علاقة الدين بالمروءة 18
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 21/4/1443 هـ
تعريف:

18/ علاقة الدين بالمروءة

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

لا يزال حديثنا في وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم التي تناول فيها ما يرتبط بإدارة الحياة من خلال تعقل الإنسان وتذكيره بالعقل، ووصلنا إلى: (يا هشام لا دين لمن لا مروءة له ولا مروءة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا خطراً لنفسه)، لا دين لمن لا مروة له ولا مروة لمن لا عقل له نجد أنه تعبير يتكرر نمطه في الروايات مثل: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، لا صلاة إلا بطهور، لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، لا صدقة وذو رحم محتاج، لا بيع إلا في ملك، والكثير من الروايات بهذه الصيغة تنفي بلا، فغير المختص والعارف بطريقة المعصومين في التعبير ربما يأتي على الفور ويقول بأن معنى (لا صدقة وذو رحم محتاج) هو أن الصدقة غير مقبولة ما دام عندك أرحام محتاجين، أو يرى بأن معنى (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) هو أن صلاة الأشخاص الذين هم جيران للمسجد غير مقبولة عندما يصلونها في بيوتهم، ولكن هذا الأمر غير صحيح فمثل هذه التعابير يحتاج فهمها إلى أنس بطريقة المعصومين في التعبير عن المعاني التي يريدونها، وهذا إنما يتم بكثرة الممارسة والقراءة والإطلاع، ولهذا نؤكد ونصر على أن الإنسان لا ينبغي أن يتسرع في الموضوع الديني فيفتي من جيبه، وينبغي عليه أن يكثر من قراءة الروايات والأحاديث حتى يعتاد على نفسها ولحنها أو ينبغي عليه أن يرجع لمن هو مختص في الأحاديث والروايات.

قال العلماء في مثل هذه التراكيب الحديثية أن النفي الذي يبدأ بكلمة لا في الأحاديث تارة يكون نافياً لحقيقة الشيء وأصله، وأخرى يكون نافياً لكماله، فمثلاً يقولون بأن هناك فرق كبير بين (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) وبين (لا صلاة إلا بطهور).

لا صلاة إلا بطهور: تعني بأن كل صلاة لا تكون فيها الطهارة بمعنى الوضوء أو الغسل لا تعتبر صلاة وإن كان ناسياً او جاهلاً، ومن خلال هذا استنتج بعض العلماء أن فاقد الطهورين لا يجب عليه صلاة، أي لو أن أحدهم كان في مكان لا يوجد فيه ماء ليتوضأ ولا يوجد فيه تراب ليتيمم به فإن قسم من العلماء قالوا بأن عليه الصلاة بدون طهور ثم يقضي، والقسم الآخر قالوا بأن هذا الشخص ليس مخاطباً بالصلاة الآن وإنما يصليها فيما بعد، إذا فإن هذا الحديث (لا صلاة إلا بطهور) فيه نفي للحقيقة أي أن حقيقة الصلاة غير موجودة).

لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد: لا توجد من مبطلات الصلاة أن لا تكون في المسجد إذا كان الشخص من جيرانه، فالمبطلات هي البول والغائط والحدث والنوم وما شابه ذلك، لكن ليس من المبطلات أن يصلي الصلاة في بيته وهو جار المسجد، فهنا النفي في الصلاة هو نفي للكمال أي أنه لا صلاة كاملة لجار المسجد إلا في المسجد، فإذا أراد جار المسجد كمال الصلاة وأراد الصلاة الأفضل فهو أن يكون في المسجد، أما إذا لم يصليها في المسجد فلن تكون له الدرجة العالية وهو مغبون وخاسر لكن صلاته غير باطلة.

والحديث: (لا دين لمن لا مروءة له)، ليس نفي لحقيقة الدين وأصل الدين وإنما نفي لكمال الدين، فالإنسان الذي لا يملك المروءة فدينه ناقص وفي درجة نازلة، ويأتي الإنسان بالمروءة من العقل لأن الإنسان حتى يحصل على المروءة يحتاج أن يحكِّم عقله في كل مورد من الموارد فينتخب الأصلح والأنسب بالنسبة إليه دينياً وشخصياً واجتماعياً.

المروءة: هي المصدر الذي يشتق منها المرء، والمرء تعني الرجل أو المرأة، ولو أردنا التعبير عن معناها بالتعابير القريبة نقول بأن هذا الشخص عنده مروءة أي عنده رجولة وشهامة واحترام لنفسه واتزان في ذاته، فلا يرتكب هذا الإنسان شيئاً حتى لو كان حلالاً من الناحية الشرعية مما يخدش مروءته، رجولته، اتزانه وشخصيته، وهكذا الحال بالنسبة للمرأة، فمثلاً لو أن رجلاً ذو شخصية اجتماعية خرج إلى السوق وهو يرتدي الملابس الداخلية فقط، فهنا لم يرتكب هذا الرجل حراماً لأنه ساتر لعورته لكن هذا الأمر من اشد ما يخدش مروءته، فليس كل حلال يستطيع الإنسان أن يفعله في كل مكان  وفي كل مجتمع، فأحياناً تكون ملابس الإنسان خادشة للمروءة وأحياناً حركاته وكلامه وإن لم يكن حراماً من الناحية الشرعية، فلا يصح للإنسان أن يجعل نفسه محلاً للسخرية.

أحياناً يختلف هذا الأمر من مكان إلى آخر، فمثلاً خروج عالم الدين وهو كاشف الرأس في مجتمعاتنا هو أمر غريب وغير طبيعي، لكنه لو سافر إلى بلاد الغرب مثلاً فعندهم كشف الرأس أمر طبيعي، إذاً فإن أي تصرف أو كلام أو هيئة تقتحم من خلالها شخصية الإنسان ويعاب عليه إجتماعياً فإنه يعبر عنه بأنه مخالف للمروءة، فالمروءة التي هي خصلة عالية بها كمال دين الإنسان حيث أنه من لا مروءة له لا دين له، أي لا دين كاملاً أو مثالياً، فهي من أوضح أنحاء الحث على أن يكون الإنسان في حياته الاجتماعية منسجماً مع مقتضيات المروءة بين الناس.

(لا مروءة لمن لا عقل له): فالعاقب هو الذي يحلل ويتفكر في التصرف هل ينسجم مع شخصيته وأخلاقه ووضعه العام أم لا ينسجم، ومن لا يملك ذلك العقل الناضج لا يستطيع أن يتعرف على خوادش المروءة وخوارمها وما يخل بها.

يقول الإمام عليه السلام: (وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطرا)، فهناك قسم من الناس لا يمانع بأن يرى قيمة نفسه بمئة ريال كأن يقبل السخرية والإهانة مقابل مئة ريال، وأمثال ذلك من لا يرى لنفسه قيمة حقيقية، ولكن هناك أشخاص آخرون عكس ذلك تماماً لا يرون الدنيا كلها تساوي قيمة أنفسهم، فلا يقبلون بالإهانة مقابل كل الدنيا لو تعطى إليه لأنه يرى نفسه أعظم وأعز وأكثر قيمة من الدنيا كلها، فهذا أعظم الناس قدراً كما قال الإمام عليه السلام.

ثم يقول عليه السلام: (أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها لغيرها)، فما هي قيمة اللذات حتى يخالف الإنسان دينه وأخلاقه وعقيدته لأجلها ويعمل على أساسها؟، فقيمة الإنسان الحقيقية هي الجنة وعليه أن ينظر إلى نفسه هل يفني عمره في طريق الوصول إليها أم لا، كأن نرى امرأة لديها من العمر 86 عاماً وحازت على المركز الثاني في حفظ القرآن وترتيله، بينما نجد أخرى لدينا من العمر 86 عاماً أفنت عمرها في رقص الباليه وهو من الرقصات المشهورة فيها جانب من التعري أيضاً، فلا ريب بأن الناظر إلى هذه المرأة الحافظة للقرآن يستشعر بأنها أنفقت عمرها وأعطت ثمن بدنها في أمر يستحق، على خلاف تلك الأخرى التي أفنت عمرها في ما لا يستحق.

(يا هشام إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سُئِل وينطق إذا عجز القوم عن الكلام ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه شيء منهن وجلس فيه فهو أحمق)، صدر المجلس هو تعبير عن التقدم الاجتماعي، فبعض المجتمعات نجد أن من يملك الكثير من الأموال تكون له الصدارة الاجتماعية، وبعض المجتمعات نجد أن من يملك القوة السياسية تكون له الصدارة الاجتماعية، وهكذا، لكن في نظر أمير المؤمنين عليه السلام نجد أن الصدارة الاجتماعية تكون للشخص الذي لديه قدرة علمية بأن يجيب على من يسأله ويكون ناطق إذا عجز قومه عن الكلام ويكون أيضاً صاحب رأي فيه صلاح أهله ومجتمعه، فما أكثر أهل الآراء والمتحدثين والمتكلمين لكن كثير منها ليس فيها صلاح أهله، ومن لم تتوفر فيه هذه الأمور الثلاثة ومع ذلك تصدر المجلس فحينئذ يكون شخص أحمق، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أصحاب المروءات وأصحاب العقول الصائبة والآراء الصالحة إنه على كل شيء قدير.

مرات العرض: 3376
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 31470.58 KB
تشغيل:

بين الحكمة والأموال أيهما تأخذ 17
بهذه التصرفات يعرف عقل الانسان 19