أدلة زيارة الأربعين:
كتابة الاخت الفاضلة فاطمة الشيخ منصور
روي عن سيدنا ومولانا أبي محمد الحسن ابن علي العسكري أنه قال (علامات المؤمن خمس صلاة إحدى وخمسين وزيارة الأربعين وتعفير الجبين والتختم باليمين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) في رحاب زيارة الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه في العشرين من صفر يثار سؤال حاصله ماهو الدليل على استحباب زيارة الأربعين بعنوانها الخاص؟ حيث يرى أصحاب هذا السؤال أن الزيارة شيء عظيم ولها حضور مليوني لكن لها أصل شرعي بمعنى هل ورد في إثباتها دليل خاص أو لم يثبت؟
خطئان منهجيان : قبل الجواب على هذا السؤال ينبغي أن نشير إلى خطأين منهجيين يستبطنا هذا السؤال. الخطأ الأول: إن المطالبة بالدليل من الفقيه هو خُلف كون الإنسان مُقَلِداً لأن التقليد هو أخذ الفتوى والالتزام بها من غير مطالبة بالدليل ويمكن أن نشبه التقليد بالرجوع إلى الطبيب حال المرض بمنطق المتعالج لايصح أن أسأله ماهو الدليل على أن هذا الدواء يشفيني من المرض أو ماهو الدليل على أنني أحتاج هذه الإبرة ولو سألته عن ذلك فربما يطردني من عيادته فهو يرى أنك جئت واثقًا بخبرته وأنك ستستلم منه العلاج ومطالبتك بالدليل والبرهان فهذا خُلف كونه طبيبًا عارفًا وخُلف كونك محتاجًا لعلاجه. وكذلك الأمر بالنسبة للفقيه المرجع في مقام التقليد لا في مقام البحث بين المرجع وتلامذته أوالبحث العلمي بين مرجعين. الكلام في مقام التقليد يقتضي أن يكون الإنسان آخذًا للفتوى من غير مطالبة بالدليل عليها فضلا عن الاعتراض عليها فلو قال أحد المراجع باستحباب زيارة الأربعين فلا يصح للمُقَلِدين أن يسألوه عن الدليل ويصح ذلك في مقام البحث بين فقهين. الخطأ الثاني: الأخذ بآراء وأدلة باحثين غير المرجع الذي يقلده المكلف. مثل أن يقلد المكلف مرجعًا يقول بلزوم الذبح في مِنى والمكلف يرى أن أحد الباحثين لا يرى انحصار الذبح في مِنى وله أدلة مخالفة وهذا لا معنى له في مقام التقليد. لنفترض أن مكلفًا يقلد مرجعا يقول باستحباب زيارة الأربعين بعنوانها الخاص وأنها ثابتة بالأدلة فهو كمقَلِد لا معنى لقوله لكن فلانًا يضعف الرواوية. وفي مثل الخمس مثلا يقَلِد المكلف مرجعًا يقول بلزوم الخمس في أرباح المكاسب وباحث أو فقيه آخر لا يرى ذلك وهنا خطأ أن لا يلتزم المكلف بأداء هذ الواجب لعدم وجود أدلة تثبته. المكلف حين يقَلِد مرجعًا ما فهو يعتبره صالحًا للتقليد فيأخذ منه هذا الحكم ومنظومة الأحكام الأخرى فلا معنى ليترك تقليده في مورد واحد لمجرد شبهة أو رأي مخالف وذلك لاختلاف المباني الفقهية في قبول الروايات كما سيأتي. أدلة ونقاش: يستدل على زيارة الأربعين بأدلة عامة وخاصة وهي: أولًا: الدليل العام على استحباب زيارة الإمام الحسين والمشي إليه في كل وقت وفي كل حين بل تأكيد الاستحباب على زيارته ويوم الأربعين أحد هذه الأيام التي ورد الدليل بعمومه على محبوبية الزيارة واستحبابها. بمعنى إن تمكنت من زيارة الحسين صباحًا، مساءًا، يوم السبت، في رجب، في شعبان، يوم العيد، يوم الأربعين وغير يوم الأربعين فافعل. وقد بلغ عدد الروايات الواردة من طرقنا ألف ومائة وأربعين رواية وهو أمر ملفت للنظر أن تحظى قضية بهذا العدد الهائل من الراويات وبمختلف الألسنة ومختلف الطول والقصر ومختلف التعابير وفي بعضها بعنوان الواجب كما ورد(إن زيارته واجبة على الرجال والنساء) ولا مستحب عندنا وارد بهذه الصيغة. وللعلماء عدة محامل لهذه الرواية فقالوا إنها : - واجبة مرة واحدة في العمر. - واجبة بمعنى الواجب الكفائي بحيث لا تترك ولا تعطل. - واجبة بمعنى الاستحباب المؤكد. وهنا نشير إلى فكرة يذكرها بعض العلماء وهي أن الأصل في التشريع أن يرد بروايات عامة وليست خاصة فترد العمومات والمطلقات والقواعد العامة أولا ثم المخصِصات والمقيِدات فمثلًا يأتي وجوب الصلاة أولًا ثم تأتي خصوصيات الصلاة. وهذا الأمر يجري في اتخاذ القرارات بشكل عام وعلى مستوى الدول أيضًا فالدول عند توقيع الاتفاقيات فيما بينها تنظر للأساس العام وهو ثم الخاص نظرًا لأن التبادل الاقتصادي بين الدول هو أساس نهضتها وثرائها قررنا أن نتعامل مع هذه الدولة. إذًا فالأصل الإتيان بالعام ثم الخاص. ثانيًا: الأدلة الخاصة وهي ما ورد الأحاديث والروايات بذكر زيارة الأربعين على وجه الخصوص مثل رواية الإمام العسكري التي افتتحنا بها الحديث ومثل رواية صفوان. قد يشكل البعض على هذه الرواية بإشكالات من جهة السند ومن جهة المتن والدلالة. فمن جهة السند قال البعض بعدم ثبوتها وهنا يجب أن نسأل عن مبنى ومسلك الفقيه لأن قضية الأدعية والزيارات لا تحتاج أصلًا للنظر في الأسانيد حتى نقول بضعف سندها. ويرى البعض يكفي أن تكون مشهورة بنحو من الأنحاء عند الفقهاء ولو لورودها في كتاب أو كتابين من كتب شيخ الطائفة الطوسي وهذا يكفي للاستناد إلى الرواية. ويرى قسم ثالث أنها ثابتة بقاعدة التسامح في أدلة السنن فيثبت عنده الاستحباب. من هنا يتضح الغلط في القول بضعف هذه الرواية عدم ثبوتها وأهمية معرفة مسلك ومبنى الفقيه والباحث. فمن يرى أنها تامة السند يفتي بالاستحباب. أما من جهة الدلالة فقد قال البعض أن المقصود أربعين مؤمن فالرواية لا تدل على زيارة الأربعين ويمكن الجواب عن ذلك بجهات متعددة: -(ال العهدية): المعهود عند الناس ولم يعهد في تراث الإمامية وغير الإمامية أن هناك تأكيدًا على زيارة أربعين مؤمن أجل ورد الدعاء لأربعين مؤمنًا في صلاة الليل لكن لا يقال الدعاء للأربعين إنما تخصص بالدعاء لأربعين مؤمنًا. أيضًا عندنا استحباب أن يكتب على كفن الميت أربعين مؤمنًا يشهدون له بالخير والصلاح. وأما زيارة أربعين مؤمنًا فغير ثابتة على مستوى الأحاديث وحتى الممارسة العملية فلم نسمع عن عالم من العلماء أنه كان يزور أربعين مؤمنًا ويمكن أن يكون فلان كثير الزيارة لإخوانه المؤمنين لكن لا تخصيص للأربعين عندنا. - كل ما ورد في الرواية هو من مختصات الإمامية فمن مقتضى السياق أن زيارة الأربعين من مختصات الإمامية التي لا يفعلها غيرهم وزيارة أربعين مؤمن ليست من مختصات الإمامية فكلمة زيارة صارت من العرف الخاص بالمعصومين عليهم السلام. فالأربعين عهدية وسياق الرواية بأنها من مختصات الإمامية لا يناسب أن تكون زيارة أربعين مؤمن وبالتالي هذا الإشكال لا يتم. وأما رواية صفوان تقول في يوم الأربعين (السلام على ولي الله وابن وليه) فهي أوضح من الرواية الأولى ولا مجال فيها للتأمل في دلالتها. أما من جهة السند فيصفها بعض العلماء بأنها بسند معتبر إضافة لكونها من المشهورات بين الفقهاء حيث قال البعض معتبرة عندنا وعند المشهور من الفقهاء فيمكن الاستفادة من الرواية إضافة للعمومات التي تؤكد على استحباب زيارة الإمام الحسين. وبالرجوع للمذكور تاريخيًا أن المحقق النوري سنة 1320 أشاع المشي لزيارة الحسين في أوساط العلماء إشاعة كبيرة فكان يذهب لزيارة كربلاء ماشيًا ويحرض طلابه ومن حوله على المشي لزيارة الحسين ومن الواضح أن المشي يختلف عن أصل الزيارة. يذكر أيضًا عن القرطبي وهو من مفسري العامة أندلسي الأصل عاش في مصر مُتوفى سنة 671 يعني قبل زمان العلامة الحلي مؤلف (التذكرة بأحوال الموتى ومنازل الآخرة) يذكر فيها عند الحديث عن موقع رأس الحسين عليه السلام بذكر النظريات ويقول وفي العشرين من صفر رُدَ رأس الحسين إلى كربلاء من الشام ولذلك يقوم الشيعة بزيارة كربلاء لهذه المناسبة. والزيارة لم تبدأ في تلك السنة إنما هو شاهد حيث وصله الخبر وهو في مصر أو الأندلس لأنه ليس عراقيًا ولم يزر العراق فهذا يدل أن زيارة الشيعة لكربلاء في العشرين من صفر لمناسبة إلحاق الرأس بالجسد كانت شائعة. ولو افترضنا عدم ثبوت الروايات فهل هناك محذور في اختيار يوم الأيام يتفق عليه الناس لمناسبة تاريخية بالطبع لا محذور في ذلك فهي مستحبة في أي وقت كما أشرنا مسبقًا. بل حتى من يقول أنها غير ثابتة فالرواية ضعيفة السند وقاعدة التسامح في أدلة السنن لا تثبت في الاستحباب من الناحية العلمية لكن هؤلاء العلماء يبادرون للزيارة ومنهم السيد الخوئي. وفي قاعدة التسامح فرع هو لو أتى المكلف بالعمل لأنه ورد فيه خبر وإن كان ضعيفًا فيؤتى الثواب المذكور رغم أن الخبر غير صحيح وهذا وارد في روايات النبي ما حاصله من بلغه ثواب على عمل من رسول الله فعمله ابتغاء ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن رسول الله قاله مثلًا (من قال سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر غرس الله له بكل ذكر غرس في الجنة) فيُعطى هذا الثواب الموعود وإن لم يكن الرسول قد قاله واقعًا. فلو تبين في يوم القيامة أن روايات زيارة الأربعين غير ثابتة فلا يفوته الثواب فلا معنى للإعاقة في هذا الجانب لهذا الاعتبار. أضف إلى ذلك أن هناك عناوين ثانوية يجب ملاحظتها من قبل الفقيه والمثقف العارف حيث أن أوضح مظهر لعزة آل محمد واستجابة الخلائق للإمام الحسين هو هذه الزيارة الأربعينية. وهذا من المواقف العظيمة والمهيبة التي تجسد نتيجة وثمرة نداءات الحسين وتحقق لنا معنى (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) و(إنا لننصر رسلنا) وتحقق معنى ما ذكرته مولاتنا العقيلة (فكد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا يرحض عنك عارها وهل جمعك إلا بدد وأيامك إلا عدد) هذه الزيارة تناظر نداء إبراهيم في الحج (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) هذا النداء تموج في الناس فأخذوا يستجيبون سنة بعد سنة وهانحن نرى الجموع يلبون نداء الحسين في عصر العاشر من المحرم هل من ناصر ينصرنا؟ هل من معين يعيننا؟ هل من ذاب يذب عنا؟ كان ينتظر مناصرًا واحدًا مدافعًا واحدًا بعد أن هوى أصحابه فدائيين للدين وهذه الجموع وعلى مد البصر منهم الشيخ الكبير الهم الذي لو تركته في الأيام العادية لا يستطيع الحركة وإذا بحب الحسين وعشقه يصنع بداخله معجزة يحركه هذه المسافات الطويلة. مرضى ونساء كبيرات السن وأطفال كلهم يستجيبون لنداء ذلك اليوم إن كان لم يجبك سمعي عند استغاثتك فقد أجابك قلبي وفؤادي أجبناك بأنفسنا وضمائرنا ودموعنا ونسأل الله أن يثبت لنا قدم صدق عندك يوم الورود. هذه المسيرة العظيمة التي جاءت لتتنصر الحسين وتسعف دمعات زينب العقيلة وتشاركها حضور كربلاء بعد أن كانت في الشام.
|