تعريف: |
كيف حفظ الإمام الباقر عليه السلام الشيعة والشريعة؟
كتابة الأخ الفاضل علي الياسين
تصحيح الأخ الفاضل عبد المجيد السعيد
}إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33){
حديثنا بإذن الله تعالى يتناول بعض الأدوار التي قام بها الإمام أبوجعفر محمد بن علي الباقر صلوات الله وسلامه عليه في حفظ الشيعة والشريعة. هذا الدور الاستثنائي الذي تيسر للإمام الباقر عليه السلام وأصبح فاتحة خطٍّ استمرت فيه هذه الطائفة وعلى رأسها أئمتها إلى وقتٍ متأخرٍ من تاريخ المسلمين.
كيف حفظ الإمام الباقر عليه السلام شيعته ضمن ذلك البحر الموّاج من الفتن؟ وكيف حفظ شريعة جده صلى الله عليه وآله؟
لو نظرنا إلى الفترة التي أعقبت نهضة الإمام الحسين عليه السلام سوف نجد أنه بدءا من حوالي سنة 69هـ فصاعدا أصبحت الوسادة مثنية في الحكم للتيار المرواني الأموي. التيار السفياني والفرع السفياني في الدولة الأموية كان منذ شهادة أمير المؤمنين عليه السلام سنة 40هـ للهجرة إلى حدود سنة 68هـ للهجرة, 28سنة ثم انتهى هذا الفرع, وجاء إلى الحكم التيار المرواني (نسبة لمروان بن الحكم) ثم توارد أبناؤه مشرع الخلافة ومشربها.
هذا الاتجاه كان أسوأ من الاتجاه السابق, فإذا كان معاوية يُداري بعض الشيء الوضع العام, فهؤلاء في الفرع المرواني لم يكونوا يهتمون بأحد, فيتجاهرون بالموبقات والمنكرات على رؤوس الأشهاد. هذه الفترة انقسم المسلمون حولها إلى عدة أقسام, كيف نتعامل مع خلافة ليست مرضية من الله عز وجل بل رأسها وهو مروان كان طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وصدر اللعن بحقه من النبي, وهو الآن على كرسي رسول الله وأبناؤه كذلك؟!. وقضية صدور اللعن والطرد من رسول الله في شأن مروان لم ترد من طرق الإمامية ولم تختص بها كتبهم وإنما أيضا من طرق المسلمين عموما.
الآن صار هو الحاكم -أي: مروان-, يعني أموال الأمة كلها تحت تصرفه ومنابر مساجد المسلمين في كل مكان تحت توجيهه وأحكام الشريعة الممضاة من قبل الدولة تمر عبره وبأمره, فكيف يتعامل المسلمون مع مثل هذه الحالة؟ ثم أبناؤه من بعده أيضا, وهم عبدالملك بن مروان ثم أحفاده هشام والوليد.
انقسام الأمة الاسلامية لأقسام :
انقسمت الأمة في هذا إلى أقسام:
القسم الأكبر؛ الاتجاه الرسمي, فهؤلاء رأوا أن هذا هو الوضع الطبيعي وينبغي التعامل معه بلا حرج, وأن الخلافة والإمامة ليست من الأمور الدينية الأساسية, وأن علينا قبول أيّ خليفة يأتي, فنصلي خلفه ونعيد بعيده ونأتمّ به ونأخذ بقوله, هو حاكمنا ونحن أولياؤه ومبايعوه. سواء كان يزيدا أو مروان أو عبدالملك أو هشام أو سليمان أو الوليد, فالحال لا يختلف, وهذا الاتجاه شَكّل الفئة الغالبة في الأمة.
القسم الآخر؛ هو الاتجاه الذي كان يرى أن هذه الأنماط من الخلافة لا يمكن أن تُقبل .. لماذا؟:
- أولا: لأنها ليست مرضية من الله في شيء. فلو فرضنا أن الخلفاء الأوائل لديهم دعوى بأن النبي أشار إليهم إلى بعضهم أو سمّاهم أو قدَّمَهم, فهنا لا يوجد أي شيء قطعا, بل على العكس من ذلك إذ يوجد طرد من النبي لهؤلاء الزعماء الأمويين.
- ثانيا: لأنها لم تأت برضى من قبل الناس. الناس لم يختاروا هؤلاء ولا يقبلونهم ولا يقبلون سيرتهم.
هذا القسم انقسم إلى قسمين: الخوارج وشيعة أهل البيت عليهم السلام
- الخوارج: وهؤلاء يعتقدون بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأصول الأصيلة, ولذا لا يمكنهم السكوت عن الحكام الأمويين, فتراهم يقومون بين فترة وأخرى بحركة ضد الخلافة الأموية, ولم تكن الأسباب قليلة, فأصل مجيء هؤلاء الحكام مثل مروان وعبدالملك وغيرهم مثيرٌ للنهضة ضدهم, ثم ممارستهم للمنكرات والموبقات وغير ذلك شكّلت أيضا إثارة مستمرة, فانتشرت الحركات التي تنهج منهج الخوارج ضد هؤلاء الأمويين. في هذه الفترة التي عاصرها الإمام الباقر عليه السلام المولود سنة 57ه, والذي كان عمره 4 سنوات -على أشهر الآراء- حينما صارت واقعة كربلاء. وإلى حدود سنة 70 هـ, كان عمره عليه السلام حوالي 13 أو 14سنة حيث بدأ الفرع المرواني في هذه الفترة بالسيطرة على مقاليد الأمور, وفي هذه الفترة يذكر التاريخ عددا كبيرا من الثورات والحركات والنهضات التي قادها الخوارج ضد الأمويين. ومع ملاحظة أن الدولة الأموية كبيرة ولها جيوشها المنتشرة, كان من السهل القضاء على هذه الحركات. فهذا قسم أعلن المعارضة لِلحالة الأموية,
القسم الأول كما ذكرنا وهو الأكثر بين المسلمين لم يعتن بالموضوع واعتبر أن هذا خليفة وهذا حاكم لابد من اتباعه, الحجاج يأتي ويصلي جماعة لابأس بالصلاة خلفه, الأسوأ منه يتولى الحكم عادي جدا, فلم يكن هذا أصحاب هذا القسم تهتم بهذه الجهة, ثم بعد أكثر من هذا جاء علماء أسّسوا نظريات أكثر حول وجوب طاعة الحاكم الأموي وإن جلد ظهرك وإن أخذ مالك وإن وإن..الخ فصارت القضية أيضا لها فلسفة دينية.
القسم الثاني كما ذكرنا عارض هذا التوجه, الخوارج, لكن سرعان ما كان يتم القضاء عليهم, ولذلك تجد اليوم أن الخوارج مع كثرة حركاتهم وثوراتهم ضد الأمويين والعباسيين إلا أن وجودهم الآن قليل ومحدود في الأمة, بل حتى مَن كان لديه نفس الأفكار الموجودة لدى الخوارج أصبحوا يتبرؤون من الاسم, وهذا يبين لك حجم التراجع الذي حصل لهذه الفئة.
القسم الثالث هم شيعة آل محمد ، شيعة أهل البيت عليهم السلام
هنا يتبين كيف أدار الإمام الباقر عليه السلام المسألة بحيث استطاع من جهة أن يعيش شيعته في وسط الأمة وأن يتمدد مذهبه بين علمائها وأن لا يتخلى في نفس الوقت عن عقائده وأفكاره وثوابته الدينية, من جهة هذه السلطة غير عادلة وغير مُبرَّرة من قِبَل الدين, ومن جهة أخرى إذا عَمِل بطريقة الخوارج, فنهض وثار وفجر حركةً, فمن الممكن أن لا يستأصل هو فقط, وحتى شيعته أيضا, لكنه صلوات الله وسلامه عليه أدار هذه المسألة إدارة جميلة وحكيمة للغاية, فما الذي صنع عليه السلام في هذا الجانب؟
كيف حفظ الامام الباقر الشيعة :
فإذا انتهينا منه نتعرض إلى جانب حفظه للشريعة, الآن في حفظه للشيعة
النقطة الأولى: حافظ الإمام الباقر عليه السلام على موقفه من الأمويين في أن هذه سلطة غير مرضية وغير محبذة لا شرعية لها, لأنها لم تأت لا بتغطية دينية إلهية ولا برضا من الناس, فهذه سلطة غير شرعية. وكان يتعامل على هذا الأساس. هذا في الإطار الكبير العام , وهناك إطاران آخران, ماذا يصنع بحاجات الناس؟, فعلى سبيل المثال هناك أناس يريدون أن يتوظفوا في دوائر الدولة الأموية, بعضهم يصبح من الولاة أو الجباة أو مدراء أو وزراء...الخ, والحال أن هذه دولة وحكومة غير شرعية؟!.
في الإطار العام لم يعترف لها بالشرعية , ولكن في إطارين آخرين سمح الإمام الباقر عليه السلام لشيعته أن يتعاملوا مع هذه الخلافة, أحدهما في الإطار الإداري والآخر في الإطار المالي. أحد المدققين في دروسه العالية في البحث الخارج يشير إلى هذا المعنى وهو معنى جميل, فيقول (مثلا عندما يأتي الإمام عليه السلام أحد يسأله فيقول هل يجوز لي أن أشتري من الحكومة الأموية؟, عندها حنطة وشعير وغيره من الخراج أو الفيء أو المقاسمة, فهل يجوز لي أشتري أم لا؟, فيقول له عليه السلام نعم . أو يأتي آخر يقول له أريد أن أصبح من العمال لدى هؤلاء ، الإمام عليه السلام يسمح لهؤلاء بشرط خدمة المؤمنين وألا يقصر في ما بينه وبين الله عز وجل, وأن لا يصير جزءا من الظلم ولا يصبح فاسدا كما هم فاسدون ولا يأخذ رشاوى كما هم يأخذون ، أنت موظف في مكان ما تعمل لنفترض في مثل هذه الفترات في الكهرباء أو المياه أو المواصلات أو غيرها, أو في تلك الأزمنة بما يعادلها من الإدارات, تقوم بوظائفك من غير فساد أو ارتشاء, تؤدي عملا وفي مقابله تأخذ مالا, الإمام الباقر عليه السلام سمح لشيعته بذلك, فلما سمح بذلك, صارت عندنا روايات يعتمد عليها علماؤنا اليوم, ولذلك لا يعيش الشيعة أزمة في قضية العمل ضمن الحكومات في بلدانهم. الآن شيعة أهل البيت ع في كل مكان, وهذه توجيهات مراجع الدين معتمدين على ما ورد من روايات أهل البيت عليهم السلام ، يعملون في أعمال الحكومات بإخلاص وبصدق ويكسبون من ذلك أجرا يعيلون به أهلهم ولا يرتكبون في هذه الجهة مُحرّما من هذه الناحية.
هذا الأمر جعل شيعة أهل البيت عليهم السلام يعيشون وضعهم الاجتماعي معيشة صحيحة وسليمة ولا يصطدمون مع تلك الحكومات التي لو اصطدموا بها من الممكن أن تستأصل شأفتهم وأن تُنهِيَ وجودهم.
فالذي يتبع غير توجيه الإمام الباقر عليه السلام حتى من الشيعة, من فروع الشيعة الأخرى تورطوا في أمور مثل الزيدية, إذ يُعدون من شيعة أهل البيت ليسوا من الإمامية ولا الاثني عشرية ولكن من الشيعة, لكنهم اتخذوا مسلك المواجهة المسلحة والعنيفة مع تلك السلطات وحاولوا أن يقيموا دول أو تجمعات لكن لم يستطيعوا وتمت محاصرتهم وكم قدموا من التضحيات, أحفاد الشهيد زيد بن علي ابن الحسين عليه السلام وعلى آبائه وأحفاد الإمام الحسن, الحسنيون كم قدموا من التضحيات ولكن لم يصلوا إلى نتيجة مهمة, لاحظوا مثلا الآن عند المقارنة على سبيل المثال بين الحضور الزيدي في الأمة الإسلامية وبين الحضور الإمامي الاثني عشري تجدون الفرق العظيم, الزيدية الآن مذهب موجود ولكنه محدود في أماكن معينة وأعداده لا تقاس بالنسبة إلى غيره من المذاهب, وهذا راجع في جزء منه إلى السياسة التي اتبعها قادة الإمامية وفي طليعتهم الإمام الباقر عليه السلام والسياسة التي اتبعها الثوار الزيديون في مختلف الأزمنة, بل حتى الإسماعيلية أيضا نفس الشيء, فهم من فرق الشيعة, الإسماعيلية غير الباطنية لأنهم أكثر من قسم, وتحدثنا عنهم في شهر رمضان وبيّنّا بعض أفكارهم , القسم الملتزم بالعبادات هؤلاء أيضا اتخذوا مسلكا آخر غير ما اتخذه الإمام الباقر والصادق في إدارة أتباعهم وقد حققوا بعض النجاحات هنا وهناك لكن الآن وجودهم في الامة محدود وقليل.
الامام الباقر لم يصطدم ولا الشيعة بالحكم الأموي
الإمام الباقر صلوات الله وسلامه عليه بما عمل بهذه الطريقة لم يصطدم اصطداما مباشرا وعنيفا بالدولة الأموية, وفي نفس الوقت لم يجعلها دولة شرعية كما هو في سائر المسلمين, وسار مسيرا بين هذا وذاك, فاستطاع أن يحافظ على عقائده ورؤيته وأن يحفظ شيعته وأن ينشر علمَه, فحافظ على شريعة جده المصطفى محمد صلى الله عليه وآله.
محافظة الامام على شريعة جده النبي :
وهذا ينقلنا إلى مسألة المحافظة على الشريعة التي قام بها الإمام الباقر سلام الله عليه.
في فترة الامويين -الفرع المرواني-, شهدت هذه الفترة أقصى اتساع للفتوحات, وهذا أمر عندما يمر عليه بعض الباحثين المسلمين من الاتجاه الرسمي يعظمونه ويفخمونه فيقولون انظر لِأَفضال الدولة الأموية وكيف أنها نشرت الإسلام إلى كل مكان وووو......الخ. طبعا الرؤية حول الفتوحات هذه تحتاج إلى بحث خاص الآن لا نتعرض له, لكن بشكل عام في زمان الأمويين -الفرع المرواني-, تمددت الفتوحات إلى آفاق كبيرة جدا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. مع تمدد هذه الفتوحات, حصل أن أقواما كثيرة وحضارات كثيرة ومجتمعات متعددة دخلت إلى الأمة الإسلامية, وقد دخلت بأفكارها وآرائها وثقافتها وعلمائها وكتبها وتراثها, فشَكّلت هذه تحدّيات, فعلى سبيل المثال نجد أن الدولة الرومانية لما دخل بعض أجزائها في أمة الإسلام صار عندنا أيضا كتب التوراة والإنجيل والكتب التي كانت محفوظة في الكنائس, وصار عندنا أيضا بعض الكتب غير الدينية التي ألفها علماء تلك المناطق لا سيما في الفلسفة. هذه شَكّلت تحديا وأسئلة جديدة, حين تكون داخل بيتك يمكنك أن تحاصر كل شيء يأتي وتنقيه, لكن حين تنفتح على كل مكان فلن تتمكن من التصفية والتنقية , مثلا أن يكون ابنك يدرس في بلدك ومنطقتك فإنه لن يتعرض إلى أسئلة محرجة في الموضوع العقيدي, لكن عندما يذهب إلى دولة من دول الابتعاث سوف يصادف أستاذ يطرح عليه إشكالات, ويصادف شخص لا يعتقد بنفس عقيدته ويعتبرها شيئا فارغا وهراء باطلا, عندما كان في بلده هنا لم يكن يواجه هذا التحدي, أما إن كان في مكان آخر انفتح عليه صار يواجه تحدي. نفس الكلام صار في زمان الإمام الباقر عليه السلام, فجاءت هذه الثقافات وهذه الفلسفات وهذه الأفكار وهذه العقائد, فمن يستطيع أن يتولى الرد عليها؟, الخلفاء الأمويون مشغولون بشهواتهم وأهوائهم, وبعض العلماء المسلمين الذين كانت لديهم بعض الثقافة والمعرفة لم يكونوا مُمَكَّنين من التوجيه, فليسوا كلهم كانوا على المنابر أو في الواجهة, فصار هناك مشكلة وجود فيض من الثقافة الوافدة ولا يوجد هناك من يبقر العلم بقرا إلا محمد بن علي الباقر عليه السلام, فهو الذي تصدى خلال قرابة عشرين سنة من فترة إمامته أو أقل من ذلك, حينما استقل بالإمامة وقبل ذلك عندما كان في زمان إمامة أبيه السجاد صلوات الله وسلامه عليهما, الإمام السجاد استشهد سنة 95هـ وتولى الإمامة في سنة 61هـ, أي 34سنة كان من جملتها أن عاش الإمام الباقر عليه السلام ضمن حركة الإمام السجاد صلوات الله وسلامه عليه إلى أن استقل بموضوع الإمامة.
ماذا يعني الباقر :
فأولا: من الناحية الكمية؛ اللقب الرسمي للإمام عليه السلام هو "الباقر", وعُرّف بأنه يبقر العلم بقرًا وأن هذا اللقب قد أعطي إليه من عند رسول الله صلى الله عليه وآله, وهذا جعل الإمام عليه السلام محل إجماع. كما أن تصدّيه للموضوع الديني والثقافي والعقائدي في مختلف المسائل, أيضا جعله محل إجماع حتى خارج الدائرة المؤمنة بأهل البيت عليهم السلام. الإمام الباقر عليه السلام درس على يده وأخذ العلم عنه عدد كبير من فقهاء مدرسة الخلفاء, فقد ورث عن أبيه الإمام السجاد عليه السلام تلك المدرسة. قيل أنه في المدينة المنورة, كان هناك سبعة فقهاء هم الأكبر من أتباع مدرسة الخلفاء, أمثال سعيد بن المسيب ومسلم بن شهاب الزهري والقاسم بن محمد بن أبي بكر وغيرهم وكانوا تحت رعاية الإمام السجاد عليه السلام ثم أصبحوا تحت رعاية الإمام الباقر عليه السلام. إلى حد أنه عندما توفي الإمام الباقر عليه السلام قال بعض هؤلاء في تأبينه :( ذهب والله من مكان يقول: "قال رسول الله" فلا يُسأل عما بينه وبين النبي ), وهذا كان مهما, فعمن تروي الحديث, وما هو طريقك إلى رسول الله؟, فهل أنت صحابي؟, أم تابعي؟, عمن نقلت ؟ فهل أنت من صغار التابعين أم تلامذتهم؟...الخ. عندما يقول أحد العلماء من مدرسة الخلفاء وليس من مدرسة أهل البيت عليهم السلام:( ذهب والله من مكان يقول: "قال رسول الله" فلا يُسأل عما بينه وبين النبي). أي: لا أحد يطالب الإمام بسند ولا يقول له عمن رويت؟. وهذه منزلة تتجاوز كل المنازل. نعم, الإمام الباقر عليه السلام كان حكيما وذكيا, فلأجل أن يقطع الطريق على من يريد أن يشكك, كان يجتمع ويجلس إلى جابر بن عبدالله الأنصاري وهو من أواخر الصحابة الذين بقوا على قيد الحياة في المدينة والتقى بهم الإمام الباقر عليه السلام.
لقاء الامام الباقر بجابر الأنصاري من المستفيد ؟
ففي حدود سنة 79ه توفي جابر بن عبدالله الأنصاري, وكان الإمام الباقر عليه السلام آنذاك دون العشرين من العمر, فكان يستطيع أن يذهب ويأخذ عنه. وكان الناس يتصورون أن الإمام الباقر عليه السلام يتعلمُ عندَه. لكن الإمام الصادق عليه السلام يقول:(كان والله يذهب إليه فيعلمه), جابرُ العظيم المنزلة ذو السبعة عقود من الانتماء للرسالة ولأهل البيت ع!! , وقد تحدثنا عنه ذات مرة. لكن عندما تقارنه بواحد من أهل البيت ع لا يكون إلا تلميذا لهم, ويُنقل هذا المعنى كشاهد من الشواهد, [أن الإمام الباقر عليه السلام سأل جابرا: كيف أصبحت ياجابر؟, فقال جابر: لقد أصبحت والفقر أحبّ إليّ من الغنى والمرض إليّ من الصحة والموتُ أحبّ إليّ من الحياة. قد يكون باعتبار أنه يرى حالة الفقر تترافق مع المسكنة لله والاحتياج إلى الله والخضوع أكثر له, والمرض باعتبار أنه يجعل الإنسان شديد التعلق بذكر الله والطلب منه, هذا رأي جابر. فقال له الإمام الباقر عليه السلام يا جابر, لكنا أهل البيت لسنا كذلك, قال جابر: كيف؟, قال الإمام الباقر ع: نحن أهل البيت إن رضي الله لنا الغنى رضيناه وإن رضي لنا الفاقة رضيناه وإن رضي لنا الصحة رضيناها وإن رضي لنا المرض رضيناه وإن رضي لنا الحياة رضيناها وإن رضي لنا الموت رضيناه]. يقصد الإمام الباقر عليه السلام أن رضاهم عليهم السلام ليس منفصلا عن رضا الله, وكما في أحد التفاسير "رضا الله رضانا أهل البيت", وأنهم ليس لهم إرادة غير ما يريده الله سبحانه وتعالى لهم. انظر لجواب جابر , والذي يمكن قبوله مع توجيهه وتأويله, وانظر للّفْتة العظيمة التي أشار إليها الإمام الباقر ع.
فأولا من الناحية الكمية, الإمام الباقر عليه السلام حفظ شريعة جده المصطفى بما أفاض على الناس, على خُلَّص أصحابه الذين ربّاهم تربية مباشرة ونبغ منهم مَن نبغ, ولا نحتاج للذهاب بعيدًا أو قريبا, يكفي أن تعرف أن الإمام جعفر الصادق عليه السلام هو نِتاج تربية الإمام الباقر, فإذا كان تربيته تنتج جعفر بن محمد فيكفي ذلك عن الكلام أكثر من ذلك. وأما أصحاب الإمام الصادق عليه السلام الذين صاروا فيما بعد فقهاء أهل البيت ع. والإمام الصادق ع يترحم عليهم: رحم الله أصحاب أبي, فإنه لولاهم لضاعت أحاديثه واحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله.
ويذكرون العدد الجمّ من هذه الروايات, فبعضهم عاصر الإمام الباقر ع فقط, وبعضهم عاصر الإمام الباقر ع واستمر إلى أيام الصادق, فأخذوا علما كثيرا جدا.
مدرستا النص والرأي في الأمة
وثانيا؛ وهذا أكثر أهمية, الإمام الباقر عليه السلام شَخّص المنهج الصحيح في القضية الدينية ورفض المناهج الأخرى. وقد تعرضنا ذات مرة إلى أن الأمة الإسلامية في أيامها الأولى زمان الخلفاء الأوائل . تبلورت بذور مدرستين:
- مدرسة النص
- ومدرسة الرأي
فمدرسة الرأي والاجتهاد في مقابل النص كان يتبناها الخليفة الثاني بشكل أساسي, ومن خلاله انتقلت إلى عبدالله بن مسعود ومن عبدالله بن مسعود إلى إبراهيم النخعي وربيعة الرأي وأبي حنيفة وهكذا..., هؤلاء يقولون أنه وإن كان يوجد نص في القرآن أو في حديث رسول الله ص, فبإمكاننا الاجتهاد واكتشاف علة أخرى.
وأما مدرسة النص, فيقولون أن كل شيء يحتاجه الناس, فقد ورد فيه إما توجيه من القرآن أو فيه حديث من رسول الله محمد صلى الله عليه وآله, وهذه المدرسة ابتدأت بأمير المؤمنين عليه السلام واستمرت في أبنائه.
والإمام الباقر عليه السلام قام بتحديد تلك المدرسة وأعطاها أبعادًا, فقال بأنه لا يعطي من آرائه ولا اجتهاداته وليس ممن (أرأيت في شيء), وإنما هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وَعِلمٌ ورثه من رسول الله ص وأصولُ علمٍ يتوارثها كابرا عن كابر. فهذه ليست قصية اجتهاد وآراء تحتاج للتفكير قليلا قبل إعطاء حكم!, لا.
فكرّس الإمام الباقر عليه السلام هذا المعنى , فحمى الشريعة في خطّها الإمامي من الانفلات وضياع الحدود.
وهكذا كان دوره في حفظ الشيعة من جهة وحفظ الشريعة من جهة أخرى, فسلام الله على أبي جعفر الأول محمد بن علي الباقر صلوات الله وسلامه عليه الذي قام بهذه الأدوار وغيرها حتى لقد أقرّ له واعترف بتقدّمه وإمامته العلميَّين حتى مَن لم يكن من شيعته, هذه من خصوصيات الإمام الباقر ع والإمام الصادق ع من بعده, أن مُعاصِريه كثيرا ماكنوا يُقِرُّون بتقدّمِه العلمي وإمامته الفكرية حتى وإن لم يؤمنوا بإمامته العقائدية. ومن الطبيعي أن مثل هذا الأمر لا يرتاح له الجهلة ومَن يرى أن تسلُّطَه على الناس إنما يستمر إذا بقي الناس في الجهل, فهؤلاء يُعادون مَن ينير طريق الناس ويعرّفهم دربهم, ولذلك كان أولئك الحكام الأمويون يرون الأئمة عليهم السلام بمثابة العظم المعترض في حلوقهم مع أن أئمتنا عليهم السلام في هذه الأدوار كما ذكرنا لم يفجّروا ثورة ولم يحمِلوا سلاحًا ولم يخرجوا معارضين لحكمهم, ولكن لأن وجود الإمام كان يراه الحُكّام وجودًا بغيضا على قلوبهم, ويرونه أيضا منافسا لهم في محبة الناس واجتذاب قلوبهم, فكان أولئك الحُكّام يُعدون العدة للتخلص منهم, ولا سيا إذا ظهر فضلهم.
والروايات التاريخية تصفُ الإمام الباقر ع في أواخر عمره بأنه كان بادِنًا, لذلك عندما يخرج للعمل في ضيعته كان يتوكّأ مع كِبَر سنِّه, وهذا فيه درس , فمع وجود من يكفيه العمل إلا أنه عليه السلام كان يعمل حتى أن قال له أحدهم يا أبا جعفر أين الغلمان والرجال؟ فيهم من يكفيك؟, قال عليه السلام: بلى ولكني أحب أن يراني الله متعرضا لرزقه فقد عمل بيده من هو خير مني, قال السائل من؟, قال عليه السلام: جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي علي بن أبي طالب ع. هؤلاء كانوا يعملون بأيديهم ولستُ بِدعًا من ذلك.
ينقل المؤرخون عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: استدعى هشام بن عبدالملك والدي -الإمام الباقر- إلى الشام, وهناك بعدما حجبه أيامًا, إهانةً وإيذاء له, أمر أن يُدخَل عليه, فلما أدخل عليه الإمام الباقر ع ومعه الإمام الصادق ع في رفقته, بدأ يُسأَل في المجلس عن مسائل والإمام الباقر ع يُجيب عنها, وكلما أجاب عن مسألة تألّق بين الناس وارتفع قدرُه, إلى أن وصل إلى نوع من الرياضة التي تُرمى فيها السهام على غرض -إلى الآن موجودة, حيث تُنصب دائرة ويرمي المتبارونَ السهام عليها-, فافترض -أي هشام- أن الإمام في ذلك الوقت قد كبر سنه, فقال للإمام نريدك أن تضربَ الغرض, فالإمام استعفى وقال له :كبر سنِّي. ولأنه يريد إهانة الإمام فقد ظَنّ أن الإمام لا يعرف إلا القراءة والكتابة وتفسير القرآن, فإذا رمى الغرض بشكل خاطئ فسيضحك عليه هو والحاضرون, فقال للإمام لا بد لك أن تفعل. انظر إلى طغيان هؤلاء الحُكّام كيف يُصِرّ على الإذلال والإهانة وعدم العفو, فاستعفى الإمام عليه السلام منه مرة أخرى فلم يُعفِه, إذا أراد الله رفعة شخص ولا سيما إذا كان من أوليائه, يجعل ما هو مظنة لإهانته محل ارتفاع. هشام كان يريد إهانة الإمام بهذه الطريقة, لكن الله أراد به أن يرتفع به في أعين هؤلاء الناس, فأخذ عليه السلام سهمًا ورماه في نفس نقطة النصف المحددة, فَبُهِتَ هشام وقال من أين تعلمت هذا الرمي؟, فقال عليه السلام عرفتُه فيما سبق, فناوله هشام سهما آخر لعل المرة الاولى كانت صدفة, فأخذ عليه السلام سهمًا ورماه في قلب السهم الأول, وهذا كان غير متوقع عندهم, فعندها قال هشام يا أباجعفر نعفيك عن ذلك ستفضحنا بعدما أردنا فضيحتك, فالله قدّمك في مسائل العلم وأيضًا في هذا الأمر الذي هو ليس من شأنك. |