خطاب العقيلة زينب: الاستشهاد بالقرآن
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 16/8/2024 م
تعريف:

خطاب العقيلة زينب: الاستشهاد بالقرآن

كتابة الفاضل علي السعيد

من خطبة لسيداتنا ومولاتنا العقيلة زينب سلام الله، خطبتها أمام الطاغية يزيد وأعوانه، قالت: "بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾[ الروم: 10]، أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنَّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وإنَّ ذلك لعِظَمِ خَطَرِكَ عنده، فشمَخْتَ بأنفِكَ، ونظرت في عطفِك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متَّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]"، صدقت سيدتنا ومولاتنا العقيلة زينب صلوات الله وسلامه عليها. هذه الأيام تصادف رحلة العودة من الشام إلى كربلاء، فإنه يفترض أنهم بعدما بقوا أسبوعا من الزمان، وقد دخلوا الشام كما يقول المؤرخون في اليوم الثاني من شهر صفر سنة 61 هجرية، يفترض بعد هذا الأسبوع أن يأخذوا طريقهم إلى كربلاء، ففي اليوم العاشر أو نحوه خرج الركب الحزين من الشام إلى كربلاء، ولكن على غير الطريق الذي جاؤوا منه، بل هو على الطريق المعروف بوسط بادية الشام، ولذلك أيضا اختصرت مدة هذا الطريق، بينما كانت عند الذهاب باعتبار عدد من المنازل، والطريق الذي على المياه، وقضايا التفرج، كان ذلك الطريق قد أخذ منهم قرابة 18 يوما أو نحو ذلك، هذا الطريق الآخر لم يأخذ منهم سوى 9 إلى 10 أيام. بطبيعة الحال كان بقاؤهم في الشام من أصعب الفترات من حيث الألم النفسي، وما يتبع قضية السبي من التفرج، والشماتة والغربة وما شابه ذلك، حتى بلغ الأمر أقصاه، مع ذلك فإن العقيلة زينب سلام الله عليها، وابن أخيها الإمام علي بن الحسين عليه السلام، قاما بدور مهم جدا في فضح الأمويين، وكانت خطبة العقيلة زينب من أوضح أنحاء تلك الفضيحة، وهي بمثابة الوثيقة التاريخية التي إلى الآن تقاوم بشدة التزييف الأموية للتاريخ، حيث إننا نجد بعض أتباع المنهج الأموي إلى اليوم ينكرون أصل ذهاب ركب الحسين وحرم الحسين إلى الشام، أصلا لم يذهبوا إلى الشام، لم يُسَيَّروا، وأصلا لم يُرسَل رأس الحسين إلى الشام، كما نرى مثلا في كتب (ابن تيمية)، هذا الأمر بشكل صريح، إنكار واضح، وإنما ما الذي حصل؟ يقول لك الذي حصل، أنه بعدما خرجوا من كربلاء، أمر بتسييرهن إلى المدينة، وانتهى الموضوع، فهذه الخطبة التي خطبتها العقيلة زينب عليها السلام، ودونتها كتب التاريخ، هي من أهم الدلائل، بالإضافة إلى ما ذكره المؤرخون من غير أتباع النهج الأموي، هذه الخطبة وما احتوت فيه على تفاصيل تاريخية، هي من خير الأدلة على هذا الحدث. هذه الخطبة في تقديرنا لم تنل ما ينبغي من الاهتمام في تشريحها، وفي إظهار معانيها، وفي بيان بلاغتها العالية، صارت هناك شروحات، جزى الله القائمين عنها خير الجزاء، لكن هذه الخطبة فيها من المواضيع المختلفة التي تستحق الدرس والتأمل كثيرا، حتى هذه الليالي كم ليلة إن شاء الله سوف نبقى في رحاب هذه الخطبة، لكي نوضح شيئا مما جاء فيها، مع علمنا بأننا لا نستطيع أن نصل إلى كل أعماقها، وكافة أبعادها، ولكن كما يقولون: (لا يترك الميسور بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك جله). أول ما نلاحظه في هذه الخطبة، أنها خطبة جاءت بشكل قوي بليغ، فيها من المعاني العقائدية، فيها من الاستشهادات القرآنية، فيها من بيان الحقائق التاريخية، فيها من نبرة التحدي، ورؤية المستقبل، ما قد لا نجد مثله في سائر الخطب، مع أن النص نص قصير، وتعلمون أن المتكلم في النص القصير محاصر، بخلاف ما إذا كان لديه مجال واسع، فمما يعطي هذه الخطبة الأهمية الكبيرة هي أنها مع اختصارها، حيث إنها حوالي 30 سطرا فقط بالسطور العادية، يعني في صفحة واحدة كما يقولون في هذه الأزمنة، A4أو فلوسكاب، تحتل كل هذه الخطبة في هذه الأسطر الـ30. أولا: احتواؤها على كل هذه المعاني حقيقة من الأمور الإعجازية، يصعب على غيرها، وهي تنطق كما وصفت كأنما تفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين عليه السلام، وحقا يصعب على غيرها أن يحل هذه المعاني والمفاهيم بسبك بلاغي متميز في هذا المقدار من الأسطر. ثانيا: من الأمور التي تميز هذه الخطبة أنها كانت مرتجلة، وتعلمون أن أي إنسان في الحالة العادية عندما يُحَضِّر لموضوعه، ولخطبته، ويفكر فيها قبل ذلك، سوف يعطي عطاء أفضل مما لو كان على الارتجال، أي إنسان هكذا، هذا في حال الخطباء واضح، أن الخطيب الذي يعد لموضوعه، ويراجع مصادره، ويتأمل في الكلمات، ويأتي مستعدا، هو قادر على أن يعطي مادة جيدة، لكن نفس هذا الخطيب إذا أنت في مكان وقلت له مولانا نريد منك خطبة في موضوع معين، خطبة في التاريخ، خطبة في الأخلاق، خطبة في العقائد، لا يكون خطابه المرتجل بنفس قوة خطابه المعد والمحضر. زينب عليها السلام رأت أن اللعين يزيد قد وضع رأس الحسين أمامه، وأخذ ينكت ثناياه، ويتمثل بقول ابن الزبعرى السهمي، وهو من كفار قريش، وحارب المسلمين بشعره حربا شديدة، ومما بقي من قوله: لعبت هاشم بالملك فلا .... خبر جاء ولا وحي نزل إنكار للنبوة، وإنكار للوحي، وإنكار للرسالة بالكامل، فجاء يزيد، وأضاف عليه من شعره أيضا، وقال: ليت أشياخي ببدر شهدوا .... جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلوا واستهلوا فرحا .... ولقالوا يا يزيد لا تشل قد قتلنا القرم من سادتهم .... وعدلناه ببدر فاعتدل هذا فعل شنيع، وهو ضرب فم الحسين عليه السلام بعود الخيزران، وتمثل أشنع، وهو يحمل معاني الكفر، وإنكار الرسالة، هنا زينب عليها السلام انبعثت وقامت، يعني خطاب مرتجل لم يكن له سابقة، لم يكن له إعداد، والارتجال عادة قرين الضعف، فإذا جاءت العقيلة زينب بمثل هذا الخطاب العجيب في معانيه وفي مبانيه، فهذا أمر معجز حقيقة، يعني كل الظروف التي أحاطت بالعقيلة زينب عليها السلام كانت تعاكس أن يكون هذا الخطاب بهذا المستوى. ثانيا: إنها امرأة متكلمة في وسط رجال، عادة الرجل في وسط الرجال، يأخذ راحته، امرأة في وسط النساء، تأخذ راحتها، تتكلم، تصعد، تنزل، إلى آخره، بينما امرأة (خَفِرَة)، هذا في التعبير عنها، (فلم أرى خَفِرَة تنطق بمثل منطقها)، (خَفِرَة) يعني مستورة، مخدرة ليس عندها قضية الاختلاط وكل يوم معتادة مع الرجال، وما شابه ذلك، لا، فتأتي وتخطب في وسط مجلس قد أُعِد للنظر فيه من المسؤولين الحكوميين، فيه من عامة الناس، فيه من كذا، وكلهم رجال، وهي امرأة، وتخطب هذا الخطاب، المفروض أن يأتي هذا الخطاب فيه شيء من التردد، فيه شيء من الضعف، فيه شيء من عدم القدرة، لكن زينب عليها السلام تجاوزت هذا، وفوق ذلك أيضا، وضعها البدني والنفسي، تلاحظ إذا خطيب لنفترض ذهنه مشغول بشيء، لا يستطيع أن يعطي العطاء المطلوب، إذا بدنه بدن متعب، لا يستطيع أن يعطي كما يعطي لو كان مرتاح البدن، زينب عليها السلام الآن هي في مسير قدومها في 18 يوما، وفي حالتها النفسية، وعمرها ذاك الوقت، كم؟ فوق الـ 50 من العمر، طيب يعني امرأة في قسم النصف الثاني من العمر، 50 سنة تعتبر كبيرة، ليست شابة، وفوق هذا فاقدة لأخيها الحسين، وأبي الفضل العباس، وبنيها، أو ابن من أبنائها على الأقل، تعلمون ما الذي يحصل بالمرأة عندما تفقد ابنها المباشر، وتفقد أخويها، وتفقد أبناءها، وتفقد كل هذه الصفوة الطاهرة، وفوق هذا أيضا، ألم بدني وتعب خلال هذا المسير والمشوار، ومع ذلك تخطب هذا الخطاب، حقا زينب كانت قد تجاوزت المدى فيه. دعنا نأخذ بعض الأمثلة على ذلك، في هذا الخطاب القصير زينب عليها السلام استشهد بـ6 آيات من القرآن الكريم، بعضها على سبيل الاقتباس، بحيث اقتباس معنى إنه لما واحد يقرؤها في ضمن النص يتصور كأنه جزء منه، والحال أنه ليس جزءا منه، وإنما هو آية قرآنية، هذا المعنى، سياق الكلام بحيث لما تأتي وتقول: "يوم ينادي المنادي ألا لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، لما واحد يسمعها يتصور أن هذه الجملة كلها من جملها، لكن هذه قسمان: قسم: لعنة الله على الظالمين، من القرآن الكريم،﴿... فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 44]"، هي أخذت فقط هذا المقدار وسبكته في خطابها، بحيث لما شخص يقرأ النص يتصور أن شدة الانسجام، وشدة الارتباط بين كلامها، وكلام الله عز وجل، كأن هذا جزء من خطابها الأصلي. وهكذا في سائر الموارد، عندنا بعضها (اقتباس) كما يسمونه في اللغة العربية، ومعناه الاستشهاد، مثلا: "وسيعلم من سوّل لك -من ولاك وسول لك- بِئس للظّالمين بدلا"، لما واحد يقرأها بشكل طبيعي يتصور أن كل هذه الفقرة، كل هذه الجملة من إنشاء العقيلة زينب عليها السلام، لكن هي قسمان: القسم الأول: (وسيعلم من سوّل لك)، تقصد معاوية، ﴿وبِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 50]، هي آية قرآنية، وهكذا أنت ترى في هذا المورد، وفي مورد ثالث: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، أيضا جعلتها في سياق كلامها، بينما هي جزء من آية قرآنية مباركة. قسم آخر، لا، أشارت إلى أن هذا قول الله، "أنسيت قول الله عز وجل حيث يقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]، هذه إشارة إلى أنه ترى أنت لا تتصور أن هؤلاء ماتوا وانتهوا وانتهت قضيتهم، هل تنسى قول الله عز وجل في هذه الآية المباركة؟ حيث يثبت لهم الحياة عنده، يثبت لهم الأثر الذي يمارسونه على من بعدهم، يستبشرون بأولئك الذين لم يصلوا إليهم، ولم يلحقوا بهم، وهكذا ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 170]. كل آية من هذه الآيات، ولا سيما الآية الأولى التي انتخبتها، انتخبتها بدقة عظيمة، فهي أول ما بدأت قالت: بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [ الروم: 10]، هذه أين عادة يستشهدون فيها؟ وما هو المعنى؟ العلماء في العقائد، وفي غيرها يتحدثون يقولون الإنسان في البداية يأتي بذنوب صغيرة، فإذا أدركته الرحمة وتراجع حصل إليه ناصح ينصحه، أو لا، هو فكر بينه وبين نفسه، أو قرأ دعاء من أدعية التوبة، وتغلب هذا الدعاء على نفسه، فأرجعه إلى ما كان عليه من الطاعة، الحمد لله، إذا لا، ظل يستمر في هذه الصغائر، لن يتوقف عند هذه المشكلة، إن هذا الإنسان إذا استمرأ الصغائر، إذا استعذب الذنوب الصغيرة، إذا استسهل ذلك، صلاة الصبح لم أصلها، نقضيها إن شاء الله، والله فلان أنا تكلمت عليه، إن شاء الله مرة ثانية لن نتكلم عليه، ويتكلم على غيره، إذا استسهل هذه الذنوب. عندنا وصية لنبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله، يفرق بين المؤمن والمنافق في نظرهما إلى الذنب، يقول المنافق يرى الذنب كذباب مر على أنفه، أنت اليوم إذا مرت عليك ذبابة تتذكرها؟ لا، لا تذكرها، طيب ولا تفكر فيها أصلا، المنافق المقصر بالنسبة له إن الذنب هكذا، يحدث في وقته، بعد ذلك ينسى أنه أذنب، ولا يفكر فيه، ولا يفكر في التراجع، ولا يفكر في التوبة، ذباب مر على أنفه، وأما المؤمن فإنه يرى الذنب كصخرة تكاد تقع عليه، دائما قلق، يا رب أنا الصباح فعلت كذا، البارحة عملت كذا، يظل يحاسب نفسه في وقت من الأوقات، في الليل لا ينام مرتاحا، لا يهدأ حتى يستغفر ربه، ويندم على ذنبه، هذا الإنسان هو في الجانب الآمن، أما إذا كان من القسم الأول، عمل الذنب وغفل عنه، هل سيتوقف عند هذا؟ لا، سيبدأ في الكبائر، الشيطان يزين له الكبائر. إذا تريد أن ترى مثالا، انظر لهؤلاء الذين يستعملون المخدرات، لا يذهبون مباشرة إلى الهيروين والكوكايين والشبو، أول شيء يعطونهم حبوب الكبتاجون ذي المفعول البسيط، ويقال لك هذه تنهبك، فإذا أخذها مرة ومرتين وثلاث، بعد ذلك (ما تجيب راسه) حسب التعبير، يريد جرعة ماذا؟ أقوى، فيعطى جرعة أقوى، تلك الجرعة الأقوى أيضا (ما تجيب راسه)، ينتقل إلى هذه المخدرات الخطرة التي تهدم صحته، وهكذا يستمر في الانحدار والانهيار، في الذنب هكذا، فعل ذنبا من الذنوب الصغيرة أولا، لم يتب، لم يحاسب نفسه، لم يندم، لم يتراجع، الشيطان يزين له الوقوع في الذنوب الكبيرة، تعال، هذا الخمر جرعة واحدة ماذا بها؟ نسهر ونشرب مع الشباب وناسة إلى آخره، وشيء بسيط، حتى يقول له تعال اسهر معهم فقط، لا تشرب، فإذا ذهب، وشرب...، بعد ذلك يتمكن منه. مسألة محادثات واتسآب ماذا تفيدك؟ ماذا تنفعك؟ تعال فكر في الاتصال التليفوني بالفتيات، وبعد ذلك اتصال كيف يشبعك هذا؟ تواعد معها، واخرج معها، تَوَنس إلى أن يصل إلى الزنا، هذا القسم الثاني، بعدما لم يتراجع عن الذنب الصغير، يذهب وراء الذنب الكبير، يقف هنا، إن أدركته الرحمة، يا ويلتاه، يا غفلتي عما يراد بي، كيف أنا فعلت هكذا؟ لماذا أنا انحرفت هذا الانحراف؟ ما هو سوء التوفيق الذي لازمني؟ لماذا لا أرجع؟ فإن رجع وأدركته الرحمة، الحمد لله، إذا لم يحدث هذا؟ يظل مستمرا، يجرب هذا الذنب، والذنب الثاني، والذنب الثالث في حركة تصاعدية في شدة الذنوب، مثل المخدرات تماما، إلى أين ينتهي؟ ينتهي فيما بعد إلى الكفر العقائدي، يقول أصلا من يقول هذه الأشياء حرام؟ من يقول أصلا أن هناك عقوبات؟ هذا يقوله الملالي والخطباء والعجائز، هؤلاء الناس كلها تفعل هذه الأمور، ولا رأينا نارا احترقوا فيها، ولا كذا، إنما هي حياتنا الدنيا نموت ونحيا وانتهى الموضوع، حيث يخرج من الكفر الجوارحي كما يسمونه يعني، من الأفعال والذنوب القبيحة إلى مرحلة أخرى أخطر، وهي الكفر الجوانحي، إنكار. عمر بن سعد يقول أنا أقتل الحسين، لا مشكلة، عمر بن سعد يقول تستحق القضية، إمارة الري، وهذا الرجل مجنون بالإمارة، منذ أن كان صغير السن، سبحان الله، هذه الأيام أنا أكتب في سيرته العفنة من أيام شبابه، وهو مجنون بالإمارة والرئاسة، يعني مناه وأقصى أمنيته أن يصبح رئيسا يصدر الأوامر والنواهي، وهي الآن جاءت إليه عند بيته (على قولتهم) في الكوفة، عينوه على رأس جيش عبيد الله بن زياد، قال له تذهب إلى جماعة متمردين على الدولة في منطقة الري -طهران حاليا- تقضي عليهم، وهناك أيضا تبقى أنت رئيس تلك البلدة، هذا طار من الفرح، ابن زياد يعرف هذا ما هو داؤه ومشكلته، أهل الدنيا يعرفون بعضهم بعضا، فلما صارت قضية الحسين قال له اذهب إلى الحسين واقض عليه أولا، بعد ذلك اذهب إلى الري، استعفى منه، حاول معه، قال له لا، إذا لم تذهب، سلم لنا العهد، ومع السلامة، لا نطالبك بشيء، فقط سلم إلينا كتاب الولاية والعهد على الري، وعرف أن هناك ستكون مقتلة، بعد ذلك هذا سيصل إلى مرتبة يقول: فوالله ما أدرى وإني لصادق ... أفكر في أمرى على خطرين أأترك ملك الري والري منيتي .... أم أصبح مأثوما بقتل حسين حسين ابن عمى والحوادث جمة ... ولكن لي في الري قرة عيني يقولون إن الله خالق جنة .... ونار وتعذيب وغل يدين فإن صدقوا مما يقولون إنني .... أتوب إلى الرحمن من سنتين وإن كذبوا فزنا بدنيا عظيمة ... وملك عقيم دائم الحجلين ابن زياد هكذا، وعمر بن سعد هكذا، ويزيد أيضا، وصل إلى هذه الدرجة: لعبت هاشم بالملك فلا .... خبر جاء ولا وحى نزل القضية قضية صراع على السلطة، وبنو هاشم جاؤوا وأخذوها، هذا نفس الكلام قاله جده أبو سفيان، أبو سفيان قال: "يا بنى أمية، تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا قيامة!"، القضية قضية صراع سلطة وسياسة، مرة صوبهم ومرة صوبنا. فينتقل الإنسان من الذنب الجوارحي من الذنوب الكبيرة، وهي على سوئها وشدتها وشدة العقوبة فيها، لكن مع ذلك هي أسهل من الكفر، الكفر بما جاء به رسول الله، الكفر بما أنزل الله في كتابه، ماذا يعني: (لا خبر جاء ولا وحي نزل)؟ هذا ينتقل إلى هذه المرحلة، هذه المرحلة هي التي تتحدث عنها العقيلة زينب، وتنبه عليها أنه يزيد وصل إلى هذه المرحلة، ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [ الروم: 10]، فعلوا سيئات كثيرة، عاقبتهم ونتيجتهم ماذا؟ أن كذبوا بآيات الله، وكانوا بها يستهزئون، نتيجة يزيد في ممارسته لشرب الخمر، وفي إظهاره الفسق والفجور، وفي أعماله القبيحة، وانتهاء بقتل الحسين عليه السلام، هذه عبرت به من هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى، وهي التكذيب بآيات الله، ﴿.. أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾. عجيب هذا الافتتاح، هذا الاستهلال كما يسمونه في اللغة، هذا الاستهلال حقا هو أمر عجيب، ويكاد يكون معجزا، أن زينب عليها السلام برغم كل تلك الظروف التي عاشتها، وكما قلنا كانت تضعف خطابها، وتقضي عليه، لو كان غيرها، لكن هي تذهب وراء أقوى آية وأعظم آية تشخص حالة يزيد بن معاوية، يعني أنتم يا أيها الناس، وهذا الاتجاه الأموي، هذا يقول مثلا أساسا يزيد ليس الذي هو قتل الحسين، وإنما قتله عبيد الله بن زياد، أو قتله عمر بن سعد، أو قتله شمر بن ذي الجوشن، أو كذا، ويزيد لم يكن راضيا، زينب عليها السلام تقول يزيد تخطى هذا الكلام كله، قتل أم لم يقتل، هذا مفروغ منه، الأمر وصل إلى درجة إنكار الرسالة، درجة إنكار الوحي. ولذلك من غير الاتجاه الأموي، سائر علماء المسلمين قالوا هذه الأشعار المنقولة عن يزيد بن معاوية لا شك عندنا في كفره، هذا (السعد التفتازاني)، وهو من علماء مدرسة الخلفاء، يقول نحن ليس عندنا شك في يزيد ولعنه، نشك في إيمانه ونتيقن كفره، لأنه يقول في شعر معروف له: لما بدت تلك الحمول وأشرفت .... تلك الرؤوس على ربى جيرون نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل .... فلقد قضيت من الرسول ديوني أنا عندي ديون مع رسول الله، الآن ما دام قتلنا هؤلاء وسيرنا نساءهم وأتينا برؤوسهم على ربا جيرون -منطقة في ظاهر دمشق- أنا حققت الانتصار، وأخذ ديوني، النبي قتل ساداتي، قتل عتبة، وقتل شيبة، وقتل الوليد، ولو بواسطة علي بن أبي طالب عليه السلام، لكن أنا بيني وبينه ديون، ويستشهدون بمثل هذا: لعبت هاشم بالملك فلا .... خبر جاء ولا وحى نزل في أنه نحن لا نشك في جواز لعنه، لا شك لدينا في ذلك، إذا واحد يشك سيشك في إيمانه، ويتيقن بذلك كفره، وعدم إيمانه، فزينب عليها السلام لما تأتي وتفتتح خطابها هذا العظيم بهذه الكلمات أولا، وتنتخب هذه الآية المباركة لتشخيص حال يزيد بن معاوية، فإنها تضع يدها بدقة على حالة هذا الرجل الذي انتقل من فسق الجوارح إلى كفر الجوانح. إضافة إلى ذلك ما استشهدت به من سائر الآيات، قلنا هناك 6 آيات العقيلة زينب عليها السلام في هذا المقطع القصير من الخطبة، وهي خطبة قصيرة استشهدت بـ6 آيات، أولها هذه الآية المباركة، ثم وصلت إلى قولها وتهديد إليه: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]، تقول ليزيد "...حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متَّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]"، كلا هذا نوع من الاستدراج من الله عز وجل، لا تتصور الله أعطاك هذا باعتبار رضاه عنك، لا، ﴿...إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾. الآية الثالثة، تشير إلى مقتل تلك الصفوة المنتخبة فتقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]، وفي آية رابعة كما ذكرنا وهي من الاقتباسات البديعة، قولها سلام الله عليها: ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 50]، وفي الآية الخامسة: ﴿...وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾[ فصلت: 46]، وفي الآية السادسة: ﴿... لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 44]". وسبحان الله أنها صنعت اللعنة في نفس المكان، واستشهدت بجواز لعنة الظالمين، ومن أظلم من يزيد في فعله ومن بني أمية؟ بدليل قرآني وآية مباركة تقول: ﴿... لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، فهذه بعض الجوانب من هذا الخطاب العظيم الذي ألقته العقيلة زينب عليها السلام على ما بها من ضعف البدن، وتعب السفر، والوضع النفسي الصعب الذي خلفته معركة كربلاء، من شماتة الأعداء، ومن قتل الإخوة والأحباء، ومن شماتة العدو في هذا الطريق الطويل، مع ذلك قامت بهذا العطاء الاستثنائي الذي سيحتاج إلى وقفات أخرى إن شاء الله في ليالي قادمة، نتحدث فيه عن هذا الخطاب القوي والعظيم والموضح للحقائق، بتوفيق الله سبحانه وتعالى. شهدت بأبي وأمي بين يديها، بين عينيها رأس أخيها الحسين عليه السلام، ينكت بعود الخيزران، ذكرنا في بعض المواضع أن العبارة في أماكن معينة حيث ذكرتها، (منحنيا على ثنايا أبي عبدالله، وسيد شباب أهل الجنة، تنكتها بمخصرتك)، في نقل آخر (تنكثها)، (النكت): هو الضرب الخفيف الذي يخلف صوتا، هذا مثلا (نكت)، مثلا شخص يفعل بهذا الشكل، هذا (نكت)، لكن (النكث): وخصوصا في الأضراس والأسنان، يعني الضرب الشديد الذي يكسر الأسنان، ويقتلعها من مكانها، فالصديقة الطاهرة سلام الله عليها عندما تتحدث عن أنه (تنكتها) يعني تضربها بمخصرتك ضربا لا يؤدي إلى تكسيرها، إذا كان النقل الآخر (تنكثها): يعني ضربتها ضربا شديدا حتى كسرت هذه الأضراس، و(نكثتها) عن مكانها، هذا مشهد من المشاهد التي رأتها بعينيها بأبي وأمي.
مرات العرض: 4100
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 74122.17 KB
تشغيل:

تحليل مضمون الخطاب الزينبي في الشام