الامام علي صوت العدالة الإنسانية
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 20/9/1431 هـ
تعريف:

الامام علي صوت العدالة الإنسانية

كتابة الأخ الفاضل محمد ال يوسف

مقدمة

     قال أمير المؤمنين عليه السلام : وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ . وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا، وَقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا . فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ، أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ . أَتَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَلَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى .

     كتب باحثون كثيرون عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب صلوات الله، وسلامه عليه، وجَلَّى بعض الكتاب، ومنهم غير المسلمين بل غير الدينين أيضًا مواقف من حياته صلوات الله عليه، وتأملوا في كلماته، والقوا عليه عناوين مختلفة كان من أصدقها أن الإمام عليًا هو صوت العدالة الإنسانية لم يكن علي -عليه السلام- في سيرته، وفي فكره، وفي قيمه التي كان يتعقبها بالحديث مرة، وبالتطبيق أخرى، لم يكن محصورًا في فئة مذهبية، ولا في جماعة دينية بل كان ثورة للبشرية، وكنزا لبني الإنسان، وهذا ما تلقاه منه غير الشيعة بل غير المسلمين بل غير الدينين، وإن كنا نلاحظ مع شديد الأسف أن فئة من المسلمين، ومن مفكريهم، ومن سياسيهم خدعوا للداعي الطائفي فغمطوا حق علي عليه السلام، ولم يتولوا أمره بما ينبغي خوفًا من أن يسجل ذلك لمذهب على أنه نصر، ولطائفة على أنها تميز فظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا أمير المؤمنين، وحرموا مجتمعهم قبل أن يُحرم علي بن ابي طالب -صلوات الله وسلامه عليه- إننا نجد ومع شديد الأسف أن المسيحيين عندما يتحدثون عن علي بن ابي طالب يتحدثون عنه بالفم الملآن، وبالقلب المفتوح، وبالقلم الذي لا يتوقف عند خطوط الحمراء بينما عندما تأتي إلى بعض مفكري المسلمين، وبعض خطبائهم، وبعض دعاتهم تراهم كمن يسير ضمن حقل ألغام لا ينبغي أن يقال كذا حتى لا يعد نصرًا، ولا ينبغي أن يتحدث بهذه الصورة حتى لا تعد نصًا في امامته، ولا ينبغي أن يقال كذا حتى لا يستفيد منه الآخرون، وحتى لا يتحقق الاختراق المذهبي، والطائفي، وهذا مع الأسف الشديد حرم المسلمين من ثروة عظمى، فكأن في ذهن هؤلاء، وفي خلفياتهم أننا إذا أتينا بفضيلة لعلي لابد أن نقرنها بفضيلة لغيره، وإذا تحدثنا عن موقف منه لابد أن نستجلب موقفا لغيره حتى لو لم يكن موجودا، وكان الموقفان لعلي دعنا ننسب أحدهما لشخص آخر حتى يحصل ذلك التعادل. هذا  ما أفقد هذه الأمة الشيء الكثير مما ينبغي أن تتعلمه من منهاج علي بن أبي طالب -صلوات الله عليه- إضافة إلى ذلك كأن عليا عليه السلام بمجرد استعراض سيرته، ومنهجه ينتقد الحالة السائدة في الأمة لا سيما حالة بعض الحاكمين الذين عملهم يخالف تلك السيرة فكأنما علي لا يزال حاضرًا، وشاهدًا، وناقدًا، وبالتالي إذا قُرئت سيرته، وبشر بصفاته كأنه يقول هذا خاطئ، وذاك غير صحيح، وهذا لا يجوز، وهذا مما ساهم في بعض الفئات الإسلامية أن تتكتم على هذا الجانب، ولعل أحدهم عندما سُئل عن فضائل علي بن ابي طالب قال كلمة صادقة : ما أقول في رجل أخفى أعداءه فضائله حسدا وأخفى أحبابه فضائله خوفا ثم ظهر بين هذا، وذاك ما ملأ الخافقين فسلام الله على أبي الحسن.

مبادئ من حياة أمير المؤمنين -عليه السلام-

هل نستطيع أن نستجلي من مواقف علي بن أبي طالب مبادئ في هذا الزمان لكي تكون بلسما لبعض أدوائنا هل يمكن أن ننقل بعض المقولات لكي تتحول إلى سياسات، ولا تبقى رهينة الكتب كما قال أحد وزراء التربية المسلمين حين ذهب إلى أوروبا قبل سنوات طويلة، ورأى أن هناك برنامجًا في الاقتصاد ينتهي إلى أن الأموال العامة لا تتخصص في فئة، وإنما هناك برنامج لكي تنتشر ضمن العامة، وحقق ذلك البرنامج نجاحا فقال مفتخرًا للوزير الأوروبي : نحن عندنا في ثقافتنا الدينية هذا المبدأ قبلكم بأربعة عشر قرن فإن علي بن أبي طالب يقول : "ما جاع فقير إلا بما متع به غني" ، وبالذات في الأموال العامة.

 فقال له ذلك الوزير الأوروبي -الذي يبدو أنه كان على اطلاع- : بالفعل، فقد سبقتمونا به قبل أربعة عشر قرن، ولكننا سبقناكم بالعمل به منذ قرنين من الزمان، فتقدمنا، وتخلفتم يوجد لديكم هذا المبدأ في الكتب، وفي التراث، ويوجد لدينا في السياسة، والاقتصاد، ولهذا يتغير حالنا، ولا يتغير حالكم. هل نستطيع أن نجد في كلمات علي، وفي سياسات علي، وهي كلها قطرة من بحر محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-.

     ذكرنا فيما سبق أن كل فضل، وكل خير، وكل أمر حسن ينسب إلى علي بن أبي طالب فهو نسبة أولى للمعلم الذي علمه، والمربي الذي رباه، والمهذب الذي هذبه، وهو رسول الله -صلى  الله عليه وآله وسلم- ، نعم يوجد في كلمات، وسياسات، ووسائل الإمام علي -عليه السلام- ما لو عُمل به في مجتمعاتنا المسلمة لتخلصت من كثيرٍ من مشاكلها، وقضاياها، حيث كان مجتمع أمير المؤمنين -عليه السلام- يحتوي على مثل ما تحتوي عليه مجتمعاتنا فكان يؤم العرب، والعجم، أقليات عرقية، ولغوية إلى جانب أكثرية عربية، كما كان يحوي أيضًا أقليات مذهبية مقابل أكثرية، كالخوارج، وأتباع أمير المؤمنين -عليه السلام- ، وكذلك أتباع خط الخلافة الرسمي التقليدي، بالتالي كان هناك أيضًا شيء من الاختلاف الديني، والفقهي، والعقدي، فكيف سارت سياسة الإمام -عليه السلام- ؟

العدالة في توزيع الفرص

     أول ملاحظة نلحظها في طريقة الإمام -عليه السلام- ، كانت العدالة فيما يرتبط بالعطاء، والانصاف في ما يتعلق بالفرص، اليوم إحدى مشاكل المسلمين هذه المشكلة، عندما يلقى -على سبيل المثال- الذي على دين السلطان، ومذهبه الفرص مشرَّعة أمامه، والذي من قبيلة يرضى عنها تُفتح أمامه الأبواب، وهكذا. في ذلك الزمان أيضًا كانت هذه الحالة موجودة بل ربما كانت مشروعة بقانون قبل مجيء علي بن أبي طالب، أيام الخلفية الثانية أقر باجتهاد -في تقديرنا خاطئ- سياسة التفضيل بين المسلمين فقال العرب أفضل من العجم، والعجم خلاف العرب أي الأجانب برمتهم، فالحبشي يقال له أعجمي، والرومي، والفارسي كذلك، ضمن نظرية لدى الخلفية الثاني، وهي غير صحيحة، وتنص على أن العرب أفضل من هؤلاء، ولذلك يأتي أي عربي فيكون أفضل من سلمان الفارسي، ومن صهيب الرومي، ومن بلال الحبشي لأن هذا عربي، ولأن ذاك أعجمي، ويأتي القرشي المخزومي أو الهاشمي أو الزهري، فيكون أفضل من الهمداني، والكندي اليمني لأن هؤلاء من قريش، وأولئك من اليمن، وفُضل هؤلاء في العطاء، فإذا كان هذا قرشي لقرشيته -على سبيل المثال- يأخذ عشرة دراهم، وذاك الهمداني يأخذ خمسة دراهم ثم تم التفضيل على أساس بعض الميزات  الدينية فزوجات رسول الله أفضل من غيرهن في العطاء، ومن شهد بدرًا أفضل من غيره، وعلى هذا المعدل، وهذا بلا ريب لا ينطبق على سياسة رسول الله، وسيرته، ولا ينسجم مع مبادئ القرآن التي تعتبر أن التفضيل الوحيد هو بالتقوى، وليس في هذه الدنيا، إنما عند الله -فمثلًا- أنا لا أستطيع أن أقول : أيها الناس أنا أصلي صلاة الليل إذن قدموا لي أكثر مما تقدموا لغيري من الأموال، وأنا زرت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عدة مرات، وأنا أصوم في شعبان، وأنا أختم القرآن عدة مرات، وهلمَّ جرَّا. هذا لا يمكن، ولم يكن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولا عهد الخلفية الأول، ولم يكن له أصل في القرآن الكريم لكنه تحول إلى سياسة مدونة على هذا الأساس، هؤلاء قرشيون لهم راتب أكثر، وأولئك غير قرشيين لهم راتب أقل.

     الخلفية الثالث جاء وحدد الدائرة، فقال : لما نعطي الكل والجميع، الأقربون أولى بالمعروف فإذن أنا أعطي بني أمية، وأقاربي، وأرحامي فلا ضير إذا وهبت مروان بن الحكم خمس أفريقيا (والذي يعادل بحسب تقديرات اليوم خُمس أربع دول كاملة) لأنه قريبي. (وهذا من بيت مال المسلمين) لا ضير على الانسان أن يتصرف في أمواله الخاصة كما يشاء يفضل القرشي على غيره أو لا يعطي أحدًا، فهذه أمواله الشخصية، خارج الحق الإلهي أموالك الشخصية تهبها من تشاء، وتمنع منها من تشاء، ولكن بيت المال له أصحاب، له برنامج، له مصرف خاص ليس باختيار الحاكم، أمير المؤمنين -عليه السلام- يأتي فيقول: والله لو كان المال لي لسويت بينهم كيف والمال مال الله -عز وجل- الخلق في كونهم عيال الله متساوون، والمسلمون في هذا المجال متعادلون، فكيف لي أن أُفضل هذا على ذاك. (لو الأموال أموالي الشخصية لساويت وعدلت بينهم، فلا أفضل هذا على ذاك، كيف والأموال ليست لي وإنما هي لله -عز وجل-) حتى يأتي بعض أفراد الأسرة الحاكمة، وهو عقيل من أفراد الأسرة الحاكمة، وأكبر من أخيه بعشرين سنة، وبحسب المنطق السائد حينها أكبر منه وبالتالي صاحب يد عليه، وأيضًا من أفراد الأسرة، إذن لا بد أن يعطيه، فجاء عقيل وهو محتاج أيضًا، فطلب منه المال، قال له : هذا عطاؤك.

     فرد عليه : ما قدر ما يبلغ عطائي.

     فقال له : إذا ظهر عطائي أنا (بمعنى سهمي أيضًا أعطيه لك).

     فرد: وما قدر ما يبلغ عطائي وعطاؤك في جنب حاجتي. (أنت مثلي ستأخذ مئة درهم، وأنا سآخذ مئة درهم، وحاجتي أكبر من ذلك). في غير شأن علي، وقصة علي كانت الأموال تذهب بشكل طبيعي من غير سؤال للحاشية، ولأعضاء الأسرة، ولغير ذلك. ذات يوم يمر الإمام أمير المؤمنين -عليه السلام- ومعه عقيل في طريقهما إلى مسجد الكوفة، ويظهر أن عقيل في ذلك الوقت قد كف بصره (عقيل في أواخر عمره كف بصره) الوقت وقت الظهر، والزوال قد حان، والدكاكين نصف مغلقة (كحال بعض متاجر اليوم، يضعون ستارة -أو شيء من هذا القبيل- على المتجر) فالتفت الإمام إلى عقيل، وقال : يا عقيل ، ألا تدخل إلى هذا الدكان فتأخذ ما شئت، فلا يوجد أحد في ذاك الدكان.

     فقال عقيل : يا أمير المؤمنين، أتأمرني بالسرقة من أموال المسلمين!

     فقال له : إنما تسرق من واحد منهم، وبالمقابل أنت تأمرني بأن أسرق من المسلمين جميعًا (من بيت مال المسلمين) حتى أعطيك، لا يكون ذلك.

     ولكن عقيلًا تحت وطأة الفقر والحاجة، كان يُصر على ذلك، فيبدو أن الإمام كان يرده، وهو يعاود، فأحمى له حديدة (لسعه لسعة بسيطة)، حتى يتبين منها أن عليًا لا يبيع دينه، ففهم عقيل الدرس. هذا المنهج الذي يجعل بعض الناس عندما يعدل بينهم في العطاء لا يتحملون ذلك. عندما بدأ الإمام في تطبيق هذه السياسة، التفت عمر بن العاص إلى معاوية فقال له : يا أبا خالد (أو يا أبا يزيد) كيف بك إذا قشرك ابن أبي طالب مما تملك كما تقشر عن العصا لحاها. ألم يقل : ألا وإن كل قطيعة أقطعها الخلفاء قبلي في غير حق فهي مردودة إلى بيت المال. أنت بالتالي يا أيها الحاكم إما لك ملك في هذا لا أحد يحاسبك عليه، وإما لك ولاية شرعية عليه وأعطيت في حق لا أحد يحاسبك عليه. لا هذا ولا ذاك مجرد تصرف الحاكم فيه لا يجعل الحرام حلالًا. معاوية كان يعلم بالموضوع، ولذلك أعلن العصيان في صفين، أمير المؤمنين -عليه السلام- جعل كل مواطنيه سواسية أمام هذا القانون، تأتي له امرأة قرشية يعطيها عطاءها فاستقلته، وإذا بجارية أعجمية قد أعتقتها تأتي فيعطيها الإمام نفس المقدار، فالتفت إليه، وقالت : يا أمير المؤمنين، هذه جاريتي وهي أعجمية، (هناك مبررين كي تفضلني عليها).

     فقال الإمام : لا أجد فرقًا.

     فتعجبت فقالت : لعل الإمام لم يفهم المطلب، يا علي، هذه جاريتي، وهي أعجمية، وأنا قرشية.

     فأخذ قبضة من التراب، وفتها ثم رماها، وقال : كلكم لآدم، وآدم من تراب، والله ما وجدنا لبني إسماعيل، فضلًا على بني إسحاق. هذا ما يجعل بعض الطبقة التي استمرأت أكل الباطل، واقتات على الحرام، وكان الخلفاء فيمن سبق يعطونها بلا حساب، تجد لا موضع لها في عهد علي إلا موضع الحرب والمقاومة، ومع ذلك أمير المؤمنين أصر على أن يطبق قيم الإسلام، ففي أحد المرات جاءه بعضهم فقال : يا علي، لو فضلت في  العطاء قليلًا.

     فقال له : أتأمرني أن أطلب النصر بالجور! والله لا أطور به ما سمر سمير، وما هم نجم في السماء نجمًا، وإنما المال مال الله -عز وجل-. (ليس بمالي كي أتصرف به كما أشاء، فأعطي هذا، وأمنع عن ذاك). لربما يتساءل القارئ فيقول : في اقتصاد هذا الزمان لا يتم توزيع النقود هكذا. بالفعل ولكن هناك تكافؤ و عدالة في الفرص، فعلى سبيل المثال إذا أتيحت الفرصة أمام أبناء الدولة على قدم المساواة بحيث لا يفضل ابن العاصمة على ابن الأطراف، ولا ابن القبيلة على ابن الريف، ولا ابن الحاكم على بقية أبناء الشعب، هذا فعلًا علامة من علامات المنهج الصحيح. أما إذا لم تنل منطقة حقها من الدخل القومي فنكون قد عدنا إلى السياسات التي حاربها علي بن أبي طالب -عليه السلام- فالقضية ليست محصورة على فيء يتم توزيعه على الناس، حتى نقول : قد عفى عليها الدهر. كلا فنحن نتحدث عن العدالة في توفير الفرص، العدالة في توزيع الميزانية، العدالة بحيث لا يشعر صاحب هذا مذهب أنه معاقب على مذهبه، ولا يرى صاحب تلك القبيلة، قبيلته علامة تميز وتفوق على غيره.

المساواة في تطبيق القانون

أولًا : تطبيق العقوبات

     أمير المؤمنين -عليه السلام- جعل الجميع أمام قانون واحد، فلا يتميز أحد على أحد، فقد قال لأحد عماله : والله ثم والله لو أن الحسن والحسين أتيا مثل الذي أتيت ما كان لهما عندي هوادة ،ولا ظفرا مني بإرادة. لو أن سبطا الرسول فعلا ذلك (من باب فرض المحال) لم يكن ليتهاون معهما، فقد كان الكل سواسية أمام القانون. -وعلى سبيل المثال- النجاشي شخصية إعلامية مهمة، ويشكل جزء من قوة أمير المؤمنين في جيشه، شرب الخمر فأقيم عليه الحد، رغم الأوضاع العسكرية آنذاك، فالمهم أن يطبق شرع الله -عز وجل- .

     وكما يقول الحديث الشريف : إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. فسرقة الألف ريال -وما حولها- خلفها سجن ومصائب عدة أما سرقة المئة مليون -وما فوق- فلا شيء يتبعها، أو ربما تُشكل لجنة لاستقصاء الحقائق، وكما يقول المثل: "قالوا للسارق : احلف، قال : جاك الفرج" وكذلك اللجنة فهي بمثابة فرج للسارق فتستغرق مدة بسيطة تقارب الخمسين سنة حتى تنتهي من تحقيقاتها. ومع الأسف الفساد في كثير من بلاد المسلمين فساد منظم، مقنن، فساد اخطبوطي، ليس مجرد شخص بل نظام كامل قائم على الفساد، هذه اللجنة يقدموا لها رشوة وانتهى الأمر. هل سمعت في أحد الأيام أن مسؤولًا من المسؤولين الكبار عزل لسرقته أو لخيانته ؟ إن عزل فبناءً على طلبه. أمير المؤمنين يرى النجاشي وهو شاعر، والشاعر في ذلك الزمان، وذلك المجتمع قوة إعلامية ضخمة، ورغم هذا يقيم عليه الحد، وليس مجرد ثمانين جلدة لشربه الخمر بل كذلك عشرين جلدة إضافية لهتكه  شهر الله -عز وجل- .

ثانيًا : تطبيق القيم

     عبيد الله بن الحر الجعفي، هذا يأتي ذكره في سيرة الإمام الحسين -عليه السلام- فيقال أنه كان خارج الكوفة حتى يعتزل الإمام، والجدير بالذكر أنه لم يوفق كذلك مع أمير المؤمنين -عليه السلام- ، فقد كان بمقدوره أن يكون من أصحاب علي الخلص، ولم يوفق، وكان من الممكن أن يكون من شهداء كربلاء، وكذلك لم يوفق. تقول الرواية : أنه كان من جملة جيش الإمام علي -عليه السلام- في صفين، وعندما غرَّرَ معاوية جيش أمير المؤمنين بالأموال، انحاز عبيد الله خفية في الليل إلى جيش معاوية، وعندما عاد جيش أمير المؤمنين إلى الكوفة، قيل أنه قُتل في المعركة، فقد قُتل الآلاف، وبما أنها لم يعد مع الجيش، ولم يشاهد وهو يذهب إلى جيش معاوية (لأنه ذهب خفية) ظنوا بأنه قُتل، فاعتدت زوجته عدة الوفاة ثم تزوجت. عندما سمع هذا الرجل بذلك، اشتعل غضبًا فرجع سرًا في الليل إلى الكوفة، فذهب مباشرة إلى بيت زوجته فرأى امرأة متحجبة أمامه، فقال لها : أنا عبيد الله!‍

     فقالت : حسبتك ميتًا فتزوجت، والآن لا شأن لي معك.

     بات تلك الليلة، وذهب صباحًا إلى أمير المؤمنين -عليه السلام- وهو في دكة القضاء. في منطق اليوم هذا ارتكب خيانة عظمى في ظرف عسكري، وبحسب القوانين الوضعية اليوم -في العادة- عقابه الموت. عندما وصل نزع اللثام عن وجهه، فقال له أمير المؤمنين : عبيد الله أنت ؟

     فرد : بلى.

     فقال له : الفار من إمامه، واللاجئ إلى عدو الله، وعدوه.

     فرد : نعم، ولكن هل يمنعني ذلك من عدلك يا أمير المؤمنين ؟

     فقال له : لا.

     علي بن أبي طالب ليس بشخص يمنع عنك حقك لأنك تختلف معه في المذهب، ولا لأن منطقتك تختلف عن منطقته، كلا فهذا علي. قص عبيد الله قصته فقال له : الزوجة زوجتك، والنكاح الثاني باطل، وهما غير مأثومين لأنهما لم يعلما بالخبر، ولا بد أن يتركها زوجها الثاني لأنه ليس بزوج لها شرعًا، وتعتد عنه وترجع إليك ولا تحتاج إلى عقد جديد. فقال له : جزاك الله خير. ثم رجع وأخذ زوجته، وذاك لم يقل له : أنت مخالف. فهذا أمر أمير المؤمنين -عليه السلام- في حق شخص بحسب منطق اليوم ارتكب خيانة عظمى، وظاهر عدو الإمام -عليه السلام- والآن قد أتى بنفسه إلى أمير المؤمنين، ولكن كل هذا لا يمنعه من عدل علي بن أبي طالب.

     النجاشي قوة إعلامية، تعبوية عظيمة مع أمير المؤمنين، ولكن مخالفته لشرع الله وضعته تحت الحد، وعبيد الله مخالف لأمير المؤمنين، ومعارض، ومحارب، وخائن له، ولكن يعطيه حقه، ويعدل معه. فهو القائل : القوي العزيز عندي ضعيف حتى آخذ منه الحق، والضعيف الذليل عندي قوي حتى آخذ الحق له. ألسنا بحاجة إلى مثل هذا الفكر، وهذه الرؤية حتى تتحسن أوضاعنا، وحتى لا يشعر المواطن في بلاد المسلمين بأن مذهبه عائق لحصوله على حقه، وأن المنطقة التي يعيش فيها لا تنكس رايته، فتصبح بلاد المسلمة، بلاد نموذجية بمنطق العالم اليوم، ومقاييسه، وبمنطق القيم الإسلامية، وهذا ما يقدمه لنا مثال أمير المؤمنين -عليه السلام-.

     المواطن في بلاد المسلمين قيمته مقرونة بمقدار ما ينسجم مع سياسة حاكمه، وهذا ليس بأصل الإسلامي، فالأصل الإسلامي أن قيمة الإنسان بمقدار ما يفهم من الدين والحقائق فقد يتفق مع هذا أو يختلف معه. بالطبع الشغب، والإخلال بالنظام مرفوض، وغير مسموح به. ولكن مع الأسف في كثير من الأماكن في بلاد المسلمين، علامة المواطنة الانسجام مع حاكمه في كل التفاصيل، وإذا اختلف معه في المذهب، لم يعد مواطن صالح، وأصبح مشكوك في ولائه. في عهد علي بن أبي طالب -عليه السلام- جماعة من الخوارج يأتون إليه فيقولون له : نحن لا نحبك، ولا نصلي خلفك في جمعة، ولا في جماعة. فقال : إن ذلك لا يمنع من حقكم علينا. حتى إن كنتم لا تحبوني، ولا تصلون خلفي، ولا تعتقدون بي هذا لا يمنع أن لكم حق بألا نحجب عنكم الفيء فلكم مقدار مخصص من بيت مال المسلمين حتى إن كنت لا تحبني، ولا تؤمن بإمامتي، ولا تصلي خلفي هذا الفيء يصل لك، ولكن شريطة ألا تؤذوا المسلمين، فلا نمنعكم من مساجد الله، ولكن لا تفسدوا، ولا تثيروا الاضطرابات. أحببتموني أم كرهتموني هذا ليس بالأمر الجلل. فسلام الله على أبي الحسن أمير المؤمنين.

خصوم أمير المؤمنين، والظلم

     بالمقابل تقول سودة بنت عمارة :

صلى الإلهُ على جسمٍ تضمّنه                             قبرٌ فأصبحَ فيه العدلُ مدفونا

     فيقوم معاوية بإحضارها إلى الشام بعد شهادة أمير المؤمنين -عليه السلام- فيقول لها : ما كنت تقولين في صفين ؟

     فقالت : يا معاوية، ما كان كلام حبرته، ولا مقال أعددته (أي أنه مجرد كلام عابر قلته في ذلك الوقت من وحي الساعة، وليس مقطوعة حتى أظل أردده). وكان غرضها إنهاء الموضوع.

     فقال عمر بن العاص : أنا أحفظه جيدًا، كأني بها قد وقفت بين الصفين على ذلك الجمل الأحمر، وهي تهدر كما يهدر الفحل (يعبر عن قوة خطابها، وتسلسل كلامها) وهي تحرض أبناء قومها، وتنشد شعرًا.

     فقال معاوية : يا سودة، قد شركت عليًا في كل دم.

     فضحكت، وقالت : مثلك من سر جليسه، بشرك الله بخير، إذا كنت مشاركة علي بن أبي طالب في جهوده هذا شيء طيب، وحسن.

     فقال لها : ما حاجتك ؟

     فقالت : إن الوالي يظلمنا، يؤذينا، يضايقنا فإما عزلته فحمدناك، وإلا لا فعصيناك.

     فقال لها : لا، ولا كرامة.

      فدمعت عيناها فقال لها معاوية : لم بكيت ؟

     فقالت : تذكرت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.

     فقال لها : وما الذي أذكرك به ؟

     فقالت : ذهبت إليه ذات يوم، وقد ظلمنا الوالي علينا، فوجدته يصلي في المسجد فلما شعر بي خفف من صلاته، وانفتل إلي، فقال لي : أمة الله هل لك حاجة ؟

     قلت : بلى، إن الوالي علينا يظلمنا. فبكى أمير المؤمنين (وهذا وهو ليس بظالم، بل أحد ولاته الذين ظن فيهم خيرًا قد تجاوز الحدود) ورفع يديه إلى السماء، وقال : اللهم إنك تعلم أنّا لم نأمرهم بظلم عبادك. ثم أخذ رقعة وكتب فيها من فوره، بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله أمير المؤمنين علي إلى فلان قد جاءتكم بينة من ربكم إذا جاءك كتابي هذا فقبض ما في يدك من عملنا، ومالنا حتى يأتي من يأخذه منك، والسلام. وأعطاني الكتاب، فسلمته للوالي، وعزل والله ما لفه بشيء، ولا أخفاه.

خاتمة

     الإمام لا يتحمل أن يبقى ظالم في سدة الحكم، ولو لنصف ساعة، هذا أمير المؤمنين الذي أنصف عبيد الله بن الحر الجعفي، وهو مخالف، ومعارض، وخائن له، وبالمقابل معاوية يقوم بجلب سودة إليه في الشام لمجرد مدحها أمير المؤمنين. حقيقة يُعجز أمير المؤمنين من لحقه الناس أن يصلوا لمقامه، وغير النبي أيضًا لا يصل إليه، فهذا النموذج الذي يقدمه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- للناس لكي يدوروا حوله لأنهم عندئذ يدورون حول الحق، ويكونون مع القرآن.

مرات العرض: 3458
المدة: 00:58:14
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2593) حجم الملف: 19.9 MB
تشغيل:

الإمام علي وعطاء بلا حدود
حياة الامام علي ع من لسانه