من خطبة سيدتنا ومولاتنا عقيلة الطالبيين زينب بنت أمير المؤمنين في مجلس يزيد قالت ( أمن العدل يا أبن الطلقاء تخديرك حرائرك وامائك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدوا بهن الأعداء من بلد الى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل وينظر اليهن القريب والبعيد والدني والشريف ليس لهن من حماتهن حمي ولا من ولاتهن ولي وكيف يرتجا مراقبة من لفظ فوه أكباد الازكياء ونبت لحمه بدماء الشهداء وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنان وألاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم لأهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل منحنيا على ثنايا أعبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكثها بمخصرتك )
تحدثنا في ليلة مضت على أن الظروف التي أحاطت بالعقيلة زينب عليها السلام لم تكن تقتضي في الحالة العادية أن يبرز منها هذا الخطاب المعجز في معانيه والفاظه وبلاغته، فأن كونها أمرأه في وسط الرجال تخطب هذا يعارض أن يكون خطابها بهذه القوة والبلاغة والمعنى والمضمون ،وكذلك أيضا فأن كون الخطاب مرتجلا يعاكس الخطاب المرتجل أن يكون المتكلم بهذا المستوى وهذه الدرجة من القوة من حيث المعنى واللفظ ، يضاف الى ذلك الوضع البدني بعد سفر طويل استمر قرابة 18 يوما والوضع النفسي الذي نتج عن فقد أخوتها وأبناءها وأبناء أخوتها كل ذلك يعارض أن يكون الخطاب بهذه العظمة والفخامة والعمق ، عندما نأتي وننظر لهذا الخطاب الذي نقله الكثير من المؤرخين من أوائلهم أبن ابي طيفور صاحب كتاب بلاغات النساء ،والذي عاش ما بين سنة 204هجرية و280 وقد انتخب هذا المؤلف وهو ليس من مدرسة أهل البيت الخطب التي أوردها من حيث بلاغتها وقوتها من غير أن يكون له في ذلك دافع مذهبي وانما جهة بلاغية وقوية وسماه أيضا بلاغات النساء .
في كتابه أورد خطبة العقيلة زينب سلام الله عليها بألفاظ قريبة جدا مما هو معروف ومشهور وهو يتلى في العادة ، كذلك كتاب الأبي في كتابه نثر الدرر في المحاضرات وهو متوفى بعد سنة 400 هجرية أورد خطبة السيدة زينب عليها السلام في كتابه ، وأيضا ابن حمدون في كتابه التذكرة الحمدونية وأيضا صاحب الاحتجاج أبو علي الطبرسي الذي توفى قبل 500 هجرية أوردها في كتابه الاحتجاج وقد قدم في هذا الكتاب أن هذه المتون التي جاء بها هي مما عليه الاجماع ،المناظرات والاحتجاجات وما عليه من أخذ ورد مما عليه الاجماع ومما هو موافق للأصول والعقول ،وانما حذف اسانيده لكي لا يكون الكتاب ضخم وكبير فهو له من المتكلمين اسانيد معتبره ، فهو نفس الخطاب حتى لو لم يكن له أي سند كما يقول العلماء فبالنقد المضمون والمتن بهذا الخطاب يمكن ان يتوصل الانسان أن هذا الخطاب لا يمكن ان يخرج الا من المعدن الأصيل .
كما أن قسم من علماءنا حينما يسألون عن اسانيد مثل دعاء الصباح وكميل وغيرهم كما كان اية الله العظمة والفيلسوف والفحل المعرفي الشيخ كاشف الغطاء رحمة الله عليه يقول في مثل هذه متونها هي اسانيدها واسانيدها هي متونها ،فلا يحتاج البحث عن الرواة التي نقلت تلك الاسانيد فمن الذي يستطيع ان يصدر منه مثل دعاء الصباح ودعاء كميل وغيره من الادعية بما فيه من معاني ومضامين الا أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام ،كذلك عندما نتأمل في مضامين هذه الخطبة الزينبية واداءها وبلاغتها نجد الامر كما قال هذا الشيخ الجليل رحمة الله عليه .
والان لنستعرض ما ورد في هذا الخطاب والتعرف على المواضيع التي عرضتها السيدة زينب سلام الله عليها في خطبتها وهذا الخطاب يعتبر قصيرا فهو لا يتعدى 30 سطرا، وعادة إذا كان الخطاب قصير يضيق مساحة المتحدث في طرق المواضيع المتعددة والمختلفة ولكننا نجدها سلام الله عليها على طريقة الإشارات التلغرافية وأسلوب البرقيات تثبت معاني كثيرة جدا.
اول ما تبدأ سلام الله عليها تقول مخاطبة يزيد انت بعد أن أخذت علينا اقطار الأرض وافاق السماء اصبحنا نساق كما تساق الأسارى ،وهذا التعبير يعني أننا لسنا أسارى في الواقع ،الأسير هو الذي يعيش حالة الاسر في داخله والعبد يعيش حالة العبودية في داخله اما من يكون حرا طليقا لا تسيطر عليه الأوضاع الخارجية ولا تأثر عليه المظاهر هذا قد يساق كما تساق الاسارى ولكنه في الواقع هو حر طليقا لا يعيش حالة العبودية والاسر وان كنا يفعل بنا ما يفعل بالأسارى من عزف وجبر وسلطة تفرض تلك الحالة والدليل انها تستطيع ان تتحدث وتتكلم بكل قوة وتخاطب وتهدد أيضا حينما تقول فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك وهذا لا يمكن ان يكون حال الأسير وان فرض عليه وضعية الاسر .
النقطة الثانية التي تتحدث عنها السيدة سلام الله عليها هو الفصل بين النصر الظاهري وبين الكرامة الإلهية والتأييد الرباني ،بعض الناس يتصورون أن كون الانسان غالب في الدنيا وصاحب السلطة والقوة فهو مقرب من عند الله تعالى ويتبين أن الله يحبه وهذا ما كان يركز عليه الامويون قديما وبالذات في صراعهم مع أمير المؤمنين عليه السلام وقد قال يزيد لعلي ابن الحسين سلام الله عليه أن أباك عليا قد ناظر ابي فحكم الله لابي او جدي على ابيك (أي نصر الله معاوية على علي وهذا دليل على ان الحق معه) ،وهذا منطق غير صحيح وللأسف أن جملة من علماء المسلمون يستدلون بذلك ، فمن يقرأ يجد ان جملة مما يستدل به على أن علي ابن ابي طالب عليه السلام لم يكن محبوب من قبل الله في زعمهم أن علي كان مخذول في معاركه فمثلا في صفين لم يحقق النصر كما انه في حربه مع الخوارج وان انتصر عليهم ولكنهم في النهاية قتلوه ،وانه كان في أيام حكمه كان في حالة فوضى واضطراب فهذا دليل على انه غير مؤيد من قبل الله تعالى ،زينب عليها السلام تنسف هذه النظرية بقولها انه حتى لو استوليت على اقطار الأرض وافاق السماء فكل هذه الانتصارات الدنيوية لا تدل على ان لك عنده الله المكان الجليل وان من هزم ظاهرا ليس له شأن عند الله ،فتقول (اظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وأفاق السماء فاصبحنا نساق كما تساق الاسارى أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامه )فهذا الانتصار الخارجي لا يدل على قرب يزيد من الله (حيث رأيت الدنيا لك متسقا والأمور مستوسقا وحيث صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلا مهلا لا تطش جهلا انسيت قول الله عز وجل ولا يحسبن الذين كفروا اننا نملي لهم خير لأنفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين ) تفنيد هذه الفكرة التي اعتمد عليها الامويين كأساس ثقافي بكلمات مختصرة وبأيات قرآنية ،هذا نوع من الاستدراج من الله عز وجل حتى يرى الى أين نهايتهم .
بعد ذلك أصبحت توضح مجموعة من الحقائق التاريخية التي سوف تصبح فيما بعد محل جدل ولغط عند اتباع الخط الاموي فتأتي السيدة زينب لكي تؤكد معنى من المعاني الذي لا سبيل الى أنكاره فتقول سلام الله عليها (أمن العدل يا أبن الطلقاء تخديرك حرائرك وايمائك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وابديت وجوههن *وهنا توجه السيدة سلام الله عليها التهمة ليزيد جريمة الهتك لستر بنات رسول الله وهذه ستكون قضية تسيير قافلة النساء من كربلاء الى الكوفة ومن الكوفة الى الشام ومن الشام الى كربلاء ومن كربلاء الى المدينة جريمة كبيرة حاول الأمويون ان يتنكرون لها فلم يستطيعوا فبعضهم انكر حدوث ذلك والبعض الاخر لم يستطع مثل الذهبي بالرغم ان اتجاهه اموي الا انه لم يستطع ان ينكر حدوث هذه الجريمة فهي جرت في وضح النهار ،والبعض لا يوجد لديه اشكال في ان ينكر الحقائق المسلم بها فقال لم يصح ان يزيد أمر بتسيير النساء من الكوفة الى الشام ولم يطف برأس الحسين ولم يأخذ الى الشام وانما أمر بتسييرهن الى المدينة في عز وكرامة ،والسيدة زينب في خطابها تثبت حدوث ذلك بقولها سوقك بنات رسول الله فهو لم يكن سفر عادي وانما بصورة سبايا وبالجبر والقوة ومن غير احترام لشئنهن ،بل أكثر من ذلك تفصل في الامر فتقول سبايا هتكت ستورهن وابديت وجوههن يستشرفهن أهل المناهل والمناقل وينظر اليهن الشريف والوضيع والقريب والبعيد ،مروا بهن على المناهل وهي الابار التي يأخذ منها المياه والمناقل وهي التي ينقلون منها الى أماكن أخرى أي طافوا بهن في شتى المدن والطرقات ،(ليس لهن من حماته حمي تحدوا بهن الأعداء من بلد الى بلد * مروا ببلدان كثيرة وهذا موافق للتاريخ حيث ورد انهم مروا على الفرات ثم عطفوا على دجلة ثم صعدوا شمالا الى قريب بلاد الشام ثم حلب ثم نكسوا الى دمشق وهذا كان طريق مسلوك ومأهول وفيه المياه والابار وفي كل منزل كانوا ينزلونه يأتي الناس يتفرجون او يناصرون ويعترضون بحسب توجه سكان تلك المناطق * ).
ثم تبين ان هذا الامر ليس غريب بقولها (وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء ونبت لحمه بدماء الشهداء * فما هي أصول يزيد ومن تكون جدته ولمن يرجع أصله فهذا امر غير مستغرب فيزيد يرجع أصله الى من لاكت كبد حمزة سيد الشهداء ولفظتها بعد ذلك وهو لا يرتجى منه الخير بل الأذى فهذا ما توارثه وتربى عليه*
وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنان * ونظرة البغض والكره والحقد هي نظرة طبيعية من قبلهم فهو ما جرى من اسلافهم الماضيين من بني امية *)
بعد ذلك تؤكد على امر مهم جدا ان يزيد تمثل بأبيات ابن الزبعرة السهمي والتي كفره بها علماء المسلمين بإنكاره النبوة حتى من غير اتباع اهل البيت كفروه مالم يكونوا من الخط الاموي في قوله
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
لكن يزيد أكملها بأبيات على نفس الوزن ونفس القافية حيث يقول
ليت اشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل
ويقصد به سبط رسول الله
فكما قتل من جماعتهم في بدر واحد الان يقتص بقتلهم الحسين واتباعه.
ثم تقول بقوله (غير متأثم ولا مستعظم فأهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل * فتقول له أنك لا تتحرج بقول ذلك القول الذي فيه كفر وهو حقيقته فهو لا يستحق فقط اللعن لأنه أجرم بل لأنه كافر وان كان يصلي جماعة ظاهرا ولكنه في واقع الامر قد كفر *)
نقطة مهمه اشارت اليها السيدة زينب عليها السلام وهي تحميل المسؤولية ليس فقط ليزيد وانما لأبيه معاوية أيضا فالاتجاه الاموي أضاع قضية قتل الامام الحسين فمرة يقولون ان من قتل الحسين هو عبيد الله بن زياد ومرة شمر ذي الجوشن ومرة عمر بن سعد ومرة سنان بن انس وفي الأخير توصلوا الى نتيجة تبراء هؤلاء جميعا فقالوا انما قتله شيعته من أهل العراق ،فالحسين لم يقتله يزيد بزعمهم بل شيعته من اهل العراق بغدرهم به .
زينب سلام الله عليها بحكمتها وفطنتها تقول المسؤول عن قتل الحسين ليس سنان ولا الشمر ولا عمر بن سعد وان كان كل واحد منهم له اثم عظيم وانما الفاعل الأساسي هو يزيد بقولها (وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين بأس للظالمين بدلا *فكل من ولى وأصدر الأمور وجيش الجيوش وحرك وامر له نصيبه في المشاركة في هذه الجريمة وسيعاقب عليها)
أيضا تشير الى مسألة قضية ترك جثث أهل البيت عليهم السلام في الصحراء تقول (فهذه الجثث الزواكي تنتابها العواسل * أي الذئاب * وتعفرها أمهات الفراعل *أي الثعالب *وهذا الامر لم يحصل ظاهريا وهي لم تستخدم الفعل الماضي الذي يدل على الحدوث فلم تقل عفرتها وانتابتها بل استخدمت فعل المضارع أي انها كانت بمعرض الحدوث والتعرض لذلك فانت صاحب جريمة ،فمنع دفن الجثث ليلة الحادي عشر كان بأمر من عبيد الله ابن زياد وعمر ابن سعد لولا مجيء الامام السجاد وبني اسد يوم 13 محرم ودفنهم لبقيت الأجساد مرمية في العراء وتحت حرارة الشمس وكانت في معرض ان تلتهمها الحيوانات المفترسة ولكن الله حفظها و حماها من حدوث ذلك .
وأخيرا تنتهي أنه بالرغم من كل هذا الا اننا ليس منكسرين ولا منهزمين بقولها ( فكد كيدك واسعى سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحوا ذكرنا ولا تميت وحينا *فما قيمة يزيد وما لديه فكل جمعه هباء * فجمعك بدد وايامك عدد * وبالفعل هلك يزيد بن معاوية بعد ثلاث سنوات من واقعة كربلاء في مصرع سيء جدا وانتهى للابد الحكم للجهة السفيانية فهم لم يحكموا بلاد المسلمين فالخلافة انتقلت الى فرع أخر وان كان سيء ولكن الفرع الذي قتل الحسين من اجل السلطة عوقب من قبل الله بالحرمان من الحكم ،فتحقق ما قالته السيدة زينب بان أيامه معدودة وجمعه سيفترق وسوف يدوم لعنه الى الابد على لسان المؤمنين فلعنة الله على الظالمين كما ورد في القرآن الكريم )
فالأمر كان صعب جدا على السيدة زينب سلام الله عليها ولكنها اثبتت قوتها وثباتها سلام الله عليها.