عفة اللسان وبذاءته 2
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 9/3/1438 هـ
تعريف:

 

سلسلة الأمراض الأخلاقية

عفة اللسان وبذاءته

كتابة الاخت الفاضلة أمجاد عبد العال

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم المصطفى محمد

وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين المكرمين

حديثنا في هذا اليوم يتناول موضوع عفة اللسان وبذاءته. في هذا الموضوع - موضوع عفة اللسان وبذاءته - لا بد من مقدمة تشير إلى أن الخير الذي يصل إلى الإنسان من خلال لسانه خير لا حدود له. العبادة إنما يكون جزؤها الأكبر من خلال حركة اللسان. أنت تصلي، كل هذه الصلاة بما فيها من حركات وأفعال لا بد أن يرافقها حركة لسان. تكبيرة الإحرام لا تحصل إلا بحركة اللسان، وقراءة الفاتحة والسورة كذلك، وذكر الركوع والسجود كذلك، والدعاء في القنوت والاستغفار كذلك. فالعمدة الأصلية في هذه الصلاة حركة اللسان.

إذ لو فرضنا أن إنسانا صحيح اللسان ناطقا بالكلام تحرك هذه الحركات من دون أن يحرك لسانه، لم تكن تلك صلاة. وهكذا مثل قراءة القرآن. من الواضح أن قراءة القرآن هي بتحريك اللسان، وليست فقط بالنظر. التلاوة إنما تتحقق بتحريك لسانك. حتى في الصلاة الإخفاتية لا بد أن تحرك اللسان. فلو أن إنسانا أمرَّ في ذهنه سورة الفاتحة - في الصلاة الإخفاتية - من دون أن يحرك لسانه، لم يكن قد قرأ الفاتحة. هذا في العبادة. وفي العلم أيضا، فهو إنما ينتقل في جزئه الأعظم بالتعليم، والتعليم راجع إلى النطق واللسان. الآن الطالب من الابتدائية إلى ما بعد الجامعة يحتاج إلى معلم ناطق متكلم؛ حتى يتعلم.

ذكر الله عز وجل كذلك. حاجات الإنسان في الحياة اليومية، تجارته، غالبا تقوم على أساس حركة اللسان. ولذلك فلا مقارنة بين نعمة اللسان إذا خلا من الآفات، وبين ما يقابل اللسان والنطق وهو السكوت. ولذلك ورد في الحديث عن إمامنا زين العابدين (ع)، أنه لما سئل عن الكلام والسكوت، أيهما أفضل؟ هل الأحسن أن يتكلم الإنسان أو يسكت - الشائع عند الناس، إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. لكن هذا ليس صحيحا على إطلاقه - فأجاب (ع) بقوله: "لِكُلِّ مِنْهُمَا آفَاتٌ، فًإِذَا سَلِمَا مِنَ الآفَاتِ، كَانَ الْكَلَامُ أَفْضَلَ مِنَ السُّكُوتِ". السكوت له آفات وسلبيات، والكلام له كذلك. فإذا ارتفعت عنهما وفرغا منها، كان الكلام خيرا من السكوت. كيف؟ "قِيلِ: كَيفَ ذَلِكَ يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَا بَعَثَ الأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْصِيَاءَ بِالسُّكُوتِ". بعثة نبينا المصطفى محمد (ص) أنه جاء بشيرا ونذيرا. والتبشير والإنذار إنما هو من خلال الكلام، من خلال اللسان. أما لو فرضنا أن نبيا جاء وجلس ساكتا، كيف يهدي الناس؟ وكيف يعظهم؟ وكيف يعلمهم؟

وهكذا ما بلغ إلينا من علم أمير المؤمنين (ع)، الذي وصل إلينا قسم منه في نهج البلاغة، لم يأت بالسكوت، وإنما أتى من خلال الكلام واللسان. يقول الإمام (ع): "إِنَّمَا بَعَثَهُم بِالْكَلَامِ وَلَا اسْتُحِقَّتْ الجَنَّةُ بِالسُّكُوتِ". الجنة مهرها الذكر، سواء الذكر القلبي: أي تذكر الله عز وجل، أو الذكر اللساني واللفظي، كقول: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الصلاة على النبي، وأمثال ذلك. هذه كلها إنما تكون من خلال الكلام واللسان. "وَلَا اسْتُحِقَّت الجَنَّةُ إِلَّا بِالْكَلَام، مَا اسْتُحِقَّتْ بِالسُّكُوتِ، وَلَا اسْتُوجِبَتْ وَلَايَةُ اللهِ بِالسُّكُوتِ، وَلَا تُوقِّيَت النَّارُ بِالسُّكُوتِ، إِنَّما ذَلِكَ كُلُهُ بِالكَلَامِ".

فإذن، هذا اللسان الذي فضِّل به - أحد أنحاء تفضيل الإنسان على الحيوان: العقل، وأحد أنحاء تفضيله: اللسان الناطق الذي ينقل العلم والمعرفة، الحيوان لا يستطيع أن يصنع ما يصنع الإنسان. الجنة باللسان، البعثة من قبل الأنبياء وبلاغها شرائع الله عز وجل إنما هو من خلال اللسان. والجنة كذلك، واجتناب النار كذلك. هذا إذا خَلِيَ من الآفات.

لكن أحيانا نفس هذا اللسان، إذا طرأت عليه آفة، تصفه الأحاديث: بأنه "سَبُعٌ إِذَا خُلِّيَ عَقَرَ". لاحظ كيف إذا كان الحيوان مفترسا ومتوحشا فبمجرد أن تفتح له القفص وترفع عنه الحديد يفترس الآخرين ويعقرهم، كذلك اللسان. فيمسي ذلك اللسان الذي يستوجب الإنسان به الجنة، سَبُعًا متوحشا مفترسا.

ومن تلك الآفات، آفة: بذاءة اللسان، وفي مقابلها من الأخلاق: عفة اللسان. تارة يكون الإنسان عفيف اللسان، وأخرى يكون بذيء اللسان. وينبغي للإنسان في كل الأوقات أن يختبر نفسه. هناك قسم من الناس يقول: "استفزني فأنا سبيته وشمته"، هو هنا يتبين هل عندك عفة أم - ذاك البعيد - عندك بذاءة. أما إذا كان أحدهم جالسا ومرتاحا وشبعانا ونفسيته من أحسن ما يكون، فلا يُتوقع منه بذاءة. متى يُلاحظ أن هذا الإنسان عفيف اللسان، عندما يُستفز، يُغضب، يُستدرج من خلال المواقف، هنا يتبين هل يحفظ لسانه ويحافظ على عفاف كلماته؟ أو - ذاك البعيد – يطلقها. إنها ترمي عليهم بشرر كالقصر، كما في الآية المباركة.

لذلك وردت الروايات عندنا محذرة ومستنكرة على الإنسان البذيء في لسانه. سوف نعرض ماذا يعني أن يكون الإنسان بذيئا. ففي الحديث عن نبينا المصطفى محمد (ص) أنه قال: "إِنَّ اللهَ لَيَبْغُضُ الْفَاحِشَ البَذِيءَ". الله سبحانه وتعالى يكره هذا الإنسان، يبغضه، حتى وإن كان مسلما، ومقيما للصلاة، لكنه فاحش الكلام، بذيء اللسان، غير محترم التعابير. هذا مبغوض عمله عند الله سبحانه، وقد يسري بُغض عمله إلى بغضه ذاته. أي أن الله يبغض هذه الذات. يبغض هذا الإنسان نفسه وليس يبغض فقط عمله البذيء. وتجده في حديث عن الإمام علي (ع) موصوفا بالسفه. يقول (ع): "أَسْفَهُ السُّفَهَاءِ الْمُتَبَجِّحُ بِفُحْشِ الْكَلَامِ". هنا قسم من الناس – نعوذ بالله منهم – يمد خطوة إلى الأمام، فلا يخطئ فقط بلسانه، ويكون كلامه سيئا، بل يفتخر بذلك، ويتبجح به. يقول لك: "غسلته غسل، ما خليت أب ولا أم ولا فوق ولا تحت إلا وجبته"، هذا يعبر عنه الإمام (ع) بأنه: "أَسْفَهُ السُّفَهَاءِ". السفه: هو مرتبة جدا نازلة، فكيف إذا المرء كان: "أَسْفَهُ السُّفَهَاءِ".

وهناك روايات أخر، وممارسات أيضا. قيل إن الإمام الصادق (ع) كان له صديق مقرب منه إلى حد أن تقول الرواية عنه: "لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ إِذَا ذَهَبَ مَكَانًا"، أينما يذهب الإمام الصادق، يذهب معه، يرافقه، قريب منه، يقول: فبينما هو يمشي في السوق ومعه غلام سندي – ليس عربيا – يمشي خلفهما – أي خلف الإمام وخلف سيده، السيد هو هذا الصديق، صديق الإمام – فالتفت الرجل فلم يجد غلامه وراءه. المفروض – بحسب رأي السيد – أن يظل غلامه وراءه لو احتاج إلى حاجة. لكنه التفت يريد غلامه لثلاث مرات فلم يجده. فلما نظر في الرابعة وجده – نفترض: أن الغلام تأخر عن سيده بسبب زحام المكان - فقال له: "يَا بْنَ الْفَاعِلَة، أَيْنَ كُنْتَ؟".

"يَا بْنَ الْفَاعِلَة"، تعبير في اللغة العربية: يعني اتهام بالزنا لأم هذا الرجل، هذا الغلام. فرفع الإمام الصادق (ع) يده فصكه في وجهه، ثم قال: "سُبْحَانَ اللهِ! تَقْذِفُ أُمَّهُ. قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ وَرَعًا، فَإِذَا لَيْسَ لَكَ وَرَعٌ". هل يستحق الأمر أن تلقبه بهذا اللقب؛ لأنه – مثلا – تأخر عنك وعن ناظرك لبرهة من الزمن، على أثر زحام الطريق أو غير ذلك! "يَا بْنَ الْفَاعِلَة"! أنا كنت أتصور أنك إنسان ورع، الورع: ليس أن تمشي الهوينة. الورع: أن تمسك لسانك عن الفحش، ويدك عن الاعتداء، وقلبك عن الحقد. هذا الورع. "فَإِذَا لَيْسَ لَكَ وَرَعٌ. فَقَالَ:" – الظاهر أن ذاك أيضا من أولئك الناس الذين لديهم – فوق ما لديهم من شين - قوة عين. فبدل أن يقول: أنا آسف، أستغفر الله من مثل هذا الأمر. لا، يقول: "جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ إِنَّ أُمَّهُ سِنْدِيَّةٌ مُشْرِكَةٌ". هي إحدى المشركات، فقال: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ نِكَاحًا"، هذه امرأة تزوجها أبوه ضمن قانونهم. وإن لم يكن قانونهم متفق مع قانوننا، ولكنه النكاح الموجود عندهم، "لِكُلِّ أُمَّةٍ نِكَاحًا. تَنَحَّ عَنِّي". الإمام يقول له ذلك. أي لا ترافقني بعد هذا. قال الراوي: "فَمَا رَأَيْتُهُ يَمْشِي مَعَهُ حَتَّى فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَهُمَا". فالإمام يرافقه المتورعون، وذاك ليس غير متورع فقط، بل ويبرر عمله السيء أيضا. مثلا أحدهم يسب شخصا، فتقول له: "لا، ما يناسب منك هذا". يقول لك: "يستاهل". هذه الثانية أسوأ من الأولى/ المسبة؛ لأنها تبرير للخطأ بأمر غير صحيح.

هذه بذاءة لسان، أن إنسانا يتكلم على شخص، على أمه، على أبيه، على نفسه. وهي تبدأ أيها الأحباب – أحيانا – من الصغر. ولذلك التربية أمر مهم. إذا أنا في البيت – لا سمح الله – تكلمت على زوجتي بكلمات سيئة، ووصفتها بأوصاف قبيحة – نقلت لي بعض النساء، قالت: أنا مشكلتي مع زوجي، أنه إذا غضب لا يترك كلمة سيئة في قاموسه يعرفها إلا ويقولها لي، وأمام أطفالي أيضا. ومنها ما فيها التهمة في العرض. أنا زوجته، وأم أولاده، والأولاد يسمعون هذا الكلام!

والطفل الذي ينشأ، وعمره ثلاث أو أربع سنوات فصاعدا، وهو يسمع مثل هذا الكلام، ماذا يُتوقع منه عندما يكون كبيرا؟! بالتالي هو أيضا يتخذ أباه وأمه قدوة. يسمع منهما ويخزن ما يسمع، ثم يعيد إخراجه من جديد. وعليه، نحتاج أن نعقم – حسب التعبير – بيئة المنزل من بذاءة اللسان. حتى على المستوى البسيط، كتغيير الأسماء، حتى في هذا جيد أن يكون الإنسان دقيقا فيه. لا تنادي ابنك: "عبدوه"، و"علوه"، وما شابه. تقول: هذا شيء بسيط. لا، هي هذه تكيف الإنسان على أن يسمع كلاما غير صحيح وغير سليم. غدا هو أيضا ينادي أحدا آخر أكبر منه أو أصغر، في الصف أو في المدرسة بمثل هذا. فلا بد أن نحذر من هذا وأمثاله.

طفل يسمع والده يتحدث في التلفون مع أحدهم بحدة: "يا فاعل ويا تارك ويا ابن الفلان ويا ابن الفلانة"، وما شابه. لماذا هذا أمام الطفل؟! إذا عندك كلام من هذا النوع فجنبه أبناءكَ، وإذا عندكِ – لا سمح الله – كلام من هذا القبيل فجنبيه بناتَكِ. اذهبي إلى الغرفة وتحدثي. "إِذَا ابْتَلَيْتُمْ فَاسْتَتِرُوْا".

ونحن نطمع أن الإنسان نفسه يعمل على تنظيف لسانه من مثل هذه العبارات. فالسباب، الشتائم، والتهم، كلها ينبغي للإنسان أن يتركها ولا يتلفظ بها، ولا سيما إذا كان بمحضر من آخرين. وبشكل أخص، إذا كان في حضور أسرته وعائلته وأهله، لا سيما الأطفال. بل أكثر من هذا، حتى خارج إطار السباب والشتائم، حتى الكلمات النابية، يعبرون عنها فيقولون: مثل التعبير عن الأمور المستقبحة بالألفاظ الصريحة. فأحيانا شيء معين – سواء في بدن الإنسان أو في غيره – تارة له لفظ صريح، مباشر، وواضح. هذا أيضا مما لا ينبغي، وفي بعض الحالات يعد بذاءة في اللسان. لذلك ينبغي أن ننتخب اللفظ كما ينتخب القرآن الكريم. فمثلا: عندما يريد أن يعبر عن الجماع بين الرجل والمرأة، لا يعبر بهذا التعبير. وإنما يقول: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ). مباشرة، أي اجعل البشرة على البشرة. أو كما في آية أخرى، يقول: (أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ). أو مثل: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ)، وأمثال هذا. بينما تجد قسم من الناس يعبر لك عن هذه الكلمات - عن هذا الفعل - بألفاظ مباشرة، جنسية، واضحة، صريحة، في مسمع ومرأى أحيانا من هو دون سن أن يسمعها أصلا. وهذا فيه خدش لبراءة وطهارة الطفل والطفلة.

القرآن يحفل بالتوجيهات. والروايات كذلك. فمنها ما يشير إلى أنه يستحب للفتيات أن يتعلمن سورة النور قبل أن يتعلمن سورة يوسف. لماذا؟ لأن سورة النور طابعها العام طابع نورانية، توجيهات أخلاقية، سمو، أحكام شرعية. لكن في قصة يوسف، مع أن القرآن الكريم عالجها بأفضل ما يمكن معالجته من خلال الألفاظ، لكن حيث أن القصة في جزء منها، فيها جانب دعوة إلى الممارسة الجنسية من قبل امرأة العزيز، يأتي التوجيه أن تعلمها سورة النور أولا ثم هذه السورة. أي امنحها الأرضية الأخلاقية اللازمة قبل أن تنفتح على أمر العلاقة الجنسية، وعلاقة الحب وما شابه ذلك.

فالقرآن لا يباشر في الكلام. انظر: إذا أراد أن يتحدث عن عملية الإفراغ والإخراج، فلها ألفاظ جدا مباشرة ومستهجنة، وقسم من الناس غير الواعين، يحبذونها. لكن القرآن الكريم عندما يتحدث عنها يقول: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ) أتدري الغائط ما معناه؟ معناه: المكان المنخفض. يقال: ذهبنا إلى غائط من الأرض. غائط من الأرض يعني: مكان منحدر. وقد عُرف هذا عن الناس. أي كان الناس إذا أرادوا أن يقوموا بهذه العملية، عملية الإخراج، يذهبون إلى هذه الأماكن حيث لم يكن في تلك الفترات الحمامات وبيوت الخلاء في البيوت. بل يذهبون ويُبعدون المرمى - كما يقولون - ويُبعدون في السير وينزلون في منخفض من الأرض حتى لا يُروا. فالقرآن الكريم أشار إلى هذه العملية بهذه العبارة بدل أن يستخدم اللفظ المباشر الذي فيه نوع من الهُجنة، ونوع من البذاء، فقال: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ). فهذه الأمور مع أنها معتادة للناس، من العلاقة الجنسية، أو الإفراغ من البدن، أو غير ذلك، إلا أن القرآن الكريم مع ذلك يريد أن يعلمنا عفة اللسان بهذا المقدار. وإلا قد يتعود الإنسان. فيبدأ من كلمات بسيطة، فلا يرى فيها مشكلة. ثم كلمات أعظم ولا يرى فيها مشكلة. وقد يساعده الجو الذي حوله أيضا.

يقول بعض الباحثين: الذي يستخدم مثل هذه العبارات هذه الكلمات: سباب، شتائم، ألفاظ مباشرة، غير ذلك. لا بد أن يُبحث في وضعه النفسي فهو وضع غير طبيعي؛ لأن الإنسان فُطِر وخُلق ومعه الحياء. و"الحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ"، وهذا لا يرتبط بالقول المشهور: لا حياء في الدين. بلى، كل الحياء في الدين.

نعم، لا ينبغي أن يخجل الإنسان في مسائله الشرعية، ويظل مثلا مدة من الزمان في وضع الجاهلين؛ لأنه خَجِل أن يسأل عن غسل الجنابة، مثلا. لا، هنا لا ينبغي الخجل. أما الحياء فهو شعبة من الإيمان. بل هو كل الإيمان. الحياء، كل الحياء في الدين. فإذا رأيت أحدهم ليس من هذا القبيل، فلا بد أن ترى أمره أمرا غير طبيعي.

ينقلون - وننهي بهذا الحديث - عن الحطيئة، جرول العبسي، وهو شاعر جاهلي، كان أكثر زمانه في الجاهلية، وأدرك الإسلام أيضا، لكن بعد وفاة رسول الله. أي لم يدركه مسلما. وهو – أي هذا الشاعر - مضرب المثل في الهجاء وفي سلاطة اللسان. كان أيضا – حسبما ينقلون في أحواله – ولد من جارية، ولم يعرف والده. وهذه نقطة من النقاط التي ربما جعلت هذا الشخص عندما يكبر وينمو، يكبر وينمو ناقما، فينتهي أمره إلى خلل نفسي.

لماذا نحن في الإسلام لدينا تشريعات تؤكد على جانب العفاف الجنسي، لا يحدث اختلاط في الأنساب، لا يحدث اختلاط في الأرحام، لا بد من العدة، لا بد من استبراء الرحم، وغير ذلك؛ حتى لا يصاب الطفل بمشاكل نفسية. هذا أحد أغراض تلك التشريعات.

فهذا الرجل عندما نما، أصبحت عنده قدرة شعرية قوية جدا، وأصبح يتكسب بالهجاء. آخرون يتكسبون بالبيع والشراء، لكن هذا يتكسب بالهجاء! فيمدح مثلا زيدا من الناس. فإن أكرمه الكرامة التي يتوقع ويروم، أي أعطاه شيئا وافيا كف حاله. وأما إن حرمه أو أعطاه شيئا ناقصا – كأن يتوقع منه مثلا ألفا، لكنه أعطاه غير ذلك. 200، أو 300، فقط – "فيا ويله ويا سواد ليله"، كما يقولون. وللأسف هذه ليست فقط في الجاهلية، فثم قسم من الناس هم هكذا، يسترزقون بالهجاء.

فذهب إلى أحدهم، اسمه: الزبرقان ابن بدر التميمي، فمدحه بقصيدة. الظاهر أن ذاك أعطاه مبلغا بسيطا، فرقعه الشاعر بقصيدة أخرى، مطلعها: "دع المكارم واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي".

الزبرقان تأذى منه - وكان الزمان وقتئذ زمان الخليفة الثاني - وعرِف عنه سلاطة لسانه، وأن شعره يبقى ويذهب. فاشتكاه عند الخليفة الثاني: أن هذا يهجوني، يتحدث فيَّ، يُعَلِّمُ عليَّ. فلم يتبين للخليفة الثاني - لما قرئ عليه هذا البيت – أهو مدح أم هجاء. فهذه فنون. الرسم مثلا، قد يأتونك برسم معين سريالي، فتقول: "هذي خرابيش حتى عشرة أريل ما أشتريها". فيقال لك: "عمي هذا رسم فلان فنان، معروضة بخمسين مليون"! فالمسألة بحاجة من عنده الخبرة. فحُكِّم حسان بن ثابت الشاعر القدير، فَسُئل: هل هجاه؟ أي بهذا البيت. قال: لا. أجلكم الله، سلح عليه. سلح عليه يعني: ذهب إلى الحمام وفعل ما فعل. إشارة إلى غاية الإقذاع في هذا الشعر، وأمثاله.

وكان – شاعر الهجاء ذاك - معروف بهجائه إلى حد أنه حتى أمه هجاها، فقال: "أغربالا إذا استُودعتِ سرا .. وكانونا على المتحدثين" الكانون: هو الشخص الثقيل الذي يقتل الإنسان بثقله. أي أنت إذا أعطاك أحدهم سرا، فكالغربال، والمصفاة، يوضع من ناحية ويتسرب من أخرى. وكانونا: أي ثقيلة ظل، وبلغت الغاية من ثقلها على المتحدث. "جزاك الله"، يقول، انظر كيف هذا اللسان، سبحان الله، إذا ما عف الإنسان لسانه، وأصبح تكسبه به، ماذا ينتج! "جزاك الله شرا من عجوز .. ولقاك العقوق من البنين"، "حياتك ما علمتُ حياة سوء .. وموتك قد يسر الصالحين".

هذا هجاؤه لأمه، وقد هجا والده أيضا، والده المفترض، لأن والده الحقيقي غير معروف. حتى جاء اليوم الذي جلس فيه صباحا وقال: "أبت شفتاي اليوم إلا تكلما .. بهجو فما أدري لمن أنا قائله". أي صحوت صباح اليوم لأهج أحدا، لكن لا أعلم من. فنظر في المرآة أو في الماء، فرأى وجهه، وقال: وجدته. فبدأ يهجو نفسه: "يا وجها شوه الله خلقه .. فقبِّح من وجه وقبِّح حامله".

لاحظ أنه بدأ بهجو غيره؛ لأنه لم يعطه ما رام من مال. ثم هجا أمه، ثم أباه، ثم نفسه. فإذا تعود الإنسان على بذاءة اللسان وبرر لنفسه بذاءته: "أنا كنت في حالة غضب"، "ما أعطاني هذا الشيء اللي أبغاه"، "ما سوا لي كذا"، "أنا كنت فعل"، هذه كلها تبريرات غير صحيحة وغير سليمة. بئس الإنسان الفاحش المتفحش. يقول النبي: "إِنَّ اللهَ لَيَبْغُضُ الْبَذِيءَ الْفَاحِشَ، وَأَسْفَهُ السُّفَهَاءِ الْمُتَبَجِّحُ بِبَذَاءَةِ اللِّسَانِ"، كما في الحديث.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا عفة اللسان وعفة الجنان وعفة اليدين إنه على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

مرات العرض: 3389
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2568) حجم الملف: 36317.25 KB
تشغيل:

حدود العلاقة في صداقة المتماثلين
13افكار في مسألة الطلاق