الملا عطية الجمري وشعره الحسيني
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 8/2/1443 هـ
تعريف:

ملا عطية الجمري وشعره الحسيني

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

حديثنا بإذن الله تعالى يتناول شيئاً من حياة وشعر شاعر أهل البيت عليهم السلام وهو الملا عطية بن علي الجمري البحراني رضوان الله تعالى عليه المتوفى سنة 1401 للهجرة، فقد مرت على وفاته نحو 42 سنة، فبإختصار هو منبري وخطيب متألق في جانبي الرثاء والموعظة وهو شاعر مجيد باللغتين (الفصحى والشعبية) ولكن شهرته في الثانية ويشهد لذلك دواوين شعره التي طبعت في ستة أجزاء ويشهد لذلك أيضاً أنه تقريبا ما من خطيب منبري إلا ويحفظ أجزاء من شعره.

قبل أن نتحدث عن سيرته بنحو أكثر نشير إلى موضوع الشعر الدارج والشعر الفصيح، في البداية نشير إلى أن هناك توجهين في الساحة الثقافية العربية والإسلامية تنتهي إلى تعظيم شأن الفصحى وتوهين جانب اللغة الدارجة والشعبية، في المقابل عندنا توجهات كانت في فترة من الفترات تصر على إلغاء وحذف اللغة العربية الفصحى واستعمال اللغة الدارجة والشعبية حتى في الثقافة، كلبنان ومصر فقد كان هناك مفكرون عرب يتحدثون عن أنه من المفترض أن تكتب الكتب باللهجة الدارجة كاللبناني يجب ان يكتب كتابه بلهجته الشعبية والسوري كذلك والخليجي كذلك، وبالتاي فكل شعب من الشعوب العربية ينبغي أن يكتب ثقافته وعلومه وينشر كتبه باللغة الدارجة.

هذه الدعوة نحن نعتقد انها دعوة غير بريئة وغير سليمة نظراً إلى أنها تنتهي إلى إضعاف اللغة العربية الفصحى التي حافظ عليها القرآن وحفظها، فالقرآن الكريم كان له أكبر فضل في الحفاظ على اللغة العربية الفصحى، ولو لم يكن القرآن الكريم بهذه اللغة لتأثرت بعوامل الزمن والتغيرات، ومن الملاحظ أن قسماً من الذين رفعوا راية اللغة الدارجة والشعبية واستبدال اللغة العربية بالدارجة هم من غير المسلمين الذين يخططون لفصل الانسان عن القرآن الكريم، ولذلك نجد أن أبرز الدعاة إلى استعمال اللهجة الشعبية في كل شيء وإلغاء مضوع اللغة العربية أغلبهم غير مسلمين، فهذه الدعوة بأن يزيح الإنسان اللغة العربية بشكل كامل كلغة علم ولغة معرفة ودين وأحاديث وتفسير ويستبدل بها اللهجة الشعبية والمحكية والدارجة هي دعوة خاطئة تماماً.

إن الجهة الأخرى الطبيعية والصحيحة هي أن تبقى اللغة العرية في موقعها العلمي والديني في كونها وعاء يحتضن الثقافة الإسلامية وآيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة، وأن يبقى هذا التراث الكبير الفقهي والأدبي والشعري على مكانته، لكن بما أن اللهجة الدارجة تستطيع الوصول إلى مساحة أوسع من الناس بدون حواجز فإنه من الممكن أن يتم الإستفادة منها في المعارف الدينية والثقافية الإسلامية وإبقاء حالة الولاء لشخصيات الإسلام.

نلاحظ في الخطاب المنبري لو أن الخطيب كان كل كلامه بلغة عربية فصيحة فخمة لربما قسم من الحاضرين  لا يستطيع المتابعة معه ولا يجد القرب بينه وبين هذه الكلمات لا سيما إذا كانت كلمات بليغة وعالية المستوى، بخلاف ما إذا كان يتكلم بلغة وبلهجة أقرب إلى لهجته الدارجة فآنئذ لا يشعر بالبعد عنه، وهذا في موضوع الشعر جداً واضح، فعندما يقرأ الإنسان مثلاً شعر السيد حيدر الحلي رحمه الله وهو من أعلى أشكال الشعر ومن عيون القصائد وهي قصائد فخمة رائعة وجميلة، لكن كم بالمئة من الناس يستطيع أن يتابعها؟، فلا نجد مئة بالمئة من الناس الذين يستطيعون متابعة معانيها وكلماتها وما شابه ذلك.

أذكر ذات مرة كنت مع بعض الأدباء نتحدث في هذا البيت في قصيدة السيد حيدر الحلي رضوان الله تعالى عليه (تُحَلِي الدِمَمُ مِنهُ مرَّانَهَا) فاختلفت الآراء في هل أن كلمة تُحَلِّي بمعنى الحلية أو الحلاوة وكذلك كلمة مُرَّان هل هي بمعنى الأشياء ذات الطعم المر أو هي بمعنى الحدين المتعاكسين في نهاية السهم، فبالرغم من أن البعض لديهم باع في اللغة العربية ولكن مع ذلك قد لا يتوجهون إلى دقائقها فكيف بالإنسان متوسط الثقافة.

بخلاف القصائد التي تقال باللهجة الدارجة، فإن أكثر الناس تصل إليهم معانيها ويستطيعون فهمها وفهم ما يريد الشاعر وهذا هو المطلوب لأن الشاعر لديه رسالة ومعنى يريد ان يوصله إلى من يستمع إلى هذا الشعر او من يقرأه، ونحن نلاحظ هذا في الشعر الشعبي والدارج وباللهجة المحكية فإن الناس في كل مكان نشعر بالقرب من معانيه، فعلى سبيل المثال عندما يُقرأ شعر للسيد عبد الحسين الشرع في محيط العراق ومن يفهم اللهجة العراقية نجدهم يتفاعلون معه لأن معظم الدارج عن شعره هو باللهجة العراقية المنفتحة التي تفهم غالباً.

كما سنأتي على ذكر ذلك في شعر ملا عطية الحمري رحمة الله عليه، فهو استعمل لهجة عابرة للمجتمعات، ومع أن اللهجة هي لهجة بحرانية إلا أنك في منطقة الخليج عندما تقرأها تشعر بأنك قريب من الألفاظ وعندما تسمعها تجد بأنها مفهومة بل وحتى عرب جنوب خوزستان في إيران يشعرون كذلك بل وحتى في العراق أيضاً يستشعر السامع بأنه ليس غريباً عن هذه الألفاظ ولا عن هذه المعاني، ولذلك هي لهجة عابرة للمناطق لا تتقيد بمنطقة أو بأخرى، فنلاحظ أن موضوع الشعر الشعبي أو الشعر الدارج باللغة الدرجة قبوله غالباً أكثر من قبل الشعر الفصيح لا سيما إذا كانت ألفاظه عالية المستوى، وهذا في تقديرنا من الأشياء التي نشرت شعر الملا عطية الجمري في أيام حياته وبعد مماته، حتى نُقِل أنه بعض كبار الخطباء كانوا يطلبون منه كالشيخ عبد الزهرة الكعبي رضوان الله تعالى عليه قارئ المقتل الشهير كان يطلب قصائد الملا عطية وكان الملا عطية على قيد الحياة، وأيضاً الشيخ هادي الكربلائي وهو واحد من الخطباء الكبار والمتقدمين جداً في الخطابة في رثائه وفي موعظته إلا أنه كان يحرص على طلب قصائد الملا عطية وكان يقرؤها حتى أن بعضها لم تكن قد طُبِعَت في ذلك الوقت، فلو نظرنا أن الشيخ عبد الزهرة الكعبي قد توفى مقدم جداً قبل خمسين سنة تقريباً أو في حدود ذلك ولم تكن دواوين ملا عطية الجمري كديوان الجمرات الودية في المودة الجمرية بأجزائه الستة لم تكن مطبوعة في ذلك الوقت وإنما كان ينشئ هذه القصائد وعنده بعض الخطباء والمساعدين يكتبوها عنه فتُطلَب هنا وهناك بل هو أيضاً كان يبادر بعرضها على الخطباء.

إذاً فإن الإنشاد باللهجة الدارجة والشعر الشعبي الحسيني في ميزاته أنه يستطيع الوصول إلى كثير من الناس وإلى مساحات واسعة ربما لا يصل إليها الشعر الفصيح، فكون القصيدة شعبية وكونها باللهجة الدارجة لا يعني بأنها ضعيفة لأن الشعر لم يسمى شعراً إلا لأنه العر يلتفت فيه إلى صورة يشعر بها ربما غيره لا يلتفت إليها فيأخذ هذه الصورة ويحولها إلى ألفاظ، فعلى سبيل المثال عندما نمر على حديقة جميلة فإننا لا نكتشف فيها صوراً استثنائية بل نراها جميلة ولطيفة ونرتاح فيها، لكن قد يأتي الشاعر ويكتشف فيها صوراً فيقدمها لنا ويربطها بصور أخرى، وإلا إن كان الشعر مجرد تكرار كلمات وألفاظ فهذا ليس هو الشعر المطلوب، لذلك فإن الشعر هو أن يكتشف الشاعر بعض الصور ويلقيها وينشئ فيها شعراً بلهجة شعبية تارة وبلغة فصحى أخرى ولذلك نجد ملا عطية رحمة الله عليه كان ينظم باللغة الفصحى وإن كان قليلاً شعراً جيداً وقوياً وكان ينشد وينشئ شعراً باللهجة الدارجة وهو الأكثر، وسنعرض بعض هذه الصور ولن نستطيع بالطبع أن نعرض كل ما كتبه، فقد كتب ستة أجزاء بأشكال مختلفة منها بصورة الأبوذية ومنها بصورة الموشح ومنها بصورة بحور الشعر العادية وغالباً ما كان البحر الطويل وأمثال ذلك، لكن جعلها جميعها بكلمات قريبة إلى الناس وهي بلهجته غالباً.

إذاً فإن الشعر الجيد والقوي لا يتأثر بالضرورة بأن تكون عباراته بلهجة شعبية إذا كانت صوره صوراً قوية وأفكاره أفكار كبيرة والتعبير عنها بلهجة وبكلمات مفهومة لعامة الناس.

المرحوم ملا عطية لعل من المؤثرات المهمة في قوة شعره وفي تأثيره في الناس وقبوله أنه حفظ القرآن الكريم مبكراً، فقراءة القرآن يومياً لا بد أن يكون برنامج كل إنسان مسلم ولو صفحة واحدة لأن القرآن الكريم فيه تأثير ذكره عن كلام الله عز وجل: ((لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)) أي أنه لو جعلنا على هذا الجبل الذي يحتوي ملايين الأطنان من الصخور لو جعلنا له منفذاً للقرآن فإنه من التأثر سنجده خاشعاً متصدعاً من خشية الله، كذلك الإنسان عندما يقرأ القرآن الكريم فإنه يرتقي من كلام الناس العاديين إلى ارتقاء علمه وكلماته لأنه يقرأ كلام الله عز وجل وهو الكمال بلا حدود والقوة بلا نهاية والعظمة بلا غاية، فملا عطية كان أول أيامه ذهب ليتعلم عند كتَّاب من الكتاتيب ولعل ذاك المعلم كان مشغولاً وخصوصاً إذا كان معلم ونسَّاج فإنه ينشغل بنسجه ويغفل طلابه عن تعلم القرآن، فلم يزد ملا عطية إلا ضعفاً، لذلك انتقل إلى امرأة معلمة من آل المسباح فختم القرآن وحفظه في ستة أشهر، ولا ريب أن الآثار النفسية والإيمانية واللغوية أثرت على الملا عطية في شاعريته، كما ينقل عنه أيضاً أنه حظي ببركات أهل البيت عليهم السلام ونفحاتهم، فقد كان يدأب على أن ينشئ شعراً عن الإمام الحسين ولكن لم يكن يخرج منه شعر جيد وفي بعض الرؤى رأى الإمام الحسين عليه السلام وأعطاه سلاحاً بيده فعندما أفاق من نومه وجد أن لديه قدرة كبيرة على النظم واستمر على ذلك لأخر حياته، ولا نستغرب هذا من نفحات محمد وآل محمد.

كانت أوضاع بلاد البحرين مضطربة في ذلك الوقت وكانت تتعرض إلى غزوات وحروب وغارات وسلب ونهب، فهاجر به أبوه مع بعض أخوته إلى المحمرة جنوب إيران وهناك بدأ مشواره الخطابي، وقد تنقل كمال قال من ترجمه مع عدة خطباء على طريقة الصانع، والصانع معروف حتى أنه موجود الآن في بلادنا وهو أن يرافق أحد المتعلمين خطيباً ناضجاً ويأخذ منه خبرته بالتدريج ثم ينفرد ويستقل بنفسه، وهكذا حصل إلى الملا عطية فبعد مدة من الزمان وقد كان يقرأ في المنبر وينظم الشعر أيضاً في الحسين عليه السلام فأخذ الشهرة من الجانبين فهو ينزح من بحر لا ينتهي، حتى بعد مدة من الزمان رجع إلى البحرين وبدأ يُعرَف ويشتهر وأصبحت مسيرته متواصلة عبر أولاده، نسأل الله أن يزيدهم توفيقاً.

الحديث في هذا قد لا يكون له في تفاصيل الحياة نفس الأهمية التي هي للدروس المستفادة من تلك الحياة ومن تلك المسيرة والسيرة، وقد ذكرنا ذلك ذات مره بأن من أهم ما يستفاد من سيرته هي قضية الاهتمام بالقرآن الكريم  والإقبال عليه فعندما تقبل عليه بمقدار خطوة فإنك تحصل على خطوات في تأثيره الأخلاقي والنفسي واللغوي وتوفيق الله عز وجل، والأمر الثاني الذي نستفيده من سيرته هو الإقبال على ولاء أهل البيت عليهم السلام وأن يمحض خدمته لهم ومن أجلهم وفي سبيل طريقهم وهو طريق الدين والإيمان والفضيلة، فبمقدار ما يقبل عليهم فإنه يحصل على جزاءه الدنيوي والأخروي، فالجزاء الدنيوي كما نراه الآن بعد أربعين مدة من الزمان فإننا نتحدث عن سيرته عن شأنه رضوان الله عليه وأن ما يقرأ من القصائد في مواسم الحسين عليه السلام فهو يعجز عن العد والحصر، فكيف أن هذا الخطيب المنبري الحسيني الشاعر الولائي يحصل على هذه الدرجات والحسنات بمقدار ما يُقرأ قصيده وشعره في كل مكان فإنه يحصل على ثواب الإبكاء للغير وذكر أئمة الهدى عليهم السلام وإحياء أمرهم.

لو أردنا أن نمثل ببعض الأمثلة التي توجد في كلمات وقصائد الملا عطية حتى ينبين بأنه ليس هناك ربط بين أن تكون اللهجة شعبية وبين أن تكون الصورة غير قوية أو الشعر غير قوي، فقد نجد من ينشئ الشعر بلهجة شعبية ودارجة ومع ذلك فإنه يحلق إلى درجة غريبة، فمما ينقله الشيخ عبد المحسن الجمري بن المرحوم ملا عطية وهو خطيب لامع ونافع في بلده وغير بلده فيقول بأنه ذات مرة اجتمع مع الحجة آية الله الشيخ حسين العمران أحد علماء القطيف المشهورين فقال له أن والده الملا عطية الجمري قد التفت إلى شيء لم يلتفت إليه سائر الشعراء في الفصحى وهو أنه صور ظهر الجواد على أنه محل عبادة وهذه لفته عرفانية لم نرها في سائر الشعراء، في إشارة إلى قصيدته المعروفة التي يبدؤها رحمة الله عليه عن الحسين عليه السلام وشجاعته:

صول أبو سكنة وحيد ورج الأكوان      والخيل وأهل الخيل فرت من الميدان

يومي لها بمهنده وتخر الصفوف          فوق الترب وفراشها زانات وسيوف

إلى أن يقول فيما بعد:

وعرج على طور المهر لله يناجيه         يا رب أنا للشرع والناموس قربان

دين العلا لازم أجاهد في علاجه           واداركه واعدل بكل صورة اعوجاجه

يا رب أنا مالي بعد بالعمر حاجة           واترك الأمة جاهلية وتعبد أوثان

جاه النداء يحسين أنا ربك وأناجيك         عن الشهادة بالحشر ملزوم أجازيك

يوم القيامة تلتقط هبهب أعاديك             واللي يواليكم يفوز بحور وجنان

فكما أن نبي الله موسى عليه السلم اتخذ من طور سيناء محلاً للعروج إلى الله عز وجل ومناجاته فإن الحسين عليه السلام اتخذ من ظهر جواده طوراً للمناداة، فهذه الصورة لم نرها بالفعل في شعر الفصحى بالمقدار الذي يقرأ، ولعل هناك بعض الشعراء أشار إليها ولكنها لم تصل إلى الوسط العام، فهذه الصورة العرفانية الروحانية القوية التي بها معنى أيضاً بأنه أنا يا رب أريد أن أكون شهيد في سبيلك وروحي فداء لهذا الدين وكأنما يعقد حوار بينه وبين خالقه، فهذه صورة استثنائية قليل من يلتفت إليها.

ومما ذكره في قضية الزهراء عليها السلام من المقارنة بين الحالتين:

لو تلحظ بعينك ثبير تزلزل وذاب            وقبال عينك يعصروني بصاير الباب

أي أن هذه العين من قوتها وأثرها تزلزل ذلك الجبل الذي هو ثبير وأن نفس هذه العين تلاحظ بأنهم يعصروني خلف الباب.


مرات العرض: 3382
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 52361.06 KB
تشغيل:

السيد مهدي الأعرجي وشعره الرثائي
لماذا كان الامام الرضا عالم آل محمد