هذه الليلة حديثنا عن السنوات الأخيرة من حياة عقيلة الطالبين زينب الكبرى صلوات الله وسلامه عليها، ويشتمل ذلك أيضا على حديث عن أبنائها، وعن قبرها، وعن مدفنها.
بعد تحدثنا في ليلتين مضتا عن شيء مما يرتبط بخطابها البليغ العميق أمام طاغية الشام يزيد بن معاوية، والقينا نظرة عامة على ذلك اللقاء في بنائه الأدبي والبلاغي، وكذلك أيضا في مضمونه ومعانيه وأفكاره، وكان ذلك على سبيل الاختصار، وإلا فإن الخطاب فيه من المواضيع التي تحتاج إلى بسط وبحث، ولا أقل الجهات الأدبية والبلاغية الموجودة في خطاب العقيلة زينب عليها السلام، وهي قد جاءت على السجية من غير تحضير ولا إعداد، ولكن عسى أن يكون فيما مضى كفاية ونفع.
ونتحدث هذه الليلة وهي خاتمة الحديث عن العقيلة زينب عليها السلام في هذه الليالي، لأنه نبدأ بعدها بحديث عما يرتبط بالإمام علي بن موسى الرضا، باعتبار اقترابنا من مناسبة شهادته صلوات الله وسلامه عليه.
يذكر النسابة والباحثون التاريخيون أنه كان لزينب العقيلة عليها السلام من زوجها عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وهو ابن عمها، الذي زوجه أمير المؤمنين عليه السلام بابنته زينب، كان لها كما يقولون 5 من الأولاد، تشتمل على 4 من الذكور، وعلى واحدة من الإناث، كلمة (أولاد) كما تعلمون في اللغة تشمل الذكور والإناث، خلافا لما هو المتعارف الشعبي، عندما تسأل فلانا تقول له، كم عندك؟ يقول عندي مثلا: (3 أولاد و3 بنات)، لا، (الأولاد) في التعبير والمعنى اللغوي العربي تشتمل على الذكور والإناث، كما جاء في كتاب الله عز وجل: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ ...﴾ [النساء: 11].
فأيضا الإناث تدخل في الأولاد، والذكور تدخل في الأولاد، نعم لو أراد الإنسان أن يفرد كل قسم فيقول عندي مثلا: (3 أبناء، و3 بنات)، هذا هو بحسب القاعدة في اللغة، فكان لها من الأولاد ما مجموعه 5 أولاد، 4 منهم ذكور، والخامس هي أم كلثوم ابنتها، طبعا هناك أيضا أم كلثوم أختها، وحديثنا ليس فيها الآن.
أولاد عبدالله بن جعفر عدد كبير، قال بعضهم إنهم بلغوا 28 ولدا ما بين ذكر وأنثى، وكان رحمه الله مكثرا من الولد، وامتد به العمر إلى حدود سنة 80 للهجرة، عن عمر قريب من 80 أو تجاوزه بقليل، هذا العدد الكبير أيضا صار منشأ للاختلاط في أمهات أولاده، فمثلا أنت عندما تأتي إلى من ذكروا هؤلاء الوُلْد، اختلفوا فيهم في أنهم هل كل هؤلاء الـ5 من السيدة زينب العقيلة أو لا؟ أو بعضهم من أمهات أخر؟ لكن نحن نحاول قدر الإمكان تقريب المسألة إلى الأذهان، بعيدا عن التفاصيل التاريخية التي قد تضيع المطلب.
ممن يذكر من أبنائها عليها السلام (علي بن عبدالله بن جعفر الطيار)، قالوا إن هذا من أولادها، كانت له آثار مهمة جدا، وهو فيه الكثرة من نسل عبدالله بن جعفر، وقالوا ممن بقي من امتداد نسل السيدة زينب عليها السلام، يعني هناك قبائل، هناك عشائر في أماكن مختلفة، ينسبون إلى عبدالله بن جعفر وإلى زينب بالتحديد، باعتبار أن في هذا النسب يجمع شرف الانتساب إلى رسول الله من جهة أمهم، لذلك اهتموا بهذا النسب وتسجيله.
مثلا في الجزائر قبيلة كبيرة جدا يقال لهم: (الثعالبة الجعافرة)، وفيهم علماء، وفيهم مؤلفون، بعض هؤلاء لديهم كتب، طبعا كلها على المذهب المالكي، باعتبار أن هذا المذهب هو المذهب السائد في بلاد المغرب العربي، فهؤلاء أيضا ضمن هذا الإطار، (الحجوي الثعالبي) واحد من علماء تلك المنطقة إلى عهد قريب، وفاته حوالي سنة 1376 هجرية، وكان يشار إليه بالبنان، وله تأليفات مطبوعة، وينسب هذا إلى هذه القبيلة، (الثعالبة)، و(الثعالبة) فرع من (الجعافرة)، و(الجعافرة) هم من نسل عبدالله بن جعفر الطيار، الذين أمهم الكبرى العقيلة زينب سلام الله عليها، ربما لم يُهْتم بنسب عبدالله بن جعفر في سائر القبائل، باعتبار أنه إذا كان لهم شرف فهو فقط شرف الانتساب إلى الأب جعفر الطيار بن أبي طالب بن عبد المطلب، لكن في الجهة الأخرى من كان ينتسب إلى العقيلة زينب عليها السلام من جهة الأم لا ريب أنهم يشعرون بنوع من الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، باعتبار أن زينب هي بنت فاطمة الزهراء، وفاطمة الزهراء ابنة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله.
ومنهم أيضا في مصر في الصعيد معروفون كقبيلة كبيرة بعنوان (الجعافرة)، البعض يقول إن (الجعافرة) نسبة إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ولكن المحققين في كتب الأنساب يقولون غير ذلك، هؤلاء انتسابهم إلى عبدالله بن جعفر الطيار، وأمهم الكبرى هي زينب بنت علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليها وعليهم، وإلى الآن هم موجودون.
وسبحان الله ما قاله (الواقدي) ونقله عنه غيره، في ملاحظة ملفتة للنظر، قال (الواقدي): إن الله سبحانه وتعالى عاقب بني أمية، ومن شارك في قتل الحسين بأن اندثر نسلهم بالكامل، حيث لا يعرف لهم انتساب، أو حتى إذا أهل هؤلاء يعرفون نسبهم يخجلون من أن ينسبوا أنفسهم إلى تلك الأسرة المجرمة، وفي المقابل لم يبق من نسل الحسين عليه السلام بعد عاشوراء إلا علي بن الحسين عليه السلام، فقط الإمام السجاد عليه السلام هو الوحيد الذي بقي من نسل الحسين عليه السلام، وقد ملئت الأرض من نسل الحسين عليه السلام، فما ترى شخصا ولقبه (الحسيني) إلا نسبة إلى الإمام السجاد عليه السلام، إما عن طريق زيد الشهيد أو عن طريق أحد أولاده الآخرين، المهم يرجع في النسب إلى الإمام السجاد عليه السلام.
وكذلك أيضا فيما يرتبط بالعقيلة زينب عليها السلام، في الجزائر قبيلة كم طولها وكم عرضها، وفي مصر قبيلة كم طولها وكم عرضها، يتشرفون بالانتساب إلى جعفر الطيار، وإلى زينب بنت أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليها.
يقولون إن العدد والكثرة في أبناء عبدالله بن جعفر هو في (علي)، (علي) الذي يذكرون أنه من أبناء السيدة زينب سلام الله عليها، ويذكرون عنه آثارا كبيرة في جوده وسخائه وعطائه، وأنه كان في وقت أمحلت فيه مكة كفل عددا كبيرا من بيوت قريش، وزودهم بما يلزم، وبما ينبغي لهم من العطاء، في زمان هشام بن عبد الملك، مرت سنوات مجحفة بمكة خصوصا، تولى عليها أحدهم يقال له (خالد بن الحارث)، وهذا كان بالإضافة إلى قحط السماء وجذب السماء، هذا أيضا جاء حسب التعبير (فوق البيعة)، كان ظالما وكان مؤذيا، وكان يحتجب الأرزاق، وكان وكان، فسميت تلك السنوات بـ(سَنَيَات خالد).
السنة أحد التعابير فيها 365 يوما بالسنة الميلادية، أو 354 يوما بالسنة الهجرية، وأيضا تعبير عن الفترة الزمنية المجدبة والمقحطة، (وابعث عليهم سنين كسني يوسف)، قبل ما يأتي نبي الله يوسف ويدبر، ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾[يوسف: 43]، هذه السنوات المجحفة، عندما يستعملون هذا التعبير في اللغة العربية (وابعث عليهم سنين كسني يوسف)، أو (حاربهم بالسنين المجحفة والمقحطة).
وبعضهم يقرؤها بفتح السين وليس بكسرها، فهذه (سنيات خالد) كانت عدة سنوات جدا مقحطة جافة مجدبة، وصل الحال بالناس إلى أن يهاجروا من بوادي مكة إلى أطراف بلاد الشام حتى فقط يبقوا على قيد الحياة، وأن يأكلوا بمقدار ما يبقيهم أحياء، إلى هذه الدرجة، قالوا إن (علي بن عبد الله بن جعفر الطيار) الذي يفترض أنه من أبناء العقيلة زينب عليها السلام جاد بما كان لديه من المال حتى ينقذ هؤلاء، وهذه البيوت، وهذه الأسر، وبذلك شابه جده الأكبر هاشم الذي هشم الثريد لقومه، ورجال مكة مُسنتون عجاف، فَمُدِح في هذا بشعر:
أبا حسن إني رأيتك واصلا ... لهلكى قريش حين غير حالها
سعيت لهم سعي الكريم ابن جعفر ... أبيك وهل من غاية لا تنالها
وبالتالي هذه الأسرة، هذه العترة، هذه الذرية الهاشمية، لها فضل على قريش، هي هذه الأسرة هي صاحبة الإيلاف والمواثيق مع الدول الأخرى حتى يحصل الأمان والاطمئنان والشبع والري ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [سورة قريش: 4]، بواسطة هذه الأسرة حتى قبل بعثة نبينا المصطفى محمد.
من أبنائها 2 أو 1، هذا محل اختلاف تاريخي، ممن استشهد عليهم السلام في كربلاء إلى جانب الإمام الحسين عليه السلام، فإن المؤرخين يتذكرون أن محمدا وأخاه عون من أبناء عبدالله بن جعفر كانا ممن استشهدا في كربلاء إلى جانب الحسين، وورد اسمهما وذكرهما في زيارة الناحية المشهورة التي ذكرت فيها أسماء شهداء كربلاء، وأسماء قتلتهم.
عندنا زيارتان تعنونان بعنوان (زيارة الناحية المقدسة)، (زيارة الناحية المقدسة) التي تبدأ بالسلام على الأنبياء وبعد ذلك تبين كيفية الأوضاع في أيام الإمام الحسين عليه السلام، والتي دعته إلى النهضة والثورة، ثم تعطف على كيفية مصرع الحسين عليه السلام، الذي فيها التعبير: "فهويت إلى الأرض جريحا، تطؤك الخيول بحوافرها أو تعلوك الطغاة ببواترها..."، ثم بعد ذلك تعطف على ذكر النساء والسبايا والأسارى، هذه تسمى زيارة الناحية المقدسة.
هناك زيارة أخرى أيضا يطلق عليها (زيارة الناحية المقدسة)، ويحتمل الكثير فيها أنها لـ(الإمام الهادي) صلوات الله وسلامه عليه، والتي يبدأ فيها مباشرة بالسلام على الشهداء، ويبدأ بالسلام على علي الأكبر، السلام عليك يا خير قتيل من خير نسل جليل، وهكذا، يبدأ بذكر الشهيد علي الأكبر، ويذكر قاتله، ثم يعطف على كل واحد من شهداء العترة، ومن الأنصار، فيذكر غالب الأنصار ويذكر قتلتهم أيضا، هناك في هذه الزيارة ذكر اسمان من أبناء عبدالله جعفر، (محمد وعون).
بعض المؤرخين يقول إن كليهما كانا من أبناء العقيلة زينب عليها السلام، وقسم آخر يقول لا، أحدهما وهو (عون) من أبناء السيدة زينب، والآخر من أبناء امرأة أخرى لعبدالله بن جعفر اسمها (الخوصاء)، فكلاهما كانا شهيدين بين يدي الحسين عليه السلام، وكلاهما له رجز، وكلاهما استشهدا، وقاتل هذا يختلف عن قاتل ذلك، مما يفيد مسألة التعدد، لكن الاختلاف في أنه هل أن كليهما كانا من أبناء زينب عليها السلام أو أن الوحيد (عون) هو من أبنائها، والآخر (محمد) من أبناء امرأة أخرى لعبد الله بن جعفر.
الرابع هنا هو اسمه (عباس)، لم نعثر في الواقع على ترجمة له، ولكن اسمه مذكور على أنه واحد من أبناء العقيلة زينب عليها السلام، وعندها أيضا أم كلثوم التي حاول معاوية أن يخطبها لابنه يزيد من أجل فيما زعم أن يصلح بين الحيين بني أمية وبني هاشم، يقول دعنا نلملم هذه القضايا كلها، ونحل المشاكل فيما بيننا، وذلك بعد شهادة الإمام الحسن المجتبى، وقبل شهادة الإمام الحسين عليه السلام، فأرسل إلى مروان بن الحكم أن اخطب من عبدالله بن جعفر ابنته أم كلثوم لابننا يزيد.
وسبحان الله، هذا يزيد حسب التعبير فقط شاهر سيفه وحاضر للزواج من هنا ومن هناك، وأَمْهِرها ما شاءت من المال، واقض بذلك ديونهم، وأصلح ما بين الحيين، وننهي الموضوع وهذه المشاكل التي كانت بيننا، فجاء مروان بن الحكم وخطب من عبدالله بن جعفر أم كلثوم لابنه يزيد، فقال عبدالله بن جعفر أمرها بيد خالها الحسين عليه السلام، نحن لا نستطيع أن نتصرف في هذا الأمر، قال له أنت أبوها، وأنت وليها، وأنت كذا وكذا، وأنت لست أقل من الحسين، يعني أنت ابن جعفر الطيار، قال: لا نمضي أمرا حتى يقول الحسين بن علي أمره، فقال له قل للحسين، قال الحسين في ينبع، ذاك الوقت كانت فيها آبار ومزارع للإمام علي عليه السلام استنبطها وأوقفها صدقة، فقال هو في ينبع إلى أن يصل هنا، يحتاج إلى 4 أو 5 أيام، ونحن مستعجلون على القضية، فقال عبدالله بن جعفر إلى أن يأتي الحسين ويرى رأيه.
لما جاء الإمام الحسين عليه السلام رفض هذا الأمر، ولكن أراد أن يعلن رفضه أمام الناس، فلما اجتمعوا قام مروان وقال أنا وكيل عن فلان في الشام، وقد خطبت أم كلثوم بنت عبدالله بن جعفر لولده يزيد، ومهرها ما شئتم تقضون به ديونكم، وعلى أن يصلح ما بين الحيين هاشم وأمية، فقام الإمام الحسين عليه السلام وخطب خطبة قوية، وقال أولا ما كان بيننا وبين أمية ليس من أمر الدنيا حتى نحله بالدنيا، وإنما ما بيننا وبينهم هو من الدين، تعالوا (صيروا أوادم)، سيروا على نهج الله عز وجل، ليست عندنا مشكلة معكم ولا عداوة، ثم مسألة الأموال لا تبيعنا ولا تشترينا (حسب التعبير)، ومتى كانت نساؤنا تقضي عنا ديوننا؟ هذا بالنسبة لنا شيء جديد إذا أنت تقول من مهر فلانة اقضوا ديونكم.
وقال الحسين عليه السلام: اشهدوا يا من حضر أنني زوجتها بابن عمها القاسم، ابن عمها محمد بن جعفر، فهذه زوجته وقد أمهرتها من عندي ضيعتي الفلانية، عنده بستان الإمام عليه السلام، قال هذه هو مهرها، وقم يا مروان انصرف، ليس لك عندنا شيء، فتأثر مروان وقام يشتم، قال له الحسين عليه السلام: هذا الذي تجدون، وهذه أم كلثوم من بنات العقيلة زينب عليها السلام، هذا ما ذكروه في أمر إنجابها عليها السلام من عبدالله بن جعفر الطيار.
وبقيت العقيلة زينب عليها السلام بعد رجوعها من الشام كما تعلمون، وذكرنا أنه في مثل هذه الأيام هم في الطريق من الشام إلى كربلاء، وذلك أن يزيد بعدما رأى أن الوضع قد تغير عليه، زينب خطبت، الإمام السجاد عليه السلام خطب، آخرون التقوا بالركب الحسيني، صار اطلاع، حوادث متفرقة، ذاك الذي يقول هبني هذه الجارية، قال له وهبك الله حتفا قاضيا، قال له نحن نعلم أن هؤلاء خوارج وديلم وكذا، تبين أنه هؤلاء من أبناء وبنات رسول الله صلى الله عليه وآله، قبحك الله.
وهذه الحوادث تكررت، وحصل ما يشبه الصحوة عند الناس هناك في أن الجريمة ارتكبت بقتل الحسين، وتسيير نسائه، أصبحت علانية وواضحة عند الناس، الأمر الذي جر ليزيد إلى أن يغلق هذا الملف، وأنه ليس هناك طريق أفضل من أن يُسَيِّر هؤلاء من جديد، وينتهي الموضوع، فبالفعل اقترح عليهم أن ينصرفوا، وبالفعل هذا الذي كان، حيث قطعوا الطريق إلى أن وصلوا كما تقرؤون وتسمعون في كل سنة، وصلوا في اليوم الـ20 من صفر إلى كربلاء، بقوا في هذا المكان في كربلاء كما ذكروا 3 أيام، ثم بعد ذلك انطلقوا إلى المدينة، يفترض أنه في حدود اليوم الـ4 من شهر ربيع الأول، وصلوا إلى بوابة المدينة، حيث خيم الإمام السجاد عليه السلام لبعض الوقت في ظاهر المدينة، وأرسل من ينعى الحسين عليه السلام، ومن يخبر أن زين العابدين وثقله وأهله موجودون في ظاهر المدينة، الذي يريد أن يأتي ويعزي، وفعلا صار هناك حشد كبير، ثم دخلوا إلى داخل المدينة.
زينب عليها السلام أول ما دخلت إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله، ذهبت إلى قبر جدها رسول الله، وبعد أن سلمت عليه، قالت له: يا جداه يا رسول الله، إني ناعية إليك أخي الحسين، أنت صاحب العزاء، أنت صاحب المصيبة، المصيبة هذه إنما تعزى بها، ونقل عنها هذا الشعر المعروف:
مدينة جدنا لا تقبلينا .... فبالحسرات والأحزان جئنا
خرجنا منك بالأهلين جمعا .... رجعنا لا رجالا ولا بنينا
وظلت بأبي وأمي في تلك البلدة لا تكاد تستقر، يقيمها ألم ذكر الحسين عليه السلام، ويقعدها، ولا يجعل لها استقرارا ولا قرارا، ذكر المؤرخون أنها مضت إلى ربها، وقضت نحبها بعد سنة وأشهر، يعني في شهر رجب، النصف من شهر رجب سنة 62 هجرية، هي الآن في شهر ربيع الأول للتو واصلة، سنة 61، احسب دورها سنة 62، في شهر رجب انتقلت إلى رضوان الله ورحمته، راضية، باكية، حزينة، وهي لا تزال في ما دون العمر الذي يفترض أن تفقد فيه، يعني إذا كانت ولادتها في سنة 7 هجرية كما ذكروا، ونحن الآن في سنة 62، أنت عليك أن تعرف كم المقدار الذي قد بقيت من العمر صلوات الله وسلامه عليها.
بقيت في المدينة، وجود زينب عليها السلام كان مثارا لذكر الحسين عليه السلام، أنت لما تسمع أن السجاد عليه السلام يقول ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا وذكرت فرارهن في البيداء، والنار تشتعل بأطرافهن، فكيف تريدني أن أهدأ، في جواب من طالبه بالهدوء عن البكاء والتسلي، يقول بما معناه أن أنا أرى أمامي مشهد كربلاء بشكل يومي، في كل يوم أرى مشهد كربلاء بين عيني، أرى عمتي، فأتذكر ما جرى عليها، أرى أختي سكينة، فأتذكر ما جرى عليها، أرى الأطفال، فأتذكر ما جرى عليهم، ولا يزال لا يزال جمر المصاب ملتهبا ومتقدا، فكيف تريده أن ينسى؟ وبطبيعة الحال زينب، إذا كان هذا حال زين العابدين عليه السلام، وهو الرجل الجلد، وطبيعة الرجال أكثر قوة في مواجهة المصيبة، فكيف إذا كانت امرأة، والمرأة عادت دمعتها سائلة، وقلبها متحرك بالحزن، وليس فقط رأت، لا، فقدت عليها السلام، فقدت ابنا لها على الأقل، وفقدت إخوتها، وأبناء إخوتها، يعني من تلك العترة لم يكن هناك واحد إلا وهو ينتسب إلى زينب بنحو من النسب، أبناء أم البنين كلهم إخوة العقيلة زينب عليها السلام، الإمام الحسين عليه السلام واضح ذلك، أبناء الإمام الحسن المجتبى هم أبناء أخيها، وهكذا بالنسبة إلى ابنها صلوات الله وسلامه عليها.
فمجرد وجودها كان وجودا يثير ذكرى كربلاء، لا شك ولا ريب أنها عقدت أيضا مجالس في النياحة على الحسين عليه السلام في المدينة المنورة، لما تعقد زينب عليها السلام مجلس العزاء من الطبيعي أن كل بني هاشم يأتون إليها، من الطبيعي أن الأنصار، نساء الأنصار المتعاطفات مع أهل البيت عليهم السلام، شيعة علي عليه السلام ومحبي أهل البيت يأتون إليها.
تصور الآن تعمل لك فاتحة مع أنه يعني مقامك أنت ومقام من يعمل الفاتحة مع ذلك يأتي الناس من كل مكان لكي يتعاطفوا معك في أمر هو أمر الله يعني، شخص عُمِّر عمره الطبيعي ثم مات، مع ذلك الناس تأتي إليك لكي تعزيك وتتضامن معك، فكيف إذا كان العدد ذلك العدد الكبير.
يا عينُ جودي بعبرةٍ وعويلِ .... واندبي إن ندبتِ آلَ الرسولِ
خمسة كلـــــــهم لصلبِ عليٍّ .... قد أصيبـــــــوا وسبعة لعقيلِ
وفي رواية من الروايات تقول 17 كلهم ارتكضوا في بطن فاطمة عليها السلام، هؤلاء كلهم قتلوا قتلا، وذبحوا ذبحا، والآن زينب تقيم العزاء عليهم، فمن الطبيعي أن الناس يأتون لكي يعزوها ويواسوها، هذا صار بمثابة الإعلان الاجتماعي عن قضية كربلاء من جديد.
عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المعروف بـ(الأشدق)، والذي قيل إنه سمي بـ(الأشدق) لكثرة ما شتم أمير المؤمنين، فأصابته (لقوة) في فمه، (لقوة) يعني نوع من الانحراف بحيث شكل فمه قد تغير، قيل هكذا أنه سبب شدقه وميلانه لما كان عليه من الشتم لأمير المؤمنين، وهو الذي نُقل أن رسول الله صلى الله عليه وآله تنبأ بمجيئه، وقال: "ليرعفن على منبري جبار من جبابرة بني أمية يسيل رعافه...".
وبالفعل هذا كان في إحدى خطبه فَرَعِف، يعني سال دم أنفه على ذلك المنبر، فتذكر الناس ممن عاصر رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الحادثة، وكأنها تريد أن تنعته على لسان رسول الله بأنه جبار من الجبابرة، وطاغ من الطواغيت، ويكفي أنه لما رجع الركب الحسيني من الشام ودخل المدينة، فتشمت فيهم، وقال: "عجت نساء بني زياد عجة، كعجيج نسوتنا غداة الأرنب، يوم بيوم بدر".
يقول أنا متكيف وأنا أسمع هذا العجيج والضجيج والأنين من النساء والبكاء، أنا متكيف عليه، هذه حالة سادية، ثم بعد ذلك التفت للإمام السجاد عليه السلام، وقال له: "يا علي بن الحسين من الغالب؟"، فقال له: "إذا أذن المؤذن تعرف من الغالب"، يعني نحن نهضتنا من أجل أن يبقى هذا الأذان، وذكر رسول الله، وذكر الصلاة وهكذا.
وكان مشهورا بالفجاجة، والوقاحة، والسوء، وكان يطمع إلى أن يتسلق بسرعة، سبحان الله هذا لقي مصرعا عجيبا، يطول الأمر، لكن المختصر أقول لك، على يد من؟ على يد نفس هذه الأسرة، هذا عمرو بن سعيد الأشدق لما جاء عبد الملك بن مروان ذاك شديد وقاس وهو أيضا شديد وقاس، وهذا بدأ يتآمر عليه، فذاك استدرجه استدراجا، وقال له تعال وامرر علينا إلى الشام إلى دمشق، سنوليك بعض الولايات.
فاحتاط على روحه (على قولتهم)، وجاء ومعه جماعة مسلحين، فأمر عبد الملك بأنه في كل باب من الأبواب يمنعون جماعة من الدخول، إلى أن بقي وحده، دخل على عبد الملك بن مروان، قام له أحد الحرس، قال له أعطني سيفك، امتنع في بداية الأمر، قال له عبد الملك بن مروان لماذا تدخل بسيفك على خليفة المسلمين؟ لا تحتاج إليه أنت، فسحبوا منه سيفه، وكان مستعدا إلى هذا، فقال يا عمرو أنا نذرت نذرا، انظر لهذه الحيل كيف، هل هؤلاء يلتزمون بالنذر، وحرام وغيره؟ قال له أنا نذرت نذرا أن ألبسك (جامعة) من فضة.
(الجامعة) هي إحدى وسائل التعذيب التي تغل اليدين إلى العنق، بحيث الواحد لا يستطيع أن يعمل شيئا، قال له لا، فقال له مجرد نذر، أنا ألبسك إياها، وبعد ذلك توكل على الله وانزعها، حتى أنا لا أحنث في نذري، أنا متدين وورع جدا، لا أريد أن تكون علينا كفارة النذر، وهي كلها دقائق.
فألبسه إياها، ذاك الوقت عمرو بن سعيد الأشدق التفت إلى أنه أصبح مقيدا، وسيفه ليس بيده، كل القادمين معه في الخارج، والآن ستصير نهايته، فأراد أن يخدع عبدالملك، قال له: "يا أمير المؤمنين -حسب تعبيرهم- الله الله أن تخرجني أمام الناس"، أنا لا أستطيع أن يروني بهذه الحالة، فقال له: "أمكرا وأنت في الحديد"؟
وهذه من الأمثال المشهورة عند العرب، "أمكرا وأنت في الحديد؟"، يعني قاعد تخدعني؟ تريدني أن أخرجك بهذا الشكل حتى قومكم وحراسك يروك ويهاجمون، لا، يا سياف خذ عنقه، أخذ عنقه وضربه، ثم ألقى برأسه إلى أنصاره، وألقى وراء ذلك بدر الدراهم، وهؤلاء انشغلوا بلملمة الدراهم والأموال، وتركوا رأس من كانوا يحرسونه، يتقاذفونه، الشاهد أقول هذا نهايته، مصيره بهذا الشكل الذي كان، في ذلك اليوم يتشمت بأهل البيت عليهم السلام، واليوم هذا يقطع عنقه ورأسه بهذه الطريقة، فما ربح الدنيا ولا ربح الآخرة.
هذا نفسه عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق، أرسل إلى يزيد بن معاوية أنه هذه زينب بنت علي امرأة جزلة متكلمة فصيحة، وهذه تُؤَلِّب الناس عليك إن بقيت في المدينة، كل يوم مجلس ضخم، والناس يحضرون، فَتُؤَلِّب الناس عليك، فإن شئت فأخرجها من المدينة، وبالفعل الرواية المشهورة أنه أمر يزيد بإخراج زينب عليها السلام من المدينة المنورة.
يترتب على مثل هذه الرواية وننهي به الحديث، أن يكون القول الأول الذي ذهب إليه بعض العلماء من أن زينب عليها السلام توفيت في المدينة، وأنها دفنت في المدينة في البقيع، أين قبرها؟ أين مكانها؟ نحن إذا نساء أقل منها شأنا مع ذلك يصبح المكان معروفا، ويتعاهده الناس بالزيارة، ويشير إليه المعصومون، هناك بعض القبور للنساء المرتبطات بأهل البيت، وهن أقل شأنا من السيدة زينب، مع ذلك إلى ساعتنا هذه معروفة، هذا قبر فلانة، وهذا قبر فلانة، فكيف لم يعرف لزينب قبر، وهي بهذه المنزلة؟ فهذا مما يضعف هذا القول الذي ذهب إليه بعض العلماء.
القول الثاني: إنها ذهبت بعدما أخرجت، اختارت الذهاب إلى مصر، مصر كان في ذاك الوقت واليها مَسْلمة بن مُخَلَّد الأنصاري، مَسْلمة بن مُخَلَّد الأنصاري الذي توفي في آخر سنة 62، أيضا هو من الأنصار من المدينة، وكان مرتبطا بمعاوية مثل النعمان بن بشير، فكافأه على ذلك بأن ولاه على مصر، وبقي فيها إلى زمان موته، وهو آخر سنة 62، يعني بعد أشهر من وفاة العقيلة زينب عليها السلام، فيقولون هناك أيضا هذا مَسْلمة بن مُخَلَّد الأنصاري مهما كان لكن هو من الأنصار، والأنصار حتى من كان مع بني أمية أرق حاشية، وألطف تعاملا مع أهل البيت عليهم السلام من الأمويين الأصليين، فأراد أن يخفف عليها، قيل إنها استقبلت في القاهرة، قبل ذاك الوقت لم تكن القاهرة موجودة، القاهرة صارت فيما بعد، استقبلت في مصر، وبقيت هناك مدة من الزمان، وقضت نحبها في النصف من شهر رجب سنة 62 هجرية، وهناك صار قبر لها ومقام، وإلى الآن موجود مقام وقبر السيدة زينب عليها السلام، والمصريون يعتنون به عناية عظيمة جدا، تشابه عناية الشيعة بمشهد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، حتى أنه مثلا نذورهم وقضاء حوائجهم وزواجهم لا يحدث إلا أن يذهبوا ويزوروا السيدة زينب، أو حسب تعبيرهم (أم هاشم).
هذا ما يعني يذكره قسم من المؤرخين، ولكن يثير البعض من المؤرخين هذا السؤال، لأنه في زمان الفاطميين الذين دخلوا إلى مصر سنة 358 هجرية، فعمدوا إلى كل ما يرتبط بأهل البيت من شيء فشيدوه وعمروه، وأكبروا شأنه، مسجد رأس الحسين، ماذا حدث إليه؟ بنوا الجامع الكبير، الجامع الأزهر نسبة إلى السيدة الزهراء سلام الله عليها، وهكذا، فكانوا يتتبعون أين يوجد هناك أثر من آثار أهل البيت عليهم السلام، شادوه وعمروه، وبنوه إن لم يكن مبنيا.
بعض المؤرخين يقولون نحن لم نشهد اهتماما بما يرتبط بالعقيلة زينب من مشهد مثل الاهتمام الذي صار للسيدة نفيسة بنت الحسن، من أحفاد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وزوجة ابن الإمام الصادق، السيدة نفيسة من فضليات النساء علما وتقى وهداية، من نسل الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ومن حفيداته، يقول هناك أُعْظِمَ قبرها وشيد إلى آخره أيام الفاطميين، لم يحصل نفس الشيء بالنسبة إلى ما ينسب من مقام للسيدة زينب عليها السلام، ويحتملون أن زينب هذه هي زينب بنت المتوج، وهي من أحفاد الإمام الحسن المجتبى، وليست زينب الكبرى، هذا قسم من المؤرخين ينظرون إليه، وبالتالي يستبعدون أن تكون زينب الكبرى هي المدفونة في مصر.
الرأي الثالث: هو ما هو معروف ومشهور من أنها في (راوية دمشق)، المنطقة التي تعرف الآن بالسيدة زينب، وأنها عندما أخرجت من المدينة المنورة، جاءت إلى هذا المكان، وبعضهم قال إنه ربما كان لدى عبدالله بن جعفر هنا بعض الأملاك أو بعض البساتين أو غير ذلك، فبقيت فيها تحمل ألمها وكمدها وحزنها، وظلت تطوي الأيام، وهي بالإضافة إلى ما كان عليها من الحزن على أخيها، هي الآن غريبة.
سبحان الله، يعني أين المدينة بلد جدها وأبيها وأمها الزهراء عليها السلام، وبين بلاد الشام التي رأت فيها الذل والهوان والهضيمة؟ ما شئت فصور وتصور، وانظر إلى ما حصل عليها وعليهم في الشام، هو مجرد تذكر هذه الأرض، وتذكر ما جرى عليها، كفيل بأن يميتها كمدا صلوات الله عليها، كيف وهي بالإضافة إلى ذلك غريبة في هذا المكان؟ لا يؤنسها إلا ذكر أخيها الحسين عليه السلام