الوعي بالحياة الدنيا واستثمارها
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 23/6/1445 هـ
تعريف:

الوعي بالحياة الدنيا واستثمارها

كتابة الفاضل علي السعيد

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين المكرمين. السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون، أيتها الأخوات المؤمنات، ورحمة الله وبركاته. قال الله العظيم في كتابه الكريم، بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [ الحديد: 20/21]، آمنا بالله صدق الله العلي العظيم. في حديث مضى ذكرنا أن على الإنسان الحكيم والعاقل أن يضع لنفسه خريطة لحياته الدنيوية، وذلك لأنه إذا أراد سفرا قصيرا كان عليه أن يفكر في خريطة الطريق، فما بالك إذا كان هذا السفر وهذا الطريق يستغرق (70) أو (80) عاما أو أكثر من ذلك، إن من الأجدى والأجدر في مثل هذا السفر أن يبادر الإنسان إلى معرفة محطتي البدء والخاتمة، والطريق ما بينهما. وذكرنا، ونذكر إن شاء الله، أن القرآن الكريم قد عرف لنا الحياة الدنيا، والفترة الزمنية التي نعيش فيها، وبينها لنا بوضوح، وبالتالي وضع خريطة سليمة للوصول إلى المقصد بعد ذلك، من جملة ما ذكر القرآن الكريم في تعريف هذه الحياة الدنيا هاتان الآيتان من سورة الحديد. (اعلموا) وهذا تعبير ورد قليلا في القرآن الكريم، فكأن فيه تنبيها إضافيا، العادة أن القرآن الكريم يلقي الكلام هكذا، يلقي الجملة لكي يتعلمها الناس، ويعملوا بها، لكن موارد معينة، وهي قليلة سبقها بالقول (اعلموا)، فكأن فيها مزيدا من الإلفات، مزيدا من الانتباه، مزيدا من العناية، من تلك الموارد القليلة قول الله عز وجل: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ...ۖ ﴾. هذه هي الحالة الطبيعية التي يمر بها البشر في حياتهم، لا يعني ذلك أن القرآن الكريم يمدح هذه الحالة، وإنما يصف، مثلا أنت مرة تقول مررت بالطريق، الطريق كانت فيه أشجار، وكانت فيه حفر، وكان مزدحما، لا يعني ذلك أنك تحب الازدحام، أو أنك ترحب بالحفر والعثرات، وإنما تصف ذلك. القرآن الكريم إلى هنا يصف المراحل التي يعيش فيها الناس، (لَعِب) وقد ذكر عن الشيخ البهائي رضوان الله تعالى عليه أن هذه تتوافق مع مسيرة الإنسان العادية، (لَعِب) وهو حال الأطفال عادة، و(لَهْو)، واللَّهْوُ فيه بالإضافة إلى اللعب أنه يلهي عن شيء آخر، اللَّهْوُ مأخوذ فيه الانشغال بشيء عن شيء، ذلك الشيء الذي يُنْشَغل عنه أكثر أهمية، بينما هذا يلتهي بشيء أقل أهمية، مثلا إنسان عليه امتحان من الامتحانات المهمة، فيقوم بدل ذلك مثلا بلعب الكرة، هذا يلتهي بالكرة عن ما هو أكثر أهمية وهو الامتحان الذي ينتظره، (اللَّهْوُ) مأخوذ فيه هذا المعنى، أصل اللعب، اللعب أمر من الأمور التي كما يقولون لا يترتب عليها فائدة مهمة عند العقلاء، ولذلك غالبا ما يكون هو في مراحل الطفولة. فـ(لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ)، مرحلة من مراحل الشباب، تلاحظ أن الإنسان حريص على أن يتزين سواء كان رجلا أو امرأة، وينفق في هذا شيئا كثيرا، وقد تمتد إلى وقت متأخر إلى العشرينات وما بعدها، حاضر أن يصرف نصف راتبه أو أن تصرف نصف راتبها، في سبيل أن تكون سيارته أجمل، وأن تكون هيئته أفخم، وأن يكون لباسه أكثر جذبا للأنظار. (وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ)، يترتب على هذا أن الإنسان في مرحلة الشباب عندما يتزين لا يتزين لنفسه، هل رأيت مثلا إنسانا يتزين فيما بينه وبين نفسه لما يريد أن ينام مثلا؟ كلا، يتزين حتى يظهر إلى الآخرين، ويأخذ (سلفي) ويسجل في (السناب)، ويحط على (الانستغرام) وغيرها، كل هذا الغرض منه ما هو؟ الغرض منه هي حالة دافعة، حالة التفاخر، أنه هو الأجمل، وأنه هو الأكثر مالا، حتى وصلت إلى الأموال، يعني يقول لك مثلا أنا أملك كذا وكذا، مع أن العاقل عادة لا يكشف هذه الأموال، ولكن لأجل التفاخر، والتفاخر يعطي للإنسان فيما يزعم نوعا من القيمة. أنا لما أقول أنا في رصيدي (100) مليون مثلا أريد أن تقيم الناس لي وزنا، وتعتني بي، (هذا مو سهل)، وإنما رجل مهم، (أنا واصل) حسب التعبير، عندي علاقات مع الكبار ومع التجار ومع الرجال المهمين، معنى ذلك أنا شخص مهم، أقيموا لي وزنا خاصا، احترموني أكثر. (وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)، المرحلة الأخيرة من الإنسان هي هذه، يعني سواء عن طريق نفسه أو عن طريق أحفاده، يرى كم خلف من الأولاد، ومن الأحفاد، وكم خلف وامتلك من الأموال، وما شابه ذلك، يتكثر بها ويصنع لنفسه الأهمية الخاصة. هذا المثل الذي يأتي به القرآن الكريم أن هذه الأمور لا بقاء لها، تبدأ في حياة الإنسان، تشتد وتكبر، لكن بعد ذلك (فهل ينتظر أهل بضاضة الشباب إلا حواني الهرم؟)، أنت شاب صاحب كمال أجسام، عندك عضلات، ودائما تصور بهذه الطريقة، إلى كم سنة هذا سيبقى؟ أنت صاحب الأموال إلى كم ستبقى هذه الأموال عندك؟ أو أنت إلى كم ستبقى فيها؟ فترة من الزمان، يضرب الله المثل (كَمَثَلِ غَيْثٍ) مطر، (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)، الكفار هنا احتمالان فيها، احتمال بمعنى المزارعين، (الكفار) في اللغة العربية أصلها بمعنى الشخص الذي يغطي شيئا، وسمي المزارع بذلك لأنه يضع البذرة في الأرض ويغطيها بالتراب، وسميت الكفارة بالكفارة لأنها تغطي آثار الذنب، وسمي الكافر في العقائد بالكافر لأنه يغطي الحقائق الفطرية، يقول الله غير موجود مع أن الله سبحانه وتعالى أوضح شيء في الكون لكنه يغطي نداء عقله ونداء فطرته بهذا الكلام الذي يقوله، فكلها في مصدر واحد يفيد ماذا؟ يفيد التغطية والتعمية والإخفاء، مزارع يغطي البذرة بالتراب، والكافر يغطي الحقائق الإلهية بالشهوات والإنكار، والكفارة تغطي الذنب وآثاره وتمسحها ولو بنسبة معينة. فبعضهم قال: (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)، يعني أعجب النبات الرجل الكافر يعني المزارع، المزارع ذهب بالبذر، أمطرت السماء، اشتعلت الأرض بالخضرة والورود، يعجب هذا المزارع والحارث بهذا الأمر، وقيل إنه لا الكفار بالمعنى الخاص، (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا)، بعد مدة من الزمان هذه الخضرة تتحول إلى ماذا؟ إلى اصفرار، مدة معينة، بعض المزروعات الورقية قد لا تستغرق أكثر من شهرين، بعض الأشجار لابد أن يمر عليها ماذا؟ الفصول، فتلك الخضرة تحولت إلى اصفرار، وتلك الأوراق المتشابكة والملتفة أصبحت (هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)، انتهى، يجف، وأي ريح تمر عليه تحطمه وتذره في الهواء. هذا حال الدنيا، هذا حال الدنيا حقيقة بعدما كانت في نظر قسم من الناس (لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ)، حقيقتها هي هذه، تصعد تصعد إلى مستوى معين، فإذا بتلك القوة تصبح ضعفا، إذا بذلك الغنى يعود فقرا، وإذا بذلك الجمال ينتهي، وعلى هذا المعدل. هذا حال الدنيا، في الآخرة هناك توجه، هذا يجري على كل الدنيا، أما في الآخرة فهناك سبيلان، وفي الآخرة أيضا قسم (عَذَابٌ شَدِيدٌ) لمن يجحد ويكفر، وقسم (وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)، وأنت بالاختيار، الدنيا ما فيها اختيار، تمر هكذا إلى أن (يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)، صحتك، قدرتك، مالك، جمالك، غير ذلك، هذا المسار لا أحد يستطيع أن يفر منه، اتجاه واحد، نعم في المعنى تستطيع أن تغيره كما سيأتي بعد قليل، ولكن في الآخرة من البداية هناك شيئان، وفي الآخرة هناك طريق (عَذَابٌ شَدِيدٌ)، وطريق (وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ). (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، غرور وخديعة، حتى هذا لما تقول إنسان مغرور، بمعنى متكبر وشامخ بأنفه، هذا مخدوع، (ماكل مقلب في نفسه) حسب التعبير، المصدر (غر- يغر-غرا - غرارا)، إشارة إلى خديعة، فأنت قد تغر شخصا وتخدعه، حياة الدنيا تغر شخصا وتسيره في مسار غير المسار الطبيعي، الشيطان أيضا سُمي بالغَرور، يعني شديد الغِرة والخداع للناس، (وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)، يعني ذلك الذي يُكْثر من الإغرار بالآخرين، صيغة مبالغة (غَرُور) على وزن (فَعُول) بهذا المعنى، فهو يخدع الناس باستمرار، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). (مَتَاعُ) شرحناها في وقت مضى من الأسبوع الماضي، إذن ماذا نسمع يا ربنا؟ قال (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) سباق، هذه الأيام إذا قالوا هناك مسابقات، المتبادر إلى الذهن ماذا؟ عادة مسابقات دنيوية، جوائز وسيارات وأموال إلى آخره، حتى التصقت فكرة السباق بهذه الأمور الدنيوية، لا يوجد يعني لنفترض البرنامج الذي يتبادر من ذهنه أن المسابقة هذه معناها الآخرة. الله سبحانه وتعالى هنا عنده مسابقة يقول (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ)، طبعا المغفرة لها مقدماتها وأدواتها، وإلا المغفرة من طرف الله سبحانه وتعالى، لكن هناك مقدمات إذا طواها الإنسان أصبح من السابقين إلى مغفرة الله، (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، بعض المفسرين قالوا لماذا ذكر (العرض) ولم يذكر (الطول)، وأشاروا إلى وجه عادة في البناء يكون العرض أقل من الطول، نادرا ما يكون العرض أطول وأكبر من الطول، لأن ذاك الوقت ما يصير عرض، فإما بقده يصير مربعا، وإما كما هي العادة أن يكون مستطيلا يعني الطول أكثر من العرض، لذلك جاء هنا بالعرض، قال: (عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). حدد القرآن الكريم في هذه الآية، وفي سواها من الآيات، أن الدنيا (لَعِبٌ وَلَهْوٌ)، هذه بدايتها، مفتاحها، في أماكن أخرى قصر الله وصفين على هذه الدنيا، وذكرنا آيات تشير إلى هذا المعنى، (اللَعِبٌ) كما ورد في معناه في المعاجم اللغوية الانشغال بأمر لا يحمد العقلاء الانشغال به، (لَعِبٌ) نعم هو لو كان جزءا مختصرا من حياة الإنسان لتنشيط وضعه في ما هو المهم، لا محذور في ذلك، لكن أن تصير حياته الدنيا كلها لعب، الطابع العام لها كله لعب، هذا (مضيع الطريق)، غير فاهم الدنيا على حقيقتها، ولا فاهم إنه لماذا جاء فيها في هذا الإطار. وأما (اللَّهْوُ) فكما قلنا هو الانشغال، المرة الماضية تحدثنا شيئا ما الأسبوع الماضي عن موضوع اللعب في الحياة الدنيا، الآن نتحدث شيئا ما عن (اللَّهْو)، (اللَّهْوُ) في القرآن الكريم ورد في عدة استعمالات، قد يكون (اللَّهْوُ) لهو القلب، القلب لاهٍ، لاهٍ يعني مشغول بشيء غير مهم عن شيء مهم، (اللَّهْوُ) هو هذا المعنى، يلهو بما ليس مهما عن الشيء المهم، يلهو عن الخطر الحقيقي بخطر جزئي، أو بلعب، أو ما شابه ذلك، فقد يكون القلب لاهيا، وقد ذكر القرآن الكريم هذا المعنى فقال: (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ)، قلب الإنسان يكون لاهيا، برنامجه العام في حياته، كل حياته ملتهم فيها بأمر غير مهم عن الأمر المهم الذي له خُلق، خُلق من أجل عبادة الله، خُلق من أجل أن يتكامل في هذه الحياة، خُلق من أجل أن يفعل الخير، كل هذا وهو مشغول عنه، بماذا؟ بأمور سخيفة وتافهة وبسيطة، فقلبه لاهٍ، برنامجه الحياتي وخطته الحياتية مقدمة لأمر غير المهم على الأمر المهم، ومنشغل بذلك الأمر التافه غير المهم، ومعرض عما يهمه. هذا قد يكون لهو القلب، قد يكون لهو الحديث اللسان، ما أكثر الحكايات، وأكثر الكلام، وأكثر الثقافات التي ينطبق عليها أنها لَهْو الحديث، قد طبق أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم مثلا (اللَّهْوُ على الغناء)، الغناء اليوم النشاط البشري فيه مليارات الدولارات في كل مكان، من حيث أجور المغنيات، من حيث نفقات المسارح، من حيث تذاكر المستمعين، من حيث كل الأمور، هذه الأدوات التي تستخدم، هذه كلها لما يأتي الإمام يقول هذا من لَهْو الحديث، اللَّهْوُ الذي ينشغل به الإنسان عن المهم في أمره، فقد يكون لَهْو الحديث، قد يكون خطابا وكلاما أيضا من لَهْو الحديث إذا لم يكن نافعا للإنسان، إذا لم يكن يحسن أخلاقه، لم يزد في علمه، لم يوجه إلى وعيه لدوره وحياته في هذه الدنيا، هذا قد يدخل في لَهْو الحديث. وقد يكون لَهْو الجوارح، وقد جاء في سورة الجمعة، ونحن نقرأ في كل جمعة، والمسلمون يقرؤون: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، [سورة الجمعة: 11]، يعيب عليهم القرآن الكريم، يوبخ، هذا يأتي في سياق الذم لهم، إنه يوم الجمعة، هذا من أيام الله الذي ينبغي أن تذكر الإنسان بمسيره ومصيره، في ذاك اليوم أنت تكون مشغولا باللَّهْو الذي هو مضاد لتشريع صلاة الجمعة، مضاد لخطبة الجمعة، كل أسبوع الله سبحانه وتعالى يريد أن يوقفك ويذكرك بما أنت مخلوق له، فأنت هذا الإنسان تترك هذا، وتذهب وتلتهي بما لا يهم، ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، [سورة الجمعة: 11]، أيضا خير من هذا وأيضا خير من ذاك، فقد يكون لَهْوًا بالجوارح أيضا، وكل ذلك مذموم. كيف يستطيع الإنسان أن يساعد نفسه لكي يحقق ما يتخالف مع اللَّهْوِ ومع اللعب والصورة السيئة التي يذكرها القرآن الكريم، نشير إليها إشارات سريعة: (1): أن يُذَّكر نفسه بكلام الباري سبحانه وتعالى، وقد ذكرنا جانبا منه، إذا الدنيا هكذا والآية: (لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ)، وأن هذه مثل: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامً ۖ )، والآخرة فيها الخطان، إذن ماذا نصنع؟ (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، هذا التوجيه القرآني مباشرة بعد المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، تذكير الإنسان نفسه بهذا، قراءته للقرآن مع التدبر في مثل هذه الآيات، قراءة وتلاوة ما جاء عن المعصومين، عن رسول الله صلى الله عليه وآله، عن أئمة الهدى عليهم السلام. أنا أنقل لكم فقرة مما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ)، هناك سباق، (عمل) و(أجل)، أنت كن صاحب المبادرة في العمل، الأجل أي وقت يأتي فليأتِ، لا يسبقك أجلُك عن عملك، تريد أن تفعل خيرا الآن بادر إليه، لا تقل غدا، أو بعده، أو بعد سنة، إذا تقاعدت، وإذا ما أدري كذا، لا، (وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ) لأنه قد تؤخذ على حين غرة، سبقك الأجل ماذا تصنع؟ نقل أحد الخطباء الفضلاء صديقنا الشيخ فيصل الكاظمي حفظه الله قصة لطيفة، يقول زرت أحد الأماكن قبل حوالي (20) سنة، ودخلت إلى مسجد فغمرتني روحانية استثنائية فتعجبت، فسألت هل لهذا المسجد قصة أو لا؟ فقالوا نعم له قصة، قصته وأتى باسم من بنى المسجد، الآن ما علينا من التفاصيل، هذا مختصر، ليس عندنا وقت كثير. يقول خلاصة قصته أن رجلا كان يذهب يوميا إلى الصلاة، صلاة الفجر ليصلي جماعة، أقول له نحن هذه الأيام صلاة الجمعة ويا الله يا الله نلح عليها، هذا صاحبنا صلاة الفجر يذهب ليصلي جماعة، وكان معه خادم أو غلام يأخذ بيده فانوسا حتى يضيء إليه الطريق، تلك الأزمنة قبل حوالي (100) سنة أو كذا ما كانت هناك إضاءة، فظل على هكذا زمان، مرض مرضا، ويعني بدأ يوصي بوصاياه، فأوصى أولاده أنه وضع مقدارا من المال، أريد أن تشتروا به قطعة أرض وتبنوا مسجدا، يكون لي صدقة جارية بعد مماتي، فالأولاد قالوا (ما يخالف)، وإن شاء الله. خادمه في اليوم الثاني خرج معه بعد ما صارت صحته جيدة، ورجع إلى صلاة الجماعة، خرج معه، وبدل أن يضع الفانوس أمامه وضعه خلفه، فقال لخادمه تعال وضع الفانوس أمامي، قال من الخلف أفضل وأحسن، (يمعود ماذا تغير بك؟ أنت كل يوم تخلي الفانوس قدامي، وأنا أمشي حتى أشوف)، قال أنا أعمل بوصيتك، وما هي وصيتي؟ قال له أنت ضع عملك الصالح أمامك يضيء لك ولا تضعه من خلفك، يمكن حتى أولادك لا يفعلون إليك شيئا، أنت في هذه الصورة مثل هذا عندك فانوس لكن وضعته من خلفك، أنا فعلت نفس الذي أوصيت به أولادك. فيقول التفت هذا الرجل لكلام الخادم، وذهب يبحث عن قطعة أرض واسعة جدا، فرأى مكانها مكانا جميلا فهي عبارة عن بستان، فرآها عند امرأة، قال لها أنا أريد هذه الأرض، أريد أن أشتري هذه الأرض، كم تعطين فيها؟ فتلك أغلى ما كانت تقول، لنفترض (100) ألف، وأكثر من سعرها الحقيقي، فقال لا مشكلة، أفكر وأرجع، نفس اليوم عصرا أرسل شخصا إليها، وقال لها من دون أن تفهم أن هذا مرسل من قبله، فقال لها إنه يريد أن يشتري هذا البستان، كم تبيعينه؟ فهي فكرت، في الصبح جاء أحدهم، والآن جاء شخص آخر فدعني أطلب أكثر، قالت مثلا (110) آلاف، اليوم الثاني بعث آخر، زادت السعر وصار (120)، إلى أن وصل إلى (150). يعني مثلا قد يكون هذا أكثر بكثير جدا من قيمته السوقية، آخر شيء بعد ما زادت ووصل إلى (150)، رجع هو الشخص الأول وقال أنا أشتريه بـ(150)، وفعلا اشتراه، قالوا له لماذا تفعل هذا الفعل، يقول حتى لا يكون في نفسها شيء في هذا المكان، وأن يكون أعطته من أعماق قلبها، وأنا بالتالي هذه الأموال موجودة والله منعم عليَّ، الشاهد أين؟ الشاهد (وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ)، هذا الشخص عمل خيرا. نقلت هذه القصة إلى أحد المشايخ، قال أعرف جماعة، وأعرف والدهم الآن، هم في بلد آخر، يقول لأولاده أنا أريد أن أبني مسجدا، فحاولوا مع أن يؤجل ذلك، لماذا أنت مستعجل وكذا؟ وإلى يومك هذا، يقول لا مسجد بني، ولا حتى (طابوقة). (فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ)، الأموال هذه التي عندك الآن، هذا الجاه الذي عندك، الصحة التي عندك، يزولون عنك، قوتك تذهب، أموالك تذهب، جمالك ينقضي، جاهك ينتهي، إذا اشتريت به شيئا يبقى لك، هذا معناه أنت لست خاسرا. (فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا) في الدنيا، الله أكبر، كلام أمير المؤمنين حقيقة هو كلام الإمام إمام الكلام، (فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً)، (فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً)، (70) سنة عشتها ماذا فعلت بها؟ أقول لنفسي، الله يا فلان يا أيها المتكلم، أعطاك الله صحة، ماذا صنعت بها؟ أعطاك وجاهة، هل أنفقتها في إصلاح بين الناس؟ في إنقاذ مؤمن؟ أعطاك مالا، هل قمت بحقه؟ (فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَأَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ وَلَا تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ وَلَا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَلَا كَآبَةٌ). نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتكرم علينا بتبصيرنا بأنفسنا وبحياتنا، وأن يوفقنا للعمل الصالح في هذه الحياة الدنيا، وأن يلقينا عملنا راضين مرضيين يوم نلقاه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
مرات العرض: 4165
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 87224.62 KB
تشغيل:

هل لديك خريطة للحياة الدنيا؟
سيرة الامام الهادي من الميلاد إلى الاستشهاد