يتناول حديثنا هذه الليلة شيئا من حياة وسيرة الإمام الحسن بن علي المجتبى الزكي في أيام جده رسول الله صلى الله عليه وآله، وأيام أبيه أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الفترة بالرغم من أنها تشكل الفترة الكبرى في حياة الإمام الحسن عليه السلام، يعني من حين ولادته إلى حين شهادة أمير المؤمنين عليه السلام سنة 40 للهجرة، من هناك في حدود السنة الـ3 للهجرة، كان قد ولد الإمام الحسن، يعني هناك 37 سنة تحتل هذه المساحة الزمنية، وبالتالي فمن المهم جدا أن يتم التعرض إليها، والتعرف عليها، منها حوالي 7 سنوات كانت في أيام جده المصطفى محمد صلى الله عليه وآله، وفيها سنلتقي بتعامل خاص تعامل به النبي المصطفى صلى الله عليه وآله مع سبطيه الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام، فهو كان يتعامل معهما حسب موقعهما وشأنهما، لا بحسب عمرهما الذي نعتبره في ذلك الوقت صغيرا ومبكرا.
وهذا بحث يشار إليه بأن موضوع السن والعمر بالنسبة إلى المعصوم ليس كما هو الحال بالنسبة إلى سائر الناس، سائر الناس يتدرجون في مدارج المعرفة والكمال الأخلاقي بحسب سنوات عمرهم، فمثلا ابن الابتدائية لا يمتلك المعلومات التي يمتلكها ابن الثانوية والجامعة، لماذا؟ لأن نموه الذهني أولا هو في درجات بهذا النوع، وبهذا الحجم، فلا يصح أن يُعطى معلومات جامعية بينما هو مثلا في الـ6 من العمر، لا يستوعب، لا يستطيع أن يأخذ هذه المعرفة، وبالتالي فإن تعليمه في ذلك الوقت، هذه المعلومات الكثيرة يراه العقلاء أمرا غير ذي جدوى، هذا بالنسبة إلى الإنسان العادي، أما بالنسبة إلى المعصوم فإننا نجد مثلا في عمر الـ6 والـ7 يكون هو إمام الخلق جميعا، كما هو الحال في مولانا الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ويكون في سن الـ8 أو الـ9 محيطا بالعلوم، كما كان الحال في حياة الإمام الجواد عليه السلام، وهكذا.
هذه تفتح لنا نافذة بأن التعامل مع أئمة أهل البيت مع المعصومين على أن هذا صغير السن، وذاك شاب، وهذا كذا، ليس تعاملا صحيحا، وإنما هو نوع من استعمال ما هو موجود في عامة الناس في شؤون المعصومين مع وجود الفارق، وهذا يحتاج إلى بحث مفصل في هذا الجانب، بالنسبة إلى الآخرين قضية العمر قضية حساسة، اسْتُبعد أمير المؤمنين عليه السلام من خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله بمبررات منها السن، أبو عبيدة عامر بن الجراح المعروف في مدرسة الخلفاء جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقال له يا علي إنك حديث السن، حديث السن يعني كم كان عمره؟ حوالي 30 سنة، طيب، مع ذلك بالنسبة له يكون حديث السن، وهؤلاء فلان وفلان، هؤلاء شيوخ قريش لهم تجربتهم وخبرتهم وحكمتهم، فأنت لو تأخرت إلى أن تصبح عندك تجربة وحكمة وممارسة، لا يضرك شيء، وأمامك الزمن مفتوح، حسب التعبير، هذا الأمر بالنسبة إلى مثل القرشيين، وضمن المعادلات التي كانت عندهم، أمر حتى بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فضلا عن مثل الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام.
دعنا نفتح قوسا هنا، أنه إذا الواحد يلاحظ الأحاديث التي وردت في شأن الحسنين عليهما السلام في مصادر مدرسة الخلفاء، التركيز الأكبر فيها على الجانب الطفولي الخاص بهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه يركض ويضحك، وقبَّل كذا، وما شابه ذلك، وقد ذكرنا شيئا من هذا المعنى في تحليل بعض هذه الأحاديث في (كتاب سيد الجنة) حول عنوان شخصية الحسن في مصادر مدرسة الخلفاء وأحاديثهم.
الشاهد أننا عندما نتحدث عن الإمام الحسن المجتبى في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد كان بحسب مقاييسنا الظاهرية العادية كان صغير السن، ولكن مع ذلك النبي المصطفى صلى الله عليه وآله يتعامل معه خارج هذا الإطار، فإنه يُشْهِّده على اتفاقية مهمة بين النبي وبين (ثقيف)، (ثقيف) هي القبيلة الثانية من حيث القوة والمنعة والمركزية بعد قريش، عمل معهم النبي صلى الله عليه وآله معاهدة واتفاقية مكتوبة، وكتب في ذيلها: "وَشَهِد بما ذُكِر علي بن أبي طالب، وحسن بن علي، وحسين بن علي، مع أن هذا بحسب المقاييس الفقهية العادية، يقول لك هذا لا يزال بالمقياس الفقهي العادي طفلا صغيرا حتى لو كانت في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وآله، في السنة الـ10 أو الـ11، من أنها كانت قبل هذا، حتى لو كانت في ذاك الوقت، عمره في ذاك الوقت كم؟ يكون عمره 7 سنوات أو 6 سنوات، فكيف يُسْتَشَهد ابن الـ6 سنوات على وثيقة بعرف اليوم وثيقة دولية، بين فريقين، بين دولتين، بين قبيلتين، بين قوتين، لكن النبي صلى الله عليه وآله لم يكن ينظر إليهما (الحسن والحسين) على هذا الأساس، بل أكثر من هذا، لم يكن الله عز وجل ينظر إليهما على هذا الأساس، كما رأينا في آية المباهلة، فقال تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾،[آل عمران: 61].
فإن الإمامين الحسن والحسين في ذلك الوقت في مرحلة مبكرة من السن، هذا واحد نحن نلاحظه أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يتعامل مع الإمام الحسن المجتبى، وأخيه الإمام الحسين سلام الله عليهما لا على أساس أن مرحلتهما العمرية مبكرة، وأنهما بحسب أعداد السنوات صغار السن، وإنما كان يتعامل معهما بنحوٍ آخر بشأنهما، ومقامهما، ومكانتهما، ومنزلتهما.
وضمن هذا الإطار أيضا نحن نعتقد أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله، وهي كثيرة جدا، حيث جمعت بعض كتب مدرسة الخلفاء حوالي 56 حديثا في شأن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وأما في المصادر الإمامية فأضعاف هذا المقدار بكثير، الغرض من ذلك ما هو؟ الغرض من ذلك هو:
أولا: الإشارة إلى هذه المنزلة، منزلة الإمامين الحسنين عليهما السلام.
ثانيا: إشارة مرور، وخريطة طريق للمستقبل للمسلمين.
هذا الإطار العام الذي نجده في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله، إبداؤه الاهتمام البالغ، إشادته بمنزلتهما، التعامل معهما باعتبار أنهما أصحاب منزلة كبيرة وعالية، وترتيب آثار الرجولة إن صح التعبير عليهما مع كونهما بحسب أعداد السنين صغار السن، حتى إذا انتقل رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بارئه، أول ما نلاحظه الموقف الذي اتخذه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وقد رأى بلا شك ما جرى على أمه الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، ورأى ما جرى من إبعاد أبيه المرتضى صلوات الله وسلامه عليه، نلاحظ أن موقف الإمام الحسن الذي هذا منقول ومشهور بين الفريقين أيضا، أنه لما رأى الخليفة الأول قد صعد المنبر، وأخذ يخطب، جاء فقال له انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك، هذا الكلام مصادر مدرسة الخلفاء لما تنقله، تنقله على أساس أنه نوع من أنواع التصرف الطفولي العادي، يعني مثل طفل أتى ليعترض على شخص أخذ سيارة والده مثلا، لكن حقيقة الأمر ليست كذلك، ولهذا فهمها بعض من كان حاضرا، قيل إن الخليفة الثاني بعدما انتهى من كلامه، أخذه ناحية وسأل من علمك هذا؟ من قال لك هذا؟ وكأنه كان يريد أن يرى أنه هل هذا بتحريك وتعليم من علي عليه السلام أو لا، قال لا أحد علمني، أنا قلته، كيف تستكثر عليَّ حسب التعبير.
والتعبير أيضا أن هذا ليس منبر جدي هذا، وإنما منبر أبي، الذي يستحقه هو والدي وأبي، وليس جهة جدي، يعني استعمال الإمام الحسن عليه السلام هذا التعبير تعبير (انزل عن منبر أبي)، يعني هناك منبر لوالدي هو هذا المنبر الذي ينبغي أن يكون فيه، ولا ريب أن الإمام الحسن المجتبى سمع عشرات الأحاديث والإشارات التي يشير فيها ويصرح فيها رسول الله صلى الله عليه وآله، بإمامة أبيه علي عليه السلام، وأن على الناس أن يتبعوه، هذه المعاني كلها التي استوعبها الإمام الحسن المجتبى انطبعت على لسانه، وجاء قالها في ذلك اليوم.
فيما بعد هذه الفترة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كان بطبيعة الحال ضمن خطة أبيه المرتضى من المسالمة العامة، والاحتفاظ بالحق الخاص، وعدم التنازل عما كان عليه أمير المؤمنين، أنا أسالم ما سلمت أمور المسلمين، لكن هذا لا يعني أنني أعترف بالوضع الموجود كوضع شرعي، وأمر ديني، لا، وإنما أنا عندي مسالمة حتى نفس تعبير (فلأسالمن ما سلمت أمور المسلمين)، هو أيضا تعبير دقيق عن تلك المرحلة، الإمام الحسن عليه السلام من الطبيعي أن يعيش ضمن هذا الإطار، وبالتالي يكون ضمن خطة والده صلوات الله وسلامه عليه، وكما يوجهه يتحرك في ذلك الاتجاه.
هنا دعنا نشير إلى مسألة عادة تذكر بالذات في زمن الخليفة الثالث:
المسألة الأولى: إن مصادر مدرسة الخلفاء في بعضها يصفون الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بأنه عثماني الهوى، وفي هذا الوصف الذي انتخب بدقة فيه طعن لأمير المؤمنين عليه السلام، وفيه تزكية للخليفة الثالث، فإنه إذا كان مثل الحسن الذي وردت فيه من روايات رسول الله كذا وكذا وكذا، ومع ذلك هواه هوى عثماني حسب التعبير، وللملاحظة أن تعبير (عثماني الهوى) هو في الواقع تغليف لمعنى (أموي الهوى)، لم يكونوا يقولون هذا أموي الهوى، ولذلك حتى في قضية زهير بن القين عندما اتهموه كذبا، ما قالوا له أنت (أموي الهوى)، وإنما قالوا أنت (عثماني الهوى)، إنما كنت عندنا عثمانيا، وهو كلام غير صحيح، لكن هذا تعبير عن أن هؤلاء الذين يصفون الإمام الحسن أو غيره بالعثمانية لا يريدون أن يقولوا أموية لأنها فاقعة وشديدة الوقع، فيقولون هو (عثماني الهوى)، وفيها من جهة أخرى تزكية للخليفة، ومن جهة أخرى أيضا طعن وذم لأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، وهي لا ريب كاذبة لا يوجد أي شاهد عليها.
بل الشواهد على خلافها، نعم أمير المؤمنين عليه السلام إنسان مناقبي مبدئي، عنده مخالفة إلى الخليفة الثالث والخليفة الثاني والخليفة الأول، ولكن ضمن حدود معينة، وضمن حالة مناقبية، ترى أن الوحيد الذي دافع ضد مقتل الخليفة الثالث هو أمير المؤمنين عليه السلام، بينما الذين رفعوا فيما بعد قميصه ورفعوه شعارا وراية، هم كانوا من المحرضين أو هم أقل من المتخاذلين، وهذا هو الفرق بين مثل أمير المؤمنين عليه السلام التي تبقى ملاحظاته وانتقاداته تبقى في حدها، لكن لا تتحول إلى ثأر شخصي، مادامت هناك جماعة تريد أن تقتل هذا الخليفة دعنا نساعدهم مثلا، أو نتركهم، لا، إنما أرسل ولديه الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام للدفاع عن هذا الموضوع، بعدما نصح الإمام الخليفة مرارا، وحذره مما يحيكه مروان بن الحكم، ومن أفعاله، وأنه يُسَعَّر الأرض تحته، وذلك ليس في مصلحته، لكن لم يعطَ أذنا صاغية أبدا، هذه مسألة ينبغي أن نشير إليها.
المسألة الثانية: ما ذكروه ويذكرونه باستمرار حتى أنه في (الطبري) ذكره وقال إنه في سنة 30 للهجرة خرج سعيد بن العاص الأموي مندوبا من الخليفة الثالث لفتح خراسان، وخرج معه الحسن، والحسين، وعبد الله بن عباس، وسلمان الفارسي، وفلان وفلان وفلان، فإذن هؤلاء شاركوا في مثل هذا الفتح.
الغرض من هذا ما هو في الواقع؟
أولا: هو ضمن مخطط معين، أن هناك توجها لإضفاء الشرعية على خلافة من سبق الإمام علي عليه السلام، وهذه بطرق مختلفة، مرة يقولون إن الإمام علي سمى أولاده بأسماء من سبقه من الخلفاء، فإذن يتبين هذا أنه يحبهم، وما دام يحبهم، فإذن خلافتهم شرعية، مرة أخرى يقولون لقد تزوج منهم وزوجهم بنو هاشم، ومادام الأمر هكذا فلابد أن تكون العلاقة بين الطرفين علاقة حسنة وطيبة، وهذا يقتضي أن يكون ماذا؟ أن تكون خلافتهم خلافة مشروعة، وقد اعترف بها، مرة ثالثة يقولون من سَبْيهم لأم محمد بن الحنفية، فإذا أخذها من سَبْيهم، لابد أن تكون المعركة مشروعة والخلافة شرعية، وإلا لا تكون حلالا عليه، وأمثال ذلك.
يعني هناك استماتة في إثبات شرعية خلافة من سبق أمير المؤمنين عليه السلام، ومنها هذا المورد، قالوا إن الحسن والحسين خرجا في الجيش الذي سيره الخليفة الثالث لفتح خراسان، وذلك في سنة 30 للهجرة، هل هذا مهم؟ بالنسبة إلى ذاك الطرف مهم جدا؟ لماذا؟ لأن معنى ذلك أن الحسن والحسين لن يذهبا بدون إذن أبيهما، أبوهما لن يأذن لهما إلا إذا كان الغزو غزوا شرعيا، وفتحا شرعيا، الفتح الشرعي لا يمكن أن يكون إلا إذا كانت الخلافة خلافة مشروعة، وهذا هو الذي كانوا يريدون أن يصلوا إليه، ولكن كل ذلك لا يصح ولا يستقيم، مع أننا نعتقد أنه لو فرضنا خرج الحسن والحسين في هذه الجيوش بإذن أبيهما لا يلازم ذلك مشروعية الخلافة، كما أذن أمير المؤمنين عليه السلام لكثير من أصحابه في تولي الولايات، سلمان المحمدي تولى ولاية المدائن من قبل الخلفاء قبل أمير المؤمنين عليه السلام، بإجازة أمير المؤمنين لا محذور في ذلك، لماذا؟ لأن الإمام وهو الإمام الشرعي أذن له، إما لِمَا يُعْرف منه من عدل وحكمة، وأنه يخفف مقدار المشاكل والفساد، بدلا من أن يصبح فلان الأموي الذي يشرب الخمر ويقيء في مسجد الكوفة كما نقلوا، دع يصبح سلمان المحمدي، دع يصبح حذيفة بن اليمان، أنا علي بن أبي طالب الإمام الشرعي آذن لك أنت يا حذيفة، آذن لك أنت يا سلمان، آذن لك يا فلان في أن تتولى قيادة الجيش، أن تتولى ولاية أمر الناس، أن تخرج في هذا المعسكر أو في ذلك، لا محذور في هذا، لو ثبت إذن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كما ثبت في بعض أصحابه لا محذور في ذلك، ولا يلازم هذا أمر مشروعية الخلافة، طيب من الممكن أن الإمام يأذن من باب دفع الفاسد بالصالح، قائد الجيش الفلاني الذي لو كان هو من الممكن أن يأتي بفساد كبير، فأنا آذن لسلمان الفارسي أن يكون في الجيش أو أن يكون قائدا حتى يخفف الفساد والانحراف قدر الإمكان، فلا توجد ملازمة هذا أولا.
ثانيا: نحن نعتقد أن هذا الخبر خبر مضروب من أساسه كما يقولون، لماذا؟ لأن ما يذكرونه من سنة 30 للهجرة، كانت في أشد حالات التوتر بين البيت الهاشمي العلوي وبين الخلافة القائمة، في نفس السنة هذه الذي صار فيها تسفير أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، ومنع الناس أن يشيعوه، ولما خرج أمير المؤمنين والحسنان لتشييعه، تشييعه ليس لأنه متوفى، لا، لأنه يسيرون معه إلى ظاهر المدينة، يقال له شَيَّعَه إلى خارج المدينة، فخرج الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ومعه الحسنان وبعض المقربين منهما، فجاء مروان بن الحكم، وقال لأمير المؤمنين عليه السلام: يا علي ألم تعلم أن الخليفة قد نهى عن تشيع أبي ذر؟ فقال له: اغرب عني، وأصر عليه، فضرب أمير المؤمنين عليه السلام بصوته دابة مروان، فتنحى جانبا.
في ذاك الوقت هناك كلام، قد يقول أحد لا يكون من المناسب التفصيل فيه لكن أكثر من مرة صارت هناك شكوى من أن الخليفة تكلم بكلام غير مناسب عن أمير المؤمنين عليه السلام، بل وأمامهم هدده في بعض الحالات، هذا الوضع من الطبيعي ألا تكون فيه استجابة، بحيث أنا متعارك معك الآن، أنا في شدة النزاع معك، أنت تدع أبناءك الذين هم أبناء رسول الله يخرجون؟ من هو قائدهم؟ سعيد بن العاص الأموي الذي كان من أشد المتعصبين ضد أمير المؤمنين عليه السلام، وجاء بعده ابنه خالد بن سعيد بن العاص الأشدق صاحب قضية الشماتة بأهل البيت لما رجعوا إلى المدينة بعد كربلاء، وصاحب مؤامرة اغتيال الإمام الحسين عليه السلام ولو كان متعلقا بأستار الكعبة، هذا والده سعيد بن العاص، سعيد بن العاص كان شديد العداء لأمير المؤمنين عليه السلام، مجموع هذه القضايا لا تساعد على ما ذكروه وما قالوه من أن الحسنين عليهما السلام خرجا في ذلك الجيش.
فتح خراسان أنا ما أدري صار شماعة حسب التعبير، قالوا في سنة 17 افتتحت خراسان في زمن الخليفة الثاني، بعد ذلك قالوا في سنة 22 أيضا فتحت مرة أخرى، في سنة 30 هجرية، هذه كلها فتح وفتح، لا أدري كم مرة يفتح الباب؟ البلد كم مرة يفتح؟
هذا الخبر خبر لا يمكن أن يكون صحيحا على أنه كما قلنا لو فرضنا أنه تم معرفة إذن أمير المؤمنين بأن يخرج الحسن أو الحسين أو كلاهما في جيش بإذنه من أجل مثلا تخفيف الانحراف والفساد الذي موجود فيه لا محذور في ذلك، لكن لم يثبت أصلا، لم يثبت هذا الأمر، وشاهد ذلك أن الروايات والسير التي تعرضت لحياة الحسنين عليهما السلام من المصادر الشيعية لم يُذكر في أي واحد منها، وإنما رؤية موجودة عند المؤرخ الطبري، وبعده حدث تهليل، وتكبير، وتطبيل لهذا الاعتبار.
الإمام الحسن عليه السلام لما جاءت الخلافة الظاهرية لأبيه كان ساعده الأيمن، بل بتعبير الإمام عليه السلام، مرة يقول: "هو والحسين عيناي اللتان أبصر بهما"، وهذا ليس تعبيرا قليلا، وفي هذا الذي قرأناه في أول المجلس "وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي"، (أنت أنا)، و(أنا أنت)، هذا تعبير بعيد عن قضية المجاملة والمبالغة، وما شابه ذلك، أمير المؤمنين عليه السلام ليس متورطا في الألفاظ، هو رب البلاغة وسيدها، وإنما يعبر عن حقائق بكلمات دقيقة وبليغة، وهو سيد هذا الباب، فيقول له: " وجدتك بعضي"، ثم يترقى، كل إنسان ولده عادة بضعة منه، بعضه، ولكن أن يكون كله، هذا شيء آخر، "وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي"، يترقى من منزلة (البعضية) إلى منزلة (الكلية)، يعني (أنت) تساوي (أنا)، الحسن عليه السلام يساوي عليا عليه السلام، بل "... وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي...".
فلما جاءت الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين عليه السلام كان مولانا الحسن المجتبى عليه السلام ذراع أبيه اليمنى، وكان المقدم في أموره المختلفة، فهو في السلم حاضر الجواب للسؤال الذي يأتي، وهناك قضايا متعددة أحالها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على ابنه الحسن من أجل أن يجيب عليها، ننقل إحداها، إن أمير المؤمنين عليه السلام بينما كان يخطب في مسجد الكوفة، وقام له رجل، فقال له يا أمير المؤمنين أنا من شيعتك، وعندي مسائل، فتفرس فيه أمير المؤمنين عليه السلام، وقال له ما أنت من شيعتي، هذا غير العلم الغيبي، اتقوا فراسة المؤمن حتى إذا واحد يقول لا الإمام ليس بالضرورة يعلم الغيب، وهو أمر خاطئ، لكن حتى لو أن إنسانا أراد مدخلا أقرب من ذلك هو قضية الفراسة، قال له ما أنت من شيعتي، ما أنت من أوليائي، وإنما بعث بك حاكم الشام معاوية، دسك لنا، فهل أحدثت حدثا؟ يعني ترى دير بالك، إذا فعلت سيئا أو كذا، أمرك أمر كبير، قال لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن أسئلة بعث بها ملك الروم إلى معاوية، فأعجزته، فقال خذها إلى علي بن أبي طالب، هو كفيل بالإجابة عنها.
ترى هؤلاء الحكام كلهم من أمويين وعباسيين في قرارة أنفسهم يعلمون علم اليقين بأن أئمة أهل البيت عليهم السلام لديهم علم هو علم رسول الله محمد صلى الله عليه وآله، فقال إن شئت فاسأل أحد هذين، وأشار إلى الحسن والحسين، فقال إياهما؟ قال سل ذا الوفرة، الظاهر الإمام الحسن كان لديه شعر طويل، في حادثة أخرى كان معهم محمد بن الحنفية، وهذا أمر ملفت للنظر، سل أحدهم، لكن هذه الرواية فيها سل أحد هذين، ثم قال سل ذا الوفرة، فأقبل على الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، ذاك الوقت الإمام الحسن سلام الله عليه إذا فرضنا هذه الحادثة في سنة 35 هجرية أو 36 هجرية، أنقص منها 3 سنوات، التي هي من عمره آنذاك، ولد الإمام الحسن المجتبى في سنة 3 هجرية، يعني عمره 30 أو 31 أو 32 سنة وهكذا، فقال سله، فأقبل عليه بمسائله، وسأله، وأجاب عنها كلها، ثم نظر ذلك السائل إلى أمير المؤمنين، لعل عنده شيئا أكثر من هذا، فقال له بما معناه، أن الجواب هو ما سمعته، لا يوجد شيء آخر، "وجدتك كلي" هنا في هذا العلم مع أن لأمير المؤمنين عليه السلام فضله على سائر الأئمة، لكن فيما يرتبط بأمر الحجة الشرعية، الإمام الحسن هنا يقوم بنفس مقام أبيه عليه السلام.
لما صارت قضية البصرة والجمل، عبد الله بن الزبير خطب في الناس قبل المعركة، وشتم أمير المؤمنين عليه السلام، واعتبر أنه هو الذي قتل عثمان، والآن هو قادم هنا حتى يأخذ فيأكم، عجيب هم الذين خرجوا من المدينة بزعم أنهم يريدون العمرة ثم عطفوا على البصرة والغدرة، هو صاحب الخلافة هو الحاكم يقول قادم إليكم حتى يأخذ أموالكم؟ أنت ليست لك أي صفة تأتي إلى هناك، وتجَيِّش الناس، وتنزع عنها والي أمير المؤمنين، وتنتف حاجبه وشيبته، وتخرجه من مكانه، لكن بعد هذا جحود الحق، والفجور في الخصومة، هذا يتبين، فشتم أمير المؤمنين عليه السلام، ولَبَّس على الناس وما شابه ذلك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الحسن، بُني حسن اذهب وخاطب الناس، ولا تذكر أحدا، يعني ما عندنا شغل في الشتائم حسب التعبير، فذهب الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وخطب في الناس خطبة بليغة جدا، رد على كل كلمات ابن الزبير، ورد الأمر إلى ما كان عليه من الاستقامة، حتى قال أحدهم بعد ذلك:
حسن الخير يا شبيه أبيه ... قمت فينا مقام أنهى خطيب
أنت شبيه والدك في البلاغة، في الفصاحة، في فصل الخطاب، وكان علي عليه السلام مشهورا عند المسلمين جميعا بهذا الجانب، أنت شبيه لأبيك في هذا، وهكذا الحال بالنسبة إلى مواقع الحرب ومواقفها، حيث إن الإمام الحسن عليه السلام كان يخوض المعركة، بالذات حرب الجمل، فيما بعد أيضا صفين، حتى أن أمير المؤمنين عليه السلام قال لمن حوله " أيها الناس املكوا عني هذين الغلامين -يعني الحسن والحسين- فإني أنفس بهما على القتل، أخاف أن ينقطع بهما نسل رسول الله (ص) نسل رسول الله، هذان الغلامان ينغمسان انغماسا في المقاتلين، ويرجع كل منهما وسيفهما مبللان بالدماء، حتى نقل أن أحد الذين طعنوا الجمل كان الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، ومع أن محمد بن الحنفية كان معروفا بالقوة والشجاعة والبسالة، فحاول أن يصل إلى الجمل، لم يصل إليه، فلما وصل إليه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وطعنه، كأن محمد بن الحنفية تأثر أنه لم يستطع أن ينجز مهمة أبيه، بينما أنجزها أخوه الإمام الحسن المجتبى، فأقبل عليه الإمام أمير المؤمنين، "وقال له: يا محمد، لا تبتئس إنه ابن النبي وأنت بن علي"، هذا المقدار، وإن كان علي هو نفس النبي صلى الله عليه وآله، لكن بهذا المقدار، أنت ليست عندك علقة برسول الله، وهو عنده علقة برسول الله، وأبوه علي، فعنده ميزة وفضيلة عليك، يتبين أثرها في مثل هذا المكان، وفي أماكن أخرى.
أيضا برزت من أبي محمد الحسن سلام الله عليه حملات استثنائية في صفين، في الجمل، وهكذا، في حرب النهروان، وكان فيها المقدم على غيره، في نفس الوقت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان حريصا جدا على ألا يصاب الإمام الحسن بسوء، وينقل في هذا المعنى أن أيضا محمد بن الحنفية كأنما لاحظ أن هناك فرقا في هذه الجهة، فقال له: "يا محمد أنت يدي، والحسن والحسين عيناي، وأنا أدفع بيدي عن عيني"، كان أيضا في نفس الوقت الذين هؤلاء كانوا ينغمسون في القتال، كان حريصا على ألا ينقطع بهم امتداد الإمامة، ونسل رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا لما كان للإمام الحسن وأخيه من منزلة، كما قلنا أعرب عنها الإمام بكلامه: "وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي..."، ولذلك بناء على هذا الحديث، نعتقد أن تأثر أمير المؤمنين عليه السلام، وهو المشرف من عالم الغيب كما نعتقده، وهو يرى ابنه الإمام الحسن المجتبى سلام الله عليه، يتقيأ على أثر ذلك السم القتال، لا ريب أنه كان في غاية الحزن، وكأن الموت الذي طرأ على الإمام الحسن، قد ذاقه أمير المؤمنين بتأثر الإمام الحسن من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، كأنما كان الإمام أمير المؤمنين هو الذي يقذف أحشاءه في ذلك الطشت حزنا وألما على ابنه الإمام الحسن صلوات الله وسلامه.