19 بنية المنبر الحسيني وتطوره
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 19/1/1446 هـ
تعريف: بنية المنبر الحسيني وتطوره كتابة الفاضل علي السعيد يتناول حديثنا هذه الليلة شيئا مما يرتبط بالمنبر الحسيني الذي غدا في هذا الزمان بل قبل هذا الزمان أيضا الوسيلة الكبرى في التأثير على شيعة أهل البيت عليهم السلام، وفي تثقيفهم بما يرتبط بأمور دينهم ومذهبهم، أما أنه لا يزال هو الوسيلة الكبرى فما كان بالعيان لا يحتاج إلى برهان، نحن لا نجد وسيلة من الوسائل الإعلامية، من التلفاز، والكتاب، والجريدة، والمجلة، وغيرها، تمارس نفس المقدار من الانتشار، ونفس المقدار من التأثير، الذي يقوم به المنبر الحسيني، فهذا المنبر وهذا المأتم سهل التناول، يعني لا يحتاج إلى بروتوكولات مفصلة، أربعة أو خمسة أشخاص يجلسون في مكان يضعون كرسيا، وشخص يصعد المنبر، هذا هو، بينما أي وسيلة أخرى تريد أن تقوم بها وتؤسسها لابد لها من ميزانيات كبيرة، ومن أجواء خاصة، ومن خطط، ومن كادر، وإلى آخره، الآن لو فكر إنسان على سبيل المثال أن يفتح له جريدة أو مجلة أو يؤلف كتابا أو فضائية أو غير ذلك يحتاج له من الإعدادات الشيء الكثير، ومن الميزانية كذلك، بينما المنبر والمأتم الحسيني لا يشترط فيه مكان، يجد مسجدا فجيد، إذا لم يجد، يجد حسينية، لم يجد حسينية، في بيت الإنسان، وهكذا، سهولة تناول المنبر الحسيني من مختلف الجهات جعله أكثر شيوعا من سائر الأمور، وبتبع ذلك جعله أكثر انتشارا وتأثيرا، لأنه كلما ازدادت القيود قل الموجود، ندوة على سبيل المثال تحتاج إليها ترتيبات خاصة ومعينة وما شابه ذلك، أجهزة وغير ذلك، المأتم الحسيني والمنبر الحسيني أُخِذت فيه هذه السهولة، والتأسيس الذي بُدئ به، وسنتحدث شيئا ما عنه فيما بعد، أُخِذت فيه هذه المسألة الهينة والسهلة، كذلك أيضا هذا المنبر والمأتم ليست فيه اشتراطات في المستوى، عادة بعض الاجتماعات والجلسات إما هي متخصصة، إذا جلسة طبية مثلا إنما يأتي إليها الأطباء ومن لديهم ثقافة طبية، إذا كانت في مجال ميكانيكي أو إلكتروني أو غير ذلك نفس الكلام، الأعمار أيضا تتحدد بحسبها، بينما المنبر والمأتم الحسيني تجد فيه ابن العشر سنوات وابن الثمانين سنة وما بينهما، لا يُشْترط مُسْتمع خاص فيه بمستوى خاص، ولا عمر خاص، وهذا يجعل كل الطبقات قادرة على الحضور إليه، والاستفادة منه، كل بحسبه، هذه من الأمور التي جعلت المنبر الحسيني منتشرا كثيرا ومؤثرا، أضف إلى ذلك أنه التصق بقضية الإمام الحسين عليه السلام، وهي تملك من الجذب العاطفي والشعوري ما لا تملكه قضية أخرى، مهما كانت تلك القضية، أمر الحسين عليه السلام أمر خاص، فيه جهة اختصاص لا نجدها حتى بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام، بل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا كما ذكرناه في ليالٍ مضت ونكرره، لا يعني الأفضلية، وإنما يعني الخصوصية، الله سبحانه وتعالى جعل للحسين عليه السلام خصائص، تعرضنا لبعضها، مثلا في الحديث عن تربة الحسين، في الحديث عن استجابة الدعاء تحت قبته، في الحديث عن أن الأئمة من ذريته، وهكذا، وذكرنا في وقتها أن الأمر لا يرتبط بالضرورة بالأفضلية على غيره كرسول الله صلى الله عليه وآل وسلم، الذي هو أفضل منه قطعا، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام، الذي هو أفضل منه قطعا أيضا، وإنما هذه خصوصية للحسين عليه السلام، فكان هذا المنبر الحسيني الذي يُفترض أن الواضع لأساسه كان الإمام زين العابدين سلام الله عليه، فتقريبا أول منبر مع بيان الخطة فيه، وتطبيق تلك الخطة، كان من الإمام علي بن الحسين عليه السلام، أي بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام مباشرة، في أقل من شهر من الزمان، عندما وصلوا إلى الشام، والقضية معروفة لكم بحمد الله، فقام خطيب من خطباء السلطة المنافقين وشتم عليا والحسين عليهما السلام، وذكر يزيد بالمدح والثناء، فقال الإمام السجاد عليه السلام: "ويلك أيها الخاطب! اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق؟ فتبوأ مقعدك من النار"، يعني أنت من أجل أن ترضي الخليفة والحاكم أعقبك كذلك سخط الله عز وجل، وبئست الصفقة، بئس البيع والشراء، اشتريت سخط الخالق برضى المخلوق، ثم إن الإمام السجاد عليه السلام قال ليزيد: "ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد"، وكان المنبر يسمى بالأعواد باعتبار أنه كان في العادة مصنوعا من الخشب، قال: "ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلم بكلمات فيهن لله رضا، ولهؤلاء الجلساء أجر وثواب"، فوضع الإمام السجاد عليه السلام بذلك منهاجا لكل من يريد أن يتكلم في جمع من الناس، وهو الأساس أيضا الذي سيستقر عليه المنبر الحسيني، أن تكون فيه جهتان، لله فيه رضا، فلا يخالف ذلك الكلام أوامر الله عز وجل، وقد خالفت أيها الخاطب أوامر الله في أنك شتمت عليا والحسين عليهما السلام، وأيدت طاغية الزمان، أي خطيب لابد أن يلاحظ أن كلامه هذا، وهو بمسمع من الله عز وجل، هل فيه رضا الله أم لا؟ هذا واحد، وهذا بحد ذاته لا يكفي، وإنما لابد من جهة أخرى أن يكون للحاضرين فيه أجر وثواب باستماعهم إياه، يزيد علمهم، فيحصلون على الثواب، يتحركون باتجاه العمل في الطريق الصحيح، فيحصلون على الثواب، فهذا المنهج الذي جعله الإمام السجاد عليه السلام لكل متكلم وخطيب، ومن باب أولى خطباء المنبر الحسيني، وطَبَّق الإمام السجاد عليه السلام ذلك بعد أن سمح له يزيد بعد تَمَنَّع، طبعا استئذان الإمام لأكثر من جهة، الجهة الأولى إنه لو صعد المنبر من دون استئذان من الممكن أنه ماذا؟ يُنَزَّل، فلا يبلغ ما أراده، أيضا هذا بالتالي هذا المكان الآن هو تحت سلطة هذا الرجل، فلابد من الاستئذان بغض النظر عن أنه هذا في موقعه الرئاسي والرسمي محق أم لا، هذا الآن تحت سيطرته، فلأجل أن يبلغ الإمام غايته من حديثه استأذن من الطاغية يزيد، ويزيد تَمَنَّع في البداية، بين قوسين، كثير من الخلفاء الرسميين والحكام الذين عاصروا أئمة الهدى عليهم السلام، يعلمون في قرارة أنفسهم أن هذا هو عالم بالإسلام، ولا يوجد من ينافسه في ذلك، أكثر الخلفاء الرسميين وردت عنهم قصص مع أئمة الهدى عليهم السلام تشير إلى اعتقادهم الداخلي بأن العلم الذي يوجد عند هذا ليس موجودا عند غيره، وأن سُنْخَ علمهم كعلم جدهم رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويطول المقام لو أردنا أن نستشهد على هذا بشواهد لكن نأخذها هكذا الآن، فلما أذن له يزيد قام الإمام زين العابدين عليه السلام وخطب ذلك الخطاب، في خطاب عجيب، يمكن واحد يتحدث عنه في يوم زين العابدين، لكن الآن كشاهد، المورد الوحيد الذي وجدنا فيه سبعين صفة من صفات أمير المؤمنين عليه السلام، في خطبة واحدة مسترسلة هو هذا المكان، تحدث الإمام زين العابدين عليه السلام عن صفات أمير المؤمنين عليه السلام، في أين؟ في عاصمة الأمويين التي حاربت الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام من سنة 37 و 38 هجرية، وحاربت خطه إلى سنة و61 هجرية، المكان الرسمي الأكبر الذي شهد أن يتحدث الإمام السجاد عليه السلام حول سبعين صفة من صفات أمير المؤمنين عليه السلام هو هذا المكان، بَيَّن فيها الأوجه المختلفة لتقدم أمير المؤمنين عليه السلام على سائر الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم عطف بعد ذلك على الحديث عن الحسين عليه السلام من خلال قوله: "أنا ابن من قُتِل ظلما، أنا بنت فلان، ابن فلان" وأبكى الحضور وأثر فيهم مع أنهم في موقف العداء، فانظر ما المقدار من تأثير الإمام السجاد عليه السلام الذي أثر في أعدائه عندما تعرض إلى قضية الإمام الحسين عليه السلام، منذ ذاك التاريخ بدأ التأسيس للمنبر الحسيني، طبعا جاء أئمة الهدى الإمام محمد الباقر فيما بعد، والإمام جعفر الصادق، والإمام موسى الكاظم، والإمام علي بن موسى الرضا، وغيرهم من الأئمة عليهم السلام، وكل واحد كان من الأئمة يحث ويؤكد على موضوع إقامة مأتم الحسين، وذكر الحسين عليه السلام، وظل هذا لفترة طويلة إلى حدود سنة 300 هجرية، يتوارثه الخلف عن السلف، اللاحقون عن السابقين، وكل واحد يأتي بالتالي، رجالا ونساء، كانت هناك مجالس نسائية، وكانت هناك مجالس رجالية، حتى عدت أول شهيدة من شهيدات المنبر الحسيني النائحة (خُلَّب)، النائحة (خُلَّب) هذه كانت امرأة تقرأ في مجالس النساء، وكانت تُسِيل الدم لهن، وكان عندها فن خاص في ذكر الإمام الحسين عليه السلام، فخشي منها تيار الحنابلة، وأمر المفتي في ذلك الوقت أو أشار إلى قتلها، فقتلت رحمة الله عليها، لماذا؟ لأنها تنعى الحسين، وترثي الحسين، وتتحدث في مصيبته، وهذا كان في وسط النساء، وأما في وسط الرجال فحدث ولا حرج، كان يتسابق الشعراء أولا في إنشاء ونظم القصائد، ثم يأخذها أولئك المنشدون والراثون، وحسب تعبيرنا اليوم الخطباء أو الملالي أو ما شابه ذلك ممن لديهم الأصوات الحسنة، وكانوا يلقونها في مجاميع الشيعة، هذه إلى مرحلة كان فقط يقتصر على شيء بسيط من الرثاء، قصيدة أو شيء من النثر المشير إلى قضية الحسين عليه السلام، ولم تكن تلتزم بمنهاج خاص، المهم هو ذكر الحسين عليه السلام، ولاسيما بالشعر، والدفع بالاتجاه للبكاء عليه والحزن لما أصابه، بعد سنة 300 هجرية، لا، صار الأمر فيه شيء من الاختلاف لاسيما مع قدوم البويهيين في بغداد، البويهيون يُخْتَلف في أنهم هل هم زيدية أم أنهم إمامية اثني عشرية؟ القدر المتيقن أنهم كانوا شيعة، وكانوا مخلصين في تشيعهم لأهل البيت عليهم السلام، لكن هو بحث تاريخي البعض يستقرب أنهم كانوا إمامية، ولكن لأجل التوسع في حالة الدولة كانوا يخفون كونهم إمامية، ويتظاهرون بالزيدية، الزيدية يعدهم أتباع مدرسة الخلفاء أقرب إلى المذهب السني من الشيعة الإمامية، بعضهم يقول إن البويهيين لأجل أن يحوزوا على رضا كل الفئات والأطراف تظاهروا بأنهم زيدية مع أنهم في أصلهم إمامية اثني عشرية، رأي آخر يقول لا، هم إمامية اثني عشرية، ويظهرون ذلك، على كل تقدير شهدت مرحلتهم مرحلة مهمة جدا باعتبار أن الدولة الرسمية صارت ماذا؟ تؤيد هذه الأمور، تؤيد العزاء، تؤيد مواكب العزاء، تؤيد إقامة الحزن على الحسين عليه السلام، تؤيد المنبر، فانتعش الوضع العام، وتطور بشكل واضح، ولا سيما أيضا انضم إلى ذلك ما حصل في مصر، في مصر صارت الدولة الفاطمية في نفس الفترة، والدولة الفاطمية المعلوم أنها إسماعيلية، ولكن فيما يرتبط بالأمر الشيعي وقضية الحسين عليه السلام محل اتفاق، يعني الزيدية يؤمنون بالحسين عليه السلام إيمانا عميقا، والإسماعيلية أيضا يؤمنون بالإمام الحسين عليه السلام، نعم في الأئمة التالين، مثلا الإسماعيلية بعد الإمام جعفر الصادق يذهبون ويَسُوقون الإمامة إلى إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق، بينما الإمامية يَسُوقون الإمامة في موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، والزيدية بعد الإمام زين العابدين عليه السلام يسوقون الإمامة في زيد، بينما الإمامية يسوقونها في الإمام محمد الباقر عليه السلام، على أي حال، وصول هؤلاء الفاطميين أيضا إلى الحكم، وسيطرتهم على المغرب، وفيما بعد سيطرتهم على مصر بناؤهم للجامع الأزهر، في عهدهم كما ذكرنا في بعض الليالي، نحن نعثر على التعبير عن اسم حسينية، وهذا لعله من أقدم ما رأيناه في التاريخ باسم حسينية، وهي مكان كما توصف في وقتها، مكان فسيح الأرجاء، مربع الشكل، يصعد فيه الراثي ويرثي الحسين، بينما يستمع الناس ويبكون فيه، هذه المرحلة الثانية، وظل هذا الأمر يتطور إلى العصر الحديث على منهج أكثر تطورا نوعا ما مما كان قبل سنة 300 إلى سنة 1300 هجرية، يعني قبل حوالي 150 سنة، الذي دخل المنبر الحسيني في طوره الجديد، بعض المحققين والمؤرخين يكثرون المراحل لكن هذه هي أهم المراحل التي مر بها المنبر الحسيني، في حوالي سنة 1300 هجرية برز بالذات في العراق جيل من الخطباء، أعطوا لهذا المنبر صيغة جديدة مع الحفاظ على أصله، فأصله بما يمثل من الرثاء للحسين عليه السلام، وتذكير بقضيته، وبكاء على ما أصابه، بقي على ذلك، ولكن أضيف إليه جانب الموعظة والإرشاد، وصار هذا المنهج الجديد الذي يبدأ فيه الخطيب مثلا بعد الديباجة، إما بآية مباركة يفسرها، أو قول من أقوال المعصومين يشرحه، أو يتعرض إلى جانب من الجوانب التاريخية، أو جوانب السيرة، أو مشاكل اجتماعية أو غير ذلك، هذا أمر حديث، يعني ما صار له إلا حوالي 150 سنة، فانتظم المنبر منذ ذلك الوقت في هذا الهيكل الذي نراه اليوم، عادة الآن عندما يصعد المنبر، يأخذ المنبر مسارا معينا، أول شيء يذكر الديباجة، فيها الصلوات المذكورة، وسنأتي على شرح بعضها، ثم يتعرض إلى جانب من جوانب الإرشاد والموعظة، شرح آية، شرح رواية وغير ذلك، ثم بعد ذلك ما يسمى بالتخلص، ويُعرف عند الخطباء بالكوريز، الكوريز أصل الكلمة هي كلمة فارسية، كوريز يعني تخلص وهروب وفرار، كأنما الخطيب عندما يشرح الموضوع يتخلص منه بالذهاب إلى موضوع كربلاء، فهذه ثلاثة أقسام أساسية، ذكرنا في بعض الأماكن أن هذه الديباجة التي يبدأ بها الخطباء لا نعلم بالضبط من الذي أقرها بهذه الطريقة، ولكن من يكون الذي أقرها لا شك أنه كان موفقا كثير التوفيق، لما تحمله من معان، لاحظوا مثلا في خطب الجمعة، قسم من الناس يبدأ بديباجة معينة، (بسم الله وبالله، نحمده ونستعينه، ونصلي على رسوله، ونستغفره من ذنوب أنفسنا وشرورنا، إلى آخره)، ثم يدخل في الموضوع، هذا يسمونها ديباجة، الخطب في غير المنبر الحسيني متعددة الديباجات، البعض يأتي مثلا بديباجته أنه يثني على حاكم البلاد، على الخليفة، على كذا، ثم يذهب في موضوعه، المنبر الحسيني اتخذ له شخصية في ديباجته من نفس قماشته، فأنت ترى مثلا، أول ما يبدأ عادة بالصلاة على محمد وآل محمد، عادة يصلى على رسول الله، يقول: (صلى الله عليك يا رسول الله، صلى الله عليك يا نبي الله، وعلى أهل بيتك الطاهرين...)، ثم يعطف بالصلاة بشكل خاص على الحسين عليه السلام، هذا الأمر وهو انتخاب البداية للصلاة على رسول الله، والصلاة على أهل بيته، والصلاة على الحسين عليه السلام، فيه معنى عميق، أولا باعتبار أنه دعاء، فهو ذكر لله، فلا يبدأ الإنسان شيئا إلا بهذا الذكر، ثم باعتبار أنه صلاة على رسول الله وعلى أهل بيته، فهو استجابة لما جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وفي ذلك من ربط الناس بأهل البيت عليهم السلام، وأن يكون هذا جزءا أساسا على خلاف قسم من الخطباء من غير هذه المدرسة، تراه في كلامه العادي يطول ويعرض ويمطط وإلى آخره، فإذا جاء إلى الصلاة على رسول الله كبسها كبسا، (صلى وسلم) أو ما شابه ذلك، يعني ضاقت الدنيا وضاق الوقت عن أن يصلي على رسول الله بفم مفتوح، وعلى أهل بيته بهدوء وباسترسال، لازم يكبسها، لازم تضيع، وأنتم تستطيعون أن تروا هذا الشيء، وتلاحظون بعض هؤلاء كيف يطلقون الصلاة، هذا الخطيب لا، هو يتعمد ويتقصد كجزء من ديباجته، جزء من هذه الديباجة أن يصلي على رسول الله عليه وآله وسلم، على أمير المؤمنين عليه السلام، على الحسين عليه السلام، وهكذا، هذا واحد من الأمور، تُذكر فيها أيضا فكرة عقائدية مهمة، وهي ما يعبر عنه، هكذا: (ما خاب من تمسك بكم، وأمن من لجأ إليكم)، هذه فكرة عقائدية في غاية الأهمية، أن الذي يتمسك بأهل البيت عليهم السلام، ويلجأ إليهم، هذا ليس خائبا، وهو فائز لا سيما في الآخرة، هو آمن، (أمن من لجأ إليكم)، الأمان والضمان هو بهؤلاء، وهو مفاد حديث الثقلين: "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"، ومثل حديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض"، فالذي يتمسك بهم هو فائز، وغير خائب، وناج،ٍ جعلنا الله وإياكم جميعا منهم، هذا أمر ثان. الأمر الثالث في الديباجة ولا نزال فيها أيضا، إن هذه الديباجة هي أشبه بموقف عملي للمتكلم الخطيب وللسامع في هذا المجلس أو ذاك، (يا ليتنا كنا معكم، فنفوز فوزا عظيما)، التمني أن يكون الإنسان في هذه الجبهة، دون غير هذا هو موقف، وهذا يؤجر عليه، الحديث المعروف عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من أحب قوما حشر معهم، ومن أحب عمل القوم أشرك في عملهم"، أنت إذا تتمنى أن تكون مع أصحاب الحسين ومع الحسين عليه السلام، فكأنك قد حصلت على ثوابهم ومنزلتهم، وهذا ما ورد صريحا في كلام الإمام الرضا عليه السلام للريان بن شبيب، الريان بن شبيب واحد من أصحاب الإمام الرضا، الإمام الرضا عليه السلام حدثه بحديث طويل بمناسبة شهر محرم، وروايته رواية الريان بن شبيب معتبرة بين الإمامية، لأن سندها سند تام، من جملة ما ذكر فيها إنه قال: "يا ابن شبيب إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين عليه السلام فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ". إذا تريد أن يكون إليك نفس الأجر ونفس الثواب الذي كان أولئك عليه، فقل هذا الأمر، تتمناه من داخل قلبك، وأنت صادق، تستغرب؟ هذا نفس الاستغراب الذي كان عند مَن؟ عند عطية العوفي، قال جابر: "والذي بعث محمدا بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه، قال عطية: فقلت لجابر: وكيف ولم نهبط واديا، ولم نعل جبلا، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم، وأوتمت أولادهم وأرملت الأزواج؟ فقال لي: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من أحب قوما حشر معهم، ومن أحب عمل القوم أشرك في عملهم، والذي بعث محمدا بالحق نبيا إن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه". هذا نفس المعنى الذي أنت تقوله: (يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزا عظيما)، اللهم اكتب لنا ذلك يا رب العالمين، فهذا مما نقوله إن الذي ابتكر هذه الديباجة، وأقرها، وصارت الآن سارية وماشية في كل مكان، لا شك أنه كان موفقا، بل يمكن الادعاء بأنه مؤيد من عالم الغيب في انتخاب هذه الكلمات، وقد أحسن إحسانا كبيرا، ووفق توفيقا عظيما، هذا إذا كان الذي فعلها واحد، وإذا كان لا كما هي عادة القضايا الاجتماعية لا يقررها شخص بضغطة زر كما يقولون، وإنما هي أيضا تأخذ إليها مسارا متطورا من جهة إلى جهة، ومن سنة إلى سنة، إلى أن تنضج في الأخير بصيغة معينة، ولذلك صار عندنا المنبر الحسيني الآن أخذ له هذه الصبغة، وهذه الصورة، وهذه الكيفية التي نجدها في أكثر الأماكن في عالمنا الشيعي، نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا هذه المنابر، وهذه المآتم، حضورا، وخدمة، وعطاء، واستفادة، وتعليما، وعلما، نسأل الله أن يديمها علينا، وأن لا يحجبنا عنها، ولا يحجبها عنا، فإن فيها أساليب الخير المختلفة، ولو لم يكن إلا تذكر مواقف الصفوة المخلصة الذين نصروا الحسين عليه السلام، فإنها تبعث في الإنسان طموحا نحو الارتقاء والسمو والتكامل الإيماني، عندما نسمع ما كان لحبيب بن مظاهر الأسدي رضوان الله تعالى عليه من المنزلة والمقام، يطمح الإنسان أن يكون على نفس المنهاج، حبيب بن مظاهر قيل إنه شهد رسول الله صلى الله عليه وآله، من ناحية السن يتناسب مع ذلك، لكن هل كان معه في المدينة؟ هل سمعه أم لا؟ هذا محل بحث ومحل نقاش، ولذلك عده بعضهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، طبعا صحبة النبي فيما نعتقد إذا لم تترافق مع المنهج الصحيح الذي أراده رسول الله لا تنفع شيئا كثيرا، مجرد الواحد رأى النبي يوما من الأيام في المدينة يخطب أو جلس تحته، هذا أخذ له كارت أخضر كما يقولون، لا، ليس كذلك، لابد أن يسير على منهاجه، حبيب بن مظاهر على فرض حصول ذلك، وُفِّق إلى أن يكون من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، بل من خُلَّص أصحابه، بحيث إن الوارد أن عليا أمير المؤمنين عليه السلام علمه علم المنايا والبلايا، علم المنايا والبلايا يعني المعرفة بالمستقبل بشكل دقيق، وهذه منزلة ليس كل الناس يستطيعها، قد يكون عالما كبيرا وفقيها ولكن لا يتحمل أن يعلم إلى أربعة أيام ماذا سيحصل، الآن أنت تصور لو أن إنسانا عالما بشكل دقيق ما سيحصل له خلال هذا الشهر إلى نهاية هذا الشهر، افتهم أنه سيتمرض، افتهم أن زوجته سيحدث فيها كذا، افتهم أن ابنه سيحدث فيه الابتلاء الفلاني، من الآن قد لا يستطيع النوم أصلا، من الآن تفسد حياته، لأنه سيعيش النكد والخوف والتوجس مما سيحدث في هذه الأيام المستقبلية، لذلك علم المستقبل ليس كل الناس يستطيع عليه، ولعله من رحمة الله عز وجل أن أخفاه عنا، لو أنت وأنا ندري من الآن إلى سنة، ماذا سيحدث علينا، من الممكن أن تكون حياتنا من أتعس الحيوات، سيسرق مني كذا، سوف يفصلوني في يوم كذا، سيعتدى عليَّ في يوم كذا، لا يستطيع الإنسان أن يعيش باسترخاء وبراحة، فقد يكون من رحمة الله بنا، لأننا لا نتحمل، قلوبنا لا تتسع، نفسياتنا لا تستطيع أن تسيطر، لذلك أخفيت عنا الحقائق التفصيلية لما يحصل علينا ولنا، لكن البعض لا، متماسكون كالجبال، لو يُحَمَّل معلومات وعلوم وكذا مهما كانت، لا يتغير عليه الحال، حبيب بن مظاهر فيما ورد في الروايات كان يعلم بطريقة مصرعه، وبأنه ماذا؟ سيصبح رأسه كذا، وبأنه في أين، ومتى يقتل، هذا بحسب ما ورد من الروايات، وصول الإنسان إلى هذه المرتبة ينبغي أن يكون حائزا على درجات عالية، منها أنه كان رضوان الله تعالى عليه بمثابة اليد اليمنى لمسلم بن عقيل عندما جاء إلى الكوفة، حتى إذا استشهد مسلم اختفى لأنه واحد من أوائل المستهدفين بالقتل من قبل عبيد الله بن زياد كان حبيب بن مظاهر، وكان يجب عليه أن يخرج إلى كربلاء سريعا وإلى الآن الحسين لم يصل أو يختفي في الكوفة حتى يقضي الله ما هو قاض، وبالفعل بهذا الشكل حدث، أنه بقي في الكوفة، لما وصل إلى كربلاء أيضا يظهر أنه بحسب الروايات وصل في اليوم الخامس من شهر محرم، الإمام الحسين وصل كربلاء في اليوم الثاني من محرم، حبيب وصل إلى كربلاء في اليوم الخامس، وفي نفس اليوم في الليل استأذن الحسين أن يذهب لكي يقنع حيا من بني أسد كانوا قريبين من الغاضرية أن ينضموا إلى الحسين، وأن ينصروا الحسين، لعلنا أشرنا في بعض الأماكن إلى هذا المعنى، فذهب إليهم وحدثهم وخطب فيهم وحرضهم على أن يلتحقوا بالحسين عليه السلام، ولكن أحد المنحرفين انسل في هذه الأثناء، وذهب إلى عمر بن سعد وأخبره، هناك في المجتمع أناس مثل حبيب بن مظاهر، وهناك أناس مثل هذا الخائن، فذهب وأخبر عمر بن سعد، فجرَّد حملة على هذه الجماعة، وقال لهم يجب أن تغيروا مكانكم من هنا وتنزحوا إلى بعد مسافة ثلاثة أو أربعة كيلومترات، وإلا نقاتلكم، وبالفعل هكذا حصل، ولذلك فيما بعد لما صارت قضية تغسيل الإمام الحسين جاؤوا من مكانهم البعيد الذي أجبروا على النزوح إليه، هذا أيضا كان من أدوار مسلم بن عقيل أنه حشد ذلك الحي، ولولا الخيانة التي قام بها ذاك الرجل لكان التحق هؤلاء بالإمام الحسين عليه السلام، وهكذا كان حبيبا هذا الرجل في هذا المستوى من العظمة، ذكر أرباب الخبر أن حبيبا جاءته رسالة الحسين عليه السلام في الكوفة لكي ينتقل إلى كربلاء، وأن يناصر الحسين عليه السلام، فلما قرأ رسالة الحسين قَبَّلها ووضعها على عينيه، يقول بعض الخطباء هنا أن زوجته سألته عما يصنع، وماذا يريد، وما هو صانع، فأراد أن يخفي عنها، وأن يعَمِّي عليها خبره خوفا من أن تمنعه، يا حبيب هذه امرأة تقتدي بزينب عليها السلام، وتوالي فاطمة الزهراء عليها السلام، إن لم تشجعك فلن تمنعك قطعا، ولكن هكذا فعل، فأخذت كما قالوا تلطم على خدها، وتقول دعنا نأكل التراب، وانهض إلى نصر ابن بنت رسول الله، وبَيَّض وجوهنا أمام جده رسول الله، فخرج حبيب يتخفى بين المزارع، ويسلك الطرق غير المأهولة إلى أن وصل إلى كربلاء، عمت حالة من الفرح والاستبشار في كربلاء بين الأصحاب
مرات العرض: 3823
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 79689.32 KB
تشغيل:

18 الأوقاف الحسينية
20 أعطى وأتقى أو بخل واستغنى