 القرآنُ الكريم ينتقِي القصص، مثلًا في قصة أدم (ع) ينتقي بعض التفاصيل المفيدة مثل الصراع بينه وبين الشيطان حتى يقول لنا لا يخرجنكم الشيطان من حظيرة الإيمان والجنة التي أنت تسكنها في هذه الدنيا بإيمانك، لا يغرنكم الشيطان لأنه هو الغَرور، غَرور على وزن فَعول تعني كثير الخداع، أي لا يخدعنكم الشيطان كما خدع أباكم، يأتيك من طريقٍ لا تتوقعه، الشيطان لا يقول للإنسان اترك الإيمان بشكل مباشر، فإنه لا يأتي الإنسان من الطريق الذي يحذرُ منه، وإنما يأتي بخدعٍ من حيث لا تحذر “يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ” الشيطان يُخطط بالشيء الذي يستطيع أن يصطادَ الإنسان به.

نرى الآن الطيور، بعضُها يأكل التمور والبعض يأكل الحشرات، وبعضها الآخر يأكل اللحوم. لو وضعنا حشراتٍ للطيور آكلة التمور فإنها لا تأكل هذه الحشرات ولا تقترب منها، فكل طير له مصيدة خاصّة. وهكذا الشيطان يصنع للإنسان، ويرى من أين يأتي ويغر هذا الشخص بطريقةٍ مختلفةٍ عن غيره. بعض الناس يأتيهم من باب شهوة المال، غيرهم يأتيهم من باب شهوة الجنس، وهكذا. فالشاهد هنا أن القرآن الكريم انتخب هذه القصة لآدم وركزّ عليها من بين عدة قصص لأهداف معينة.

 بعض المخالفين للقرآن قالوا بأن القرآن فيه تكرار، مثلُ قصةِ موسى نراها مذكورةٌ ٨٠ مرة، وقصة نوح ٢٥ مرة، وغيرها. وقالوا بأن هذا مُمِل ويدلُ على أن القرآن من صُنعِ الإنسان وليس من الله سبحانه. فنقول أولا أن التكرار بالمعنى الحقيقي غيرُ موجودٍ في القرآن الكريم. التكرار يعني أن تأتي بكلمةٍ أو عدةِ كلمات، ثم تأتي بنفسِ الكلمة أو الكلمات مرةً أخرى من دون زيادةٍ أو نُقصان. أما أن تأتي بقصة واحدة مرةً من الجانب الأيمن والثانية من الجانب الأيسر، مرةً من جانبٍ عاطفي، ومرة من جانبٍ وجداني، فهذا لا يُعد تكرارًا، التكرار أن تأتي بنفس الشيء مرةً ثانية من دون معنى أو هدف، وهذا لا نجدهُ أبدًا في القرآن الكريم.

 مثلا في قصة موسى (ع)، نرى أن القرآن يأتي بالقصة مرةً في مواجهة بنو إسرائيل لفرعون، ومرةً بنو إسرائيل في مواجهة خط الانحراف الذي شكله السامري، هنا عنوان القصتين هو بنو إسرائيل ولكن كل قصةٍ تختلف عن الأخرى في تفاصيلها، ومحتواها.

 أحيانا يأتي القرآن بمشهدٍ معين في موضع، ثم يأتي بنفس المشهد في موضعٍ آخر كرفضِ إبليس السجود لآدم، ولكن تارةً يقول “خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ” هنا يُناقش القرآن البواعث الداخلية، وتارةً يقولُ أن الشيطان أبى واستكبر فيقول “قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ” الحدث هو نفسه ولكن زاوية النظر تختلف.

 ولذلك القرآن هو مُنتقى، ينتقيه الله سبحانه ليعظَ الناس بواسطته، ولذلك في بعض المواضع يكتفي بذكر القصة مرةً واحدة ولا يأتي بها مرةً أخرى. مثل قصة الخضر مع نبي الله موسى (ع) يُرادُ بها أن لا ينظر الإنسان للأشياء بحسب ظواهرها وإنما عليهِ النظر إلى أبعادها وفلسفتها وما وراءها، وصل الدرسً هنا من خلال هذه الآيات، ولذلك لم تُذكر القصة مرةً أخرى.

 أيضا قصةَ قابيل وهابيل حين قدم أحدهما قُربانًا فتُقُبِل منه ولم يُتقبل من الآخر، الدرس فيها وصل مباشرة من الآيات، ولكن بعض قضايا الأمة ككُل نحتاجُ لها باستمرار، وتخوضُ الأمم فيها نفس الخوض كما ورد عن النبي (ص) “لتِسلُكُنّ سننَ من قَبلِكُم حَذوَ القِذَةِ بالقِذَة حتى لو دخلوا جُحرَ ضب لدخلتموه”.

هنا ما دام الأمة كُلها ستسلك هذا الطريق فإنها تحتاجُ إلى تذكيرٍ دائم وتحتاج إلى إشارات، وهذا نراهُ في قصص بنو إسرائيل وما حصل معهم حتى انحرفوا هذا الإنحراف. فبعدما كانوا موحدين عبدوا العجل، وبعد ماكانوا مطيعين للنبي صاروا متآمرين على هارون، وبعدما كانوا مهتدين صاروا ضالين في صحراء سيناء.

 ولأن هذا سيحصل لهذه الأمة احتاج القرآن الكريم أن يُفصّل هذه الأحداث في أكثر من موضع بأكثر من صورة في أكثر من سورة. فالإنسان هنا يحتاج للتذكير المستمر. وهذه من مميزات القصص القرآني أنهُ قصصٌ هادف.

 الميزة الثالثة هي تعدُد أساليب التأثير في القصة القرآنية. القصص البشرية من الغالب أن ينتهج القاص والروائي فيها منهجًا معينًا من أولها لآخرها. ونرى أن القصص نادرًا ما تكونُ مُحايدة، وإنما القصة هي تعبير عن أفكار وآراء، غاية الأمر أن كاتب لقصة يُجري هذه الأفكار على لسان أبطالها، فالكثير من القصص والروايات لا واقعية لها في الخارج، الروايات العالمية المشهورة ليس لها حقائق خارجية وإنما هي في الغالب نحتٌ وتكوينٌ وتأليفٌ من قبل نفس القاص فيُشكل له مجموعة من الأبطال، ويُشكل له بيئة يتحركون فيها وأحداث، ثم يُجري على ألسنتهم أفكاره أو جزءًا من أفكاره. ولذلك نستطيع أن نعرف أفكار زيدٍ من الناس من خلال روايته.

والغالب هكذا أنهم يصنعون هذه الروايات بشخصياتٍ مُختَلَقَة وأحداثٍ مُختَلَقَة من أجل التعبير عن أفكارهم.

القرآن الكريم هذا فيه محذور، فالشخصيات والأحداث كُلها حق “إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ”، الكلام الذي يدور بين الشخصيات أيضًا حقيقي وليس فيه زيادةٌ أو نقيصة. لذلك القرآن يستعينُ أحيانا في أثناء القصة فلا يجعلها سردٌ بالكامل، وإنما يقفُ وقفاتٍ لكي يُركز المفاهيم ولكي ينقُلَ لقارئ القرآن بعض الأفكار. وهذا يكون إما في بداية القصة فيُعطي ملخصا عنها، أو في نهايتها.

كمثال هذه الآيات في آخر سورة يُوسف بعد أن انتهت القصة بأن نبي الله يوسف رفع أبويه على العرش وأُسدِلَ الستار - بحسب التعبير - على هذه القصة، طبعا استمرت بعدها حياة النبي يوسف (ع) ولكن هذا المقدار هو الذي انتُخب لكي يُقدم إلى الناس. منذ أن سقط في البئر إلى أن أصبحَ سلطان مصر وما حولها، ومُنقذ الاقتصاد من القحط، وأيضا الشخص الذي هدم الوثنية وجاء بالتوحيد.

في نهاية القصة يقول الله “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي” لاحظوا هنا في الحديث في فنيات القصة يقولون لا بد أن تكون نهايةُ القصة مشوقة وجاذبة، ونرى أن النهاية في قصة يوسف أتت بأسلوبٍ مشوقٍ وجاذبٍ بالفعل.

 بعدها يُخاطب الله وجدان الناس، يوسُف كان في بئر، وكل الظروف كانت تقتضي أن تنتهي حياتُه في ذلك البئر، الآن ليس فقط لم يمت وإنما أصبح السيدُ الرئيس، وأصبح مُؤسسُ التوحيد في ذلك المكان وكل الناس خاضعةٌ له. يُوسف (ع) هنا لم يستكبر أو يشمخ بأنفه، ولم يقُل حققت كذا وكذا أو ما شابه ذلك، وإنما قال “رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ” أي أنهُ لم ينسى ذلكَ اليوم حين كان في قعرِ البئر حيثُ الظلمة وخوف الغرق ولا طريق للخروج، يوسف (ع) يقول في ذاك الوقت كنتَ يا رب وليٌ لي، والآن أنت أيضا وليٌ لي وأنا في هذا العز. فلنأخذ النبي يوسف عظةً لنا ولا نكون لا سمح الله كمثل من يركب الفلك وتهب عليه العاصفة فيستغيثُ بالله سبحانه، وفي الحال الرخاء لا يذكره.

بعدها يقول القرآن “ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ” أي أن القرآن لا يأتي بكل أنباء الغيب وإنما يأتي بما فيه فائدةٌ ونصيحة، إلى أن يقول “حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ” أي أنهُ إذا رأيت كل الطرق مسدودة والأمور غير مُيسرة فلا تيأس، اعلم أن هناك ربٌ ينظر إليك وهو قادرٌ على تغيير الأمور وعلى أن يقول للشيء كُن فيكون.

 ثم يقول تعالى “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” يتجلى هنا الجانب الوعظي في القرآن الكريم.

 أحيانا يأتي القرآن بجانبٍ علمي، وأحيانا يأتي بمناقشاتٍ عقائدية، ولكنه لا يغفلُ عن الجانب الوعظي، فإن الموعظةَ هي التي ترقُ بها القلوب، وهي التي تهدف لها القصة.

 فالموعظة نحتاج إليها، “هلك من ليس له حكيم يُرشده” فيجب أن لا ننفر منها، الله سبحانه هو أول من يُمارس الموعظة “يَعِظُكُم بِهِ” وهذا عملُ الله. القرآن نفسه وُصف بأنه “جاءكم في هذه موعظة” عن طريق النبي (ص).

 يذكرون في أحوال العلماء أن أحد الخطباء - الشيخ الخراساني - هو ليس بمرجع ولكن يجلس تحت منبره مراجع ويعظهم، يعظهم بالتقوى، العمل الصالح، تَذَكُر الآخرة وغيرها، الإنسان يحتاج إلى الموعظة، وإن لم تجد من يعظُك ابحث لك عن كتاب مواعظٍ تتعظُ به، أو اقرأ وصية الرسول (ص) لأبي ذر فكُلها مواعظ عميقة المعنى.

أيضا مواعظ أمير المؤمنين والإمام الحسن، فكم تفعل المواعظ البالغة في أهلها، هذه من خطبة المتقين لأمير المؤمنين (ع) التي وعظ بها همّام فما وصل لآخرها إلا وشهق شهقةً ووقع على الأرض فقال الإمام (ع) “هكذا تفعل المواعظُ البالغةُ في أهلها”. فالموعظة قد تُغير مسار الإنسان كُله كالحر ابن يزيد الرياحي فخطابات الإمام الحسين (ع) كان لهُ الأثر البالغ فيه، فأصبح يرتعدُ من خطاب الإمام وهو مُقاتل وبطل الأبطال لأنهُ كان يُخيّر نفسه بين الجنة والنار. لو جعلنا هذا شعارًا لنا عند الإقدام على كُل عمل نُقدم عليه لعاش الإنسان شهيدًا على وجه هذه الأرض.      

مرات العرض: 3422
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2558) حجم الملف: 68115.78 KB
تشغيل:

24 آيات تنسب المعصية للأنبياء .. كيف تفسر؟
26 القرآن مكي ومدني