لماذا لا يمكن إحصاء نعم الله 9
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 5/8/1441 هـ
تعريف:

لماذا لا يمكن إحصاء نعم الله 9


تحرير الفاضلة أم سيد رضا

لا نزال في رحاب دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة والحديث هنا في الفقرة التي يقر فيها الداعي  بعجزه عن إحصاء نعمة واحدة من نعم الله عليه، ويستشهد الداعي بكتاب الله عز وجل القائل :(( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ))، لكنه مع ذلك يشهد في أول الأمر بحقيقة إيمانه وبعزائم يقينه وبخالص توحيده، بل وبتفاصيل أعضاء بدنه أنه مقر بنعمة الله عز وجل، حامد له شاكر لتلك النعم، فيقول سلام الله عليه: (وأنا أشهد يا إلهي بحقيقة إيماني وعقد عزمات يقيني وخالص صريح توحيدي وباطن مكنون ضميري وعلائق مجاري نور بصري وأسارير صفحة جبيني وخرق مسارب نفسي وخذاريف مارن عريني ومسارب سماخ سمعي، وما ضمّت وأطبقت عليه شفتاي وحركات لفظ لساني ومعرز حنك فمي وفكي، ومنابت أضراسي ومساغ مطمعي ومشربي وحمالة أم رأسي وبلوغ فارغ حبائل عنقي، وما اشتمل عليه تامور صدري وحمائل حبل وتيني ونياط حجاب قلبي وأفلاذ حواشي كبدي وما حوته شراسيف أضلاعي وحقاق مفاصلي وقبض عواملي وأطراف أناملي ولحمي ودمي وشعري وبشري وعصبي وقصبي وعظامي ومخي وعروقي وجميع جوارحي، وما انتسج على ذلك أيام رضاعي وما أقلت الأرض مني، ونومي ويقظتي وسكوني وحركات ركوعي وسجودي، ان لو حاولت واجتهدت مدى الأعصار والأحقاب لو عمرتها أن أؤدي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك إلا بمنك الموجب عليّ به شكرك أبداً جديداً، وثناء طارفاً عتيداً ).

هذا ما يقوله الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام في دعائه، فيقول لا أستطيع لا أنا ولا غيري ولو اجتمع معي العادون على أن نؤدي شكر أنعمك بل ولا نستطيع إحصاءها فضلاً عن شكرها، لأن مرتبة الشكر تأتي بعد مرتبه الإحصاء، فلو أراد إنسان ان يشكر إنسان آخر على جمائله تجاهه وعلى عطاياه إليه لقال أنت أعطيتني كذا وكذا وتفضلت علي في الموقف الفلاني وأنا أشكرك على ذلك، فمرتبه الإحصاء قبل مرتبة الشكر ولو استطاع الإنسان أن يحصي نعم الله عليه فحينئذ يستطيع ان يؤدي تمام شكره، وحيث أنه لا يمكن للإنسان ان يحصي نعمة واحدة من نعم الله عز وجل عليه فلهذا لا يستطيع أن يؤدي تمام شكر الله عز وجل، ولكنه يستطيع إعلان عجزه عن شكر الله وهذا شكرٌ لله عز وجل، كأن يقول: أنا يا إلهي عاجز عن شكرك وغير قادر على حمدك ولكن مع ذلك أعترف لك بألوهيتك وربوبيتك وأشكر كل نعمائك وإن كنت غير قادر على إحصائها.

لماذا لا يستطيع الإنسان ولو رفده العادّون بأن يحصي نعم الله عز وجل؟

إن ذلك راجع اولاً إلى عدم قدرته على الإحاطة بها، فالإنسان حتى يحصي شيئاً فلابد أن يحيط به علماً، فمثلاً لو أراد أن يحسب مساحة مسجد فلا بد له ان يعرف جميع أبعاده وأطواله ويحيط بها علماُ حتى يستطيع الحصول على المساحة، وأما إن لم يتمكن من ان يعرف أبعاد المسجد أما لعظمتها او لجهله بها فلن يكون قادراً على إحصاء مساحته، كذلك هي نعم الله الباطنة والظاهرة لا نستطيع ان نحيط بها علماً ولا نعرفها، أكثرها غير معروف بالنسبة لنا فكيف نستطيع إحصاءها.

هناك جهة أخرى وهي ان هذه النعم ليست متوقفة بل هي مستمرة فهي متغيرة الأبعاد، كما ذكرنا في مثال حساب مساحة المسجد لا بد أن تكون أبعاده ثابتة غير متغيرة حتى نستطيع حسابها ولكن إن كانت تتغير بين ساعة وأخرى فكيف لنا أن نحسبها؟، فنعم الله عز وجل حيث انها متجددة ومستمرة ونامية فهي غير متوقفة وغير منتهية ولذلك لا يستطيع الإنسان ان يحصيها، فهو يستطيع إحصاءها في برهة زمنية جدلاً ونظراً ولكن هذا ليس إحصاء حقيقي، فخلال يوم واحد تتجدد للإنسان من النعم ما لا يستطيع العلم به فكيف يحصي كل نعمه في هذا اليوم،

 ويضاف غلى ذلك أنها مترابطة وحيث أنها مترابطة فلابد ان يحصي الإنسان صورة كلية لها، فمثلاً نعم الله في الطبيعة مرتبطة بإستفادة الناس منها ومرتبطة ببناء بدنه، فلابد أن يلتفت لتلك الامور المرتبطة ببناء بدنه ويلتفت إلى ما هو موجود في الطبيعة حتى يستطيع أن يتعرف على ابعاد هذه النعمة،

 كما أن هذه النعم خفية وغير ظاهرة، فما اكتشفه الإنسان من نعم الله عليه في بدنه وهو أقرب الأشياء إليه كالعين وما فيها من عظمة وقدرة وحكمة التي لا يعرف جهات النعمة فيها إلا المتخصص الحادق في العين وهذه ما هي إلا جزءاً بسيطاً من بدن الإنسان، فإذا لم يكتشف الإنسان نعم الله عليه في أقرب الأشياء إليه وهو بدنه، فكيف يستطيع أن يتعرف على نعم الله عز وجل التي خُدِم الإنسان فيها وهي مبثوثة في الكون.

يأتي السؤال هنا، أنه إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يؤدي تمام شكر الله عز وجل فماذا يصنع إذاً؟

يأتي الجواب في هذه الفقرة من الدعاء التي ذكرناها وقد فصل فيها الإمام الحسين عليه السلام بعد أن ضمنّها في البداية بأنه يعتقد بحقيقة الإيمان وعزمات اليقين، ثم بعد ذلك ينتقل من جهة النفس والإيمان والقضايا المعنوية إلى جهات تفاصيل البدن فيقول: ( وأنا أشهد يا إلهي بحقيقة إيماني )، فالإيمان له مظاهر وله حقائق، مظاهره من الممكن ان تكون العبادات التي يقوم بها الإنسان كالصلاة والصيام ودفع الزكاة، ولكن حقيقة الإيمان هي ما استقر في قلب الإنسان، وينبغي أن نفرق بينهما، فقد نجد أحياناً أن مظاهر الإيمان لا تتناغم مع حقيقة الإيمان كالذين قاتلوا الحسين عليه السلام وقتلوه في كربلاء كان الكثير منهم يصلون ويصومون ولكن حقيقة الإيمان لم تكن داخل قلوبهم وإلا لما اعتدوا على سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الرجل الذي يصلي صلاته ثم لا يرعوي عن عرض جاره ويقتحم أعراض الناس ويغوي تلك الفتاة حتى تقع معه في الخطيئة، تكون هذه الصلاة التي يصليها هي مظهر فقط ولكن حقيقة الإيمان لم تكن موجودة عنده لأنها لو كانت موجودة لما استمع لإغواء الشيطان له ولم يرتكب ذلك الخطأ ولم ينزلق إلى الزنا والعلاقات المحرمة، فحقيقة الإيمان هو ما استقر في القلب وردع صاحب ذلك الفعل ونهاه عن أن يرتكب الحرام كما نُقِل عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا وإن التقوى ها هنا، وأشار إلى قلبه)، فليست التقوى في صوت جميل نقرأ به القرآن أو الدعاء وليست في إطالة الصلاة وليست في القيام بالمستحبات، فهذه مطلوبة حقاً ولكن لابد من أن تتفق معها حقيقة الإيمان حتى تكون أفضل العبادات، فعلى الإنسان المؤمن أن يبحث عن خوف الله عز وجل إن أراد بنفسه خيراً.

فيكمل عليه السلام: ( وأنا أشهد يا إلهي بحقيقة إيماني وعقد عزمات يقيني )، فعزمات اليقين هي التي يعقدها الإنسان على الطاعة، فإن مجرد القول من دون عزم لا ينفع شيئاً كثيراً، فماذا ينفع الإنسان إن قال أنا مؤمن أو إن تلفظ بلسانه ألفاظاً تدل على ذلك، فلابد من أن يكون هناك عزم معقود في اليقين.

(وخالص صريح توحيدي)، فالتوحيد الخالص الذي لا يخش  إلا الله عز وجل ولا يرجو إلا الله ولا يتعلق إلا بالله وليس فيه شائبة شرك لشخص يرجو خيره من دون الله ولا شائبة خوف من طاغية يخشى عذابه وعقابه.

( وباطن مكنون ضميري )، أي أن هذه الشهادة يؤديها من داخل قلبه ووجدانه وضميره مما كنّه داخله وليس مجرد كلمة لسان خارجة من الفم، بل الأكثر من ذلك فإن هذه الشهادة نابعة من كل عضو من أعضاء بدنه كما قال عليه السلام: ( من علائق مجاري نور بصري )، فكل هذا سيشهد له عن حمده وثناءه  وعجزه عن شكر نعمة من نعم الله، والطريف في الامر أن كل هذه التفاصيل التي يذكرها الإمام الحسين عليه السلام هي أنحاء من نعم الله عز وجل على هذا الإنسان.

(أسارير صفحة جبيني)، ويعني تلك الخطوط التي هي نحو تعبير وتواصل وتخاطب مع الآخرين وإعراب عن موقف، فأحياناً ننظر لصفحة جبين إنسان ونعرف ما إن كان غاضباً او حزيناً او مستبشراً.

(وخرق مسارب نفسي)، أي مخارج النفس ومساربه، فالإنسان يتنفس من مسارب معينة من خروق الأنف وأنه معد بطريقة معينة ومثلى حتى يدخل هذا الهواء ويصفى ليصل إلى رئة الإنسان نقياً نافعاً بالرغم من انه يلتقط من الفضاء وهو محمل بالميكروبات.

(وخذاريف مارن عرنيني)، المارن والعرنين هما طرف الأنف ولكن المارن فوقه بقليل، وأما الخذاريف فهي عبارة عن تموجات موجودة في رسمة الأنف كما يرض بعض أهل اللغة، وكأن هذه الفقرة تقول بأن هذا الإختلاف بين البشر في رسم الأنف هو الذي يعبر تعبيراً كبيراً عن صفحة الوجه وعن جماله، وهذا مما يشهد به الإنسان على نعمة الله عز وجل.

(ومسارب سماخ سمعي)، فالسمع في الإنسان بما فيه من أجهزة ومكونات لو نظمت بغير هذا النظام الذي جعله الله سبحانه وتعالى لعادت شيئاً تافهاً لا قيمة له، ولكنها بهذا الترتيب وبهذا النحو البديع والجميل نجد أن حاسة السمع تعد من أهم منافذ العلم والمعرفة للإنسان، فهذا التنظيم الدقيق جعل مختلف الاصوات يصل إلى السمع بمتعة وتعليم ونعمة.

(وما ضمت وأطبقت عليه شفتاي وحركات لفظ لساني)، فهاتان الشفتان عندما تضمان فإنهما تضمان إلى عالم وهو عالم الفم الذي فيه قضية الطعام والشراب والنطق واللسان والكلام وغير ذلك من الأمور، فلو تأملنا في هذه النعمة لوجدنا أنها معادلة عجيبة فكيف بقطعة شحمية أو لحمية وهي اللسان ولكن بحركاتها وتنظيم ذلك مع الهواء الصادر من الجوف والحبال الصوتية تتعاضد لتشكل عملية من أعظم العمليات التي لا يتمكنها غير الإنسان من التخاطب والنطق والتعليم.

(ومغرز حنك فمي وفكي ومنابت أضراسي)، فكل شيء من هذه لو حصل له متخصص ليلاحظ هذه التفاصيل التي ذكرها الإمام الحسين عليه لسلام وما فيها من النعم والإبداع الإلهي لوجدنا شيئاً عظيماً.

(وحمالة أم رأسي)، فهذا الرأس الذي يزن مقداراً معيناً ويعتمد على عضلات خاصة ويتكئ على بدايات العمود الفقري بنظام بديع من الفقرات المرتبة التي لا تكون صلبة ولا رخية بشكل كامل حتى لا يسقط هذا الرأس.

(وبلوغ فارغ حبائل عنقي، وما اشتمل عليه تامور صدري)، التامور هو إما أن يكون الغطاء الذي يغلف القلب من الداخل والخارج أو يكون الغشاء الذي يحمي القلب كما يقول بعضهم، فنجد أن هذه الأغشية والحماية لمركز القيادة ومركز البدن وهو القلب لو لم يرتبها الله بهذا الشكل والتنظيم الخاص لوقع الأنسان في خطر عظيم.

(وحمائل حبل وتيني ونياط حجاب قلبي وأفلاذ حواشي كبدي)، هذه التفاصيل الدقيقة في حجاب القلب وفي فص الكبد ليس قطعة واحد وإنما فيه فصوص وأخاديد ولكل واحد منها دوره.

(وما حوته شراسيف أضلاعي)، والمقصود بالشراسيف هي جهة الإتصال، فالضلع هو شديد الصلابة ولكن يبدأ تدريجياً بالليونة حتى يكون قابلاً لأن يتصل بالبدن بشكل سلس.

(وحقاق مفاصلي وقبض عواملي وأطراف أناملي ولحمي ودمي وشعري وبشري وعصبي وقصبي وعظامي ومخي وعروقي وجميع جوارحي)، فكل هذا بتفاصيله هي من نعم الله على الإنسان وبهذا يشهد بأنه لو حاول مدى الازمان أن يحصي ويحيط بنعمة واحدة من نعم الله عليه ما استطاع.

 

 

 

 

 

 

مرات العرض: 3475
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2563) حجم الملف: 51023.85 KB
تشغيل:

فإن دعوتك أجبتني وإن سألتك أعطيتني 8
الحمد لله  الواحد الأحد الصمد 10