أنت كهفي حين تعييني المذاهب 17
تحرير الأخت الفاضلة تراتيل
مما جاء في فقرات دعاء الامام الحسين عليه السلام في يوم عرفة والذي قلنا مرارا بانه لا يختص في قراءته بذلك اليوم وانما لعلو معانيه وعمق محتواه ينبغي للمؤمن ان يقرأه في فترات ولو استطاع ان يحفظ بعض مقاطعه فهذا امر طيب
مما جاء في احد مقاطع ذلك الدعاء ( أنت كهفي حين تعييني المذاهب في سعتها وتضيق بي الأرض برحبها ولولا رحمتك لكنت من الهالكين , وانت مقيل عثرتي و لولا سترك ايايَ لَكُنْتُ مِنَ الْمَفْضُوحينَ , وانت مُؤَيِّدي بِالنَّصْرِ عَلى اَعْدائي وَلَوْلا نَصْرُكَ اِيّايَ لكنت من المغلوبين ، يا مَنْ خَصَّ نَفْسَهُ بالسمو وَالرِّفْعَةِ، فأولياؤه بِعِزِّهِ يَتَعَزَّزُونَ، وَيا مَنْ جعلت لَهُ الْمُلُوكِ نيرَ الْمَذَلَّةِ عَلى اَعْناقِهِمْ، فَهُمْ مِنْ سَطَواتِهِ خائِفُونَ , يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور وغيب ما تأتي به الدهور ) صدق سيدنا ومولانا أبو عبدالله الحسين في ندائه ومناجاته لربه
يقول : انت كهفي حين تعييني المذاهب في سعتها وتضيق بي الأرض برحبها : أي بالرغم من ان المسالك والدروب والطرقات واسعة موجوده امام الانسان الا انه قد تضيق عليه هذه المسالك و الدروب حين يضيق به الرزق , فما نفع رحب الأرض ووسع جغرافيتها وهو لا يجد لنفسه قوتا ولا لأولاده ملبسا ولا يجد سقفا ينام تحته ؟ , و ما نفع هذه السعه عندما يحاصر الانسان بالمرض فلا يستطيع الحركة و الانتقال من مكان الى مكان ولا التمتع بطيباتها ؟
نحن نعيش في زمن عرفنا فيه ضيق الدروب والمسالك على الانسان بأصغر شيء , ان فيروسا واحد بلغ من الصغر غايته هو اصغر من الميكروب ومع ذلك يحاصر العالم بالتدريج فيجب ان يبقى الانسان في بيته وبالتدريج يترك عمله وتجارته وبالتدريج تتوقف الحركة , ماذا ينفع اذا كانت الأرض واسعة ولكن الانسان لا يستطيع ان يتحرك فيها ؟
هنا تعجز الوسائل و قدرات الانسان لا تقوم امام هذه فيكون الملجأ الحقيقي والكهف المنجي هو الله سبحانه وتعالى , فالدروب الواسعة هي بالنسبة لي مصدر اتعاب , مصدر الحماية والملجى والراحة هو انت يا رب ولو رحمتك اياي لكنت من الهالكين , لولا ان الله يدفع عنا لما قدرنا على دفع الضر عن انفسنا .
ما يحصل هذه الأيام هي اشبه بالمناورة حتى يكتشف الانسان حجمة الطبيعي وقدراته فكيف اذا كان المطلوب ان يواجه اكبر من ذلك , فانت أيها الانسان لا تستطيع مواجهة فيروس صغير ثم تأتي تتبجح و تعارض الله وتقول انا اخالف الله واعارض الله واكفر به فانت لا تستطيع ان تقف امام فيروس يأتي يدخل الى بدنك على غير استاذان ويفتك بك فتكا ذريعا و لم يُعْلم انه ا قوى الفيروسات . و الله لم يرد ان يهلك الناس وينتقم من الناس فكيف لو أراد اهلاك البشر , لو أراد الله ذلك حينئذ تكفي نفخة او صعقة واحد من جنوده و عبيدة او ملائكته فلا يبقى انسان ولا حيوان ولا حشرة ولا كائن مجري الا وقد خمد في مكانه .اللهم انا نسألك رحمتك الواسعة في الدنيا و الآخرة
الرحمة التي يحتاجها الانسان هي رحمة الله عز وجل . الانسان يحتاج الى رحمات كثيرة مشتقة من رحمة الله , فلولا رحمة امه به لما بقى على قيد الحياة و لولا رحمة ابيه به لما بقى على قيد الحياة أيضا بعد رحمة الراحمين له وهذا كله رشح بسيط ورائحة خفيفة من رحمة واحده هي جزء من مائة رحمة جعلها الله بين الخلائق . اما التسعة والتسعون جزء الباقيين فقد اذخرها في يوم القيامة
قال تعالى﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون.﴾سورة الأعراف آية .156
اللهم فلتسعنا رحمتك . لم يكتفي القران الكريم بان بلغ انبياء الله ورسله عن رحمته . قال تعالى ﴿ فإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ سورة الانعاام آية . 147 ولم يكتفي بمقالة الصالحين من عبادة - جعلنا الله واياكم منه - عندما قالوا ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ غافر آية 7 ولم يكتفى بالإخبار عن ذلك عندما قيل ﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ الأعراف 56 ليست فقط واسعة بل قريبة التناول لمن يستحقها , فوق كل ذلك واهم هو الله الصادق الذي لا يخلف الميعاد قال ﴿ و رحمتي وسعت كل شيء ﴾ الأعراف 156 هذا مزيد من التأكيدات والتوثيقات توجت من الله عن رحمته الواسعة لذلك عندما قال فيما نقل الحسن البصري وهو احد التابعين و ممن يعد من كبار مدرسة الخلفاء وكان ذا توجه اقرب الى التصوف كما يظهر من كثير من كلماته حيث كان يقول : العجب كل العجب كيف نجى من نجى !, هو يتصور بما ان حقوق الله علينا عظيمة و اعمال الناس بالقياس الى تلك الحقوق ضئيلة وبسيطة فان من الطبيعي ان لا ينجو الا القليل , فلما وصل هذا الكلام الى سيدنا ومولانا سيد العابدين عليه السلام رد عليه وقال: " العجب كيف العجب من هلك مع سعة رحمة الله عز وجل" لو أراد الله ان يثيبنا على قدر طاعتنا ويعاقبنا على قدر معصيتنا لهلك الناس لكن الله اخذ على نفسه الرحمة ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ الانعام 54 , واذا كانت رحمة الله مكتوبة منه عليه سبحانه وتعالى وكانت قريبة من المحسنين وكانت واسعة لكل شيء ولكل احد فعند ذلك من يهلك في ذلك الوقت لأنه اما ان تكون الرحمة محدودة فتشمل قسم وتستثني قسم اخر والحال انها غير محدودة فهي وسعت كل شيء , واما ان يكون ربنا بخيلا برحمته, فلماذا كتبها على نفسه!؟ , واما ان تكون صعبة التناول والحصول عليها والحال انه اخبر انها قريبة من عبادة .اللهم انا نسالك رحمتك وما يقربنا منها . ورد في الاخبار اذا نادى الانسان ربه يا ارحم الراحمين سبع مرات ناداه الرحمن الرحيم " عبدي سلني حاجتك " اللهم انا نسالك الجنة والعياذ من النار لنا ولآبائنا وامهاتنا ولأبنائنا و ارحامنا وللمؤمنين
وانت مقيل عثرتي ولولا سترك اياي لكنت من المفضوحين : تعثر قدما الانسان في هذه الحياة يرتكب ذنبا من هنا وذنبا من هناك يقصر في حق نفسه ويظلمها بارتكاب المعصية حين يصغى قلبه لنداء الشيطان. فلو كان النظام مثلا ان من يقصر يشهر به ويعلن ذنبه على الملأ لو كان هكذا لما بقى مكانة ولا شخصية و لا وجاهة لاحد لأنه ما من احد منا الا مذنب ومقصر .فاذا علمنا بتقصير الافراد فهل سيكون احترامي لهم بنفس مقدار احترامي للمطيع الغير مقصر ؟؟؟ كلا . لو علمت ان إمام الجماعة مقصر في امر ما او ان الشيخ الذي استمع اليه مقصر فهل سيؤثر مواعظة فيّ لاحقا ؟ كلا . لو علمت ان ربّ الاسرة عمل كذا او كذا فهل سيكون الحال على حاله ؟ كلا , من لطف الله عز وجل انه سترنا ولولا سترك اياي لكنت من المفضوحين فاذا صرت من المفضوحين اختل النظام الاجتماعي لذلك يستحب للإنسان ان يستر على نفسه حتى في مواضع الحدود, فالحد ّالذي اذا أقيم تتنزل من البركات كذا وكذا كما ورد في الروايات نفس هذا الحد ليس من المطلوب منك ان تأتي وتفشيه على الاخرين
لذلك نحن نعتقد ان ما جاء به بعض المبتدعين من القساوسة من جلسات الاعتراف وطلب الغفران بحيث يأتي شخص ويعترف امام ا لقسيس انه عمل غير جائز من الناحية الشرعية, فلا يجوز للقسيس ان يطلب من الناس ذلك ولا يستحب للإنسان المذنب ان يفعل ذلك , اذا اردت ان تتخلص من ثقل الذنب الذي تحمله فقم في جوف الليل وخاطب ربك وقل :( اللهي انا المذنب انا الخاطئ انا الذي فعلت كذا ) كما ورد في احد فقرات دعاء الامام الحسين ( انا يا الهي المعترف بذنوبي فغفرها لي انا الذي تعمدت انا الذي اذنبت ) لذا استر على نفسك واستر على غيرك فالله ستير يحب الستر.
فتاة تزوجت تقول : لكي احصل على انسجام مع زوجي اريد الاعتراف له عما سبق , لا ينبغي عليها ذلك فليس من حق الزوج ان يطلب من زوجته ان تعترف له بملفاتها السابقة وليس من حق الزوجة أيضا ان تطلب من الزوج ذلك ولا الاب من ابنه ولا الابن من ابيه , لنصحح من اخطاءنا وهي على حالها من الستر فهي ادعى الى الانسجام الاجتماعي وادعى الى ان لا يكون اسير لهذا الذنوب امام الاخرين .
وانت مؤيدي بالنصر على اعدائي ولولا نصرك اياي لكنت من المغلوبين : لولا ان الله دفع عنا الأعداء نصرا كاملا في مواطن المواجهة وسلب قدراتهم و لولا ذلك لكنا من المغلوبين ونحن نلاحظ ذلك على مستوى تاريخ الامة والدولة الإسلامية فلولا ان الله دفع عنها اعدائها من اول يوم اعلن نبينا دولته حيث فوقت السهام واشرعت الحراب فلولا نصر الله الى يومنا هذا لكان الإسلام خبرا بعد ما كان عينا ووجود , ولكن الله دفع ونصر على مستوى الامة والافراد , فبقائك انت الى هذا الوقت هو بنصر من الله ولولا ان الله نصرك لكنت قد انتهيت
يامن خص نفسه بالسمو والرفعة : الله سبحانه هو صاحب الرفعة العالية والسمو الاسمى , اما غير الله سبحانه وتعالى فيحتاج الى عناوين ترفعه و تضخمه في حين ان الله سموه ذاتي ورفعته ذاتية وغيره به يرتفع ( اولياءه به يعتزون ) ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ المنافقون 8 . العزة في اصل معناها الصلابة والقوة و هذه تشير الى هذا المعنى أي لا تؤخذ من شي صلب شيء لا يستقل منه . ومن الواضح ان الله هو العزيز و رسوله كذلك و المؤمنين . البعض يتسأل كيف ان النبي والمؤمنين اعزاء بالرغم من انهم ظُلموا و قُتلوا وصُلِبوا و شُرّدِوا ؟
لقد اجابت بعض الروايات على جهة ونحن الان نشير اليها إشارة عابرة ( المؤمن اعز من الجبل - الشامخ في ارتفاعه والصلب في ذاته فالمؤمن اعز واقوى واصلب من الجبل -فان الجبل يستقل منه والمؤمن لا يستقل من ايمانه - الجبل قد تأتي الآلات فتزيل جزء منه ولكن المؤمن لا يمكن ان ينتقص من ايمانه ,فالفقر والسجن لا يقلل من ايمانه صحيح انه قد يجبر على قول بعض الأمور المخالفة لعقيدته لكن قلبه مطمئن بالإيمان وعقيدته ثابته وهذه هي العزة والصلابة والقوة ( فأولياءه بعزه يعتزون )
يا من جعلت له الملوك نير المذلة على اعناقهم : النير هو الخشبة التي توضع عادة على عنق الثور فيذل ويسحب المحراث وقد يستخدمها بعض الطغاة للتعذيب عندما توضع الجامعة في عنق الانسان او يربط الصليب على ظهر ورقبة و كتفي الانسان حتى يذل الانسان , هذا كله يسمى نير فالله جعل على رقاب الملوك والسلاطين نير المذلة - هم يعرفون انهم اذلاء في وجه الله عز وجل - فمن كان مؤمن منهم يسلم طواعية ويعرف انه مهما ارتقى فانه يسلّم لله القوي العزيز ومن لم يعترف بذلك امام الناس فهو فيما بينه وبين نفسه يعرف حجم قوته وحجم ذلته ويعرف ان ربه هو الأقوى فهم من سطواته خائفون يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور وغيب ما تأتي به الأزمنة والدهور
اللهم ارحمنا برحمتك وتولنا بعنايتك واستر علينا ذنوبنا بسترك انك على كل شيء قدير وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد و آله الطيبين الطاهرين
|