وأول عمل يأمره به القرآن الكريم يرتبط بالفكر والثقافة ,بل إن المعجزة التي جعلها الله لرسوله خالدة هي معجزة قولية ترتبط بالفكر والعلم .
ذلك أن المعاجز في تاريخ الأنبياء على قسمين :
فإن الأنبياء السابقين لرسول الله كانت معاجزهم فعلية ,كمعجزة نبي الله موسى حيث (قلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم ) ,فإن النبي يزود بشيء خارق للعادة بحسب زمنه ويعجز الموجودين عن الاتيان بمثله ومن خلال ذلك تتبين معجزة النبي ,وهكذا عندما يؤمر بالقاء عصا عادية بحسب الظاهر (فإذا هي تلقف ما يأفكون ) هذه معجزة فعلية ,ترتبط بالفعل .
هذا بالنسبة إلى موسى وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر الأنبياء ، فنبي الله عيسى (أبرء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ) وهي ترتبط بالأفعال .
أما معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وهي القرآن فهي معجزة ترتبط بالقول, بالفكر,والعلم ,وتختلف المعجزة الفعلية عن القولية بأن المعجزة الفعلية متصرمة زمانا ومنتهية مكانا ,بخلاف القولية والفكرية . فنحن الآن لا نستطيع أن نطلع على معجزة موسى أو عيسى أو سائر الأنبياء وإنما نصدق بحسب ما بلغنا من خلال القرآن والأحاديث .
أما المعجزة القولية واللفظية كالقرآن الكريم فلا تزال حاضرة بين الناس ,يستطيع ذوو الإدراك أن يتعرفوا على جهات إعجازه , مثلما صنع الذين نزل عليهم في أول الإسلام .ولهذا وجدنا أن عددا غير قليل ممن تأمل في القرآن وآياته من غير المسلمين قد أدركوا أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من بشر بل هو كلام الله للناس .
وينبغي أن لا نغفل عن أهمية الفكر فعلى اساسه تقوم المجتمعات والحضارات ، وتتميز ..
فقد كان يوجد في زماننا معسكران ,المعسكر الشرقي والآخر الغربي , وقد بدأ المعسكر الشرقي يتبخر , ما هو الفرق بينهما ؟ الفرق هو في فكرتين قام عليهما كل من المجتمعين فبات هذا المجتمع متميزا عن ذلك المجتمع.
فالباحثون عندما يتحدثون عن بدايات التأسيس يذكرون كتاب (ثروة الأمم ) الذي كتبه العالم الاقتصادي الغربي آدم سميث وكان نواة لقيام الثقافة التي تأسس عليها المعسكر الغربي المعروف اليوم,,في اقتصاده وفي نمطه الأخلاقي والحضاري , حيث جعل الغرب هذا الكتاب إماما له وقاعدة يعتمد عليها .
في الطرف المقابل كانت كتابات كارل ماركس هي الأساس الذي اعتمد المعسكر الشرقي عليه فتبلور معسكران ، يبتني كل مجتمع منهما على فكرة تختلف عن الفكرة الأخرى .
كان الغرض من ما سبق الإشارة إلى أن الثقافة والفكر هي أساس البناء الاجتماعي . وربما لهذه الجهة كانت بداية هذه الأمة ( منظومة فكرية ) تتوزع في آيات القرآن الكريم . وقد استوعبها قادة الدين وأئمة المسلمين .. وكان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في طليعة من تحدث عن تلك المنظومة في فترة حياته المباركة ، بجدارة كافية حيث أنه الباب لمدينة العلم النبوي التي من استقى منها فعلّ وانتهل.
الطريف أن هناك أحاديث متعددة في هذا المعنى وإن كان المشهور منها واحدا .فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله :
فعن الرسول صلى الله عليه وآله : أنا مدينة الحكمة وعلي بابها - أنا مدينة الفقه وعلي بابها .
وفي تتمة الحديث المشهور والحديثين الآخرين ، أن من أراد العلم والحكمة فليأت من الباب .. فلا بد لمعرفة علم النبي ، وبصائر القرآن ، ومنظومة الاسلام الفكرية أن نلج من باب المدينة العلمية والفكرية ، وهو حديث علي بن أبي طالب ..
واليوم يعتبر كتاب ( نهج البلاغة ) من أهم ما بقي من كلمات علي بن أبي طالب ، ومن تراث تلك المدينة العلمية الحكمية .
لماذا ينبغي الاهتمام بنهج البلاغة ؟
بالاضافة إلى الجهات السابقة المذكورة نشير إلى قضية أصلية هنا ، وهي أن أي كتاب إنما يكون مهما لجهة ( أو جهات ) توجد فيه فتجعل من المهم الاعتناء به والاهتمام بمطالعته :
ـ فإما أن يكون الكتاب مهما لجهة كاتبه ومؤلفه ، بأن يكون المؤلف ضليعا في فنه ، أو مشهورا في بلده ، أو يكون شاهدا على حدث قد تم ، فتكون شهادته شهادة حاضر معاين . أو لكونه رئيس مدرسة فكرية ويراد التعرف على معالم تلك المدرسة من خلال كلماته وبياناته .
ـ وقد يكون الكتاب مهما لجهة أخرى وهي موضوع الكتاب ، بحيث يعالج ذلك الكتاب قضية مهمة ويشرح أبعادها وآثارها .
ـ وقد يكتسب الكتاب أهمية من جهة زمن تأليفه وتصنيفه . فإن بعض الكتب ربما تتحدث عن قضية عادية لكنها تكتسب أهمية بحسب زمن تأليفها .
ولو أردنا أن نطبق عناصر الأهمية تلك على نهج البلاغة فإننا سنجده يحتوي على الدرجة العليا من كل مقياس :أما القائل فهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه) حيث يتفق المسلمون على أن عليا بن أبي طالب كان من الطبقة الأولى في علماء الصحابة ، ويرى أكثر المسلمين على أنه أعلم الصحابة وبعض المسلمين كالشيعة يعتقدون بعصمته بالاضافة إلى علمه . هذا الموقع أهل عليا عليه السلام لكي يكون مؤثرا جدا في الكثير من الفرق والجماعات المسلمة والمذاهب التي يدعي كل منها الانتساب إليه ، وهي بذلك تعترف بتأثرها المباشر بفكره ، وهو ما يشير إليه إبن أبي الحديد المعتزلي : (وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة ، وتنتهي إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلي حلبتها ، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى . وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي ، لان شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم . ومن كلامه عليه السلام اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ فإن المعتزلة - الذين هم أهل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر ، ومنهم تعلم الناس هذا الفن - تلامذته وأصحابه ، لان كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه عليه السلام . وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبى الحسن علي بن " إسماعيل بن " أبى بشر الأشعري ، وهو تلميذ أبى على الجبائي ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة ، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب عليه السلام . وأما الامامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر . هذا بالنسبة لصاحب الكتاب .
وإذا نظرنا إلى الأمر الآخر وهو تأريخ الكتاب فإنه يعالج مرحلة من أهم المراحل في تأريخ الأمة الإسلامية, وفهم ما جرى فيها هو الذي يجعل الأمة فرقا وطوائف ، فإنه يمكن القول بثقة تامة أن هذه الفرق والطوائف والمذاهب الموجودة في العالم الإسلامي وليدة نقطة وهي فهم ما جرى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله .
وحيث أننا لم نعايش تلك الفترة ,فلابد أن نلجأ إلى من كان معاصرا لها لينقل لنا بأمانة ما حصل كيف حصل ؟ ويفسر لنا لمَ حصل ما حصل .. ولن تجد كعلي صلوات الله وسلامه عليه صادق القول عميق الفكر محيطا بما حصل بعد وفاة رسول الله علما وتحليلا .
ثالث الأمور يرتبط بالموضوعات التي تناولها نهج البلاغة , وقد ذكرنا فيما سبق أن نهج البلاغة لا يحتوي كل كلام أمير المؤمنين عليه السلام , لكن هذا المقدار الموجود فيه غنى وكفاية لمن أراد أن يتأمل ويتعرف على المنظومة الفكرية للإسلام في عقائده أو نظامه الاجتماعي والسياسي , فقد تحدث الامام في عهده لمالك الأشتر النخعي عن طرق إدارة الحياة السياسية والاجتماعية .
كما تحدث في مباحث التوحيد , بحيث قال بعضهم أن أول من فتق الكلام في مباحث التوحيد كان أمير المؤمنين في وقت لم يكن أصحاب رسول الله يعرفون معشاره فانظر إلى خطبه عليه السلام متى كان يعرف أصحاب النبي مثل هذا الكلام ؟ ( الحمد لله الدال على وجوده بخلقه . وبمحدث خلقه على أزليته . وباشتباههم على أن لا شبه له . لا تستلمه المشاعر ، ولا تحجبه السواتر ، لافتراق الصانع والمصنوع ، والحاد والمحدود ، والرب والمربوب . الأحد لا بتأويل عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب ، والسميع لا بأداة ، والبصير لا بتفريق آلة ، والشاهد لا بمماسة والبائن لا بتراخي مسافة ، والظاهر لا برؤية ، والباطن لا بلطافة . بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها . وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه . من وصفه فقد حده ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ، ومن قال كيف فقد استوصفه ، ومن قال أين فقد حيزه . وعالم إذ لا معلوم . ورب إذ لا مربوب . وقادر إذ لا مقدور) .
تكلم عن التاريخ وتكلم عن الحاضر ,تكلم عن الأنبياء السابقين وعن رسول الله وعن ما عاصره في زمنه وتكلم عن المستقبل أيضا ,فيما سمي بخطب الملاحم فقد تحدث عن الخوارج وأنهم في أصلاب الرجال وأرحام الناس ، وتحدث عن حكومة المروانيين وأن لمروان إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وبالفعل فقد حدث بعد ربع قرن من الزمان ما تكلم عنه عليه السلام .
لماذا نهتم بنهج البلاغة
|
|
|
وأول عمل يأمره به القرآن الكريم يرتبط بالفكر والثقافة ,بل إن المعجزة التي جعلها الله لرسوله خالدة هي معجزة قولية ترتبط بالفكر والعلم .
ذلك أن المعاجز في تاريخ الأنبياء على قسمين :
فإن الأنبياء السابقين لرسول الله كانت معاجزهم فعلية ,كمعجزة نبي الله موسى حيث (قلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم ) ,فإن النبي يزود بشيء خارق للعادة بحسب زمنه ويعجز الموجودين عن الاتيان بمثله ومن خلال ذلك تتبين معجزة النبي ,وهكذا عندما يؤمر بالقاء عصا عادية بحسب الظاهر (فإذا هي تلقف ما يأفكون ) هذه معجزة فعلية ,ترتبط بالفعل .
هذا بالنسبة إلى موسى وهكذا الحال بالنسبة إلى سائر الأنبياء ، فنبي الله عيسى (أبرء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ) وهي ترتبط بالأفعال .
أما معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وهي القرآن فهي معجزة ترتبط بالقول, بالفكر,والعلم ,وتختلف المعجزة الفعلية عن القولية بأن المعجزة الفعلية متصرمة زمانا ومنتهية مكانا ,بخلاف القولية والفكرية . فنحن الآن لا نستطيع أن نطلع على معجزة موسى أو عيسى أو سائر الأنبياء وإنما نصدق بحسب ما بلغنا من خلال القرآن والأحاديث .
أما المعجزة القولية واللفظية كالقرآن الكريم فلا تزال حاضرة بين الناس ,يستطيع ذوو الإدراك أن يتعرفوا على جهات إعجازه , مثلما صنع الذين نزل عليهم في أول الإسلام .ولهذا وجدنا أن عددا غير قليل ممن تأمل في القرآن وآياته من غير المسلمين قد أدركوا أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من بشر بل هو كلام الله للناس .
وينبغي أن لا نغفل عن أهمية الفكر فعلى اساسه تقوم المجتمعات والحضارات ، وتتميز ..
فقد كان يوجد في زماننا معسكران ,المعسكر الشرقي والآخر الغربي , وقد بدأ المعسكر الشرقي يتبخر , ما هو الفرق بينهما ؟ الفرق هو في فكرتين قام عليهما كل من المجتمعين فبات هذا المجتمع متميزا عن ذلك المجتمع.
فالباحثون عندما يتحدثون عن بدايات التأسيس يذكرون كتاب (ثروة الأمم ) الذي كتبه العالم الاقتصادي الغربي آدم سميث وكان نواة لقيام الثقافة التي تأسس عليها المعسكر الغربي المعروف اليوم,,في اقتصاده وفي نمطه الأخلاقي والحضاري , حيث جعل الغرب هذا الكتاب إماما له وقاعدة يعتمد عليها .
في الطرف المقابل كانت كتابات كارل ماركس هي الأساس الذي اعتمد المعسكر الشرقي عليه فتبلور معسكران ، يبتني كل مجتمع منهما على فكرة تختلف عن الفكرة الأخرى .
كان الغرض من ما سبق الإشارة إلى أن الثقافة والفكر هي أساس البناء الاجتماعي . وربما لهذه الجهة كانت بداية هذه الأمة ( منظومة فكرية ) تتوزع في آيات القرآن الكريم . وقد استوعبها قادة الدين وأئمة المسلمين .. وكان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في طليعة من تحدث عن تلك المنظومة في فترة حياته المباركة ، بجدارة كافية حيث أنه الباب لمدينة العلم النبوي التي من استقى منها فعلّ وانتهل.
الطريف أن هناك أحاديث متعددة في هذا المعنى وإن كان المشهور منها واحدا .فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله :
فعن الرسول صلى الله عليه وآله : أنا مدينة الحكمة وعلي بابها - أنا مدينة الفقه وعلي بابها .
وفي تتمة الحديث المشهور والحديثين الآخرين ، أن من أراد العلم والحكمة فليأت من الباب .. فلا بد لمعرفة علم النبي ، وبصائر القرآن ، ومنظومة الاسلام الفكرية أن نلج من باب المدينة العلمية والفكرية ، وهو حديث علي بن أبي طالب ..
واليوم يعتبر كتاب ( نهج البلاغة ) من أهم ما بقي من كلمات علي بن أبي طالب ، ومن تراث تلك المدينة العلمية الحكمية .
لماذا ينبغي الاهتمام بنهج البلاغة ؟
بالاضافة إلى الجهات السابقة المذكورة نشير إلى قضية أصلية هنا ، وهي أن أي كتاب إنما يكون مهما لجهة ( أو جهات ) توجد فيه فتجعل من المهم الاعتناء به والاهتمام بمطالعته :
ـ فإما أن يكون الكتاب مهما لجهة كاتبه ومؤلفه ، بأن يكون المؤلف ضليعا في فنه ، أو مشهورا في بلده ، أو يكون شاهدا على حدث قد تم ، فتكون شهادته شهادة حاضر معاين . أو لكونه رئيس مدرسة فكرية ويراد التعرف على معالم تلك المدرسة من خلال كلماته وبياناته .
ـ وقد يكون الكتاب مهما لجهة أخرى وهي موضوع الكتاب ، بحيث يعالج ذلك الكتاب قضية مهمة ويشرح أبعادها وآثارها .
ـ وقد يكتسب الكتاب أهمية من جهة زمن تأليفه وتصنيفه . فإن بعض الكتب ربما تتحدث عن قضية عادية لكنها تكتسب أهمية بحسب زمن تأليفها .
ولو أردنا أن نطبق عناصر الأهمية تلك على نهج البلاغة فإننا سنجده يحتوي على الدرجة العليا من كل مقياس :أما القائل فهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه) حيث يتفق المسلمون على أن عليا بن أبي طالب كان من الطبقة الأولى في علماء الصحابة ، ويرى أكثر المسلمين على أنه أعلم الصحابة وبعض المسلمين كالشيعة يعتقدون بعصمته بالاضافة إلى علمه . هذا الموقع أهل عليا عليه السلام لكي يكون مؤثرا جدا في الكثير من الفرق والجماعات المسلمة والمذاهب التي يدعي كل منها الانتساب إليه ، وهي بذلك تعترف بتأثرها المباشر بفكره ، وهو ما يشير إليه إبن أبي الحديد المعتزلي : (وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة ، وتنتهي إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلي حلبتها ، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى . وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي ، لان شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم . ومن كلامه عليه السلام اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ فإن المعتزلة - الذين هم أهل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر ، ومنهم تعلم الناس هذا الفن - تلامذته وأصحابه ، لان كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه عليه السلام . وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبى الحسن علي بن " إسماعيل بن " أبى بشر الأشعري ، وهو تلميذ أبى على الجبائي ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة ، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب عليه السلام . وأما الامامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر . هذا بالنسبة لصاحب الكتاب .
وإذا نظرنا إلى الأمر الآخر وهو تأريخ الكتاب فإنه يعالج مرحلة من أهم المراحل في تأريخ الأمة الإسلامية, وفهم ما جرى فيها هو الذي يجعل الأمة فرقا وطوائف ، فإنه يمكن القول بثقة تامة أن هذه الفرق والطوائف والمذاهب الموجودة في العالم الإسلامي وليدة نقطة وهي فهم ما جرى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله .
وحيث أننا لم نعايش تلك الفترة ,فلابد أن نلجأ إلى من كان معاصرا لها لينقل لنا بأمانة ما حصل كيف حصل ؟ ويفسر لنا لمَ حصل ما حصل .. ولن تجد كعلي صلوات الله وسلامه عليه صادق القول عميق الفكر محيطا بما حصل بعد وفاة رسول الله علما وتحليلا .
ثالث الأمور يرتبط بالموضوعات التي تناولها نهج البلاغة , وقد ذكرنا فيما سبق أن نهج البلاغة لا يحتوي كل كلام أمير المؤمنين عليه السلام , لكن هذا المقدار الموجود فيه غنى وكفاية لمن أراد أن يتأمل ويتعرف على المنظومة الفكرية للإسلام في عقائده أو نظامه الاجتماعي والسياسي , فقد تحدث الامام في عهده لمالك الأشتر النخعي عن طرق إدارة الحياة السياسية والاجتماعية .
كما تحدث في مباحث التوحيد , بحيث قال بعضهم أن أول من فتق الكلام في مباحث التوحيد كان أمير المؤمنين في وقت لم يكن أصحاب رسول الله يعرفون معشاره فانظر إلى خطبه عليه السلام متى كان يعرف أصحاب النبي مثل هذا الكلام ؟ ( الحمد لله الدال على وجوده بخلقه . وبمحدث خلقه على أزليته . وباشتباههم على أن لا شبه له . لا تستلمه المشاعر ، ولا تحجبه السواتر ، لافتراق الصانع والمصنوع ، والحاد والمحدود ، والرب والمربوب . الأحد لا بتأويل عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب ، والسميع لا بأداة ، والبصير لا بتفريق آلة ، والشاهد لا بمماسة والبائن لا بتراخي مسافة ، والظاهر لا برؤية ، والباطن لا بلطافة . بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها . وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه . من وصفه فقد حده ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ، ومن قال كيف فقد استوصفه ، ومن قال أين فقد حيزه . وعالم إذ لا معلوم . ورب إذ لا مربوب . وقادر إذ لا مقدور) .
تكلم عن التاريخ وتكلم عن الحاضر ,تكلم عن الأنبياء السابقين وعن رسول الله وعن ما عاصره في زمنه وتكلم عن المستقبل أيضا ,فيما سمي بخطب الملاحم فقد تحدث عن الخوارج وأنهم في أصلاب الرجال وأرحام الناس ، وتحدث عن حكومة المروانيين وأن لمروان إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وبالفعل فقد حدث بعد ربع قرن من الزمان ما تكلم عنه عليه السلام .




