المدرسة التفكيكية وميرزا مهدي الاصفهاني
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 5/9/1434 هـ
تعريف:

الميرزا مهدي الاصفهاني والمدرسة التفكيكية

 

صياغة الاخ الفاضل أبي محمد العباد

( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )[1]

المقدمة:  

   حديثنا يتناول شخصية من علماء أسست مدرسة في المعارف العقائدية، كانت ولا تزال مؤثرة في الحوزة العلمية، إنه آية الله الميرزا مهدي الاصفهاني والذي يعرف بأنه مؤسس مدرسة التفكيك أو المدرسة التفكيكية في المعارف الدينية، كان من تلامذة الأخوند الخرساني - أعلى الله مقامه - والسيد كاظم اليزدي وبعدهم من تلامذة المحقق النائيني رحمة الله عليهم.

   في سن الخامسة والثلاثين حاز على درجة الاجتهاد بشهادة أستاذه النائيني وتأييد السيد أبي الحسن الأصفهاني والآغا ضياء الدين العراقي، كان في بداية عمره من المتبحرين في الفلسفة، ولكنه فيما بعد أسس مدرسة فكرية أخرى تتباين معها، ولمعرفة دور هذا العالم وبيان بعض أصول مدرسته التي كما قلنا تأثر بها عدد غير قليل من العلماء، وقد درس على يده في العقائد بعض مراجع التقليد المعاصرين الأحياء، وكما يلحظ الإنسان من خلال سيرهم وحياتهم يجد أن هؤلاء المراجع قد أخذوا العلم في فترة من الفترات على يد الميرزا مهدي الاصفهاني المتوفى سنة 1365هـ.

     وحتى يتبين لنا كما ذكرنا أبعاد هذه المدرسة والجهد الذي بذله هذا العالم، نذكّر بمسألة مهمة وهي أن المدارس المعرفية يمكن ان تكون واحدة من ثلاث مدارس: 

المدرسة الاولى: مدرسة البرهان

   تعتمد هذه المدرسة على التعمق في الفلسفة باعتبار أن هذا العلم - علم الفلسفة - لا يقبل المشهورات ولا يقبل الاشياء المستحسنة أو الاستظهار، وإنما يعالج القضايا ضمن خلفية برهانية وأدلة عقلية، وبالتالي يقولون أن النتائج التي يتوصل إليها هذا العلم لابد أن تكون نتائج صارمة ومستدل ومبرهن عليها. 

   إذن أصحاب هذه المدرسة يعطون الدرس الفلسفي قيمة كبيرة ويؤكدون عليه لاسيما المسائل العقلية، وهذا يتجلى في اهتمامهم بهذه الدروس الفلسفية في الحوزات العلمية، تعلمون أن لدينا بين المسلمين تيار تاريخي متصل من الفلاسفة - الفلاسفة المسلمين في كلا المذهبين السنة والشيعة -ولا يزال هذا التوجه موجود وله انصاره ودعاته وهم يؤكدون على أن هذا المنهج هو الذي ينبغي أن يُتبع، وسيأتي لنا - ان شاء الله تعالى - حديث عن المرحوم الطباطبائي صاحب الميزان الذي يعد ممن ركز الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية وأعطاه روح جديدة ومن تلامذته المباشرين هم أساتذة الدرس الفلسفي اليوم في الحوزة العلمية.

المدرسة الثانية: منهج العرفان والرياضة 

   أصحاب هذا المنهج يقولون أن النفس لكي تدرك الحقائق لابد أن تكون صافية ومخلصة تستطيع من خلالها التعرف على الحقائق، فتحتاج النفس إلى رياضة وإلى سلوك وإلى تصفية من الداخل وإلى تحلية بالفضائل لتصبح النفس صافية لتدرك بعدها الحقائق والمعارف لتكون كالمرآة تماماً. 

   المرآة لكي ترى بواسطتها الأشياء لابد أن تكون مصقولة وصافية وإلا اذا كان هناك غبار وأدران وأوساخ عليها فلا يمكن الرؤيا من خلالها.

   ويقال أن النفس هي التي تدرك الحقائق، ولكي تدرك الحقائق لابد أن تكون صافية كيف ذلك؟ من خلال الرياضة وتعويدها على الجوع كالصوم وتحليتها بالأخلاق فهذا مسلك العرفان وله أربابه ورجاله. 

المدرسة الثالثة: مدرسة الوحي والقران

أتباع هذه المدرسة يقولون أن الحقائق التي لا يعتريها ريب ولا يشوبها شك إنما هي موجودة في وحي الله عز وجل إلى البشر وهو القران الكريم ومن بعد القران الكريم موجودة في أحاديث المعصومين وفي طليعتهم سيد المعصومين النبي محمد صلى الله عليه واله. 

   فهذا القران فيه تبيان وتفصيل لكل شيء، فالمطلوب أن ينفتح الإنسان المؤمن على القرآن من خلال التدبر والأنس بآياته والتفكر فيها وفي أحاديث المعصومين، فإذا انفتح الإنسان على القرآن وتدبر فيه حصل على الحقائق كما هي التي أرادها الله تعالى في كتابه وبينها المعصومون في رواياتهم عن الله عز وجل.

   فهذه المدارس الثلاث كانت متوازية، فهناك من يرى أن الدرس والبحث الفلسفي ضمن مسار معين أسمه فلسفة الأفكار والبراهين، وهناك عارف من العرفاء منهجه في تحصيل الحقائق يبدأ من النفس واصلاحها، وهناك من يرى المنهج القرآني والروائي والذي كان غالباً ما يلتزم به المفسرون والفقهاء.

قدوم مدرسة رابعة : مدرسة الحكمة المتعالية

   بعد مجيء أحد كبار فلاسفة المسلمين وهو الملا صدرا الشيرازي المعروف بصدر المتألهين والمتوفى سنة 1050 هـ أي قبل اقل من 400 سنة، حيث كان في أطراف مدينة قم، تبحر هذا العالم في البحث الفلسفي ويعد من كبار فلاسفة المسلمين، جاء بنظرية جديدة شكلت مدرسة جديدة وهي المدرسة المعروفة بمدرسة الحكمة المتعالية.

ألف هذا الفيلسوف الملا صدرا الشيرازي كتاب الحكمة المتعالية وقال فيه ضمن هذا الاطار أنه لا يوجد تخالف بين المدارس الثلاث ولا تمايز ولا توازي وإنما بإمكاننا أن نجمع هذه المدارس في مدرسة واحدة فنستدل على الحقائق التي تنتهي إليها المدارس الثلاث مدرسة الفلسفة والبرهان ومدرسة العرفان ومدرسة القرآن والوحي.

نستطيع الوصول إلى الحقائق في هذه المدارس الثلاث من خلال مدرسة واحدة.

   فصنع محاولة، حيث حاول أن يضم الفلسفة بأقسامها المشائية والاشراقية، وأن يضم مدارس العرفان وأن يستدل بنتائجه أيضا بالقران الكريم والأحاديث وحاول أن يصنع ذلك في كتابه المشهور في الحوزات العلمية الحكمة المتعالية، الان كتاب يدرس في قم المقدسة ويعتبر في القمة في البحث الفلسفي.

إذن هذه صارت مدرسة تحاول أن تجمع بين هذه الأمور وتصل للحقائق من خلال هذه المدارس الثلاث.

مجيئ المدرسة التفكيكية:

   من هنا بدأ دور الميرزا الأصفهاني صاحب هذه المدرسة كما عرفها بعض التلامذة بـ ( مدرسة التفكيك)، بمعنى تفكيك شيء عن شيء. 

   صاحب هذه المدرسة الميرزا الأصفهاني له تيار الآن في مشهد المقدسة والرأي العام في مشهد متأثر بهذه المدرسة بخلاف في قم المقدسة والذي يكون التوجه الفلسفي فيها مزدهر ومتحرك ومنتشر وهو الاقوى، نجد أن هذه المدرسة والتي تخالف بالنتيجة هذا التوجه هي السائدة في مشهد إلى درجة انهم يشكلون قوة في الساحة العلمية هناك. 

   الشيخ ميرزا الاصفهاني بعد رجوعه من النجف الأشرف إلى مشهد المقدسة بشهادة الاجتهاد، حيث درس الفلسفة هناك كان من البدايات لديه بعض الملاحظات، لكن لم يتبلور له منهج كامل إلا في مشهد واتضح بالتدريج من خلال دروسه ومنهجه الجديد التي تسمى بالمدرسة التفكيكية. 

كانت اصول هذه المدرسة موجودة في كلمات العلماء، لكن بهذا البيان والتفصيل لم تكن موجودة.

ملاحظاته: 

اولاً : قال لابد من أن نفكك بين المناهج الثلاثة ولا نخلطها لماذا؟

لأن كل منهج ومدرسة له منبع وأدوات مغاير لمنبع المدرسة الأخرى وأدواتها، كيف ذلك ؟

مثلاً يقول أن العرفاء عندما يقولون أن النفس الصافية والمرتاضة والتي تمت السيطرة عليها هي التي تدرك الحقائق فهي المصدر له، فيما القرآن والوحي مصدره الله عز وجل، فإذن هما مصدران ومنشآن مختلفان.

   أدوات البحث وطريقة الوصول للمعارف في المدرسة التي تعتمد على القرآن وأحاديث المعصومين تختلف عن أدوات البحث للمدرسة البرهانية وكذلك بالنسبة للمدرسة العرفانية ، فكل له أدواته الخاصة، فإذا كان المبدأ والمصدر في كل مدرسة مختلف وأدوات البحث ومنطق العلم فيها مختلف عن المدرسة الاخرى فيرتب عليه أن تكون النتائج مختلفة. إذن لا يمكن مع اختلاف المصادر والمناشئ أن تكون النتائج واحدة ومتفقة.

المعاد هل جسماني أم روحاني؟

ما ذكر في حقيقة المعاد هل هو معاد جسماني أو روحاني وأن النعيم والعقاب هل هو جسماني ونعيم جسماني او عقاب ونعيم روحاني؟ هذه من المسائل التي يظهر فيها الاختلاف كيف ذلك؟

   بحسب الأصول الفلسفية،إعادة المعدوم مستحيل إذا شيء عدم من الوجود فلا يمكن إعادته، كفيلسوف إسلامي يؤمن بالله والمعاد وهو جزء أساس من العقيدة الدينية في نفس الوقت مبادئ وأصول الفلسفية تقول لي لا يمكن اعادة المعدوم ماذا افعل هنا؟

   ديني يقول لابد من المعاد للناس جميعاً، مبادئ الفلسفية المبرهنة تقول لي لا يمكن اعادة لمعدوم فيقول أن هناك معاد لكن المعاد ليس جسمانيا وإنما هو معاد روحاني، الجسم يتلف ويعدم وينتهي لكن الروح لا تنعدم بل هي باقية، فهي التي تعاد وتحشر وإذا سمعنا عن المعاد في القرآن والأحاديث معناه عودة الروح فالمعاد روحاني، فإذا جئنا إلى النعيم والعذاب فإذا لم يكن الجسم موجود وهو معدوم فمن الذي ينعم ويعذب في رأي الفلاسفة؟ وكما هو معلوم هناك نعيم وعذاب ثابت في الاصول الدينية، إذن النعيم والعقاب أين يذهب؟

فيجيب أن الروح هي التي تنعم وتعذب، وأعلى درجات الروح عندما تتخلص بالكامل من البدن،فهذا ما يؤدي له البحث الفلسفي.

ماذا يجيب القرآن بشأن المعاد؟

ما يؤدي إليه البحث القرآني هو: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ )[2] آيات كثيرة تبين الإخراج من الأرض يخرجون من الاجداث، فلا يتحدث القرآن الكريم عن أرواح، يتكلم عن البدن أنتم تخرجون وتحشرون إلى ربكم بأبدانكم.

   كيف تخرج الروح من داخل القبر؟! الروح ليست موجودة داخل القبر، البدن هو الموجود داخل القبر ويخرج، هنا صار خلاف في قضية النعيم عندهم وقضية النعيم في المسلك الذي يقول به المفسر، يقال له كيف تتنعم الارواح؟

يقول هناك شعور معين تشعر به الروح بينما ذلك الفقيه والمفسر يقول الجسد موجود. ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ . فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ . وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ . وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ . وَمَاء مَّسْكُوبٍ . وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ . لّا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ . وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ . إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا . عُرُبًا أَتْرَابًا . لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ . ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ )[3]

كل هذا الوصف لأبدان ولذائذ بدنية، فالبدن إذن يتنعم وليست الروح فقط، هنا قضية من القضايا الاساسية بين من يسلك المسلك الاول الفلسفي أو العرفاني أو المسلك القرآني الفلسفي تؤدي لمعاد روحاني، وهذا ألجأهم الى التأويل تأول هذه الآيات الى ما يشابه المعاد الروحاني. 

هذه الازواج والفاكهة تعبيرات مجازية وكنائية عن لذائذ روحية نؤولها الى ما يناسب ذلك، المدرسة التفكيكية قالت ان التأويل سيحصل في كثير من الآيات القرآنية مما يشكل نوع من تحريف الكلم عن مواضعه، صحيح نحن نؤمن بالتأويل لكن في حدود ضيقة.

   فمثلاً إذا جاءت آية بالإشارة كقوله تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[4] أو (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)[5] أو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖوَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[6] إن هذا تعبير عيني دلالة على النظر والإحاطة ويدي تعبير عن القدرة، بهذا المقدار نعمل على التأويل، أما أن نأتي إلى آيات الجنة والنار والمعاد ونؤولها جميعاً ماذا بقي في القران؟

   الصحيح في المنهج العلمي أن نبقي اللفظ على معناه الحقيقي قدر الإمكان، وليس أن يأتينا منهج فلسفي أو عرفاني إلى آيات موجودة في القرآن فنحولها ونوجهها بما يخدم تلك الأفكار، بل نعمل على أن يكون القرآن هو الأصل، وما يأتي بخلاف ذلك يُرفض ولا يُقبل، فبالتالي هذا المسلك العرفاني والمعرفي إنتاج بشري بينما هذا القران إنتاج وحيائي. فلا يمكن ان نلوي عنق القران ليتناسب مع الفلاسفة والعرفاء من البشر.

هذا أساس منهج أصحاب المدرسة التفكيكية الذين يقولون أن الأساس والمرجع الأول والأخير هو القران الكريم كما أمر القران الكريم (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا )[7]

   تنقسم الفلسفة إلى فلسفة مشائية وفلسفة إشراقية وكل واحدة تختلف عن الثانية قسم من الفلاسفة يؤمنون بأصالة الوجود وقسم يؤمنون بأصالة الماهية وتترتب على ذلك اشياء. 

الانقسام هذا جاء مختلفاً لأنها من البشر فتجد فيها اختلافاً كثيراً، اما القران فهو من الله عز وجل فلا اختلاف فيه ولا تخالف بين آياته ولهذا يؤكد أتباع هذه المدرسة على ضرورة التدبر في القران الكريم، ليس فقط للعلماء حتى لعامة الناس.

الآن نجد الكثير من بلدان العالم الاسلامي أن فكرة التدبر بدأت تنتشر وتشيع، أساسها ضمن زخم هذه المدرسة التفكيكية التي وجهت بالاهتمام والتعرف على القرآن والتدبر فيه وهذه كما يقول اصحاب هذه المدرسة هو منهج أهل البيت عليهم السلام، الذين كانوا يهتمون بالقران شكلاً ومضموناً فهو مرجعية نهائية للمسلمين جميعاً حتى جعلت الثقل الاكبر، إن تمسكت به الامة لن تضل بعد ذلك ابداً بينما جعلت العترة الثقل الأصغر، كانوا يهتمون بتلاوته وشرح معانيه وجعله مقياس من خلال جعله حجة بتوجيه الناس إليه حتى ذكروا بالشكل الخارجي كما ذكر أن الامام السجاد عليه السلام كان اذا قرأ القران مجوداً سمعه الناس في الطريق فتوقفت المارة لكي يستمعوا إلى جمال صوته وكمال قراءته للقرآن الكريم. 

 

[1] ) سورة النساء آية : 82

[2] ) سورة طه آية :55

[3] ) سورة الواقعة آية : 27-40

[4] ) سورة طه آية : 39

[5] ) سورة ص آية :75

[6] ) سورة الشورى آية:11

[7] ) سورة النساء آية : 82

مرات العرض: 3451
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2569) حجم الملف: 15934.75 KB
تشغيل:

المحقق النائيني وتأسيس الفقه السياسي
المحسن الامين : الموسوعي المصلح