12 علم تجويد القرآن في نظريتين متعاكستين
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 12/9/1440 هـ
تعريف:

علم تجويد القرآن في نظريتين متعاكستين12

 

كتابة الاخت الفاضلة أم مهدي المنيان

قال الله العظيم في كتابه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم {يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4)} آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

أصل ومعنى كلمة التجويد:

حديثنا بإذن الله تعالى يتناول موضوع علم تجويد القرآن الكريم بين نظريتين متعاكستين في الاهتمام به والعناية أو عدم ذلك. كلمة التجويد وما يشتق منها لم تأتي في القرآن الكريم ولا في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وآله- ولا حديث المعصومين فيما حصل من التتبع لهذه الكلمة.

نعم، كلمة ترتيل ورتل واردة في القرآن الكريم وأيضاً واردة في سنة المعصومين (ع) وحديثهم. في القرآن في سورة المزمل: }و رتل القرآن ترتيلا{. ترتيل بحسب هذا المعنى لا يرتبط كثيراً ولا يرادف التجويد. ترتيل -بحسب ما ورد في تعريفه أيضاً حتى في روايات المعصومين بالإضافة إلى المعنى اللغوي- هو عبارة عن القراءة التلاوة المتريثة غير العجلة غير السريعة. في بعض النصوص "رتل القرآن و لا تقرأه هذرمة". هذرمة يعني سريع تدخل كلمة في كلمة و حرف في حرف. وفي بعض الأحاديث " إن القرآن لا يقرأ هذرمة ولكن يرتل ترتيلاً. وإذا مررت بآية فيها ذكر النار وقفت وتعوذت بالله من النار" أعاذكم الله وأيانا من نار جهنم. تتأمل في آيات القرآن، تقرأ بهدوء لا تتعجل في الأمر هذا هو الترتيل.

التجويد بحسب المعنى اللغوي جعل الشيء جيداً. أي شيء تجوده يعني تجعله جيداً. طبخه تطبخها بأفضل الأنحاء هذا تجويد لها. عمل من أعمالك تقوم به على أحسن وجوهه هذا تجويد له، يعني جعله جيداً هذا في المعنى اللغوي.

في المعنى الاصطلاحي ذكروا أنه عبارة عن إخراج الحروف من مخارجها التي قررها علماء هذا العلم. وإحسان إخراجها بالالتزام بقوانين هذا العلم و بهذا المعنى هو خاص بالقرآن الكريم. بينما بالمعنى اللغوي ينطبق على كل شيء جعله جيداً.

الموقف من علم التجويد:

علم التجويد، هل ينبغي الاهتمام به، والعناية به، وتعلمه وتعليمه كأحد علوم القرآن الأساسية؟ كما عليه الرأي المعروف في علماء مدرسة الخلفاء، ولعل طيفاً واسعاً أيضاً من علماء أهل البيت أيضاً هو على ذلك، أنه ينبغي الاهتمام به والعناية فيه والصرف عليه تخصيص الأوقات، البرامج، المناهج، المؤسسات في مثل هذا الأمر.

وهناك رأي آخر في عند بعض علماء مدرسة الخلفاء وباحثيهم وهو أيضاً موجود عند قسم من علماء مدرسة أهل البيت-سلام الله عليهم-، أنه أساساً هذا العلم ليس ناشئاً في أحضان الأئمة ولم نعهد منهم اهتماماً كبيراً به فلا ينبغي إعطائه أكثر من حجمه. هذه النظرية الثانية المخالفة للنظرية الأولى.

النظرية المخالفة لعلم التجويد:

فلنبدأ بهذه النظرية الثانية المخالفة للاهتمام والمبالغة في قضية علم التجويد تعلماً وتعليماً وإنفاقاً وكتابتاً وتأليفاً وما شابه ذلك. علام يعتمدون؟

 لعل من أشهر المعاصرين الذين ذكروا هذا بشكل واضح هو فقيه عصره المرجع الديني السيد عبد الأعلى السبزواري -رضوان الله تعالى عليه- من المعاصرين توفي قبل مدة قريبة من الزمان وهو من تلامذة الأعاظم من تلامذة الميرزا الناهيني -رضوان الله عليه- والمحقق العراقي والأصفهاني وغير هؤلاء. ويشار إليه بالقداسة العليا في جهة الورع  والتقدس بالإضافة إلى فقاهته وعلميته. ما طال به العمر بعد جيل الأساتذة الكبار وإلا-لو طال به العمر-لكان  يرجع إليه في التقليد من قبل طائفة  كبيرة من الإمامية. عنده كتب متعددة: عنده من التفسير تفسير بديع مواهب الرحمن في تفسير القرآن، وعنده مهذب الأحكام في الفقه، ومهذب الأحكام كتاب استدلالي نافع جداً جعله شرحاً استدلالياً للعروة الوثقى والموارد المفقودة من العروة الوثقى، شرح الشرائع فيها. مهذب الأحكام معروف عند أهل العلم وطلاب الحوزات.

في ذيل المسألة التي يذكرها السيد اليزدي-صاحب العروة الوثقى-في موضوع القراءة في الجزء السادس من مهذب الأحكام هناك المسألة هكذا (أصل المسألة لصاحب العروة السيد اليزدي يقول فيها "لا يجب أن يعرف-يعني المصلي-مخارج الحروف على طبق ما ذكره علماء التجويد بل يكفي إخراجها وإن لم يلتفت إليها")، ثم بعد ذلك في مواضع متفرقة يمكن تلمس بعض الأدلة التي أقامها على هذه النظرية المخالفة لتشديد الاهتمام بعلم التجويد.

يقول الآن أنت تصلي الضاد لها مخرج عند العرب. لاحظ عندما تنطق حرف معين مبدأه من مكان. عين تختلف عن خاء، وهكذا سائر الحروف كل حرف له مخرج معين. أنا الإنسان العربي لما أجي أصلي هل أحتاج أن أعرف مخارج الحروف؟ يقول لا، لا يلزم. أنت الآن يمكن تفكر في هالموضوع لأول مرة، أنت السامع. أنه ما هو هذا مخرج؟  ومن أين يخرج؟ أنا طول هذه المدة أصلي وأقرأ الفاتحة و السورة قراءة صحيحة من دون أن أفكر أصلاً أن مخرج هذا الحرف يختلف عن مخرج ذلك الحرف، أو أنه لا يختلف. لكنني أقرأ قراءة صحيحة. يقول: ما دمت تقرأ قراءة صحيحة  فلا يجب عليك ولا يلزم أن تعرف مخارج الحروف. وهذا بالنسبة إلى غالبية العرب أمر على السليقة يجري. بل أحياناً لو أردت أن تفكر لا تستطيع أن تتكلم أربع كلمات متسلسلة. فكر مثلاً أنه مخرج الخاء أين والراء على طرف اللسان والجيم من مكان آخر والنون. لا تستطيع أن تجمع جملة واحدة. ولكن على السليقة، أنت تتحدث. والحروف تخرج من مخارجها الطبيعية.

هناك يقول السيد المرحوم السيد السبزواري أننا لا نجد في أخبار وآثار المعصومين أي إشارة إلى علم التجويد مع أنه كان من المسائل الإبتلائية. بل كان بعض الأئمة يعيشون في وسط أعجمي كما هو حال الإمام الرضا مثلاً. تحدث الأئمة في كثير من القضايا في أدق المسائل في مستحبات المستحبات لكن هذا الموضوع مع أنه مسألة ابتلائية-الناس يقرءون القرآن كل يوم: يقرءون القرآن في الصلاة وفي غير الصلاة-ولا نجد أي خبر أو أي أثر من الأئمة في هذا الجانب. فلو كان هذا مهماً لوجدنا بعض الأخبار أو الآثار أنه التجويد هكذا، الحرف الفلاني هكذا، المخرج الفلاني هكذا، أقرأ بهذه الصورة، لا تقرأ بتلك الصورة، التنوين هكذا، الإدغام هكذا، الإظهار هكذا، الإخفاء هكذا، القلقلة هكذا. لا نجد في أيٍ من هذا خبرعن المعصومين -عليهم السلام.

وإنما هو كما ذكر الفيض الكاشاني في مقدمات التفسير -الشيخ محسن الفيض الكاشاني- (من المحدثين الكبار عنده كتاب الوافي في الحديث مفصل جداً مثل الكافي وإن كان في درجة أدنى منه عند العلماء وعنده كتاب تفسير الصافي مفصل جداً وعنده تفسر الأصفى مختصر ومركز، وهو من العلماء الكبار مسلكه محسوب على المسلك الأخباري في الشيعة) حيث يقول في مقدمات التفسير أن علم التجويد نشأ عند مدرسة الخلفاء. وذلك أن الحكام و سلاطين الوقت  لما رأوا علوم القرآن الحقيقية عند أهل البيت -عليهم السلام- وأرادوا صرف وجوه الناس وتوجيههم إلى علماء السلاطين. لذلك صار تأكيد على هذا العلم و تركيز عليه. فمنشأ هذا العلم ليس البيئة الشيعية الإمامية. الأئمة لم يتحدثوا عنه. ليس هناك أخبار في هذا الاتجاه. غرضه هو صرف الناس عن علوم القرآن الحقيقية الموجودة عند الأئمة وتوجيههم بعلم موازي إلى هذا العلم الذي كان عند علماء السلاطين والمنسجمين مع الخلفاء في ذلك الوقت. فإذن منشأه ليس منشأً إمامياً وغايته ليست غاية حسنة أو نبيلة. هذا ينقل عن الفيض الكاشاني.

صاحب الجواهر-رحمه الله- الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب كتاب جواهر الكلام موسوعة من أهم الموسوعات الشيعية في الفقه) يذكر شيء آخر فيقول إن هذا العلم إنما حسب تعبيره قال "إن وسوسة كثير من الناس في الضاد" كيف تنطق الضاد؟ الضاد عند العرب سهله ويسيرة وعلى الطبيعة، لكن إلى غير العربي كيف ينطقها؟ وفي اللغات الأخرى لا يوجد ضاد. فيقال له كيف تنطق الضاد: اجعل لسانك على طرف على أسنانك القواطع من الأعلى  فتجعل لسانك بهذا الشكل لتنطق الضاد.العربي لا يحتاج إلى توجيه اللسان إلى اليمين أو اليسار، فوق الأسنان أو تحتها. فلما كان هناك أناس غير ناطقين بالعربية، قدمت لهم قواعد و طرق. يقول صار وسوسة عند الناس في التفرقة بين الضاد و الظاد. فمن أين نشأت هذه الوسوسة؟ قال الشيخ النجفي أنه من بعض جهال من يدعي المعرفة بالتجويد من بني فارس. فمنشأه منشأ غير عربي. فإذن صار منشأه غير إمامي. ليس في أحضان الأئمة. غايته -بناء على كلام الفيض- غاية غير حسنة.

أكثر من هذا هو ما ينقل عن الإمام الباقر -عليه السلام- في رسالته إلى سعد الخير (سعد الخير هو من بني أميه ولذلك سمي بالخير، وهو سعد الخير ابن عبد العزيز ابن مروان ابن الحكم وكان بحسب ما ورد في أخباره من أصحاب الإمام السجاد والباقر. جاء ذات مرة يبكي إلى الإمام، قال له لم تبكي؟ قال كيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة. فهدأه الإمام، وقال كما قال نبي الله إبراهيم "فمن تبعني فإنه مني". ما دمت تتبعنا فأنت منا وليس من بني أمية. فسمي لذلك بسعد الخير. سيد محسن الأمين العاملي في كتاب أعيان الشيعة قال من خلال الروايات المرويه عنه وأحواله يستظهر جلالته ووثاقته. السيد الخوئي خالف ذلك وقال أن بعض هذه الروايات روايات ضعيفة. لكن كونه ممن لجأ إلى المعصومين -عليهم السلام- خلافاً لآبائة مسَّلم بين علماء الرجال.) في رسالة الإمام الباقر إليه التي يقرع فيها الإمام الخلفاء الأمويين ويعدد مثالبهم قال "و كان من ذلك أنهم ]يعني الخلفاء سلاطين الأمويين[ أقاموا حروف القرآن و حرفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه". كأنما هذا الذي استفاد منه مثل الفيض الكاشاني أنه السلاطين اهتموا بهذا  العلم حتى لا يتوجه الناس إلى العلوم الحقيقية. حيث يركز الناس على أحكام التجويد والغنه والإدغام ومخارج الحروف فلا يلتفتون إلى المعاني والمؤديات والمفاهيم القرآنية.

أكثر من هذا، قال السيد السبزواري في توجيه آخر غير قضية المنشأ والهدف والغاية  قال أن المبالغة في الاهتمام بهذا الموضوع يؤدي إلى سلب الإنسان الخشوع في الصلاة لأن الإنسان متى ما تركز اهتمامه على شيء سلب عن الأشياء الأخرى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه). فإذا كانت همته كلها في كيف تنطق الخاء والراء وهل هذا محل إدغام أو محل إظهار وهل هذا محل إخفاء أو غيره، فيسلب الخشوع من الصلاة. لاسيما مع المبالغة في ذلك. حيث أن البعض يبالغ في حساب (ولا الضالين) مثلا، حيث يحسب طول المد بالأصابع. فإذا صار تفرغ الفرد إلى مثل هذا الأمر، فيحسب ويهندس فمتى يستطيع أن يفكر في مأديات القرآن الكريم ومعانيه لذلك قال الإمام -عليه السلام- في تلك الرسالة إلى سعد الخير أقاموا حروفه و ضيعوا حدوده (معانيه). فهذا أمر سلبي آخر في المبالغة في الإهتمام في قضية علم التجويد.

بالنسبة إلى هذه أمور إذا أحد أحب المراجعة التفصيلية موجود هذا في الجزء السادس من كتاب مهذب الأحكام، وشيء منه في الجزء الثامن من كتاب الحدائق الناظرة للمحدث الفقيه الشيخ يوسف البحراني حيث يذكر مثلاً فيما ينقل أن الإمام علي قال "التجويد أداء الحروف وحفظ الوقوف". يقول الشيخ يوسف البحراني فتشنا في الأخبار والروايات فلم نجده ويظهر أنه من مفتعلات بعض العلماء من غير مدرسة أهل البيت لتعضيد موضوع علم التجويد، ولا صحة لهذا الخبر حسب تحقيق الشيخ يوسف البحراني. إذا أراد أحد المراجعة، هناك أيضاً كتيب -من حيث الحجم- للأخ العلامة السيد ضياء الخباز موجود على الإنترنت يبين ويفصل فيه هذه النظرية لمن أراد المراجعة والمتابعة.

يضيف بعض الباحثين أثر أخلاقي حيث يضيف بعض الباحثين جهة اجتماعية وتربوية يقول إننا وجدنا بالإضافة إلى ما سبق ذكره أن قسماً من المتخصصين في علم التجويد وإعلاء شأنه بعد مدة من الزمان يصيرعندهم انطباع أن القراءة الوحيدة الصحيحة في المجتمع هي قراءتهم، أما قراءة باقي الناس فخاطئة. فيترتب على ذلك حضور صلوات الجماعة فلا يحضر في هذا المسجد ولا ذاك ولا يصلي خلف هذا الإمام ولا ذاك. لأنه يعتقد بعدم صحة قراءاتهم وبالتالي عدم صحة الإئتمام بهم. فيقول الباحثين لو فرضنا أن هذا العلم شاع عند كل أبناء المجتمع، واعتقد كلهم بعدم صحة صلاة غير الملتزمين بالتجويد. علماً بأن أغلبية أحكام التجويد ليست لازمة المراعاة وما يجب أن يلتزم به ليس لأجل علم التجويد وإنما لأجل أن الحرف لا يكون بالشكل العربي الصحيح إلا إذا نطق بتلك الصورة. نعم علم التجويد حدد كيفية النطق وأطلق عليه عنواناً. على سبيل المثال، قضية المد الواجب كما في قول الله -عز وجل- (غير المغضوب عليهم و لا الضالّين) هنا (ولا الضالّين) فيها مد. فيقول -صاحب النظرية المخالفة لعلم التجويد- أن المد ليس لأجل التجويد وإنما لأن نطق هذا الحرف في اللغة العربية ليس صحيحاً إلا مع المد. لأنه بدون المد يصير حرف آخر (ولا الضالين) بدون مد الألف غير صحيح. لابد أن تمد الألف حتى يصير (ضالين) مع مد الألف. أيضاً، لابد من تشديد اللام حتى لا تتغير الكلمة. فمثلاً (العادين) بدون تشديد الدال تختلف عن (العادِّين) مع تشديد الدال، الأولى من عدى يعني اعتدى، والثانية من عدّ يعني حسب. هنا أيضاً (الضالّين) لابد من مدها ولابد من تشديدها حتى تأتي بشكل صحيح. العرب بغض النظر عن التجويد حتى في أمورهم العادية، لابد أن يشدد اللام فيقول "هؤلاء قوم ضالّون" ولا يقول "ضالون" بدون تشديد اللام ليظهر الحرف والكلمة بشكل صحيح.

خلاصة النظرية الأولى تقول بعدم لزوم الاهتمام بعلم التجويد أولاً لأن منشأه خارج إطار المنشأ الإمامي، وأن الأئمة مع اهتمامهم بكل قضايا القرآن الكريم -بل بما هو دون ذلك في الأهمية  ذكروا أحاديث وروايات بينما لم يذكروا في هذا شيئاً وهذا يدل على عدم الاهتمام به، وإضافةً إلى ذلك أن منشأه هو من مناشئ سلاطين الخلفاء المعاصرين للأئمة بغرض أن يتوجه الناس لا إلى الأئمة وإنما للعلماء الذين يعينهم أولئك الخلفاء، وأضف إلى ذلك أيضاً أن له آثاراً اجتماعية وتربوية غير حسنة: تربوية مثل سلب الخشوع في الصلاة، واجتماعية مثل اغترار الإنسان بقراءته و تجويده وامتناعه عن أن يصلي وراء أحد من الناس لأنه يرى أن قراءته هي الأضبط والأفضل.

النظرية الداعمة لعلم التجويد:

النظرية الثانية خلاف هذه النظرية تقول إن الاهتمام بالتجويد كواحد من علوم القرآن هو على القاعدة. فلماذا لا نهتم بعلم التجويد كما نهتم بسائر علوم القرآن الأخرى؟

أولاً نحن نعتقد أن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- عندهم ما لدى غيرهم من العلوم ويزيدون عليهم، وبهذا يفضلونهم ويتقدمون عليهم. فلا ريب أن علم التجويد كعلم النحو كعلم الصرف كعلم الناسخ والمنسوخ في القرآن والمحكم والمتشابه والتدبر والتفسير كلها موجودة عند الأئمة -عليهم السلام. لم يصل علم التجويد إلينا عنهم. قد يكون فيما تلف من الروايات والأحاديث. قد يكون لعدم حاجة الناس إليه في ذلك الوقت حيث أن ألفاظهم على السليقة وعلى الفطرة والطبيعة فلم يسأل الأئمة أحد لاسيما وأن قسم من الناس تلقوا هذه القراءات عن الأئمة مباشرة. فلا يحتاج من عنده الغاية القصوى (قراءة الإمام) إلى قواعد يطبقها. هذا هو الأمر الأول، أن الأئمة عندهم علم التجويد كما غيره من العلوم ولم يأتنا منهم ذلك إما لما ضاع من تراث الأئمة -وكثير هو، أو لعدم الحاجة إلية نظراً لأن الناس كانوا على السليقة ينطقون الحروف في قراءتهم للقرآن.

الأمر الثاني أنه ليس صحيحاً أن علم التجويد ناشئ في أحضان المدرسة الأخرى فقط، وإنما المسلمون جميعاً اهتموا بهذا العلم كسائر علوم القرآن فكان من مدرسة الخلفاء من لديهم علم التجويد وفي مدرسة أهل البيت من لديهم أيضاً هذا العلم. ويقولون أن عدداً من القراء المشهورين -القراء لابد أن تكون قراءتهم قراءة مضبوطة، الحروف يخرجونها من مخارجها دقيقة، فلا يصبح أي شخص قارئاً- كانوا من يذكر أنهم كانوا يتشيعون في ترجماتهم. من هؤلاء القراء الذين تحدثنا عنهم في الليلة الثالثة حفص وعاصم والكسائي وحمزة الزياد وأبو يحيى ابن أبي العلاء. إذن، قسم من القراء المتقنين لقضايا التجويد وقضايا مخارج الحروف وما يرتبط بها من أحكام كانوا من تلامذة أهل البيت -عليهم السلام- وتلقوا بعض هذه القراءات من فم الأئمة، مثل حمزة الذي يروي عن الإمام الصادق قراءة القرآن قرأ عليه، وغيره يحيى ابن يعمر تنتهي قراءته إلى أمير المؤمنين عن طريق أبي عبد الرحمن السلمي الذي يقول أقرأني علي ابن أبي طالب القرآن حرفاً حرفاً.  فهذه القراءات المعروفة والمشهورة والتي يفترض أنها تعمل بالتجويد كانت لدى الشيعة. بل يذكر العلامة المرحوم الدكتور الفضلي -رضوان الله تعالى عليه- (من أبناء المنطقة ومعروف من العلماء الكبار والمتخصصين أكاديمياً وحوزوياً عنده كتاب في علم التجويد) أنه أول ما انفصل علم الصرف عن علم النحو كان بواسطة معاذ ابن مسلم الهراء النحوي (المتوفى سنة 187هـ). هو من فصل علم الصرف عن علم النحو. عادةً العلوم هي هكذا. الطب، مثلاً، يبدأ طبيب علم بعد ذلك يتخصص في طب العيون، أو طب الأسنان، أو طب الباطنية، أو طب القلب. والقلب أيضاً يصير فيه تخصصات. وهكذا سائر العلوم ومنها العلوم الإنسانية أيضاً هكذا: في البداية كل ما يرتبط باللغة يكون في علم واحد بعد ذلك يتم التخصص فيه وتقسيمه.

أول ما انفصل علم الصرف عن علم النحو أتت مع علم الصرف مسائل علم التجويد. من هو بطل هذه القضية؟ معاذ ابن مسلم الهراء النحوي، ونص على أنه كان يتشيع، وعمّر طويلاً حتى أن بعض تلامذته ماتوا وهو على قيد الحياة، وقيل إن بعض أبنائه توفوا وهو على قيد الحياة. توفي سنة 187هـ. ويذكر أنه من أصحاب الإمام الصادق وأسند عنه (يعني توفي بعد الإمام الصادق أقل من أربعين سنة بقليل ما يشير إلى طول فترة عمره). وكان يتشيع حتى ذكروا أنه كان يفتي حتى سأله الإمام الصادق "بلغني أنك تجلس في الجامع وتفتي." قال "بلى ولقد أردت أن أسألك عن هذا. فإن الرجل يأتيني وأعرف أنه ممن يحبكم فأخبره بمحض الحق" (قولكم، أي أخبره أنه رأي أهل البيت هو كذا). "ويأتيني رجل أعرف أنه ممن يخالفكم فأفتيه بقول غيركم" رجل يسألني مثلاً عن رأي أبي حنيفة (أعلم أنه من غير أتباعكم) فأفتيه برأي أبي حنيفة أو غيره. "ويأتيني الرجل لا أعرف أنه يحبكم ولا يخالفكم" لا أدري (غير واضح لدي). "فأقول له رأيكم في ضمن الآراء" أخبره له أهل المدينة يقولون كذا، أهل الكوفة يقولون كذا، أهل البيت يقولون كذا. فحسن الإمام فعله قال "نعم اصنع هكذا".

فالرجل إذاً كان من شيعة أهل البيت، وهو بناء على ذلك التقريب أول من فصَل علم الصرف عن علم النحو وأخذ معه مسائل علم التجويد. فإذاً كما كان هنا وفي القراء، كان في المدرسة الأخرى نفس الشيء. فلا يصح القول أنه هذا فقط كان منشأه منشأ عامي (منشأ في مدرسة الخلفاء) ونشأ من طرف الخلفاء لأجل إغواء الناس عن أهل البيت، هذا الأمر الثاني.

أما الأمر الثالث فغاية علم التجويد أن يعلم الإنسان قواعد، إن احتاج إليها كما هو الحال بالنسبة إلى غير العرب طبقها، أما العربي فلا يحتاج إلى معرفة مخارج الحروف. لكن هذا الذي لم ينطق الضاد في عمره يحتاج أن يتعلم كيف ينطقه مرة بالتلقين، ومرة -مع غياب الملقن- بوضع قواعد يتبعها حتى يخرج الحرف من مكانه ومخرجه. فهذا إذاً توجيه أصحاب هذه النظرية التي تؤيد قضية الاهتمام بالتجويد وتعليمه وتعلمه.

أما بالنسبة إلى قضية الأثر التربوي لاسيما الأثر الاجتماعي يقول لك هذا خطأ -ممارسة خاطئة. نوع من الإغترار عند من يعرف علم التجويد. فلا يصلي خلف أي شخص، فالعيب ليس في العلم وإنما في غرور الإنسان. وهناك من ليس له علم بالتجويد ومع ذلك لا يصلي جماعة لأنه اغتر بعلم ناقص فلم يفرق بين الواجب في التجويد -الذي تكون القراءة خاطئة بتركه- وبين ما هو الأكثر من المحسنات، فالخطأ منه لا من العلم. في التجويد مثلاً، في (الضالين) هذا مد واجب لا يعفى عنه. فلو كان مثلاً 10% من علم التجويد لازماً، ربما يخطأ ناقص العلم فيضن أنه يلزم اتباع 70% من علم التجويد، فلا يصلي خلف الإمام الذي يطبق 10% فقط من أحكام (اللازمة). فهذا خطأ أو استكبار أو استعزاز من هذا الإنسان، فلا تحمل القضية على علم التجويد ذاته. هذا عرض للنظريتين.

حاصل المقام:

حاصل المقام ما الذي ينبغي أن يقال نلخص ما هو الصحيح من النظريتين في الأمور التالية: الأمر الأول أن علم التجويد ينبغي ألا يبخس حقه نهائياً وألا يعطى فوق حقه. لا يكون تفريط فيه بشكل كامل ولا إفراط في جانبه. لو فرضنا مثلاً عندنا معهد قرآن أو لجنة قرآنية يجب أن تكون الأولوية في تعليم معاني القرآن. فتصرف على الأقل نصف موارد المؤسسة القرآنية في تعليم المعاني. ذلك أن (هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)، لكن متى؟ عندما يعرف الناس مقاصده ومعانيه. وبعد ذلك في المرتبة الثانية تصحيح تلاوة الناس. إذا كان لتعليم المعاني نصف موارد المؤسسة، تصحيح التلاوة له ثلاثة أعشار (30%)، ليقرأ الناس القرآن بشكل صحيح، يتلونه تلاوة صحيحة. بعد ذلك باقي العشرين من المال، الوقت، والجهد تكون في قضية المحسنات بدءاً بالتجويد إلى التحسين الصوتي والمقامات. فالصوت الحسن في قراءة القرآن مطلوب في الروايات "زينوا القرآن بالصوت الحسن" و"حلية القرآن الصوت الحسن". هكذا يصبح توازن فلا يكون هناك إلغاء تام للتجويد ولا يعطى المقام الأول، فيكون الفرد مشغولاً ليل نهار بأحكام التجويد وهو لا يعرف معنى آية واحدة أو يلتزم بمؤداها. موازنة تعلم معاني القرآن مع التلاوة الصحيحة والتجويد هو الأمر الأول.

الأمر الثاني أن يحذر دارس التجويد من الآثار التربوية الضارة لدراسة هذا العلم. فيحذر الدارس من التعمق كما في الرواية التي تحذر من التعمق في دراسة النحو "من تعمق في النحو سلب الخشوع"، لأنه في أثناء القراءة يفكر (اهدنا السراط)، (اهدنا) فعل أمر، بعدها الفاعل مخاطب مقدر بالله -سبحانه وتعالى- (نا) مفعول به، (سراط) مفعول ثاني، وهكذا. متى يفكر في المعاني المطلوبة منه. نفس الكلام في التجويد لا يصير يسلب الخشوع، ولا يصير أثر اجتماعي له بحيث يعتقد أن كل البرية مخطئون إلا سماحته. كل الناس قراءتهم غير مقبولة من الله إلا هو. كل الناس صلاتهم غير صحيحة أئمةً ومأمومين إلا هو. هذا يصبح كبراً وليس تأثراً بالقرآن، هذا أمر ثاني.

أمر ثالث، التفريق بينما هو لازم وواجب، وبينما هو تحسين وتكميل وتجميل. في الفقه، في باب القراءة، تذكر الموارد القليلة التي يجب فيها مراعاة قواعد التجويد. المدود الواجبة مثلاً، مثل (الضالين). أما ما ذكره علماء التجويد أن الوقوف في القرآن 5220 وقف وهذه يجب الالتزام فيها. من أين جيء بهذه الأوقاف؟ هل الله أمر بها؟ هل المعصومون ذكروها؟ فهذه من التحسينات يستطيع الإنسان أن يلتزم بها، ويستطيع ألا يلتزم بها. تحسين الصوت في القرآن أيضاً مطلوب، لأنه من كمال ذلك، من المؤثرات. نقل أن نبي الله داوود -على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام- كان حسن الصوت جداً وكان إذا قرأ المزامير (المزامير مثل آيات وأجزاء -عندنا- في الزبور) حتى الطيور والحيوانات كانت تنجذب إليه. ما أعظم هذه القدرة الصوتية الجبارة وهذا التأثير العظيم. وفي أئمتنا يذكر الإمام زين العابدين -سلام الله عليه- (نحن نعتقد أن باقي الأئمة هم هكذا ولكن المنقول عنه ذلك هو الإمام زين العابدين) في رواية عن الباقر -عليه السلام- أنه كان من أحسن الناس صوتاً أو أحسن الناس صوتاً، فكان إذا قرأ القرآن انجذب الناس إليه، ووقفوا يستمعون إلى قراءته القرآن على الباب (على باب بيته) حتى ينقطع الطريق لشدة الازدحام. هذه قراءة الإمام زين العابدين. وفي رواية أكثر تفصيلاً من هذه أنه كان إذا قرأ في الليل اجتمع السقائون (سقائو المياه يبدوا أنهم يخرجون في الليل حتى يأخذوا الماء من الآبار ويمرون أول الصباح على البيوت لمن يحتاج إلى السقي). فكان السقائون ينجذبون إليه ويستمعون إليه وهو -صلوات الله عليه- يستدنيهم إليه ويجلسهم ليستمعوا. كأنما هناك خصوصية في قضية السقي والسقاية. لا أعلم هل الإمام -سلام الله عليه- في ذلك الوقت كان يذكر بحضور السقائين عطش أبيه الحسين -عليه السلام- في يوم كربلاء أو لا يذكر ذلك.

 

مرات العرض: 3865
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2546) حجم الملف: 72049.28 KB
تشغيل:

11 القرآن : وجوب التعلم واستحباب التلاوة والحفظ
13 قراءات سبع أو حرف واحد ؟