دعبل الخزاعي وقصيدة مدارس آيات .
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 28/1/1443 هـ
تعريف:

دعبل الخزاعي وقصيدة مدارس آيات

كتابة الفاضلة رائدة


ومـنزل وحـى مقـفــر العرصــــــات        مدارس آيـــاتٍ  خلـت مـن تـــــــلاوةٍ

وبالـرُّكـن والتعـريف و الجمــــرات        لآل رسـول اللـه بالخيــــف  من منى

وحمـزة والسـجــاد ذي الثفنــــــات        ديـــارُ عـلــي والـحسيـــن وجعفـــــرٍ

نجـيّ رسـول اللـه فـي الخلـــــواتِ        ديـــارٌ لعبـد اللـه والفـضــل تلــــــوه

مـن اللـه بالـتسليـــم والـرّحمــــات        منـازل جبرآئيــــل الأميـن يـزورهـــا

ولـم تـعـف  بـالأيـــــام والسنــواتِ        ديـــارُ عفـــا هـاجــور كــل منـابـــــذٍ

متـى عهدهـا بالصـوم والصلــواتِ        قفـــا نسـأل الـدار التـي خـفّ اهلهـــا

افانيـن  فـي الاطـراف مـنقبضــات        وايـن الآلـي شطـت بهم غربة النوى

واخــرى بفخ نالهـــــــا صلواتـــي        قبــور بكوفـــــان واخـرى بطيـــــــبة

وقبر ببا خمرى لدى الغربــــــــات        واخـرى بأرض الجوزجــــان محلهــا

تضمنها الرحمــــن في الغرفـــــات         وقبــــر ببغداد لنفــــــس زكيـــــــــــة

ألحت على الاحشـــــاء بالزفـــرات        وقبـر بطوس يــا لها مــن مصيـــــبة

معرسهــــــم منهــــا بشط فــــرات        قبــور ببطن النهر من جنب كربـــــلا

فقد حل فيــــه الأمــــن بالبركــــات        سقـى الله قبــــرا بالمدينـــــة غيثــــه

وقد مـــات عطشانا بشط فــــــرات         أفاطـــم لــو خلت الحسيــــــــن مجدلا

وأجريت دمع العيــــن في الوجنات        إذا للطـــمت الخد فاطـــــــــم عنـــــده

نجــــــوم سماوات بأرض فـــــلات        أفاطـــم قومي يا ابنة الخيــــر واندبي

دعبل الخزاعي

حديثنا يدور حول شاعر أهل البيت عليهم السلام دعبل ابن علي الخزاعي رضوان الله تعالى عليه وقد تيمنا بذكر قصيدته المعروفة مدارس آيات.

لانزال في حديثنا حيث نشير إلى هذه الثلة والكوكبة من المجاهدين الرساليين المدافعين عن منهج آل محمد صلى الله عليه وآله ويهمنا التعريف بهم لأن هناك من يعرف بهم على غير وجهتم الحقيقية.

فمثلاً عندما ترى فيما يكتبه غير اتباع أهل البيت عليهم السلام عن دعبل الخزاعي، تراه مع اقرارهم الواضح بشاعريته الفذة، إلا أنهم يحملونه على شعر الهجاء أي أنه، بمعنى أنه شخص شتام فقط، أي يتصيد له أي أحدٍ ليشتمه، وهذا فيه تزييف واضح لشخصيته.

فعندما يُقدم دعبل الخزاعي للقارئ المسلم والمثقف العربي باعتبار أنه شاعر من الشعراء الفحول لكنه شاعر هجاء يسب هذا ويهجو ذاك، فنراهم يذكرون أنه هجا هارون الرشيد والمأمون والمعتصم وغيرهم ممن يراهم أنهم أعداء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغاصبي حقهم ، اذن هل من يقوم بمثل ما قام به يعتبر هجاء أو أنه صاحب فكر وموقف معين.

وبعضهم يذكر القصائد التي قتلت أصحابها، أي كأنما أحدهم بغير حكمة وبغير تبصر قال قصيدة وكانت سبب في مقتله.

حين ترى ذلك فهنا كأنما هذا الشخص أراد أن يمنع جانب القدوة في هذا الشخص وأمثاله ويريد أن يرفع هذا الشخص أي دعبل عن مرتبته ومكانته العالية بأنه كان شديداً في سبيل أهل البيت.

دعبل كان شديدا في مواقفه وهو القائل:

(أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد أحداً يصلبني عليها)!!

أي إني صاحب مواقف وانتماء، وأعلم ما يكلفني هذا، وهولي من وليد اليوم، لقد قررت أن أكون مع اهل البيت وضد اعدائهم، وأعلم انه قد يسبب لي القتل ومع ذلك فأنا مصمم عليه.

هذا يبين لنا كيف كانت حياة هؤلاء الأعاظم فنتخذهم قدوة من جهة.

ومن جهة أخرى حتى يتبين لنا أن هذا المذهب وهذا المنهج لم يأتي لنا عبثاً، ولكن كان ورائه سيل من التضحيات وسيل من الدموع، وثقافة وشعر وكتاب وخطاب، لم يصلنا هكذا بصورة سهله.

    فلنكن مع هذا الشاعر الكبير من أول حياته الى حين يختمها.

    فمن هو دعبل الخزاعي وكيف عاش وكيف كان شعره؟ 

    اسمه ونسبه وحياته:

في البداية نأتي على معنى اسمه دعبل:

في اللغة: الدِّعْبِل: الناقة الشديدة، وقيل الشارف.

ودِعْبِل: اسم يقال للناقة إِذا كانت فَتِيَّة شابة: هي القِرْطاس والدِّيباج والدِّعْبِلة والدِّعْبِل والعَيْطَمُوس.

دعبل تأتي بمعنى الناقة الشديدة القادرة على التحمل، يقال الناقة الدعبل أي القوية المتحملة للسير التي لا تتعب.

وفي القديم كانوا يلاحظون مناسبة بين الاسم والمسمى، فمثلا كلمة عباس معناها ليس العابس طول وقته المقابل للمبتسم، انما معناه واصله الأسد، فعباس هو أحد أسماء الأسد، فمرة يقال عباس ومرة الغضنفر، ومرة حيدر، وكلها معنىً واحد وهو الأسد الذي يفيد الشجاعة.

ينتمي الى قبيلة خزاعة وهي من القبائل التي لها توفيق عجيب في معرفة الحق والدفاع عنه ، ويعود الشاعر إلى بيت رزين وهو بيت علم وأدب وسؤدد، حيث نشأ في بيت ضجّ فيه العلم والأدب وشرف الله عزوجل هذا البيت بشرفٍ عظيمٍ عندما كرّمه بشهداءٍ خمسة على رأسهم الشهيد عبد الله بن ورقاء، الذي كان مع إخوانه رُسلًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى منطقة اليمن.

دعبل كما ذكرنا من بني خزاعة ابوه اسمه علي بن رزين بن ربيعة الخزاعي ، وقبيلة خزاعة لها تاريخ قديم كانت قبل ان تؤمن الجزيرة العربية ، ومكة لاتزال لم تفتح ، وكان هناك صلح الحديبية بين رسول الله وبين قريش ومن جملة بنود الصلح أن أي قبيلة تريد التحالف مع قريش بإمكانها ذلك ولا أحد يمنعها وأي قبيلة تريد التحالف مع رسول الله أيضا بإمكانها ذلك ولا أحد يمنعها ، فسارعت قبيلة خزاعة للتحالف مع رسول الله على الرغم انه في ذلك الوقت لم يكن مسيطراً لا على الطائف ولا مكة ولا الجزيرة العربية حتى في المدينة، وللأن خزاعة لم تسلم ، ولكن رأت أن في التحالف مع رسول الله حلف انتفاع وتجديد لحلفهم القديم مع جده عبدالمطلب ،هم يدافعون عنه وهو يدافع عنهم فهو الأقرب اليها من قريش ، وهذا الاختيار يبين ان هذه القبيلة كانت لديها بصيرة حتى وهم في جاهليتهم وقبل اسلامهم، والا فكل الظروف في ذلك الوقت تلمح الى التعاون مع الأقرب والاقوى وهم قريش .

نأتي الى زمان ما بعد الإسلام، القبيلة التي ضحت والتصقت بأمير المؤمنين التصاقاً كبيراً وكان فيهم ابطال مدافعون عنه عليه السلام كانت خزاعة، ولهم أدوار في حروب الإمام الثلاثة إلى درجة ان معاوية ابن ابي سفيان كان يقول: (ان نساء خزاعة لو سمح لها ان تقاتل لقاتلتني) وهذه شهادة مهمة جداً تبين فيها كيف أنهم كقبيلة عندهم تمسك بأمير المؤمنين عليه السلام أكثر من غيرهم.

ولذلك نجد أنه لما رجع عمر ابن سعد وجاء بالسبايا من الكوفة وأخد ذكره يصعد عند الأمويين باعتبار انه انجز مهمة قتل الحسين عليه السلام واهل بيته، فأخد يمجد هذا الإنجاز، فما الذي صنعته نساء خزاعة وهمدان وهما قبيلتان يمنيتان في الأصل؟! 

كانتا في كل يوم يذهبون إلى بيت عمر ابن سعد وعند بابه كل يوم يقيمون مأتم الحسين عليه السلام، هذه التي تنوح، وتلك التي تعدد، وهذه التي تندب، وتلك التي تبكي، حتى يجتمع الناس ويستخبرون ما الخطب؟! فيعلمون ان كل هذه الجريمة كان هو ورائها وبسبب هذا نحن جالسون عند باب منزله ليعلم الناس ماذا صنع، حتى ضاق بهم ذرعاً وأصبح كارهاً أن يبات في منزله ونزل ضيفاً في قصر الإمارة، فحتى بعد مجيء السبايا الى الكوفة كانت لهذه القبيلة دورها في إظهار مظلومية الامام الحسين عليه السلام ونسائه.

من هذه القبيلة جاء دعبل الخزاعي رضوان الله تعالى عليه.

 لقد عَمر دعبل عمراً طويلاً، حوالي قرن من الزمان إلا ثلاث سنوات فكانت ولادته في الكوفة سنة شهادة الامام الصادق عليه السلام 148هـ ، وشهادته لأنه قتل على الولاية كانت سنة 246هـ ايام الامام الهادي عليه السلام اغتيالاً من أطراف السلطة العباسية، وكان من أصحاب الإمام الكاظم والإمام الرضا ، وأدرك الإمام الجواد عليهم السلام  أيضاً، وقد عد من أشهر شعراء الشيعة في القرن الثاني و الثالث.

حوالي 97 سنة من الزمان أنفقها في الدفاع عن أهل البيت عليهم السلام، وفي اتجاه الهجوم على اعدائهم، كلها كانت في زمان العباسيين حين برز كشاعر مهم، فحاولت السلطة العباسية ان تستميله لجانبهم بإغرائه بالأموال والحظوة، ولكنه بالعكس لم يستجب لهم.

فهارون العباسي الذي حاول استمالت دعبل الخزاعي، أرسل له دعبل قصائد ناقدة وساخنة شيئاً غير قليل منها ما ذكره بعد موت هارون في قصيدته المعروفة:

ولا أرى لبني العبــــاس منْ عـــــذرِ        أرى أميـــة َمعذوريـــنَ إنْ قتلـــــــوا 

الى ان يقول:

وقبــــر شرهــم هذا مــن العبـــــــــر        قبــران فـــي طوس خير الناس كلّهم

على الزكـي بقرب الرجس مـن ضرر        مـا ينفع الرجس من قرب الزكي وما

لــه يــــــداه فخذ مـا شئت أو فـــــذر        هيهـــــــات كل امرئ رهن بما كسبت

هنا نجد دعبل وقد سلط الضوء على ما حدث حين توفى هارون الرشيد ودفن مجاوراً للإمام الرضا عليه السلام، فبين أنه حتى ولو كان متجاوراً في البقعة التي دفنا فيها الرضا الزكي فهو رجس وكيف ينتفع الرجس بمجاورة الزكي أي الرضا! ولن يضر الرضا مجاورته، فكل انسان يحاسب بما جناه لا بمن جاوره يميناً أو يساراً أو من دفن معه بل يحاسب على عمله.

هنا يختلف حسب ما ذكره هؤلاء الكتاب عن أن دعبل الخزاعي هجاءاً أي عمله ان يهجوا الاخرين، بل هو صاحب موقف، يرى ان بني العباس قد ارتكبوا من المظالم والمآثم الشيء الكثير، ويتعرض لهؤلاء الزعماء الذين ارتكبوا هذه المظالم ولم يكن له اشكال مع عامة الناس. 

الانسان الهجاء كالحطيئة مثلاً، كان أي شخص بإمكانه ان يهجيه، حتى قيل انه هجا اباه وأمه وزوجته، حتى انه هجا نفسه عندما لم يجد من يهجوه، فمثلا لو لم يعطه أحد المال فانه يقوم بهجائه او تضايق من شخص فيهجوه بدون سبب فقيل انه في إحدى الصباحات أرد الخروج ولم يجد أحد ليهجوه فنظر في المرآة وقال:

بشر فمـا أدري لمن أنا قائلهْ         أبت شفتاي اليــــوم إلا تكلما 

فقبِّحَ مـــن وجه وقبِّح حامِلُهْ        أرى لي وجها شوّه اللّه خلْقهُ 

هذا يقال له هجاء، وليس بصحيح أن يقال لصاحب موقف مبني على مبدأ أو على دين، ولكن دعبل اختار هؤلاء الذين كانوا سبباً في مظالم أهل البيت عليهم السلام، مثلا ًهارون و المأمون في العصر العباسي، الذي أظهر جلداً ناعماً وأظهر مظهراً حسناً وان كان يدبر في الخفاء ما تعلمه من أبيه هارون الذي قال (ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك فإن الملك عقيم) ، وطبق بالفعل ذلك حين تنازع مع أخيه محمد الأمين الملك فقتله  ولم يبقه ولو ظفر به الأمين لقتله أيضاً، فالقضية هنا شخصية أي أيهما سيكون هو الحاكم ، فحتى هذا كان يقول لهم بصراحة :

قَتَلتْ أَخـــاكَ وشَرَّفتْكَ بمَقْعَدِ        إنّي من القومِ الذينَ سيوفهمْ

حيث قائد الجيش من خزاعة عبد الله بن طاهر الخزاعي هو قائد جيوش المأمون الذي غلب الأمين، أي انتبه فنحن لسنا بأقل ممن هم عندك.

وحتى ان المعتصم وهو اسواء الثلاثة حيث كان امياً عكس المأمون الذي كان لديه شيء من العلم والمعرفة بينما هذا المعتصم كان امياً وشخصيته عسكرية جافة وشرسة.

وينقل ان والده هارون ادخله الكتاب في صغره وبعد ستة أشهر خرج وهو أجهل مما دخل فحسب التعبير الدارج إن كان حافظاً لكلمتين قبل دخوله الكتاب فهو حين خرج كان قد نسيها.

وينقل ذات مرة ان أحدهم كان معه في الكتاب فسأله والده هارون ماذا فعل فلان زميلك في الدرس؟

ويظهر ان ذلك التلميذ قد أصابه مرض فمات، فقال: لقد مات واستراح من الكتاب، فقال له لهذه الدرجة تفضل الموت على الذهاب للكتاب اذن اجلس مكانك ولن تذهب له بعدها.

فبالإضافة لذلك كانت نشأته عسكرية قاسية وهذا ما رأيناه مع حاله والأئمة عليهم السلام، كان سيئاً جداً، شراسة مع جهل، فنرى دعبل الخزاعي يقول: 

ولـــم تأتنا عن ثامــنٍ لهـــمُ كُتْــبُ         ملوكُ بني العباس في الكُتْب سبعةٌ

خيـارٌ إذا عُدّوا وثامنهـــــــم كلــبُ         كذلك أهل الكهف في الكهف سبعةٌ

لأنــك ذو ذنبٍ وليـــسَ لــــــه ذنبُ        وإنـي لأعلـــي كلبهـــم عنك رفعـةً 

فالرجل صاحب موقف لا تجده هجاء بلا سبب وليس معه مع عامة الناس أي موقف يدعوه لهجائهم انما هو القائل: إني احمل خشبتي منذ خمسين عاماً لا أجد من يصلبني عليها، كأنما هو مثلما عند المسيحيين في بعض الأعياد انه ليتحسس ألم وحزان المسيح، فيجعلون على ظهورهم الصلبان لأنهم يقولون انه عندما أراد اليهود صلب المسيح جعلوه يحمل الصليب حتى وصلوا به الى المكان الذي أرادوا صلبه فيه، طبعاً هذه الروايات لا نعتقد بها لأن أساسا قضية الصلب لم تحدث لعيسى المسيح كما ذكر لنا القرآن ذلك: 

(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ)                   النساء 157

هذا كان ضمن ثقافتهم، فأتخذ هذا كنوع من الاستعداد للشهادة كما كان هذا النوع عند المسيحيين أو كما كانوا يصلبون على النخل وهو على كل حال تعبير كنائيٌ عن التعبير بأنه على استعداد بالتضحية بنفسه وأنه يفهم أن هذه المواقف التي يتخذها من أهل البيت عليهم السلام بأنها تحمله أثماناً غاليه، وأنه على استعداد أن يدفعها في سبيل أهل البيت عليهم السلام. 

في الطرف المقابل وجدنا أن في كلامه وقصائده التي تفيض بالرقة والحزن على مصارع آل محمد لذلك في قصيدته التي يقول فيها:

و آل أحمــد مظلومــــون قد قُهـروا        لا أضحك الله سن الدهر إن ضحكت

كأنهـــــم قد جنـوا ما ليــس يُغتفــر        مشردون قد نفـــو عـن عقر دارهم

وغيرها من القصائد التي تطفح بالاسى والحزن وأشهر قصائده التي كانت مدارس آيات:

ومـنزل وحـى مقـفــر العرصــــــات        مدارس آيـــاتٍ  خلـت مـن تـــــــلاوةٍ

وبالـرُّكـن والتعـريف و الجمــــرات        لآل رسـول اللـه بالخيــــف  من منى

وينزل في هذه القصيدة التي بلغ عدد ابياتها 120 بيتاً من غرر الشعر وقممه وهذا التقييم ليس عند الإمامية بل عند غيرهم أيضاً.

فقصيدة دعبل دُرِست كثيراً من عند غير الشيعة، نعم بعضهم ارتأى ان يستثني بعض الأبيات الساخنة فيزيلها منها، ولكن بشكل عام يجمع النقاد على أن هذه القصيدة تعد من أقوى القصائد مضموناً، ومن أبلغها أسلوباً وشاعريةً مما ورد فيها ونقله شيخنا الصدوق في كتابه عيون أخبار الرضا.

الشيخ الصدوق من علمائنا المحدثين الكبار متوفى سنة 381هــ وهو أحد المشايخ الثلاثة الذين ألفوا الكتب الأربعة التي يعتمد عليها في الاستدلال عندنا الكافي للكليني والتهذيب والاستبصار للطوسي ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق. 

الشيخ الصدوق عنده كتب كثير إضافة لهذا ولكن أعظمها كان من لا يحضره الفقيه، وبعدها عيون أخبار الرضا ومطبوع في بعضها مجلدين كبيرين وهو يتناول سير المعصومين وقضاياهم ومالم يذكر في الكتب الفقهية يذكره هنا.

ففي هذا الكتاب بسند معتبر يذكر قصة وفود دعبل على الإمام الرضا وانشاده لهذه القصيدة أمامه، ويفترض أنها حصلت بعد ولاية عهد الإمام الرضا عليه السلام لأنه يقول إنه كان في خراسان وكان بحدود 200 للهجرة وبعدها بثلاث سنوات استشهد الإمام الرضا بسم المأمون، في هذه الحادثة جاء دعبل وقال للإمام إني قلت فيكم شعراً ولم انشده أحداً قبلك، فقال انشدني ذلك يا دعبل فأنشده، 120 بيت وتعتبر قصيدة طويلة.

وإذا اطال الانسان في الشعر غالباً تقل طلاقته وتقل جهات الإبداع عنده، ولكن في هذه القصيدة نحن نراه على مستوى واحد في الإبداع وكأنه قماشة واحده من حيث البلاغة والفصاحة والمعنى. 

    نلحظ هنا أكثر من ملحوظة نشير الى بعضها حسبما يسعنا من الوقت: 

1.    ما هو معروف لديكم وعادة تذكر في أيام الرضا عليه السلام وأيام شهادته أن دعبلاً حين وصل إلى هذه الأبيات إلى قوله:

تضمنها الرحمــــن في الغرفـــــات         وقبــــر ببغداد لنفــــــس زكيـــــــــــة

إلى ذلك الوقت الإمام الجواد لم يستشهد لذا كان القبر الذي ببغداد هو قبر الإمام الكاظم عليه السلام وفيما بعد كان الكاظمين أو الجوادين ولكن إلى حين انشاد القصيدة لم يكن هناك سوى قبر الكاظم فقال له الامام عليه السلام، ألا ألحق لك ببيتين بكون بها تمام القصيدة فقلت: بلى يا بن رسول الله... فقال:

ألحت على الاحشـــــاء بالزفـــرات        وقبـر بطوس يــا لها مــن مصيـــــبة

 يفـــــرج عنــا الهــــم والكربــــات        إلــى الحشـــــر حتى يبعث الله قائمـــاً

فقلت: يا بن رسول الله، هذا القبر الذي بطوس قبر من هو؟! فقال: 

قبري ولا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزواري، ألا فمن زارني في غربتي كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له.

ثم أكمل إلى أن قال:

لقطـع قلبي إثرهــم حسراتـــي        فلولا الذي أرجوه في اليوم أوغـدٍ

يقوم على اســـم الله والبركات        خــــروج إمــــــام لا محالة خارج

ويجزي على النعماء والنقمات        يميــــــز فينا كــل حــــق وباطـــل 

أي لو لم يكن عندي اعتقاداً وايماناً بأن قائماً مهدياً سيظهر ويجزي على النعمة والنقمة ويفصل بين الحق والباطل لكنت اتقطع من الإحباط واليأس.

وهذه فكرة صحيحة وهي ان ما صبر شيعة أهل البيت عليهم السلام هذه السنوات الطويلة من المعاناة والألم والاضطهاد حتى أصبحوا معجونين بها في كل عهودهم، وهو الشيء الوحيد الذي يجعلهم صابرون محتسبون، ويثبتوا ويستديموا هو اعتقادهم ان المستقبل لهم وان الامام الحجة عجل الله له الفرج بأنه سيظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

وهذا يفتح لنا باب قضية الاعتقاد بالمهدي ودوره وانه يأتي في اخر الزمان، وأنها معروفة عند الشيعة الامامية وأنها كانت موجودة قبل ولادة الامام الحجة عليه السلام.

هنا حسب هذه الرواية سأل الإمام الرضا دعبل او تعرف من هذا الامام؟ قال: بلى، سمعت آبائك يذكرونه انه يأتي في اخر الزمان وانه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فبين لي.

فبداء الامام الرضا يبين له خصائص ومناقب الامام عجل الله له فرجه الشريف وانه كيف يأتي؟ وكيف يظهر؟ وماهي صفاته وما شابه ذلك، وهي كما جاء في عيون اخبار الرضا فقال له عندها دعبل: متى يكون ذلك؟ 

عيون أخبار الرضا (ع): عن الهروي قال: سمعت دعبل ابن علي الخزاعي يقول: أنشدت مولاي علي بن موسى الرضا عليه السلام قصيدتي التي أولها:

مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات فلما انتهيت إلى قولي:

خروج إمام لا محالة خارج * يقوم على اسم الله والبركات يميز فينا كل حق وباطل * ويجزي على النعماء والنقمات بكى الرضا عليه السلام بكاء شديدا ثم رفع رأسه إلي فقال لي: يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الامام؟ ومتى يقوم؟

فقلت: لا يا مولاي، إلا أني سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملأها عدلا، فقال: يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملاها عدلا كما ملئت جورا، وأما متى؟ فإخبار عن الوقت، ولقد حدثني أبي عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم الصلاة والسلام أن النبي صلى الله عليه وآله قيل له يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال: مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة  

عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٦٥ و٢٦٦ والآية في الأعراف: ١٨٧.

فمن يأتي بعد ذلك ليقول ان الشيعة انما ابتكروا ذلك ليوهموا أنفسهم وليملؤوا جانبهم القيادي فكلامهم غير صحيح، فهو إما لم يراجع التاريخ ولم يدرس الوقائع او متعمد لتزييف الحقائق، وليرجعوا للروايات فيجدوا انها مذكورة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله حين سؤل عنه.

فنجد الإمام يقول: سُؤل رسول الله فأجاب انما مثله كمثل الساعة لا يجليها لوقته الا هو.

أي قضيته غير معلومة كما الساعة غير معلوم توقيتها فظهوره كذلك، وقدر ذكرنا ذلك في بعض المحاضرات ماهي الاثار الإيجابية لإخفاء ظهور الإمام وانه لو تم الإخبار عنه لكانت أكثر الاثار تحولت لأمور سلبيه. 

وهذه اهم الاثار التي ذكرها دعبل في قصيدته تلك والتعريج على قضية واقعه كربلاء والنداء لفاطمة صلوات الله وسلامه عليها والتعزية لها وهي صاحبة العزاء سلام الله عليها.

وقد وقعت هذه القصيدة موضع للشرح وللتخميس أي تذكر 3 اشطر على وزن الشطر الأول من البيت فمثلاً أن يأتي ويقول:

أيـا زائــرا إن جئت طيبة مقبــــلاً

فعرّج على مكسورة الضلع معولا

حدث بمـــا مضّ الفــــؤاد مفصّلا

أفاطــــم لو خلت الحســين مجدّلا

وقد مـــات عطشانا بشط فـــراتِ

هنا أفاطم لو خلت الحسين مجدّلا هذا هو أصل البيت الشعري ولكن يأتي شاعر اخر فيضيف اشطر ثلاثة على نفس القافية وجليها بهذه التجلية. 

فالذي خمس ذلك البيت كأنما يفترض زائراً يزور فاطمة الزهراء فقول للزائر عندما تذهب لطيبة وتزور المدينة أولا عرج على فاطمة يا أيها الشاعر ومن اين لنا ان نعرف ان هو قبرها؟! بابي المخفي قبرها المعلن ظلمها، فلا نعرف طريقا لقبرها، فكيف نعرج عليه ولكننا نزورها في أي مكان نكون فيه، عند قبر ابيها او البقيع.

رحمك الله يا دعبل اجدت الوصف والتعبير عن قضايا كانت ولاتزال محور العقيدة ودافعت عن آل بيت رسول الله ولم تخف فيهم لومة لائم، ولا نقول الا كما قال مولانا الرّضا (عليه السلام): حين انشدته:

وإنّي لأرجو الأمن بعد وفـاتي         قد خفت في الدّنيا وأيّام سعيها 

فقال: آمنك الله يوم الفزع الأكبر.

جعلنا الله واياكم منهم.


مرات العرض: 4180
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 50032.85 KB
تشغيل:

شاعر الحسين والعقيدة الكميت الأسدي
حياة الشريف الرضي وشعره في الإمام الحسين ع