روي عن سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه، أنه قال: "وَاللهِ لَا يَسْمَعُ وَاعِيَتَنَا أَحَدٌ ثُمَّ لَا يَنْصُرنَا إِلَّا أَكَبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ" صدق سيدنا ومولانا أبو عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. على سبيل المقدمة، ينبغي أن نشير إلى أن النصر والنصرة قد تأتي في القرآن الكريم تارة بعنوان: فعل النصر، وتارة بعنوان: نتيجة النصر، أي الانتصار. فمرة مثل الآية المباركة: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحِ)، فنصر الله هنا نتيجة غلبة المؤمنين، فيحدث الانتصار، يحدث النصر. وهذا يسمونه العلماء، النصر: كاسم مصدر، الاسم المصدري، يعني: الانتصار. وتارة أخرى: الفعل نفسه، يعني القيام بالنصر، نصرة الله للمؤمنين، وهذا ما يعبر عنه العلماء بأنه: المعنى المصدري. ففي القرآن الكريم، عندما نتتبع هذه الكلمة، نجد أن هناك وعدا بل حقا، جعله الله للمؤمنين على نفسه، فقال: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِين). يعني: إعانتهم حتى يصلوا إلى النصر. فالله سبحانه وتعالى أوجب على نفسه بعض الأشياء من غير موجب. فأوجب على نفسه الرحمة: (كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة)، فما جاء أحد وأوجب على الله أن يرحم. ولكنه هو كتبها على نفسه. كتب للمؤمنين، وجعل للمؤمنين حقا لهم أن ينصرهم: (وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصْرُ المُؤْمِنِين)، فهل هناك من موجب على الله؟ كلا. هل هناك استحقاق؟ ليس بالضرورة. إنما ربنا سبحانه وتعالى - بمنه ولطفه وعطفه ورحمته - أوجب على نفسه أمورا: إما لعامة العباد، أو لخصوص فئات منهم، كالمؤمنين مثلا، كما هنا. هذا النصر الذي كتبه الله سبحانه وتعالى، هذه الإعانة، فبطبيعة الحال لا يتخللها استثناء، لا يغلبها غالب، لا يردها راد: (إِنْ يَنْصُرْكُم اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُم)، أو (وَنَصْرَنَاهُم فَكَانُوا هُمُ الغَالِبِين). فهذا حق من قبل ربنا سبحانه وتعالى، جعله للمؤمنين. ولعلك تقول: هذا لا نراه دائما، فمتى يحدث؟ هذا بحكمته. فأصل الحق ثابت. ولكن متى، وكيف، وأين، هذا بحكمة الله، وبتدبيره، يؤخره ساعة يشاء ويقدمه ساعة يشاء، وكل يجري بحسب الحكمة. لكن الإنسان المؤمن ينبغي أن يكون دائما مملوءا بشعور أن الله سبحانه وتعالى، ما دام ناصره فلا غالب له، وأن العاقبة له، وأن المستقبل له، وأن النتيجة في صالحه. فإن العاقبة للمتقين. هذا أول ما نواجهه في مراحل النصر، في القرآن الكريم، نصر الله سبحانه وتعالى لعباده. فهناك مرحلة أخرى، أيضا نلاحظها في القرآن الكريم، وهي وجوب نصر المؤمن لمنهج الله ولرسول الله عز وجل. فالله ينصر المؤمنين، إذ جعل على نفسه ذلك. ولكن أيضا في نفس الوقت، أوجب عليهم أن ينصروا منهجه، أن ينصروا رسله، ان ينصروا قادة دينه. (إِذَا قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَم لِلْحَوَارِيِّين مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الحَوَارِيُّون نَحْنٌ أَنْصَارُ الله). فهناك واجب على المؤمنين أن ينصروا منهج الله، فلا يصح أن يتوقعوا نتيجة النصر، وهم قاعدون! ولا يصح أن يتوقعوا نتيجة الفتح وهم متقاعسون. وهذه ليست القاعدة أبدا. فهذه: الانتصار مع القعود، قاعدة إسرائيلية، (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). عكسها المقداد بن الأسود بن الكندي - فيما تعلمون - في حديثه مع رسول الله (ص)، عندما كان النبي يتهيأ، ويهيئ المسلمين لمعركة أحد. جمع المسلمين في المدينة، الأكثرية أنصار، وأقلية مهاجرين، وقال لهم: "هَذِهِ قُرَيشُ قَدْ انْبَعَثَتْ"، وقادمة لكم، فماذا نصنع؟ نبقى في المدينة، أو نخرج لقتالهم. ثم أصحاب رسول الله قاموا وقالوا كلاما غير جيد، كلاما فيه تخذيل، كلاما فيه إماتة للروح المعنوية، فلم يسر به رسول الله (ص). فقام المقداد بن الأسود الكندي، وقال: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَال بَنُو إِسْرَائِيل لِنَبِيِّهم: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون)، وَلَكِن نَقُولُ لَكَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُم مُقَاتِلُون". هنا سر النبي (ص). ولما قام أيضا سعد بن معاذ وقال كلاما جيدا. قال: "إِنَّ اللهَ وَعَدَنِي إِحْدَى الحُسْنَيَينِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ أَبِي جَهْلٍ بْنِ هِشَام، وَعُتْبَة بْنُ رَبِيعَة، وَشَيْبَة" وفلان وفلان. فكما أن الله سبحانه وتعالى، جعل على نفسه، أن ينصر المؤمنين، وأخبرهم بأن نصره لا استثناء فيه، ولا أحد يقف أمامه، وأنه خير الناصرين، ونعم النصير، وإن ينصرهم فلا غالب لهم. فأيضا، في نفس الوقت، أوجب عليهم أن ينصروا منهجه، وأن ينصروا رسله، (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). فقد جعل علاقة بين النصرة وبين الفلاح، لو أن المؤمنين آمنوا برسول الله، عزروه، آزروه، نصروه، اتبعوا النور الذي أنزل معه، هذا كله ينتج في المعادلة (أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، فالفلاح نتيجة إلى مثل هذه المقدمات. في موضوع هذا النصر، أو النصرة، كما أن من واجب الإنسان المؤمن أن ينصر دين الله، أن ينصر رسول الله، وأن ينصر ولي الله المعصوم، أي هذا واجب على الإنسان، فإذا أراد ان يحقق إيمانه، وكمال دينه، فيجب عليه أن ينصر دين الله، وأن ينصر رسول الله، وأن ينصر ولي الله. لهذا نحن نلاحظ – مثلا - الحديث عن رسول الله المصطفى محمد (ص)، يقول فيه: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدَكُم بِاللهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبُّ إِلَيهِ مِنْ نَفْسِهِ". لماذا؟ هل القضية قضية عاطفية، أنه النبي يريد الناس أن يحبوه بزيادة؟ كلا. وإنما هذه ناظرة إلى مثل هذه المواضع. فعادة الإنسان أن يضحي بما هو أقل محبة لما هو أشد محبة. فأنت تحب المال حقا، ولكن تحب نفسك وصحتك أكثر. فتضحي بالمال من أجل نفسك وصحتك، لماذا؟ لأن نفسك وصحتك أحب إليك من المال. فأي إنسان يضحي بالأقل محبوبية في سبيل الأكثر محبوبية. فلو فرضنا أن إنسانا كان النبي بالنسبة إليه أقل محبوبية من نفسه، يعني: هو يحب نفسه أكثر مما يحب نبيه، فهل يمكن أن يضحي بنفسه في سبيل نبيه؟ كلا، لأن نفسه أحب إليه، وأعز عنده من نفس النبي، فلماذا يضحي من أجله؟ ليذهب النبي! فعندما يصبح النبي أحب إليه من نفسه، آنئذ يضحي بهذه النفس في سبيل هذا الإنسان. هنا تجي أيضا قضية نصرة الإمام الحسين (ع)، فالحديث الذي ذكرناه، فيما نقل في البحار، عن أبي عبد الله الحسين، قد ذكر في موردين بالنسبة إلى شخصين. واحد منهم يقال له: هرثمة بن سلمة. وهذا عنده قضية، يقول: خرجنا مع علي بن أبي طالب حين منصرفه إلى صفين - طبعا عندما الواحد منا يتأمل قليلا، يتبين له من الجماعة التي كانت مع علي بن أبي طالب. فهذا كان واحدا منهم - يقول: ذهبنا إلى صفين، زوجة هذا الرجل كانت امرأة موالية، يقول: فوصلنا إلى شجرة على طريق نينوى، فصلى علي عندها ركعتين، ثم قال: "وَاهًا لَكِ مِنْ تُرْبَةٍ، يُحْشَرُ مِنْكِ إِلَى الجَنَّةِ قَوْمٌ بِغَيرِ حِسَاب". ثم قال: "هُنَا يَسْتَشْهِدُونَ، وَهَذِهِ قُبُورُهم". يقول: نحن ذهبنا ورجعنا من صفين، وهذا هرثمة ذهب إلى زوجته، وقال لها: "أَمَا رَأَيْتَ مَا قَالَ صَاحِبُكِ"؛ لأنه هو كما قلنا، يظهر من هذا، ليس على خط الولاية. "أَلَمْ تَرَيْ مَا قَالَ صَاحِبُكِ؟" فقالت: "مَاذَا قَالَ؟" فقال: مررنا على شجرة فقال كذا وكذا وكذا. فقالت: "إِذَا قَالَهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ فَقَد صَدَقَ". فلا كلام فيه. ومرت الأيام إلى – هذا الكلام مثل سنة 37، 38 للهجرة - إلى سنة 61، في خروج الإمام الحسين (ع)، إذ يصادف أن يلتقي بهذا الرجل، هرثمة، في منطقة قريبة من هذا المكان. فلما رآه الحسين (ع) دعاه إلى نصرته، وقال له: أَنِّي خَارِجٌ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى نُصْرَتِي. فقال: أَنَا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ عَنْ أَبِيكَ، فقال له: نعم، فقال: مررنا في منصرفنا إلى صفين، وحدث هكذا، وهكذا قال علي أبوك. قال: "نَعَم، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَكُونَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَهَلُّمَ مَعَنَا"، فالكلام الذي قال لك عنه أمير المؤمنين تحقق الآن. فقال: لا، يا أبا عبدالله، أنا لست لمثل هذا الأمر: خلق الله للحروب رجال ورجال لقصعة وثريد فلست لقتال وشهادة وكذا، ابحث عن غيري. فقال له الحسين (ع): "إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَغَيِّبْ وَجْهَكَ". لا تبقى هنا. "فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَاعِيَتَنَا أَحَدٌ ثُمَّ لَا يَنْصُرُنَا إِلَّا أَكَبَّهُ اللهُ عَلَى مِنْخَرِيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّم". فإذا أنت في موقف، وذاك الموقف يمكن أن يدفع عن النبي أو عن الإمام الضرر، وعندك قدرة ولا تدفع عنه، فهذا يؤدي بك حسب هذا الحديث إلى نار جهنم. وهذا قد فهمه المسلمون. البارحة، نحن ذكرنا عن سعد بن الربيع، أن النبي بكى عليه، وهو من خيرة وخُلَّص الأصحاب. فهذا أصيب في غزوة بدر. حيث قال النبي لمن حضر من أصحابه: "مَنْ يَسْتَعْلِم لَنَا خَبَرَ سَعَد". اذهبوا وانظروا ما هو وضعه؟ أين هو؟ في الجرحى؟ في الشهداء؟ وكان هو زعيم عشيرة من الأنصار. فذهب أحد أبناء قبيلته. يقول: فوجدته وبه رمق من الحياة، أي بقي له شيء بسيط، فالتفت إلي وقال: يا فلان، "أَوَرَسُولُ اللهِ بِخَير؟" رأيته ينزف، وفي آخر رمق من حياته، ويسأل عن رسول: "أَوَرَسُولُ اللهِ بِخَير؟". قلت له: نعم، هو بخير. فقال: "الحَمْدُ للهِ، مَا عَلَى شَيْءٍ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ مِنْ أَسَفٍ". أي ما دام النبي سالم، لا يتأسف على شيء أبدا. ثم قال لي: "يا هذا بلغ قومي عني"، وأنا في آخر لحظات حياتي، "أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَكُم عِنْدَ اللهِ، إِنْ شَاكَتْ رَسُولَ اللهِ شَوْكَةً وَفِيكُم عَيْنٌ تَطْرُف". ليس أن يصاب النبي، بل إذا شوكة تصيب النبي، وفيكم أحد حي يحرك عينيه. فأنتم لستم معذورين أمام الله سبحانه وتعالى. ففهم هؤلاء المسلمون أن من واجبهم أن ينصروا نبيهم، ووليهم، وأن يفدوا أنفسهم، وأن يضحوا بين يديه؛ حتى لا يصيبه ضرر أو مكروه. الآن ماذا عن نصرة الإمام الحسين (ع)؟ نصرة الإمام الحسين - وهو الإمام المعصوم من أهل البيت سلام الله عليهم - لها أشكال متعددة، فلا تتصور أن نصرة الحسين كانت فقط في يوم عاشوراء، كلا. فغاية النصرة: الاستشهاد بين يديه، ولكن هذه النداءات التي يطلقها الإمام الحسين (ع)، "أَمَا مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُنَا"، هذه ليست نداءات محدودة بزمان. هناك بحث عند العلماء، أشير له إشارة، يقولون فيه: أن هناك بعض القضايا، قضايا شخصية، يسموها: قضية في واقعة. يعني مثلا: النبي أو الإمام يريد أن يحل مشكلة أحد، فيقول له كلام، مثل: "أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ". فيأتي أحدهم متنازع مع أبيه على أموال، فالنبي يريد أن يحل مشكلة هذا الولد الذي يؤذي أباه من أجل عشرة دراهم، فماذا يقول له هنا؟ يقول له: "أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ". هذه يقولون قضية في واقعة، قضية شخصية، يعني ليس كل إنسان هكذا. فلا يستطيع الأب اليوم أن يأخذ راتب ولده، ويقول له: لأن النبي قال: "أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ". فإذن الشركة خاصتك هذه كلها إلي. هذا خطأ، ليس صحيحا، لا يجوز للأب أن يأخذ مال ابنه، فغير جائز هذا. إلا إذا كان فقيرا، فيجب على الولد الغني إنفاق ماله على أبيه الفقير أو على أمه الفقيرة. ولكن لو فرضنا أحدهم غني، والأب غني، وولده عنده شركة، فيأخذ حساباته كلها، ويقول: "أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ"، لا، هذا حرام شرعا، لا يجوز. إذن ماذا تقول هذه الرواية الموجودة عند السنة والشيعة؟ "أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ". العلماء هنا ماذا يقولون؟ يقولون: هذه قضية في واقعة، قضية شخصية. فالنبي يريد أن يحل مشكلة هذين الاثنين، فيقول كلاما خاصا بهما، وليس عاما إلى كل الناس. ولكن أكثر الروايات والتوجيهات من النبي ومن المعصومين (ع)، ليست هكذا، الروايات والتوجيهات كلها عامة لكل الناس، إلا عددا قليلا نسميه: قضية شخصية، قضية في واقعة. فإذا جاءت مثلا، "أَمَا مِنْ نَاصٍرٍ يَنْصُرُنَا"، وما شابه ذلك، فالمفروض أن النصرة مستمرة وقائمة ودائمة، وليست مربوطة فقط بذلك الزمان. نعم، بعض درجاتها، مثل الاستشهاد بين يدي الحسين، مربوط بتلك الواقعة التاريخية، أما باقي الدرجات فهي موجودة إلى الآن. مثلا: الدرجة الأولى، التعاطف والتفاعل العاطفي مع قضية الحسين (ع). هذا من الأمور التي وردت في الروايات أنها نصرة له. يعني: أنت لما تتفاعل وجدانيا، تميل بقلبك إلى هؤلاء، تتفاعل مع الحسين ومع قضيته، تبكي لأجل مأساته، فأنت تقوم بدرجة من درجات النصرة. ولا تتصور أن هذا أمر بسيط. فقسم من الناس - مثلا - يهوِّن أمر البكاء، فماذا قيمة البكاء؟ لا، البكاء مهم. ماذا قيمة العاطفة؟ العاطفة مهمة جدا. ماذا قيمة العزاء؟ العزاء مهم جدا. لماذا؟ لأنه يحقق أول درجة من درجات النصرة. وهي: التفاعل العاطفي مع صاحب هذه القضية. فالقضايا تحتاج إلى روح. الآن سيارة، مجرد أن يكون فيها مقود، ودواليب، وعجلات، لا تمشي. فهي تحتاج إلى ماذا؟ إلى وقود يحرك المحرك. أما الوقود الإنسان المؤمن في هذه القضية هي عواطفه ومشاعره. ولقد اهتم أئمة أهل البيت (ع) بهذه التفاصيل الدقيقة اهتماما كبيرا جدا. لاحظوا الزيارات، الزيارات إلى ماذا تهدف؟ واحد من أغراضها المهمة: أنها تصنع هذا التفاعل. فعندما تأتي وتقف أمام قبر الحسين - بلغنا الله وإياكم زيارة قبورهم - فتقول: "لَبَّيْكَ أَبَا عَبْدِالله، لَبَّيْكَ دَاعِيَ اللهِ، لَبَّيْكَ يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنْ كَانَ لَمْ يُجِبْكَ سَمْعِي عِنْدَ اسْتِغَاثَتِكَ وَلِسَانِي عِنْدَ اسْتِنْصَارِكَ فَقَدْ أَجَابَكَ قَلْبِي وَفُؤَادِي". فأنا ما كنت موجودا في ذلك الزمان، فهذا نصيبنا وحظنا إذ لم يسمح لنا أن نكون في ذلك الموقف. قد أخِّرنا عنه. لذلك ما استطعت أن أسمع صوتك مباشرة بأذني هاتين، ولا أن أجاوبك بلساني إجابة مباشرة، لكن لم ينته الموضوع، فقلبي لا يزال ينبض بحبك ويتحرك بالميل إليك، فقد أجابك قلبي وفؤادي. وهذه أول مرحلة من مراحل النصرة: التعاطف والميل، ولهذا درجات من البكاء والحزن. ولعل الذي حفظ هذه القضية عند أكثر الناس هو هذه الدرجة. فربما درجات أخرى - كما سنتحدث عنها - لا يستطيع الكثير من الناس الإتيان بها. لكن هذه أقل درجة، والكل يتمكن منها. هذه أول درجة من درجات النصرة. درجة ثانية: درجة تطبيق الأوامر والتوجيهات. فكما قلنا قبل قليل، توجد بعض القضايا، هي قضايا شخصية، مربوطة بزمان معين، بمكان معين، وهذه لا يمكن للإنسان أن يفعل فيها شيئا، فلا يمكن أن نرجع إلى سنة 61، وأن نسمع كلام الحسين مباشرة، وأن نرفع السيف بين يديه. هذا صحيح. ولكن للإمام الحسين (ع) مجموعة هائلة من التوجيهات، من الأوامر، من الأفكار، التي لا ترتبط بوجود الإمام. "إِنِّي لَا أَرَى المَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً وَالحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَمَا"، فليست مربوطة هذه بالإمام، بل موجودة إلى الآن. "هَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَة يَأْبَى اللهُ لَنَا ذَلِكَ وَرَسُولَهَ"، ليست مربوطة هذه بوجود الإمام، ففي كل زمان: "إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي" وهذه أيضا ليست مربوطة فقط بزمان الإمام، فليس الإصلاح لا ينبغي إلا هناك، وإنما في كل الأزمنة. نعم، هناك بعض الأمور البسيطة التي ترتبط بحضور الإمام المعصوم على المشهور، فعند الشيعة، مثلا: ما ذكروه في باب الجهاد الابتدائي. فالجهاد الابتدائي، على المشهور، عند علماء الشيعة، لا يصح أن يبدأ به إلا في حال حضور الإمام المعصوم، أما في غير حضوره، فالمشهور يقول: لا، لا يوجد جهاد ابتدائي. إقامة كل الحدود، فعلى المشهور أنه: يتم في زمان الإمام المعصوم، وإن كان قسم من العلماء يقولون: لا، حتى لو قامت دولة شرعية، فتقام أيضا الحدود. قضية صلاة الجمعة ووجوبها التعييني والعيني. وهذا أيضا يقولون إنه في زمان الإمام المعصوم. ما عدا ذلك من الأحكام، سائر الأحكام الشرعية التي ترتبط بحضور الإمام ظاهرا. ولذلك نحن نتعجب عندما يقول بعض مخالفي المذهب: أن الشيعة مثلا عطلوا أمورهم وقضاياهم إلى حين ظهور الإمام صاحب العصر والزمان وخروجه. فنحن لا نرى تعطلا عندنا في شيء أصلا. ما يقوم به غيرنا، نقوم به. بل نزيد عليهم في كثير من الأمور. نعم، هناك بعض القضايا التي لا بد فيها - على رأي المشهور أيضا، وإن كان هناك بعض العلماء يخالفن في هذا - من حضور الإمام المعصوم. فإذن أكثر التوجيهات، وعموم الوصايا والأوامر والأحكام الشرعية، لا ترتبط بزمان الإمام ذاك، وإنما بكل الأزمنة. فعندما نطبق هذه الأوامر والأحكام في حياتنا الشخصية، في حياتنا الأسرية، في حياتنا الاجتماعية، في حياتنا السياسية، لا ريب هذا من نصرة الإمام أيضا. ومستوى ثالث، وهو: التبشير بآراء ومنهج وأفكار الإمام الحسين (ع) للعالم. إن شاء الله يكون لدينا حديث حول ما يجري، مما يسمى: بالربيع العربي. ونرى بعض المقارنات بينه وبين القضية الحسينية. ويتبين من ذلك أن جزءا بسيطا من فكر الإمام الحسين (ع) عندما توغل في الأمة، تغيرت. فكيف لو نشر فكر الإمام الحسين كله؟! وعندما زالت عن قسم من الناس فكرة "أَطِعْ الأَمِيرَ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا"، زالت فكرة أنه لا يجوز النهضة والثورة على الحاكم الظالم. وهي الأفكار التي أراد الظالمون المخالفون للإمام الحسين على طول التاريخ أن يكرسوها، ولا يزال إلى اليوم، حتى بعضهم جعل بيعة يزيد بيعة شرعية! لأجل هذا. حتى يقول لك: أن الخروج على السلطان عمل خاطئ. ولا يستدل عندئذ بنهضة الإمام الحسين، فيصير الإمام الحسين في رأي هؤلاء، إما باغ على إمام زمانه، وإما خاطئ. طبعا بعضهم بوقاحة وبجاحة، قال: هو باغ على إمام زمانه، مثل: ابن العربي الماليك، في كتابه: العواصم من القواصم. فقليل من فكر الإمام الحسين، الثورة على الظالمين، تغيير الأوضاع، عدم القبول، عدم الطاعة، التغيير، محاربة الباطل، قليل من هذه الأفكار، أصبحت فرجة، فوصلت إلى الناس، والناس تحركت. لكن لو ظل الفكر السائد التقليدي، من أنه "أَطِعْ الأَمِيرَ بَرًّا أَوْ فَاجِرًا"، لما تحركوا ولا بعد حتى 100 سنة، فالعرب يتحركون، والمسلمون يتحركون. فالتغيير الذي حصل هو لشي من الفكر قد نفذ، لهذا أنت تفهم لماذا هم يحاربون كل شيء يرتبط بالإمام الحسين (ع). لماذا، مأتم الحسين ممنوع؟ لماذا ينعون على أتباع الحسين، أن هؤلاء يبكون على الحسين، يلطمون على الحسين، كل يوم حسين، حسين، ماذا بهم؟ ولأنه نحن نعرف أثر الحسين (ع) في المجتمعات وفي الأمة، وأنتم أيضا تعرفون ذلك. ولذلك أنتم تمانعون وتحاربون. خلوا قليلا عن أفق الإمام الحسين، أفكار الإمام الحسين، عن "إِنِّي لَا أَرَى المَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً وَالحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَمًا"، عن "أَلَا تَرَونَ إِلَى الحَقِّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَإِلَى البَاطِلِ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ"، وأمثال ذلك من شعارات الإمام الحسين (ع). دعها تنتشر قليلا في الأمة، وانظر الأثر الذي يحصل. وهذه مسؤوليتنا أيها الأخوة في هذا الزمان. في وقت من الأوقات، كان فكر الحسين، ورأي الحسين، وتوجهات الحسين محاصرة. اليوم، وسائل الاتصال الحديثة، لم تترك شيا. نحتاج نحن أن نفهم الزمان، حتى لا يكون تفكيرنا أنه إذا نريد أن نخدم الحسين، فقط نبني حسينية، فلنبني فضائية، وندعمها بأكثر ما يمكن، وبأعلى ما يمكن. وهذا الحديث أنا ربما قلته فيما سبق، وأعيد التذكير به، وأنت الحمد لله عارف، لكن الذكرى تنفع المؤمنين، وأنت منهم. فماذا يمنع أن واحد من المؤمنين، يجعل في وصيته الآن، إلى بعد عمر طويل إن شاء الله، بالصحة والعافية، يقول أن ثلث أموالي اجعلها -يقول - مصروفا على الإعلام الفضائي الذي يبلغ فكر أهل البيت، لا تذهب باتجاه: ابن مسجد، وابن حسينية، وابن كذا وابن كذا، وإلى آخره. غيرك يكفيك ما شاء الله ممن أنت رجل واعي وأنت امرأة عارفة بدور هذه الوسائل في نشر فكر أهل البيت (ع). فماذا يمنع أن إنسانا يوقف شيئا لأجل ذلك الأمر: للإعلام الفضائي، الذي يبلغ ثورة الإمام الحسين؟ حتى يمكنك أن تحدد النمط الذي ترتاح إليه، مثلا: الفضائية الفلانية التي أنا أرتاح لها، وليس التي أنت ترتاح لها. من النصرة أيضا نشر فكر الإمام الحسين (ع) حتى نصبح في مستوى أولئك الأصحاب العظام الذين ضحوا بدمائهم في كربلاء. وبعض ألوان هذه النصرة، كما قال: "وَمَا فَاتَنِي نَصْرُكُم بِاللِّسَانِ إِذَا فَاتَنِي نَصْرَكُم بِالْيَدِ"، فيمكنك من خلال التبليغ، ومن خلال النشر، من خلال البث، أن تقوم بكل هذه الأعمال، وبأفضل المستويات. نحن نلاحظ الفئات التي كانت في زمان الإمام الحسين (ع)، فيما يرتبط بالنصرة، فئات متعددة. فعندنا هذا هرثمة بن سلمة. ومثل: عبيدالله بن الحر الجعفي، الذي قال له الحسين: "هَلُّمَ يَا عُبَيدِاللهِ إِلَى السَّعَادَةِ وَإِلَى الشَّهَادَةِ"، فقال له: يا أبا عبدالله، أنا أعطيك فرسي، اسمها: لاحق، وهي فرس للشرد، ولا أحد يسبقه. فإذا تريد أن تشرد فيه، فقط اركبه واضربه، ولا أحد يلحق بك. فهل الإمام يبحث كيف يشرد؟! هل غائب عنه أين طريق الشرود والفرار؟! لا. فقسم من الناس يأتي لكي ينصرك بما لا تحتاج إليه. فيعطيك شيئا، لكن هذا الشيء ليس مناسبا إلى هذا المكان. ومثلما نقل عن عبدالله بن عمر، لما رأى الحسين (ع) يريد أن يخرج، قال له: "يَا أَبَا عَبْدِاللهِ عَلِمْتُ أَنَّكَ عَازِمٌ عَلَى العِرَاقِ"، قال: بلى. قال: "يَا أَبَا عَبْدِاللهِ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ غَدَرُوا بِأَبِيكَ وَأَخِيكَ"، اتق الله، وابق مكانك، اجلس، ماذا عندك. فقال له الإمام الحسين: "يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، اتِّقِ اللهِ وَلَا تَدَعَنَّ نُصْرَتِي". هذه النصيحة خاصتك اجعلها لك، فتقوى الله هي في نصرة أبي عبدالله الآن. فلم يفعل. فقال: يا أبا عبدالله، لي عندك حاجة، أنا أريد شيئا من عندك. قال: تفضل. قال: اكشف لي عن موضع كان يقبلك فيه رسول الله. فكشف عن نحره وعن صدره. فقبله في الموضعين. هذا هو فقط مقدار النصر الذي أستطيع أن أنصرك فيه، أن أقبلك في نحرك. وهناك أشخاص: نصروك أحياء وعند مماتهم ويوصي بنصرته الشفيقُ شفيقا وهناك أناس أيضا يترقبون فقط المصلحة والمنفعة أو أن لا يكون هناك ضرر. ينقلون عن الفرزدق، الفرزدق بن غالب، صحيح أن له قصيدة جميلة في الإمام زين العابدين (ع)، القصيدة الميمية المعروفة، لكن موقفه من الإمام الحسين، موقف غير واضح. ينقل ابنه عنه، يقول: أنا الفرزدق، كنت في طريقي إلى الحج، فرأيت الحسين خارجا برحله. وأنا قادم إلى مكة، معي أمي، فسألني عن وضع أهل العراق، أجبته، ودعاني إلى نصرته. يقول: فقلت له: أنا معي والدتي، وليس معها أحد، فسكت عني. فلما فارقه الفرزدق، ذهب والتقى بعبدالله ابن عمر بن العاص، عمر بن العاص معروف، ولده عبدالله، كان من حملة الحديث في المدرسة الأخرى، مدرسة الصحابة. يقول الفرزدق: فذكرت ذلك لعبدالله، وقلت له: أنا مررت على الحسين، دار بيني وبينه كذا وكذا، وإلى آخره، ولكني مشيت عنه وهو مشى عني. فقال لي: "لَوْ اتَّبَعْتَهُ". أي لماذا لم تتبعه؟ قلت له: لماذا؟ قال: "فَإِنَّهُ لَيْمَلِكَنَّ". أي سيصبح عنده ملك. من أين أتى بهذا الكلام، لا نعلم. "إِنَّهُ لَيَمْلِكَنَّ، وَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ الرِّمَاحُ وَالسِّيُوفِ لَا فَيهِ وَلَا فِي أَصْحَابِهِ"، هذا "سوبر مان"، لا يضرب فيه الرمح، لا ينفذ فيه، ولا يتأثر بالسيف. ثم وراءه ملك، فغنيمة لطيفة هذه. يعني: لو تذهب إليه وتكون معه، لا يحصل لك ضرر؛ نظرا لأنه الرماح والسيوف لا تعمل فيه، وفي نفس الوقت، ستحصل على نتائج كذا. يقول: ففكرت أي فرصة هذه التي ضاعت علي. ثم ذكرت ما جرى للأنبياء. فالأنبياء قتلوا وجرحوا ونشروهم بالمناشير، فلماذا هؤلاء؟ فقلت: بالتالي جيد لم نذهب في هذا الموضوع. هذا نموذج وذاك نموذج. ونموذج أصحاب الحسين (ع)، ذاك النموذج الذي أنا وأنت مطلوب منا أن نتمثل طريق نصرة الحسين (ع) بالتفاعل العاطفي أولا، بتنفيذ الأوامر والتوجيهات التي لا تزال قائمة ثانيا، بالمشاركة في الإصلاح الذي شارك فيه الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه ثالثا ورابعا وهكذا. هذه الليلة جرت العادة أن يتم الحديث عن خروج الإمام الحسين (ع)، والذي - هو أيضا بمن سار معه - مظهر من مظاهر نصرته سلامه الله عليه. فالإمام الحسين سار معه من المدينة جمع من أهل بيته، ومن أصحابه أيضا، عاقدين العزم على أن يكونوا مع الحسين، مناصرين له. وذلك بعدما مات معاوية ابن أبي سفيان في الخامس عشر من شهر رجب، لسنة 60 للهجرة. وأرسل البريد إلى المدينة إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، والي المدينة، وفيه نُعي إلى معاوية، وأن يزيد أصبح هو الخليفة، ومطالبة لأهل المدينة بأن يبايعوا، وبالذات ثلاثة أشخاص: ابن الزبير، وابن عمر، والحسين بن أمير المؤمنين (ع). باعتبار أنهم مثلا أولاد الصحابة البارزين والذين من الممكن أن ينازعوا يزيد. فوصل الخطاب - فيما قيل - يوم 26 أو 25 رجب، الوليد أرسل خلف الحسين (ع)، وكان في مسجد رسول الله، بعد صلاة العشاء، أرسل له: أني أريدك في أمر، أن تأتي إلى قصر الإمارة. وصادف أن ابن الزبير كان موجودا في المسجد، فسأل ابن الزبير الحسين (ع) عن هذا رسول الوالي، فماذا عنده؟ قال: "يَغْلُبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ مَاتَ، وَأَنَّهُم يُرِيدُونَ الْبَيْعَةَ". الإمام الحسين يقول لمن؟ لابن الزبير، طبعا الإمام الحسين لا يريد أن يقول له: أعلم بذلك، فيقول له شيئا آخر من هذا القبيل. فالإمام الحسين (ع) أمرا عددا من اهل بيته (ع) قالوا: حوالي عشرين شخص، أو ثلاثين شخص، في بعض الروايات، أن يكونوا معه، فيذهبون معه إلى قصر الإمارة، حتى يكونوا حماية، لو اضطر الأمر إلى اشتباك، فيكون ظهر الحسين (ع) محميا، دخل الإمام الحسين (ع)، وكان الوليد جالسا، ومروان بن الحكم. هذا لعين رسول الله وطريد رسول الله من المدينة، والآن هو المستشار وهو الذي يقرر في شأن مدينة رسول الله، فالتفت الوليد إلى الحسين (ع) ونعى إليه معاوية، قال له: معاوية توفي، وصار أمير المؤمنين يزيد. وقد طلب منا أن نطلب منكم مبايعته. فالإمام الحسين (ع) أراد أن ينهي الموقف بأسهل ما يمكن. فقال له: "يَا أَمِير"، والآن الوقت ليل حسب التعبير، ولكن "نُصْبِحُ وَتُصْبِحُونَ وَنَنْظُر وَتَنْظُرُونَ أَيُّنَا أَحَقُّ بِالخِلَافَةِ"، فالقضية تحتاج إلى بحث. وليست بهذا الشكل، خلسة، ونصف الليل، ووحدي، غدا نرى الأمر. وقام الحسين لكي يخرج، وأراد أن ينهي اللقاء. مروان بن الحكم وهو مسعر الحروب عادة، قال مخاطبا الوليد، قال: "يَا أَمِيرُ لَإِنْ فَاتَكَ الثَّعْلَبُ لَنْ تَرَى إِلَّا غُبَارَهُ، لَكِنْ أَوْثِقْهُ كِتَافًا، ثُمَّ اعْرُضْ عَلَيهِ الْبَيْعَةَ، فَإِنْ أَطَاعَ وَإِلَّا فَاضْرُبْ عُنُقَهُ، أَوْ مُرْنِي حَتَّى أَضْرِبَ عُنُقَهُ". أولا كتفه، ثم بعد ذلك إذا قبل البيعة، فبها، وإذا لم يقبل، نقتله. فهنا، الإمام الحسين (ع) روح أبيه بين جنبيه، نفس أبيه بين جنبيه، ثارت في داخله عزة المؤمنين، فالتفت إلى مروان، قال له: "يَا بْنَ الزَّرْقَاءِ، أَنْتَ تَقْتُلَنِي أَمْ هُوَ كَذِبْتَ وَلَؤُمْتَ، أَنْتَ دُونَ ذَلِكَ" ثم التفت إلى الوليد، قال: "يَا أَمِيرُ"، فلقد انتهى الموضوع، لا حاجة أن نؤجلها لغد، قال: "يَا أَمِيرُ، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ بِنَا فَتَحَ اللهُ، وَبِنَا يَخْتُم، وَيَزِيدُ رَجُلٌ فَاسِقٌ فَاجِرٌ قَاتِلُ النَّفْسِ المُحْتْرَمَةِ، شَارِبُ الخُمُورِ عَامِلٌ بِالفُجُورِ، وَمِثْلِي لَا يُبَايِعُ مِثْلَهُ". انتهى الموضوع. لا توجد بيعة، توجد معارضة، فأنا أولى بالخلافة منه.