اجعلني أخشاك كأني أراك 11
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 3/8/1441 هـ
تعريف:

اجعلني أخشاك كأني أراك 11


تحرير الفاضلة أم سيد رضا


لا نزال في رحاب دعاء الإمام الحسين عليه السلام الذي قرأه في يوم عرفة والذي هو بمثابة سلم للوصول إلى معرفة الله عز وجل وإلى ترتيب علاقة سليمة بين العبد وبين خالقه ووصلنا إلى الفقرة التي ورد فيها أن الإمام الحين عليه السلام اندفع في المسألة واجتهد في الدعاء وقال وعيناه سالتا دموعا: ( اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك وخر لي في قضائك وبارك لي في قدرك حتى لا احب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت، اللهم اجعل غناي في نفسي والنور في بصري واليقين في قلبي والإخلاص في عملي والبصيرة في ديني ومتعني بجوارحي واجعل سمعي وبصري الوارثين مني وانصرني على من ظلمني وأرني فيه ثأري ومأربي وأقر بذلك عيني، اللهم اكشف كربتي واستر عورتي واغفر لي خطيئتي واخسأ شيطاني وفك رهاني ).

في ضمن سعي المعصوم لبلوغ أعلى الدرجات لا ريب أنه يطلب من خالقه مطالب، فالفرق بيننا نحن البشر العاديين وبين المعصومين في قضية الدعاء هو أننا نرتكب الذنوب صغُرت أو كبُرت وهذه تبقى لطخات سوداء في قلوبنا وفي ملفاتنا وكتابنا ويوم حسابنا فنحتاج إلى غفران من الله عز وجل، لكن المعصوم كالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو سائر المعصومين الثلاثة عشر كما يعتقد الإمامية فهؤلاء لم يعصوا الله عز وجل ولم يرتكبوا ذنباً، وقد ذكر العلماء أدلتهم على بحث العصمة بالنسبة للمعصومين ولزومه في علم الكلام، وهناك جهة أخرى وهو أنه على طول تاريخ المعصومين لم ينقل المؤرخون والمحدثون وأرباب السير ولو بنقل كاذب أن إماماً من أئمتنا عليهم السلام قد ارتكبوا ذنباً.

 لقد نُقِل عن الخلفاء تصريحات بأنهم ارتكبوا أخطاء وعملوا ذنوباً ودلت الحوادث التاريخية على ذلك وإن سعى بعضهم لتوجيهها وتبريرها من الناحية النظرية، وذُكِر عن الصحابة أيضاً كذلك ولهذا لا أحد يستطيع أن يزعم بان صحابة النبي والتابعين كانوا معصومين، ولكن عصمة الأئمة عليهم السلام كانت مذكورة ومشهورة عند الشيعة منذ ذلك الوقت ولم يستطع احد لا في زمانهم ولا من بعدهم أن ينقض كلام الإمامية في عصمة أهل البيت ويقول أن الإمام الفلاني والعياذ بالله شرب الخمر أو سرق، بالإضافة إلى ما ذكر في علم الكلام والعقائد من أدلة توجب عصمة الإمام فإن التاريخ والواقع الخارجي شاهد على ذلك، وهذ الفرق بين المعصومين وبين سائر الناس.

إننا عندما نستغفر الله من ذنوبنا وعندما نتوب ونبكي لأجل ذلك فإنما نفعل ذلك بناءً على ذنوب فعلية قد اقترفناها في أيام حياتنا، ولكن بالنسبة للمعصوم ليس كذلك وإنما هو لجهات أخرى كما قيل في تعبيراتهم أن حسنات الأبرار هي سيئات المقربين، أي أن كل درجة من الدرجات يطلب منها مقدار معين، فعندما يكون الشخص حديثاً في إسلامه قد أخذ من الدين أطرافه فإنه يُكتَفى منه بالفرائض، لكن مرجع التقليد مثلاً لو اكتفى بالفرائض وترك المستحبات فهذا يكون أمام الناس مقصراً في حق الله وليس في درجة سليمة، فهذا مع معرفته وموقعه واستطاعته عندما يقتصر على الواجبات يعتبر مقصراً في جنب الله عز وجل، فكيف إذا كان هذا الشخص هو الإمام المعصوم المفروض طاعته على الناس، كما ان انشغال المعصوم بالأمور الدنيوية الإعتيادية الضرورية للبشر وعدم تمكنه من استفراغ كل اوقاته وحياته في جهة خدمة الله عز وجل يعتبر ذلك نوعاً من التقصير.

 بالإضافة أيضا إلى أن قسماً من الأدعية فيها جهات تعليمية، كدعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة قد قرأه في جمع من أصحابه وقومه ومن كان معه في صحراء عرفات في ذلك اليوم المهيب، فمن الطبيعي أيضاً أن يربي هذا الجمع وينصحه ويعلمه كيف يتحدث مع خالقه.

ثم اندفع عليه السلام في المسألة واجتهد في الدعاء وقال وعيناه سالتا دموعاً: ( اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك)، فنحن نعلم على مسلك الإمامية أنه لا يمكن بل ويستحيل رؤية الله عز وجل في الدنيا والآخرة على حد سواء، خلافاً لما قاله أهل الحديث من مدرسة الخلفاء ان الله يُرى في الآخرة اعتماداً على بعض الاحاديث التي لم تصح وكذبها المعصومون عليهم السلام ونفاها القرآن بقوله: ((لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار))، وقوله: (( ولا يحيطون به علماً ))، وبقوله: (( لن تراني )) إلى غير ذلك مما نُقل، فيستحيل إذاً أن يرى الإنسان ربه في الدنيا والآخرة، لكن لا ريب أن الإنسان عندما يرى شخصاً يراقبه تكون خشيته وخوفه من ارتكاب نواهيه أكثر مما لو كان غائباً عنه، كالولد مثلاً قد يعمل أعمالاً لا يعملها في حضور والده، والشخص العادي قد يعمل أعمالاً لا يعملها عندما يعلم أن هناك رقيباً عليه من طرف السلطة والدولة وهذا أمر لا يحتاج إلى برهان، وحيث أننا لا نستطيع أن نرى الله سبحانه وتعالى فقد استعمل الإمام الحسين عليه السلام هذا التعبير (

اللهم اجعلني اخشاك كأني أراك ) وهذا أيضاً فيه إشارة إلى ما نُقل في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله في مصادر الفريقين (اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فالخشية وإن قال بعض اللغويين بأنها تساوي الخوف إلا أنه يظهر أن هناك بعض الجهات قد تختص بها الخشية دون الخوف، فالخشية عادةً تكون مناشؤها مناشئ عقلائية بينما الخوف قد ينشأ من منشأ عقلائي كالخوف من الله عز وجل وقد ينشأ من منشأ وهمي كبعض المخلوقات التي لم يرها الإنسان كالتنين والمخلوقات الوهمية والاوهام المتخيلة، بينما الخشية كأن كثيراً من موارد استعمالها تشير إلى أن مناشؤها مناشئ عقلائية وأنها أيضاً في الغالب تستتبع عملاً كما جاء في قوله تعالى: (( إنما يخشى الله من عباده العلماء ))، فإن منشأ خوفهم من الله عز وجل هو معرفتهم بأن الله عظيم وقادر وجبار وله عقوبات، فيتبع ذلك إلى أن يُهرَعوا إلى طاعته وأن تخشع قلوبهم لذكره وجوارحهم تنشغل في عبادته.

لو خشي الإنسان ربه وعرف مقام ربه لنهى النفس عن الهوى، فعندما يختلي الإنسان بنفسه وينظر إلى ما حرم الله عز وجل وعندما ينفرد بنفسه ويسطو على مالٍ حرام أو يمارس عملاً محرماً، هنا ينفع (كأني أراك)، فالله سبحانه وتعالى يرانا في كل أحوالنا وهو الناظر والحاضر والمحيط علماً بكل خلقه، فلو تأمل الإنسان في أن ربه أمامه كأنه يراه لما كان يقدم على تلك المعصية.

( وأسعدني بتقواك ولا تُشقِني بمعصيتك )، بعض الناس يروا أن سعادتهم وراحتهم ولذتهم في معصية الله عز وجل، فالبعض لديهم مصدر رزق حلال لكنه يبحث عن بيع المخدرات والخمور وعن الربا والغش وما شابه ذلك ويتصور أنه يستمتع ويسعد بذلك، لكن في الحقيقة فهو واهم ويشقي نفسه في الدنيا قبل الآخرة، فإن هذا المال ممحوق البركة والذي يسعى وراءه تُمحَق بركته ويعيش حياته في حالة الخوف والقلق والرعب، فلم نرى أن تاجر مخدرات مثلاً يعيش حياته بهدوء النفس والأعصاب وراحة الضمير بل هو في حالة خوف ورعب دائم، فيخشى من السلطة والعقاب ويخشى من المنافسين وأصحاب العصابات، وكذلك الشخص الذي يترك زوجته وما أحله الله له من متعة محللة والتي هي عبادة ومتعة جسد ولذة روح فيتخفى ليقتنص لذة محرمة يكتسب من خلالها الآثام يوم القيامة بالإضافة إلى حالة الخوف الدائم حتى لا يُكتشف من قبل أهله وعياله ومجتمعه.

فسعادة المرء وراحته ليست في مخالفة الله عز وجل، بل سعادته الحقيقة هي عندما يطيع ربه ويكون لديه رزق حلال وهانئ يأكله هنيئاً مريئاً لا يعقبه قلق ولا خوف ولا إثم ويستطيع أن يتظاهر بين الخلائق كلها بذلك وهو مفتخر في طاعة الله، فلو نظرنا إلى الزواج لوجدنا أن الإنسان يحب أن يعلنه ويحب أن يأتي له أكبر عدد ممكن من أهل بلده بعكس ذلك الذي يفعل الحرام ويتكتم ويتستر ويقلق.

التقوى مصدر سعادة للإنسان واستراحة تجعله يعرف بأنه مرضي من الله عز وجل، وأن خالق الخلق ومالك الملك ناظر إليه وشاكر لعمله، فماذا ينفع الإنسان إذا اقتنص لذة محرمة في نصف ساعة وأعقبته هذه مليارات السنوات من العذاب بين أطباق النار، سيكون ضجيع لهب وقرين شيطان، وشقاء ما بعده شقاء.

(وخر لي في قضائك وبارك لي في قدرك حتى لا احب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت)، فالإنسان لا يستطيع أن يختار أقداره ولا يستطيع أن ينتخب الأقضية الجارية عليه، فلا يعلم هل سيكون مرزوقاً أو سيكون محروماً، هل ستجري عليه الصحة أو المرض، فضلاً عن أن بإمكانه أن يختار فهو لا يعلم ما سيجري عليه، ويكذب من يقول هو يعلم بذلك فهو لا يدري عن مصيره بعد ساعة من الزمان هل هو على قيد الحياة او لا، فكيف يستطيع أن يختار قدره ومصيره وهو لا يعلم بذلك، فالأقدار يجريها ربنا سبحانه وتعالى على الإنسان ويقضي ما يريد بحكمته، فالإنسان لا حول له ولا قوة لا في أصل الإختيار ولا في كيفية الإختيار، فكل ما يستطيع فعله هو أن يدعي الله سبحانه وتعالى أن يختار له من الأقدار ما فيه صلاح نفسه وراحة وجوده وحسن مصيره ويبارك له في قدره، حتى لا يحب تعجيل ما أخره الله عنه، مثل لو أخر الله سبحانه وتعالى نعمة الزواج أو الإنجاب والمال، فالإنسان بدوره يكون راضياً ومحباً لذلك الأمر ولا يعارض قضاء الله لأنه لا يعلم بالواقع ولكنه يعلم أن عند الله عواقب الأمور، وكذلك بالنسبة لتمني تأخير ما عجله الله للإنسان كالمرض مثلاً، فهذا الإنسان لا يعلم أن لو أخر الله عنه هذا المرض لما استطاع مقاومته وهو كبير السن أو لما كان لديه القدرة المالية لتلبية احتياجات هذا المرض وما إلى غير ذلك من الأمور.

لذلك على المرء أن يكون لديه حالة التسليم لله عز وجل لأنه إذا ملكها الإنسان فقد ملك كنزاً عظيماً، فلو ركب الإنسان في طيارة أو قطار وكان القائد بارعاً وحاذقاً فسيسلم نفسه لهذا القائد وسينام مرتاحاً على ذلك المقعد ولن يفكر في المسافة ولا المسار لثقته بقائد المركبة، فكيف بقائد الكون وخالقه العليم بما يصلحنا وما يضرنا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المسَّلمين لأمره وأن يبارك في قضاءاته لنا واختياراته لمصائرنا إنه على كل شيء قدير وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.




مرات العرض: 3414
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2566) حجم الملف: 48489.86 KB
تشغيل:

الحمد لله  الواحد الأحد الصمد 10
هذه حاجاتك الحقيقية فاطلبها من ربك 12