جاء في كتاب غرر الحكم ودرر الكلم عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: (رأس الآفات الوله باللذات)، هذه الحكمة هي من جملة ما يزيد على عشرة آلاف حكمة وكلمة قصيرة جمعها أبو الفتح الآمدي رحمه الله المتوفى سنة 510 للهجرة في كتابه غرر الحكم.
في نظرة عابرة الكلمات المختصرة وهي التي تسمى بالحكم في اصطلاحهم نجد أن جزء من نهج البلاغة هو في الحكم، ففي نهج البلاغة خطب ورسائل وحكم، ونجد أن هذا العالم الجليل وهو أستاذ ابن شهراشوب المازندراني أبو الفتح الآمدي جمع من كلمات أمير المؤمنين وحكمه وقصار كلماته حوالي عشرة آلاف وسبعمئة وخمسين كلمة وحكمة ثم رتبها على حروف المعجم، ثم جاء آخرون وصنفوا هذه الحكم على أساس المواضيع فمثلاً أبواب العلم قاموا بجمع الكلمات والحكم فيها وهكذا، فأصبحت شيئاً جميلاً بحيث لو أن إنساناً أراد أن يقرأ ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في عنوان الشهوة مثلاً فسيجد عشرات الأحاديث والكلمات المختصرة عنه صلوات الله وسلامه عليه في هذا الكتاب المسمى (تصنيف غرر الحكم).
في جهة أخرى نجد أن الكلمات القصيرة أو ما يسميها هنا غرر الحكم فيها ميزة هي نفسها التي توجد في الأمثال، فالأمثال التي تدور في المجتمع بين الناس هي عادة أمثال قصيرة لكنها تحوي معاني كثيرة وتجارب ولذلك تتناقل بسهولة، كذلك بالنسبة للحكم كقوله عليه السلام: (قيمة كل امرئ ما يحسن) فهي فقط أربع كلمات ولكن عندما تنفذ إليها ترى فيها بحراً من المعاني وهو أنه ليست قيمة الإنسان بشكله وجماله ولا بثيابه ولا بنسبه وعرقه كما يرى قسم من الناس بأن قيمتهم فيما يقتنون من سيارة أو منزل أو حقيبة أو رصيد، فهنا امير المؤمنين عليه السلام يوضح بأن قيمة الإنسان هو ما يحسن من كفاءاته وقدراته وفائدته ونفعه وهذه الأمور هي التي تعين قيمته في هذه الحياة.
حديثنا سيكون من هذا الكتاب (غرر الحكم) للآمدي وهو من كبار الشيعة ومحدثيهم ويعتبر من المتقدمين في سنة 510 للهجرة أي بعد فترة الغيبة الصغرى بشيء بسيط.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (رأس الآفات الوله باللذات) تعبير رأس هو حري بالإهتمام، قرأنا قبل ذلك: (حب الدنيا رأس كل خطيئة) أو في كلمة أخرى: (رأس الحكمة مخافة الله عز وجل) نجد تعبير رأس في عدد من الأحاديث فالرأس فيه جهتان: الجهة الأولى: هي الجزء الأظهر في البدن فأول ما تواجه إنسان تنظر إلى رأسه لأنه أظهر وأوضح شيء فيه ويعرِّف بهذا الشخص، الجهة الثانية: هو تعبير عن مكان التأثير والتأثر أي أنه كمركز قيادة فسبب الشيء ونتيجته تكون في الرأس ولهذا نجد أن الروايات والأحاديث تستفيد من هذا المعنى، إما لأن الرأس هو أوضح شيء وأعظمه أثراً أو لأنه سبب سائر الأمور، ولهذا عندما يقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة أي أن منبع الخطايا وسببها هو حب الدنيا.
هنا أيضاً نجد أن الوله باللذات هو رأس الآفات فلذة الإنسان المختلفة هي أمر من الله سبحانه وتعالى غرز في البشر كاللذة بالطعام أو الجنس الآخر، فلو وجدنا أن أحدهم لا يلتذ بالطعام ولا يشتهيه من الممكن أن حياته لا تستقيم، ولو فرضنا أن أحدهم لا يلتذ بالجنس الآخر فقضية التوالد والتكاثر والتناسل سوف تتعطل عنده وهكذا، فأصل وجود اللذة عند الإنسان والتذاذه بها أمر فطري بل ضروري لاستقامة واستمرار الحياة البشرية.
المشكلة التي تحدث عند الإنسان أنه يحتاج إلى ضوابط إما أخلاقية بغض النظر عن الدين كما هو موجود عند قسم من الناس، فقبل بعثة الأنبياء أو في الأماكن البعيدة يوجد أناس ضبطوا التذاذهم وشهواتهم بعقلهم وبالتالي استطاعوا أن يوقفوا الإقبال على اللذة بأكثر ما يمكن، لكن هذا أمر نادر فالوقوف أمام التمادي مع اللذات أما أن يكون له جهة دينية تنتهي إلى التخويف بعقاب الله عز وجل والترغيب في ثوابه فيترك الإنسان هذه اللذة، كالجنس المحرم فيه لذة لكن لو تركه الإنسان فسيحصل على الحور العين في الجنة ويحصل على لذة محللة في الدنيا وينجو من عقوبة أخروية، فلابد من وجود جهة دينية يتأثر بها الإنسان المؤمن لتقف أمام تمادي ونداء الشهوة واللذة العارم الذي لا يتوقف امام حد.
أو أن يكون هناك نظام عقوبات بشري يعاقب على ذلك، والفرق بينه وبين الجهة الدينية أن نظام العقوبات البشري يمنع عن التمادي مع اللذات فقط في الظاهر بعكس الجهة الدينية فالإنسان عندما يكون صائماً مثلاً حتى وإن كان داخل منزله فإنه يمنع نفسه عن اللذات مع أنه لا يراه أحد ولا يعاقبه ظاهراً.
الإمام عليه السلام حتى يوقف انسياق الإنسان الكبير وراء اللذائذ متخطياً الحواجز الشرعية يأتي ويبين عدداً من المشاكل التي تنتهي بها اللذة عند الإنسان، أولاً يقول رأس الآفات الوله باللذات، الوله هو أكثر من حب اللذة لأن الحب له درجات كما يذكرون في اللغة لكن عندما يصل الإنسان إلى الوله بشيء يكون وكأنه لا يلتف إلى شيء آخر غير ذلك الشيء الذي توله به، فإذا توله بمحبوبة مثلاً فلن يلتفت لحاجز شرعي ولا عرفي ولا إلى شيء، فالإمام عليه السلام يقول أن هذا الوله هو رأس للآفات.
نذكر قصة عن أحد المؤمنين يقول أنه تحير مع ابنه لأنه لا يستطيع أن يسيطر على لذة الطعام، حتى أصبح يعاني من السمنة المفرطة وهو في عمر صغير، فيأكل أي طعام يقدم له حتى وإن لم يكن جائعاً ولا محتاجاً له، فنجد أن هذا التوله في الطعام ينتج آفة البدن من أمراض السكر وغيرها من المشاكل الصحية، وعلى مثل هذا الأمر نقيس سائر القضايا فنجد مثلاً الذي يتوله بالجنس الحرام وباللذات المحرمة أحياناً يدخل في معارك وسرقات حتى يؤمن هذه اللذة التي هو موله بها فتتتابع عليه الآفات من آفة صحية واقتصادية لأنه يخسر الأموال الطائلة في سبيل الحصول على تلك اللذة، وقانا الله وإياكم والمؤمنين شر الإدمان فهو يبدأ بشيء صغير كحبة للتركيز مثلاً أو حبة تساعد على السهر في وقت الاختبارات وهكذا ثم بعد ذلك يشتاق إليها ذلك الشخص مرة ومرتان حتى يصل إلى مرحلة الإدمان والوله.
الوقوف أمام هذا الوله في اللذات هو أن يتذكر الإنسان مجموعة أمور منها أن يتذكر ربه سبحانه وتعالى ونهيه، ويتذكر أنها لم تصبح محرمة إلا لأن فيها آفات في الصحة أو السمعة الاجتماعية أو الموقف يوم القيامة، كما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: (لا توازي لذة المعصية فضوح الآخرة وأليم العقوبات) مثلاً لو أن إنساناً يقبل على مشاهدة الأفلام الخلاعية أو يقبل على أخذ مال الغير من غير وجه حق فإنه يلتذ بها مؤقتاً في أثنائها ولكن هذه اللذة التي هي سريعة الانقضاء هل توازي فضوح الآخرة؟ فلن تكون هناك حسابات خاصة يوم القيامة وإنما على رؤوس الأشهاد، ستر الله علينا وعليكم خطايانا، فالفضيحة هنا فضيحة عظيمة وهذا بالنسبة إلى كل الناس فكل شخص لديه محيط اجتماعي يقدره ويحترمه من أسرته وعائلته وأهل حيه ومن يعمل معه يظنون به خيراً، فكيف به عندما يفضح أمامهم يوم القيامة؟، إذاً فإن لذة المعصية لا توازي الفضيحة.
هنا أمير المؤمنين عليه السلام يريد أن يقول بشكل غير مباشر أن العاقل لا يدفع هذا الثمن، فلو اشترينا قنينة ماء بريال واحد فسيكون الأمر عادياً لأنه يوازي قيمتها، لكن عندما يُطلَب منا ألف ريال مقابل هذه القنينة فلن ندفع هذا الثمن لشرائها لأن ثمنها أكبر بكثير من قيمتها الحقيقية، كذلك لذة المعصية ثمنها غالي جداً وهائل مقابل فضيحة يوم القيامة.
في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام: (لا خير في لذة توجب ندماً وشهوة تعقب ألماً)، مثلاً مريض السكر يعلم أن السكريات تضره ولكنه لأجل شهوة أكل بعضاً منها فسببت له ندماً، وهكذا بالنسبة إلى قضية الذنوب والمعاصي.
أيضاً في حديث آخر يقول مولانا عليه السلام: (عجبت لمن عرف سوء عواقب اللذات كيف لا يعف) لو أن إنساناً يعلم أن وراء هذه اللذة المؤقتة عواقب سيئة كالفضيحة في هذه الدنيا أو غيرها من النتائج السيئة فكيف لا يعف نفسه عن ارتكابها؟
يقول عليه السلام: (قل من غري باللذات إلا كان بها هلاكه) لو أن أحدهم أراد أن يحصل على أموال كثيرة جداً في وقت مبكر من عمره حتى يلتذ بالمظاهر أمام الناس وهو يعلم أن هذه الأموال الطائلة لا تأتي بسرعة في وقت قصير بل حتى يحصل على ذلك لا بد له أن يسير وراء طريق معين به عواقب دنيوية قد تؤدي بحياته، فإذا فكر الإنسان بتلك العواقب فسيمتنع عنها ويسيطر على نفسه ويلتزم بما أمر الله عز وجل به من السير في ضمن الحدود التي تؤمن اللذة بتمامها وكمالها وتؤمن رضا الله سبحانه وتعالى في نفس الوقت، فالإنسان المؤمن لا يخسر شيئاً لأنه لديه من طرق إشباع اللذة ما هو يكفيه ويزيد عن حاجته لكن ضمن إطاره المشروع.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للإلتزام بما يرضي الله عنها واجتناب ما يسخطه إنه على كل شيء قدير وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.