قال الله العظيم في كتابه الكريم : ( وما يستوي الأعمى ولا البصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمعٍ من في القبور )
نفتتح بهذه الآيات المباركات حديثنا حول أحد كبار الطائفة وهو آية الله العظمى صاحب الجواهر الشيخ محمد حسن النجفي المعروف أيضًا بالجواهري الذي توفي سنة 1266هـ . هذه الآيات المباركات هي من جملة آياتٍ قرآنية تأتي ببعض الصور الخارجية المتضادة لتنتقل من هذه الصور الخارجية إلى صور معنوية وأفكار وتأتي كي تجعل مقارنةً بين الأعمى وبين البصير بمعنى المبصر ، ومن الواضح لكل إنسان أنك عندما تقارن لديه بين مبصرٍ وبين كفيف البصر من ناحية أن هذا يستطيع القراءة وذاك لا يستطيع القراءة بعينه لانعدام حاسة البصر لديه وفي أن هذا مساحة استمتاعه بالمناظر في هذه الحياة أكثر من ذاك لأن من لا يبصر هذه المناظر لا يدرك جهة الجمال فيها وهكذا كل أمرٍ يرتبط بالبصر من حيث هو يكون فيه المبصر أفضل من غير المبصر . ونقول من حيث هو لأننا نريد أن نعزل ، فهل يمكن أن يكون أفضل أخلاقًا ؟ ليس بالضرورة . هل يمكن أن يكون منزلته عند الله أحسن ؟ ليس بالضرورة . ولكن من حيث نعمة البصر هذا متفوقٌ على ذاك . وهذا أمر لا يحتاج إلى إثباتٍ بعدما كان واضحًا بالوجدان والعيان .
( ولا الظلمات والنور ) لا توجد مساواة بين الظلمة وبين النور فإن الآثار المترتبة على النور لا تحصل في الظلمة ، وكذلك ( ولا الظل ولا الحرور ) فالإنسان بطبعه يرتاح في مناطق الظل ويريح بدنه فيها أكثر مما يفعل في الشمس المحرقة وتحت لهيبها . وأيضًا ( لا يستوي الأحياء ولا الأموات ) فالحي يتفاعل يعمل ينمو يدرك إلى غير ذلك بينما من هو ميتٌ لا يحصل منه هذا الأمر . وهذه مظاهر خارجية وجدانية لا ينكرها إنسان . لكن المطلوب منها ما هو ؟ الانتقال منها إلى الصور المعنوية ( المؤمن والكافر ) فالمؤمن بمثابة الحي والكافر بمثابة الميت في هذه الجهة . والمؤمن بمثابة المبصر للحقائق والكافر بمثابة الأعمى عن مشاهدة تلك الحقائق وهكذا بالنسبة لسائر الأمثلة . فالمهم هو الانتقال وإلا معرفة أن الأعمى ليس كالبصير هذا لا يحتاج لتعليم ولا تفكير ولا انتقال ، وإنما الذي يحتاج منه إلى انتقال واتعاظ وعبرةٍ هو قضية الإيمان والكفر . فالإنسان المؤمن حتى ولو لم يكن جميلًا ولا ثريًا ولا مشهورًا هو أفضل من ذلك غير المؤمن وإن كان في أقصى درجات الجمال أو الثراء أو القوة فهذا بمثابة الحي وذاك بمثابة الميت . وهكذا في الصورة الأخرى ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) فلا يحتاج إلى نظر وإنما يحتاج لتفكر وتذكر واستخدام للعقل .
ومن هنا عرفنا لماذا كان الدين يعظم شأن العلماء والمؤمنين ، المؤمن عظيم الشأن عند الله عز وجل بحيث لو أقسم على الله في أمرٍ لأبر قسمه وإن كان تقتحمه العيون فقرًا وضعفًا وما شابه ذلك .فمن الممكن أن الله تعالى يستجيب لمؤمنٍ في أمةٍ كاملة لعظمة شأنه عند الله . ولنفس الغرض وجدنا عالم الدين كيف يعظم الله شأنه بحيث يجعله حجةً على خلقه بعد الأنبياء والأوصياء يكون هذا العبد العالم ( فإنه حجتي عليكم وأنا حجة الله ) لأن هذا بمثابة الحي ومن لا يكون كذلك ليس بهذه المثابة فهذا مبصرٌ يرى الحقائق ويرى الطريق فيجب أن تكون الدلالة بيده وهو الذي يدل الناس على مراضي الله عز وجل فيفتي ويخبرهم عن الله ويلزمهم بما ألزم الله ويكون ما أحل لهم تعبيرًا عما أحل الله وما حرم عليهم هو كذلك ، وهذا هو جوهر قضية التقليد والمرجعية وما شابه ذلك . وليس لأن فلانًا سيدًا فالسيادة وانتسابه لرسول الله شرف ولكن لا يؤهله لهذا الموقع ، وليس لأن فلان من بلدنا وعربي ليس هذا الغرض وإنما الغرض أنه هل صار بعلمه حجةً فصار مبصرًا يرشد الناس إلى الطريق القويم أم لا . سواء كان عربيًا أو أعجميًا أوهنديًا أو تركيًا ... فالمهم أن يكون عنده هذا الإبصار وهذه المعرفة وآنئذٍ يأتي هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، فالقرآن الكريم لا يقول الجواب هو كذا لماذا ؟ لأن في مرتكز العقل إذا كان الإنسان عاقلًا أن يقول لا . ففي القضايا الفكرية والعقلية يجعل المخاطبة للبه وعقله وسابقياته العقلية ( إنما يتذكر أولوا الألباب ) لهذا كان في المذهب الإمامي هذا الموقع المتميز للعالم المتخصص للفقيه المجتهد للمستنبط للأحكام الشرعية الذي يقلده الإنسان ويمشي خلفه من دون حاجةٍ إلى أن يسأله في كل مسألة عن دليله على هذا ومن أين جئت بهذا فهذا هو التقليد وهو أنك بعد اعتقادك أن هذا الشخص بالغ إلى درجة الاجتهاد والاستنباط والأعلمية على الرأي المشهور فتمشي وراءه وتسلمه قيادك الديني وتعتقد أنه يوصلك إلى ما أراد الله سبحانه وتعالى .
ونتناول هذه الليلة أحد كبار علماء الطائفة وهو صاحب الجواهر والجواهر هو كتاب ( جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ) وشرائع الإسلام كتاب تحدثنا عنه وعن مؤلفه المحقق الحلي رضوان الله عليه فيما سبق . وقلنا في وقتها أنه صار عليه شروحات كثيرة جدًا ، بعضهم أنهاها إلى سبعين شرحًا وبعضهم أنهاها إلى تسعين ما بين شرح اللفظ والشرح المزجي والشرح الاستدلالي ومن أفضل لو لم يكن أفضل الشروح على ذلك الكتاب هو كتاب صاحب الجواهر .
وهذا الكتاب أعطى اللقب للأسرة وإلا فإن أسرة هذا الشيخ في الأصل من أصفهان فجده من أصفهان وهاجر مع أبيه إلى النجف الأشرف وولد فيها صاحب الجواهر. فقبل شرحه لكتاب الشرائع ما كان اسم العائلة ولقبها الجواهري أو آل صاحب الجواهر وإنما بعدما كتب الكتاب ولقي ذلك الاستقبال واحتفى به عامة الشيعة من زمانه إلى أيامنا هذه سميت العائلة بهذا الاسم آل الجواهري . وقليل عندنا من الأسر التي عرفت بالكتب مثل آل كاشف الغطاء هي نسبة إلى ( كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء ) للشيخ جعفر رضوان الله عليه والذي عرف آل كاشف الغطاء .
وهذا الشيخ الجليل محمد حسن جعل أسرته تعرف بآل الجواهري نسبةً إلى الكتاب وليس نسبةً إلى عملهم كما هو في بعض العوائل .
من مميزات هذا العالم وهي كثيرةٌ جدًا أنه في زمانه انتقلت الحوزة العلمية بشكل كبيرٍ إلى النجف الأشرف بعدما كانت في كربلاء المقدسة بعد فترة شريف العلماء المازندراني برز في النجف الشيخ جعفر كاشف الغطاء وهو أستاذ صاحب الجواهر وبشكل أكبر في زمان صاحب الجواهر وكان كما ذكروا في ترجمته بالإضافة إلى علمه الجم كان حسن البيان سلس الكلام منظم الإلقاء فهو ممنهج ومبرمج ولسانه طلق بيانه جزل وهذا في الفقه والأصول جدًا مهم لأن المادة فيها شيء من الإغلاق فإذا فوق هذا الإغلاق صار عليها بيان غير حسن ربما يضيع طالب العلم . فكان حسن البيان وعارفًا كيف يبدأ وكيف ينتهي وعلى أثر ذلك انتقلت تقريبًا الحوزة العلمية من كربلاء إلى النجف بعدما اطلعوا على دروسه وعلى بيانه ، والفضلاء والعلماء الذين كانوا في كربلاء أخذوا ينتقلون إلى النجف بالتدريج وهناك استقروا وأخذوا العلم عن صاحب الجواهر وعن تلامذة الشيخ جعفر كاشف الغطاء وعن مثل السيد محمد جواد العاملي وغيرهم من علماء تلك الفترة . وبرز بين هؤلاء صاحب الجواهر كأحد أعلام الطائفة وبدأ في أمور كثيرة نشير لبعضها. منها أنه رأى أن النجف الأشرف على حاشية الصحراء فكانت عندها مشكلة عويصة في قضية الماء وهذه المشكلة لا تزال إلى الآن موجودة باعتبار أنه لا يوجد نهر قريب منها فأقرب نهر هو في كربلاء وهناك مسافة كبيرة بين النجف وكربلاء 70 كيلومتر . فعزم أن يجر إليها الماء وكانت همته بهذا المقدار ومع أنهم قالوا له هذا مكلف كثير ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم ، فقال لو أن كل ضربة مسحاة تكلفني ليرة ذهبية فسأعمل هذا الأمر لأن هذا البلد بلد أمير المؤمنين وبلد الحوزات وعامة الناس تحتاج إلى الماء ، وفعلًا بدأوا في الحفر وكان بطول بقامة إنسان طويل وبالفعل جُر الماء إلى النجف ونعم الناس به فترةً من الزمان ، ولكن للأسف بعد وفاته تم إهمال ذلك المشروع والحكومات التي جاءت فيما بعد ما كان يهمها الأمر كثيرًا والرياح التي كانت تجلب الغبار والرمال من الصحراء دفنت بالتدريج هذا المشروع وقضي عليه .
ومن مشاريعه التي أكملها أكمل بدأه أستاذه الشيخ جعفر كاشف الغطاء رحمة الله عليهما من تهيئة مدينة النجف للدفاع عنها من غزوات البدو المتعصبين فقد تعرضت للغزو عدة مرات وسرقت الخزائن التي كانت في مشهد أمير المؤمنين من هؤلاء الغزاة والحكومات ما كانت تحرك ساكنًا فقام الشيخ جعفر كاشف الغطاء بإلزام شباب النجف الأشرف بالتدريب على السلاح لحماية أنفسهم وأكمل ذلك الشيخ صاحب الجواهر وعملوا ما يشبه أنفاق تحت الأرض لا يعرفها إلا أهل النجف بحيث من سرداب إلى سرداب ويتنقلون فيها في أوقات الهجوم ويباغتون من يهاجمهم .
فكانت عنده مشاريع متعددة بعضها ابتكار من عنده وبعضها إكمال لما كان من أستاذه ، مع أن هذا الشيخ كان في نظر والدته لا تعلق عليه الآمال ، وهذا يجعل الإنسان يتأمل ويفكر أنه ( كن لما ترجو أرجى منك لما ترجو ) فأحيانا تقول هذا ابني الذي عليه المعتمد أما ذاك فلا خير فيه ، وقد يحدث أن من اعتمدت عليه يخيب ظنك فيه ومن كان لا أمل لك فيه هو من يكون فيه العون والمساعدة ، فلذلك الإنسان لا ينبغي أن يقصر في حق ابنه مثلًا لأنه لا يتوقع منه شيئًا كثيرًا اعدل بين أبنائك بالقدر الذي تستطيع وإن لم تستطع أن تعدل بينهم في المحبة لكنك تستطيع أن تعدل بينهم في المودة في إظهار المحبة فكما تقبل هذا تقبل أخاه وكما تثني على هذا تثني على ذاك فمن الممكن أنه داخل قلبك أحدهم أعز عليك من الباقين لكن لا تظهره ( لا تدرون أيهم أقرب نفعًا ) . وهذا ما حصل مع الجواهري فوالدته كانت تعتقد أن أخاه الأكبر محمد حسين هو من سيرفع رأسها أمام الناس فهو ذكي ومتحرك وأما الشيخ محمد حسن فهو أقل منه ، وأراد الله أن يعلمها ويعلمنا أنه من يدبر الأمور بحكمته . فابنها الشيخ محمد حسين ذهب للتدريب في الأماكن التي كان أستاذهم الشيخ جعفر كاشف الغطاء وفي أثناء التدريب جاءت رسالة طائشة واستقرت في صدر الشيخ محمد حسين وتوفي رحمه الله ، وانهارت كل آمال الأم لكن الله سبحانه وتعالى أبقاها حتى رأت كيف أن المرجعية العامة في إيران والعراق وسائر الأماكن ثنيت لابنها الأصغر الشيخ محمد حسن وصار أكبر قمة علمية في النجف الأشرف بحيث سائر أقرانه لا ينافسونه في شيء . وهذا يعلمنا أن الله سبحانه وتعالى يجري الأمور بحكمته ولا يفكر الإنسان بأن المعادلة التي يعملها هي التي ستتم .
وبدأ الشيخ صاحب الجواهر يدرس العلم وعلى خلاف هذه الأم كان أستاذه الشيخ محمد جواد العاملي صاحب كتاب مفتاح الكرامة ، تفرس فيه أنه سيكون أعلم علماء عصره ولذلك لما أراد الشيخ جعفر كاشف الغطاء أستاذ الجميع أن يبعث صاحب الجواهر إلى أصفهان بلد أجداده يبلغ فيها ويقيم صلاة الجماعة وينتفع به الناس . فاعترض أستاذه الشيخ العاملي على هذا الأمر لأن هذا يتوقع له أن يكون رأسًا من الرؤوس الكبيرة في الحوزة العلمية وإذا ذهب إلى أصفهان فإنه لن ينفع إلا في صلاة جماعة وموعظة وتدريس دروس بسيطة بينما تحتاج النجف الأشرف لمثل هذه العقلية فكانت فراسته فيه في محلها ، وبالفعل قبل الشيخ جغفر كاشف الغطاء هذا الرأي وأخذ الشيخ العلم من مصادره المختلفة إلى أن صار هو الرأس الأول في حوزة النجف الأشرف وألف هذا الكتاب ونشير هنا إلى بعض الأمور في هذا الكتاب .
كتاب جواهر الكلام مطبوع الآن في 43 مجلد وإذا فرضنا باعتبار أن بعض الأجزاء كبيرة وبعضها صغيرة إذا فرضنا معدل 400 صفحة لكل جزءٍ من الأجزاء فمعنى هذا أن هناك 17 ألف صفحة من الفقه الاستدلالي المعمق ، وأنا سمعت أحد أساتذة البحث الخارج في قم وهو فقيهٌ بحق يقول أنه أيام أنا كنت أتباحث كتاب الجواهر مر علي سطر واحد وحتى أفهم أبعاد ما قاله صاحب الجواهر احتجت أن أصلي ركعتين وجلست ثلاث ساعات أقلب في وجه ما قاله هذا الشيخ مع أن صاحب الجواهر وصف بأنه رشيق البيان وبأن عبارته عبارة جيدة غير مغلقة لكنه يقول انه كان فيه عمق فكان يوصي أنه حين تطالع الجواهر كطالب عمر لا تمر عليه مرورًا لأن هذا فيه إشارات لا بد أن تتفطن إليها وتفكر فيها . فتصور أنه 17 ألف صفحة من العلم والفقه الاستدلالي والأصول واالأدلة والبراهين بعضها يحتاج مثل إلى ما قاله هذا الشيخ .
وهو دورةٌ فقهيةٌ من أول كتاب الطهارة ويشتمل على الصلاة والصوم والحج والزكاة والاعتكاف والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يشتمل على كل كتب المعاملات من عقود وإيقاعات وأحكام إلى الديات يعني كل ما يحتاج إليه الإنسان المسلم من أحكامٍ فقهيةٍ موجودٌ في هذا الكتاب مع الدليل من القرآن الكريم ومن الروايات ومن القواعد الفقهية ومن الأدلة الأصولية . فعندنا الكثير من العلماء الفقهاء الكبار ولكن لم يؤلفوا كتابًا كاملًا في الفقه الاستدلالي . إما لأن عمرهم ما اتسع لذلك أو لأنهم فصلوا في البحوث الأولى مثل كتاب الطهارة والصلاة فأحد الفقهاء كتب فيه خمسة عشر مجلدًا وهذا إذا كتب 15 مجلد في واحد من عشرات الأبواب المفصلة في العبادات وأكثر منها في المعاملات فمتى سيتفرغ للباقي ؟ فهناك قسم من الفقهاء ما أكملوا هذه الدورة بينما صاحب الجواهر أكملها في أيام حياته وقبل وفاته بحوالي عشر سنين وهذه ميزة من الميزات .
ومن الميزات التي قل أن تتوفر عند غيره أنه كتب على نسقٍ واحد مع أنه بدأ فيه وعمره ستة وعشرون عامًا إلى حوالي خمس وثلاثون سنةً وهو يكتب فيه وهذا أمر غير طبيعي . فأنت في عملك حين يكون عمرك خمس وعشرون سنة يكون أداؤك بطريقة يختلف عن أداؤك وعمرك أربعين سنة ، قد يكون في البداية أنت أنشط ولكن فيما بعد حكمتك أكثر وعطاؤك وآراؤك أحسن ، أما أن يبدأ أحد من عمره 26 سنة إلى ما بعد هذه الفترة بحوالي 35 سنة ويخلف كتاب حين تقرؤه من البداية أو من النصف أو من الأخير لا تجد فيه صعود وهبوط بشكل واضح فهذا من الأمور العجيبة التي امتاز بها هذا الكتاب وكاتبه ( رض )
ومن ميزاته أيضًا النية الباعثة على تأليفه وهذا يبين لنا أمور منها أن الله تعالى لا يرفع أحدًا صدفةً ولا اعتباطًا ، فأن يقول أنا درست أكثر مما درس فلان لماذا هو يتقدم علي ويعرف بين الناس ويصير التقليد له وأنا لا وأنا أعلم منه ، هناك قضايا إلهية وربانية فأنت تقدر أن تعمل الأدوات والمعدات وتهيأ المقدمات ولكن يبقى التوفيق من الله سبحانه وتعالى . وهذا حتى في العبادات أنا وأنت نصلي ركعتين وأنت تثاب عشرة أضعاف صلاتي لأن نيتك أكثر إخلاصًا ويمكن أكون أطلت في الصلاة أكثر لكن نيتك كانت خالصة أكثر وخاضعة أكثر فيثيبك الله أكثر مما يثيبني. فيحتاج الإنسان في أعماله دائمًا أن يفكر كم نصيبه هو وكم نصيب خالقه سبحانه وتعالى فإذا كان نصيبه أكثر فيتركه الله تعالى لأن القضية كلها من جهته يريد شهرة أو يريد سمعة أو اسم أو غيره ، أما إذا كان عمله لله فيتكفل الله به ( والعمل الصالح يرفعه ) فصاحب الجواهر هو من هذا المعنى ونشير إلى قضيتين في جملة قضايا كثيرة عنه .
القضية الأولى عندما سأله أحد تلامذته وهو الفقيه الشيخ محمد حسن آل ياسين أنه كيف ألفت كتاب الجواهر ؟ والذي قال عنه بعض العلماء أنه لو أردنا أن نعد الأمور العجيبة في زماننا لعددنا تأليف كتاب الجواهر من الأمور العجيبة . فهو عنده مرجعية عريضة وطويلة وعنده مشروع جر المياه إلى النجف وعنده شؤون المرجعية ودرس وتدريس وفوق ذلك يكتب هذا الكتاب المفصل وينتهي منه قبل وفاته . فأجابه : ما ألفته من أجل أن يطبع أو من أجل أن يدرس وإنما ألفته لنفسي لأنني أيام شبابي كنت أذهب إلى القرى للتبليغ ويسمونها قرى العذارات مثل المنطقة التي ما بين نهر دجلة ونهر الفرات جنوب العراق يسمونها قرى العذارات وفي ذلك الوقت كان كثير من أهل هذه القرى لا يعرفون الأحكام الشرعية بل إن الأكثر منهم ما كانوا على وفق منهج آل محمد ، وأنا لم يكن عندي لا فرصة ولا قدرة على جمع كل الكتب التي فيها الأقوال والآراء والروايات والأحكام فعملت لنفسي كتابةً أرجع إليها ولم أؤلف كتاب ليطبع ودرس وإلا لو كنت أريد هذا الأمر لألفت مثل كتاب صاحب الرياض السيد علي الطباطبائي وعنده كتاب اسمه (رياض المسائل في معرفة الأحكام بالدلائل ) فيقول أن ذلك الكتاب كتاب بديع منظم ومرتب ، ويقصد بهذا أن كتابه أدنى منه مع أن العلماء حين يقارنون بينهما يقولون أين هذا من ذاك ؟ فكتاب رياض المسائل هو ربع كتاب الجواهر أو ثلثه بالكثير . وأما من ناحية الاستقصاء والإحاطة فهناك فرق كبير بين الكتابين مع أن كتاب الرياض من أهم الكتب الفقهية ، لذا يقولون أن صاحب الجواهر كان جدًا متواضعًا عندما قال هذه المقولة . فهذا التواضع ربما يكون سببًا من أسباب توفيق هذا الكتاب ومن أسباب انتشاره وبقائه إلى اليوم وأكثر من هذا فبعض علمائنا إذا أراد أن يشير إلى الفقه المتوازن بين الأحاديث وبين الأدلة الأصولية والأدلة العقلية يقول أنا اتبع الفقه الجواهري ، فكأنما صار هذا الكتاب نموذج إلى الفقه الجامع بين الروايات والأحاديث وبين الأدلة العقلية ، فإذا عرف شخص بأن منهجه منهج ممتاز يقال هذا فقهه فقه جواهري . فهذا الكتاب الذي ألفه صاحبه لا ليطبع ويدرس أصبح نموذجًا للفقه الإمامي في صورته الحديثة .
وأكثر من هذا ما نقله بعضهم كما في مقدمة كتاب الجواهر نقل أن صاحب الجواهر كان يقول أنا أود لو أن الشيخ كاظم الأزري صاحب الأزرية يقايضني قصيدته الأزرية بهذا الكتاب وأنا الرابح . وهذا إذا صح النقل فهو مبالغة بل غاية المبالغة في التواضع . فأين الجواهر وأين الأزرية ! فالأزرية من عيون الشعر في مدح سيد الخلق محمد صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت وتتألف من ألف بيت وكل بيت هو عالم رحيب شعر رائع وفخم معنىً ومبنىً وتلف منها على أثر المطر حوالي أربعمائة بيت وبقي منها ستمائة بيت من الأبيات . لكن بالمقاييس الظاهرية فهذا الكتاب فقه واستدلال وعلم وأقوال العلماء وأقوال الأئمة وآيات القرآن الكريم وبحث معمق في كل حكم من الأحكام ودليل هداية لمن يريد الهداية على وفق مذهب أهل البيت وتلك أيضًا قصيدة فخمة وعظيمة لكن بالمقاييس الظاهرية نعتقد أن صاحب الجواهر متواضعًا في هذه الجهة . أو أن يكون شيء نحن لا نعلمه من معرفة هؤلاء بمقامات رسول الله وأهل البيت والذي يصبح من ينشد فيهم أشعارًا له هذه المرتبة العظيمة . وينقل هذا الأمر أيضًا عن العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان وهو عشرون مجلد من البحث القرآني والعقلي المعمق والذي يندر مثله ينقل عن أحد تلامذته (أنقلها بواسطةٍ واحدةٍ فقط ) فيقول هذا السيد وهو السيد علوي البروجردي وهو فقيه ومجتهد موجود الآن في قم ويبحث الخارج وهو حفيد السيد البروجردي الكبير المرجع الأعلى في وقته يقول : ذات يوم ذهبنا إلى السيد الطباطبائي بعدما انتشر كتاب الميزان وأخذ موقعه في العالم الإسلامي وفي الحوزات وكان السيد الطباطبائي قد أصبح كبير السن فذهبنا إليه في بيته وما كان عنده خادم فجيء بالشاي من وراء الباب فقام هو رضوان الله عليه حيث أراد أن يجلب الشاي ويده ترتعش من كبر السن ونحن كنا شباب فقمنا بسرعة وأخذنا الشاي ووزعناه فلما جلس يقول نحن كنا مستعدين لمسائل فلسفية أمام هذا الفيلسوف أو مسائل قرآنية أو عقائدية أو بحث فقهي فيقول التفت فرأى مداح حسب تعبيرهم ( ملا ) وكانوا هناك يفصلون بين المحاضر وبين قارئ الرثاء والمدح ، فيقول التفت فرأى المداح وقال له قم واقرأ لنا مجلس . فقال سمعًا وطاعة ، فيقول بدأ يقرأ مجلسًا في شأن علي الأكبر سلام الله عليه ، فأتى بحوالي عشرة أبيات لشاعر معروف يسمى ( إيرج ميرزا ) وظل يقرؤها والسيد الطباطبائي يبكي ويضرب على فخذه إلى أن وصل إلى آخر بيت والذي كان يصور حالة الفراق بين عليٍ الأكبر ووالده الحسين فاشتد بكاء العلامة الطبطبائي وكان يستعيده فيقول له أعد وهكذا أربع مرات وهو يبكي بكاءً مرًا . فيقول الناقل التفت بعد انتهاء المجلس قلت للسيد تعرفون هذا الشعر قال نعم أحفظه وهذا الشاعر عندي ديوانه وأتمنى لو أن هذا المداح يقايضني أجر هذا البيت بأجر تفسير الميزان . فيقول : أنا تعجبت جدًا فقلت له لم أفهم . فقال : لو أن هذا المداح يقبل أن يقايضني ويبادلني أجر هذا البيت بأجر كتاب الميزان سأكون أنا الرابح .
فالحقيقة نحن لا نفهم هذا الأمر فهذا الكتاب عشرون مجلد في غاية الدقة في البحث ومن يقرؤه يذعن بذلك وفيه بحوث روائية وعقلية ورد على الشبهات . فهل هذا من التواضع العظيم أو هو في معنى نحن لا ندركه مثل أن هذا البيت أن قيمته ليست في هذه العبارات وإنما قيمته في أنه خلد أشخاصًا هم خلدوا الدين والشريعة ن وإذا ما كان الحسين عليه السلام وأبو الفضل العباس وعلي الأكبر والقاسم وأنصار الحسين فلن يكون هناك تفسير الميزان ولا فقه ولا غيره ، فكل هذا الكيان كان منهدم ولكن بتضحيات هؤلاء ارتفعت راية الدين وبقيت الشريعة فدماؤهم كانت هي الحافظ والضامن .
وإلا فهذا ينم عن المبالغة في التواضع وفي إنكار جهد الإنسان الذي بذله من أجل نصرة الدين