الكذب خلل العقيدة والأخلاق والعلاقات
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 14/9/1433 هـ
تعريف:


الكذب خلل العقيدة والأخلاق والعلاقات


تفريغ نصي الفاضلة أم سيد علي الفلفل
صياغة الأخ الفاضل أبي محمد

 ( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿75﴾ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴿76﴾ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴿77﴾) 

      الكذب من الذنوب التي تُعرّفها النصوص الدينية على أنها من الكبائر، بالرغم من أن كثيراً من الناس ينظرون إلى هذا الذنب باعتباره خلق سيء لكنه هيّن, وسوف يتبين لنا في أثناء الحديث -بإذن الله تعالى -أن الكذب منشأ لاختلالات عقائدية و لصفات نفسية سيئة، بل هو بوابة الدخول الى مدينة الخبائث، بالإضافة إلى المشاكل الاجتماعية والسياسية التي تترتب عليه.
    الآيات المباركات تشير إلى أن الشرك وهو أكبر الكبائر هو عبارة عن فرية, وهو يساوي الكذب كما في قول الله عز وجل: (إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا) ، الافتراء يعني الاقتطاع مثلاً فرى اللحم أي قطعه .

الشرك بالله هو افتراء وكذب 

    كأن الكاذب يقطع الأشياء يختلق الأشياء يقطعها من مكان إلى مكان، لذلك سميت الكذبة فرية والكذب المختلق المصطنع يقال له افتراء، هذا الشرك الذي لا مغفرة فيه ولا رحمة لله لمن يرتكبه إن هو إلا افتراء إن هو إلا كذب، ولكن كذب كبير وعظيم فعندما يأتي أحد ويقول إن لله شريك، إن المسيح عيسى بن مريم هو شريك الله، إن عزير شريك الله، إن فلانا مع الله عز وجل، فهذا كذب وافتراء على الله ، الله سبحانه وتعالى يقول (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ)  ، فتلاحظ أنّ القران الكريم جعل الشرك وهو انحراف عقائدي خطير جعله ناشئ عن فرية وكذبة.
الكذب مقدمة للنفاق

   الكذب بلا شك هو مقدمة لنشوء حالة نفاق في نفس الإنسان، فإذا تابع مسيرة الكذب لا سيما في عهوده ومواثيقه مع الله عز وجل سوف ينتقل من مرحلة الإيمان إلى مرحلة النفاق كما في الآيات التي تقدمنا بها، (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿75﴾ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴿76﴾) 
النتيجة ماهي ؟
 (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)
 لماذا ؟
  (بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ)  .

قصة ثعلبة بن حاطب
 
    المؤرخون والمفسرون يذكرون هذه الحادثة في حق رجل اسمه ثعلبة بن حاطب، هذا الرجل كان فقيراً ومن أهل الصفة -الصفة مرتفع في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وهو مكان موجود إلى الآن - هذا المكان كان مخصصاً لمن لا يملك منزلاً أو مسكناً من فقراء المسلمين، ينامون فيه، فكان ثعلبة من الأشخاص الموجودين فيه، حيث كان ينام في المسجد لا زوجة له ولا ولد ولا مال ولا بيت، وبطبيعة كونه في المسجد كل الصلوات كان هو يصلي في الصف الأول، فذات يوم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله: يا رسول الله إني سئمت الفقر ادعو الله لي أن يرزقني مال -النبي يظهر كان يعرف من أن يبقى على وضعه ويحافظ على إيمانه هو أفضل له من أن يغتني -فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا ثعلبة اتقي الله وأحسن -فالمهم هو التقوى وإحسان العمل- فجاء  إلى النبي صلى الله عليه وآله مرة أخرى ، وقال له: يا رسول الله ادعو الله لي بالغنى –أي أنت ادعو الله لي والله سوف يرزقني فإذا رزقني الله سترى ماذا سأفعل إذا لم اعطي ثلاثة أرباع مالي أعطي النصف فلن يبقى أحد فقير إلا أعطيته واكسي وأطعم - فقال له صلى الله عليه وآله: اتقي الله وأحسن، في المرة الثالثة وبإلحاح منه، رفع النبي صلى الله عليه واله يده وقال: اللهم ارزق ثعلبة مالاً.  فأصبح له غنيمات ببركات دعاء النبي صلى الله عليه وآله، تناتجت وتكاثرت فأصبح يبيع ويشتري، فذهب واستأجر مكان في المدينة وتكاثرت هذه الغنيمات على مدى سنة أو سنة ونصف، وأصبح لديه قطيع كثير من الأغنام فكان بقاؤها في المدينة غير مريح، فخـــرج الى سرح المدينة -أي أطراف المدينة - وصار لديه حظائر كبيرة.  ومن الطبيعي أنه إذا ذهب إلى هناك فلن يكون في الصف الأول في الصلوات خلف رسول الله صلى الله عليه وآله كما كان سابقاً، بل تخلف عن الصلوات لانشغاله بأغنامه، لأنه لا يستطيع أن يذهب إلى هناك ثم يأتي للصلاة فإذا خرج للمرعى لا يلحق على الصلاة فترك الفرائض والمستحبات التي كان يفعلها.
   فلما نزلت آية الزكاة (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) ،  أرسل النبي صلى الله عليه وآله المزكين إلى الذين لديهم أنصاب زكاة كالذين يملكون الأبل والأبقار والأغنام أو من لديهم حصاد زرع.
   فجاء المزكي إلى ثعلبة وقال له: إن النبي أرسلني إليك حتى نقّيم ما تملك ونحسب بمقدارها ما عليك من الزكاة، فثار ثعلبة وقال: هذه جزية ونحن لسنا كفار، فقال له: الجزية شيء والزكاة شيء آخر، فقال: لا  هما سيان، فقال له: اذهب أنت إلى من عليه زكاة ثم ارجع إليّ، ثم ذهب ورجع مرة أخرى إليه، ولكن ثعلبة أعاد نفس الكلام بغضب، فذهب ثعلبة وجمع له كل من بها عيب من عور أو كسر وأعطاها المزكي، فقال له: رسول الله أمرنا أن لا نأخذ إلا طيباً، فرجع المزكي إلى رسول الله صلى الله عليه واله وأخبره بالخبر فنزلت الآية المباركة (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿75﴾ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴿76﴾ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴿77﴾ )  يعني هذا الكذب الذي مارسه هذا الإنسان بأن لو أعطاه الله تعالى سيصنع كذا وكذا لم يصدق فيما وعد وعاهد عليه الله فأدى به الأمر إلى أن أعقبه نفاق فتحولت حالته من إيمان الى نفاق.

في هذه هذه القصة فيها كثير من الدروس والعبر منها:

1- سقوط نظرية عدالة الصحابة.

     هذه النظرية التي ننظر للصحابة بأنهم كلهم عدول وأنهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وأن الجيل الذي كان يعيش مع النبي صلى الله عليه وآله جيل مثالي ليس صحيحاً، بل فيهم المؤمن المخلص وفيهم المنافق وفيهم الجاحد، فكل الدرجات الموجودة في هذا الزمان موجودة في تلك الأزمنة، إضافة إلى ذلك أن نموذج ثعلبة هو يبين أنه ليس فقط من صحابته، بل ملتصق بالنبي صلى الله عليه وآله في المسجد، ومع ذلك يقول القران الكريم بالنص هذا صحابي تحول إلى منافق إلى يوم القيامة.
2-الكذب يقود إلى النفاق

 نلاحظ أنّ القران أشار إلى أن الكذب من الممكن أن يُصنع وينتهي إلى حالة من النفاق، فأصبح عندنا درجة الشرك عبارة عن فرية كبرى وكذبة عظمى على مستوى العقائد، والنفاق ينتج من حالة كذب ويحول صاحبه من الإيمان إلى هذا المستوى المتدني عبر بوابة الكذب.

3-الطغيان:

طغيان الإنسان حينما يستغني (كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى(6)  أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى(7) )   فحينما يطغى الإنسان تصبح لديه مبررات يسوغ بها أعماله كأن يطلق على الزكاة المفروضة جزية كما في قضية ثعلبة.
 
الكذب مقدمة للرذائل

    إن الرذائل الأخلاقية والخبائث من الممكن أن يكون منطلقها الكذب، وأن الكذب يعتبر بوابة لها كما في روايات كثيرة، فمن الروايات بهذا الشأن:
 (جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب)
وحديث أكثر من ذلك وأعجب
(إن الله عز وجل جعل للشر أقفالا، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شر من الشراب) .
   الكذب أكثر خطورة وشرره أكثر شرب الخمر، هذه حقيقة لا يتوقعها الإنسان أبداً لعلك تقول لماذا ؟
 قد يكون نظراً لأن شرب الخمر مداه مدى مؤقت إمكانية تناوله إمكانية محدودة ولكن إمكانية تناول الكذب هو في كل الأوقات،وفي كل الظروف لأنه بعيد أن يأتي الإنسان إلى المسجد ويشرب الخمر, بعيد أن يأتي في وسط الناس ويشرب الخمر, لكن من الممكن أن يأتي وسط المسجد ويكذب في وسط الناس ويكذب في كل الأوقات، يكذب قبل الصلاة أو بعد الصلاة.
    والكذب يبدأ من القضايا العقائدية كالشرك بالله عز وجل إلى القضايا الأخلاقية والفقهية بينما أمر الشراب على سوءه وعلى عظمته وعلى شدة ذلك الذنب إلا أنه لا يصل إلى هذه المديات التي يصل اليها الكذب, لذلك ينقلون أنه جاء رجل إلى نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله،  فقال له: يا رسول الله أنا انسان عندي ذنوب كثيرة أسرق، أشرب الخمر فإذا مررت بمحرم وتمكنت أن أفعله فعلته وأكذب فما تأمرني؟ أخبرني بشيء واحد لا أفعله، فقال له: الرسول صلى الله عليه وآله : لا تكذب، فرد عليه فقط هذه؟! هذا أسهل الأمور كنت قد اعتقدت أنك ستقول لا تشرب الخمر , لا تزني , لا تسرق وإذا أنت تقول لا تكذب فهذا جداً أمر بسيط وسهل فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأراد أن يشرب الخمر في ذلك اليوم على عادته ففكر إذا أنا شربت الخمر وسكرت وتأخرت عن الصلاة وسألوني ماذا أقول ؟ هل أقول لهم شربت خمراً ! وإن أخبرتهم عن غير هذا الأمر فقد كذبت، وقد قال لي النبي: لا تكذب، فذهب لكي يمارس فعل الزنا فقال في نفسه لو رآني أحدهم وسألني أين تذهب؟ لن أقول له سأذهب الى المسجد إن صدقت معه فأنا في ورطة وإن كذبت خالفت أمر رسول الله وترك ذلك الفعل وهكذا .
   مما يشير الى أن  الحديث الذي يقول إن الخبائث جُعِلت في بيت وجُعِل مفتاح ذلك البيت في الكذب أي أن بوابة الدخول الى الخبائث هو الكذب . حتى في العبادات عندنا فالرواية تقول الكذبة تفسد الصيام بعض العلماء قالوا ندعها على ظاهرها لا نتصرف بها، فلم تقل الرواية تفطر الصائم فإذن معناها أن الصيام بما له من الآثار في صنع التقوى وفي صنع صفاء القلب و في الآثار المعنوية أنه إذا كذب في صومه تلك الآثار المعنوية لا تحصل، أي لا يصبح لديه تقوى ولا صفاء قلب ولا تعلق بالله عز وجل.
 فإذن الكذبة تفسد الصوم يعني تفسد آثار الصوم في نفس الصائم، بعض العلماء لاسيما مع استفادتهم من قسم من الروايات قالوا لا ليس أي كذبة، وإنما الكذب على الله وعلى الرسول يفسد الصيام بمعنى أنه يبطله، فلو أن شخصاً جاء وقال: لله شريك فهذا كذب على الله عز وجل، ولو قال أوحي إليّ، والله لم يوحي إليه بشيء فهذا كذب على الله عز وجل، فلو قال هناك آية قرآنية كذا وكذا وهي غير موجودة فهذا كذب على الله عز وجل، فإذا صادف ذلك في نهار شهر رمضان أفسد صومه، وهكذا لو كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله جازماً بذلك بنسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله، وكان هذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وآله فهذا صومه قد فسد بمعنى أنه فطر.
   فالكذب من الممكن أن يكون على مستوى الشرك بالله عندما تكون الفرية في الأمور العقائدية، كأن يقول لله شريك، لله صاحبة، لله ولد وما شابه ذلك، (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا) .
    قد يكون الكذب من أسباب صناعة النفاق في نفس الكاذب، فعندما يخالف مواثيقه مع الله عز وجل ويكذب فيما تعهد عليه كما في قصة ثعلبة فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون.
   وقد يكون الكذب باب للخبائث، واغلاق هذا الباب يعني اغلاق باب الخبائث والشر على الإنسان، لذلك ينبغي للإنسان أن يحتاط في أمر افتراء الكذب، فعندما نقول افتراء الكذب لا نقصد مجرد كذبة يكذب بها  الإنسان في الحديث، جاء في مضمون إحدى الروايات أن رجلاً سأل الإمام الرضا عليه السلام : إني أسمع أن هناك حديث عن الكذب وأن له آثار وليس منا إلا أن يتعرض لهذا ويجري الكذب على لسانه  فهل يترتب عليه جميع هذه الأمور؟ فقال له الإمام عليه السلام: إلا إذا عُدّ الرجل كذاباً - أي تحول إلى فلان الكذاب بحيث تصطبغ شخصيته بالذنب لذلك يقال إن الله لا يقبل من كذا شخص صرفاً ولا عدلاً وعُدّ منهم الشيخ الزاني ليس لأنه زنى مرة واحدة وإنما على تكرر منه هذا الذنب فأصبح معروفاً بأنه زان، وهكذا بالنسبة للكذاب فهنا يترتب عليه آثار التي تترتب على الكذب لهذا يحتاج الإنسان أن يحتاط كثيراً.
    الكذب سبّب انحراف عقائدي لدى أجيال المسلمين

     إذا نظرنا إلى ما هو موجود الآن في عالمنا الإسلامي، نلاحظ أن جزءاً كبيراً من الانحراف العقائدي والفقهي سببه الكذب، وإلا كيف انحرفت عقائد قسم من المسلمين ؟! إنما ذلك على أثر وجود محدثين كذبة، كذبوا على رسول الله صلى الله عليه واله ونقلوا أحاديث مزورة، فالأجيال التي تبعتهم على أثر ذلك  أصبحت عقائدها عقائد مشوهة، فنرى مستوى الجريمة أنّ محدّثاً كاذباً نقل حديث مكذوباً فالأجيال اللاحقة وعلى مراحل تاريخية متعددة جميعهم سينحرفون نتيجة لهذا الحديث المكذوب وستصبح عقائدهم منحرفة، وستصبح عبادتهم خاطئة على أثر ذلك ، فإذا كان الحديث يتعلق بالوضوء أو الصلاة أو الحج مثلاً فهؤلاء الناس سيكون وضوئهم أو صلاتهم أو حجهم فيه خطأ ومشكلاً.
    إذن من الممكن أن يكون حديثاً واحداً مكذوباً في العقائد أن يؤدي إلى فساد عقائد وعبادات أجيال من المسلمين، ألا يستحق الكذب هذا المقدار من التهديد والوعيد عليه واعتباره كبيرة من الكبائر العظمى؟!
    بل ما نجده من المشاكل الآن بين المسلمين جزء هو كبير منها يعود إلى الكذب، فإذا جاء كاتب أو واعظ أو خطيب أو متكلم ويقوم بالكذب على فرقة كاملة من المسلمين كأن يقول مثلاً: الشيعة يعبدون علي بن أبي طالب ويعبدون أهل البيت ويعتقدون بتحريف القران ويفعلون كذا وكذا، ثم تنشأ أجيال من بعده وتؤمن بهذه الأفكار الكاذبة المتعمدة مما يؤدي إلى الصراع والنزاع والانشقاق بين المسلمين وتسيل الدماء على أثر أمر سببه الكذب والافتراء، فكم من البغضاء والشحناء والإحتراب وسفك الدماء نتج على إثر كذب مفترى؟ وكم من الإحن والأحقاد أثيرت على هذا الأمر! وهي أمور بلا شك كاذبة.

من الممكن أن تصنع حروب وأحقاد بين المجتمعات الإسلامية على أثر صورة مكذوبة ومشوهة نقلها هذا أو ذاك، ونلاحظ اليوم آثار الإعلام الكاذب في مختلف الأماكن من قنوات فضائية ومجلات أو صحف ووسائل تواصل اجتماعي، ونسمع هذا الكلام الذي لا أصل له ولا مصداقية فيه، وكله إنما هو صناعة نفس القائل بالافتراء وتأليف منه الذي لا أثر لها في الواقع الخارجي، وهذا يؤكد ما يقوله أمير المؤمنين عليه السلام : ( إياك إياك ومصاحبة الكذاب فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب )  أي أن  الكذاب  يحول الأمن إلى خوف والخوف يحوله إلى أمن، والعدو يحوله إلى صديق والصديق يحوله إلى عدو والدين يحوله إلى انحراف والانحراف يحوله إلى دين، ولذلك كان مكسب هؤلاء حراماً سحتاً،  فالذي يكتب مقالاً في صحيفة ما فيملأها كذباً وزوراً، فهذا لا يحل له المال الذي أخذه عليه فهذا المال من المكاسب المحرمة لأنه تكّسب بالكذب.
فالذي يقوم بوضع تصوير معين للتاريخ الماضي أو الحاضر وهو تصوير كاذب ويقبض عليه اموال يحرم عليه أن يتصرف في هذه الأموال لأنه تَكَسُّب محرم منشأه الكذب ولا يحل له أخذ المال، فلذا رأينا أن الكذب بهذا الشكل وبهذا المستوى من الحق جداً أن يكون من أكبر الكبائر ومن أعظم العظائم ومن الذنوب الكبيرة التي لابد على الإنسان أن يسعى قدر الإمكان إلى اجتنابه، وأن لا يسمح بدخوله في حياته.
  
الموارد التي لا يحرم فيها الكذب:
    استثنى علماؤنا ومنهم الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري - أعلى الله مقامه - في كتابه المكاسب في قسم المكاسب المحرمة حيث ذكر في باب التكسب بالكذب وهو حرام ويستثنى من ذلك موردان التي لا يحرم فيها الكذب:

أ-مورد الضرورة
 
   الضرورة رافعة للأحكام الأولية فإذا الإنسان اضطر إلى أن يأكل لحم الميتة (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ )  لحم الميتة كما هو معروف حرام نجس ولحم الميتة المقصود به الغير مذبوح على الطريقة الشرعية ولم يذكر اسم الله عليه ولم يذبحه مسلم فلا يجوز أكله إلا في حالة الاضطرار للحفاظ على الحياة، فلو أن إنسان ذهب إلى مكان لا يوجد إلا هذا الطعام وتوقف حفظ نفسه على هذا الطعام لا يحرم عليه أكله للاضطرار.
الكذب من هذا النوع إذا اضطر الإنسان للحفاظ على نفسه أو على عرضه أو على مال معتد به بحيث تكون خسارته خسارة لا تتحمل بالنسبة له أو لمن يهمه أمره كزوجته أو ابنه فيضطر ان يقول غير الحق، فلا مشكلة هنا فالضرورة تبيح قول غير الواقع وخلاف الحق،

ب- مورد الإصلاح

     لو حصل خلاف على مستوى الأسرة وكاد هذا الخلاف أن ينتهي بالطلاق لو قال الزوج لزوجته محض الحق، فهل يجوز كذب الزوج على الزوجة لتفادي ذلك؟
   هنا للإصلاح لا يحرم فعلي الزوج أن يقول غير الواقع، والبعض يعتبر هذا الكلام ذريعة بأن يجوز الكذب على الزوجة لا ليس الأمر كذلك. الكذب فقط بمورد الإصلاح يكون مع الزوجة أو مع أي شخص آخر، فلو كان هناك بين اثنين بغضاء وشحناء وذهب  أحدهم  إلى شخص منهم وأراد أن يكون صادقاً  من خلال نقل ماذا قال عنه فلان من شتم وسباب فحتى لو كان صادقاً، فإنه يُكتب هذا الكلام - حسب رواية عندنا - عند الله كذّاباً، بينما إذا قال خلاف ذلك وأدى إلى إصلاح بين الطرفين وإن قال غير الحق يكتب عند الله صادقاً، لماذا؟ لأن الدين جاء من أجل صناعة الإصلاح، الإصلاح على كافة المستويات،  الإصلاح الاجتماعي، الإصلاح السياسي، الإصلاح الاقتصادي، الإصلاح بين الناس.
    لسان حال الأنبياء ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ) كل ما أريده هو الإصلاح، وأيضاً كان هذا الشغل الشاغل الأئمة عليهم السلام، بلسان الحصر يقول الإمام الحسين عليه السلام ( إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ).

 

مرات العرض: 6634
المدة: 00:51:37
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (4463) حجم الملف: 17.7 MB
تشغيل:

السرقة في أشكالها الخفية
ارتكاب الظلم من كبائر الذنوب