الناس عبيد الدنيا
تفريغ نصي الفاضلة هديل الزبيدي/ العراق
تصحيح الفاضلة سلمى آل حمود
قال سيدنا ومولانا ابو عبد الله الحسين (سلام الله عليه) {الناس عبيد الدنيا والدين لعق على السنتهم يحوطونه مادرت معايشهم فاذا محصوا بالبلاء قل الديانون} (1) صدق سيدنا ومولانا الحسين سلام الله عليه
حَديثنا في هذه اللية يتناول شيئاً في ظِلال هذه الكلمة المشهورة عن الإمام الحسين عليه السلام، الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، إذ أنّ العلاقة بين العبدْ وبين سيّده ومالكه هي علاقة الطاعة والاتباع فاذا صار أحدهم عبداً لأحد، فإنّ العلاقة القريبة المتصَوّرة هي علاقة الطاعة والانقيادْ من جهة العبد لجهة السيّد. الامام يقول: أنّ الناس في علاقتهم بالدنيا كعلاقة العبد بسيّده لذلك فإنهم يستجيبون إلى نداءات الدنيا ويقدمونها حتى على قضايا الدين حيث أنّ الدين في هذه الحالة والالتزام به هو عبارة عن لعق، حيثُ أنّ ( اللعق) ليس من شأنه الالتصاق والبقاء (لعق على السنتهم يحوطونه مادرت معايشهم) أي أنّه مادامت مصالحه تتماشى مع الدين فإنّه سَيتماشى مع الدين وأما لو فرضنا أنّه قد ورد حكماً دينياً على غير رغبته الشخصية حينئذ يقل الديانون، فيُمتحن، و يُبتلى في بعضْ المَواضع بالتنافر بين مصلحته الشخصية وبين الحكم الشرعي وبين أوامر الدين، فهنا سوف يقل الديانون لصَالح عبيد الدنيا، حيثُ أنّ أول ما يمكن أن يُبحث عنه في هذه الكلمة هي كيفية تعميم الامام عليه السلام الأمر لكل الناس مع أننا نجد في الناس من هم من أنصاره الذين مَدحهم خيرْ مدح، ومن ضمن الناس نجد أيضاً من الطائعينْ الذين يَجعلون من الدين قيمة عليا ولا يتخطون أوامره فكيف بقوْل الإمام عليه السلام أنّ الناس عبيد الدنيا حيثُ أنّه من المفترض مثلاً و بناءً على هذا السؤال أن يقول (بعض الناس) أي قسمٌ من الناس يكونون عبيد الدنيا فلماذا هذا التعميمْ؟ هذا واحد من الامور، الأمر الآخر هو ما ورَدَ في بعضْ النماذج والأمثلة التي يتحقق فيها التعارض بين أوامر الدين و طلبات الدنيا بالنسبة.
السبب وراء تعميم الإمام الحسينْ عليّه السّلام.
السؤال الأول هو: كيف عمم الحسين عليه السلام هذا الأمر لعامة الناس مع وجود أشخاصاً ليسوا عبيداً للدنيا، بل إنّهمْ مُلتزمون بالدين؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال بعدة أجوبة، الجواب الأول : هو أنّ كل كلام ينبغي أن يُنظر فيه إلى القرائن المقاميّة الحافة به، فماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه في بعضْ الأحيان قد يقول المتكلم كلاماً لا ينبغي أن يُفهم خارج سياقه أي خارج بيئته مثلاً: قد تكون تدعو مجموعة من الناس إلى منزلك و لنفترض بأنّهم خمسون شخصاً ثمّ يأتي بنك إليك بعد نصف ساعة و يقول لك بأنّ الناس قد أتوا، فإنّك تلقائياً ستقول لهم لتتفضلوا لتناول الغداء، و هنا عندما يُقال بأنّ النّاس قد أتوا فإنّ ذلك لا يعني أنّ كل الناس الذين يسكنون في كل البلدة أو في كل العالم، وإنمَا المَقصود منه: هو أنّ الناس الذين دعوتهم إلى المائدة هذا من وين عرفناه يقولون من قرينة المقام ، انك انت داعي جماعة وتنتظرهم وضمن هذا الظرف يجي وهذا ابنك الذي يقول بأنّهم وصلوا فإنك ستفهم من ذلك أنه ليس كل أهل القرية وإنّمَا همْ الجَماعة المدعوون. فلابد لنا أن ننظر في كل كلام من جانب وجودْ قرائنْ مقاميّة تأطره في ذلك المَكان أو لا يوجدْ قرائن؟ هنا و عندما نتناول هذه القضية نلاحظ أن إمامنا الإمام الحسين (عليه السّلام) قال هذا الكلام في موضعين: الموضع الأول: عندما التقى به الفرزدق بن غالب وكان الإمام الحسين خارجاً من مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة باتجاه العراق، فجاء الفرزدق باتجاه مكة مع أمه، فسأله الحُسين عليه السلام كيف تركت الناس من خلفك؟ فقال اما أشراف الناس أيّ في الكوفة إذ أنّ المقصود ب(أشراف) لا يعني أنّهم شرفاء، وإنّما المقصود هم الشخصيات الاجتماعية و رؤساء القبائل، فقال: (أما الأشراف فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم)(2)أيّ أنّ السلطة الأموية أعطتهم أموالاً كبيرة بمثابة الرشوة وذلك لكسْب موقفهم وملأتهم غرائرهم أيّ أن أكياس المال خاصّتهم مملوءة فهم عليك اشتروا موقفهم، أما عامة الناس فقلوبهم معك وسيوفهم عليك(3) عندها قال الإمام الحُسين (عليه السلام) الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، فهذا الكلام ضمن هذا الظرف بمعنى أنّ الإمام عليه السلام ناظرٌ لهذه الجماعة التي نتحدث عنها إذ أنّهم عظمت رشوتهم، ولا يقفون موقف الحق بل ينتظرون العطاء والجزاء من السلطة فهؤلاء عبيد الدنيا، وأما فيما يخص أنصاره على سبيل المثال، فهم الذين كانوا معه و هم و إنْ كانوا من الناس إلا أنّهم ليسوا عبيد الدنيا، فالقرينة هذه يسمونها القرينة المقامية أيّ القرينة الحالية على أنّ مقصود الإمام الحسينْ (عليه السلام) ليس عاماً وشاملاّ لكل زمان ومكان أو لكل الناس وإنما لفئة معينة مخصُوصة. ومن هذا القبيل أمثلة كثيرَة مما قاله المعصومون وقاله رسولنا ( صلى الله عليه واله) لكن لا يمكننا التعرض إليها حتى لا يطول بنا الحديث، فهذا جواب. الجواب الآخر: أنّه ليس من الممكن أن يكون هذا الكلام كلاماً عاماً ولكنْ تحصل له فيما بعد استثناءات مثل القران الكريم يقول "وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلً"(4) هنا يتبيّن لنا أنّ ظاهر هذه الآية هو أنّ كل إنسان بمن فيهم رسُول الله، بمَن فيهم الأنبياء، بمن فيهم الائمة، بمن فيهم جميع المسلمين، و لكن يتبين لنا بعد ذلك استثناء فيقول عزّ وجل عنْ رسول الله (صلى عليّه وآله) أنّه سارع إلى مرضاة ربه، وسبق الجميع في استجابة عالم الذر، ثمّ يتبيّن لنا بعده حديثاً آخر فيُثني على المعصوم، فيتبيّن حديثٌ ثالث ويثني على هؤلاء الناس فذاك محفوظ في مكانه وكأنه سبحانه وتعالى يريد أنْ يقول أن الإنسان أكثر شيء جدلاً إلا من سنستثني فيما بعد حيثُ نجد في القرآن الكريم عبارات مثل "إنّ الإنسان لكفور"(5) وكثيرٌ من عبارات هذا النوع كثيرة فهل معنى ذلك أنّ كل إنسان هو كفور؟ بمن فيهم المؤمنون بمَن فيهم المَعصُومون بمن فيهم الأنبياء؟ كلا، وإنما هذا بمثابة شعارٍ عام ولكن يستثنى منه فيما بعد من يكونْ خارجَاً "فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ" (6) هل أنّ كل الناسْ هكذا هلْ كل بني الإنسان هكذا؟ كلا وإنما هذا على نحو الإجمال في الجَملة فالإنسان هكذا لكن يُمكن فيما بعد أن يأتيْ ويستثني فيقول إلا هذا، إلا ذاك ويستثني إلا تلك الفئة. كذلك في جانب (الناس عبيد الدنيا) و بناءً على المعنى الأول والتوجيه الأول فمن الأصل هذا ليس عاماً وشاملاً لكل أحد وإنما هو خاصٌ بجَماعة كان الحديث عنهم وهم من عظمت رشوتهم وملئت غرائرهم أو الذين تقاعسوا عن نداء الحُسين عليه السلام فهم تلك الفئة في زمان الحسين عليه السلام، فمن الأصل هذا لمْ يكنْ شاملاً لكل الناس في كل الأزمنة. المعنى الثاني: نجد المعنى وإنْ كان شاملاً باللفظ إلا إنه فيما بعد نجد الاستثناء والإخراج والتخصيص قد دخل عليه الناس عبيد الدنيا (إلا من تدين تدينا صحيحاً)، (إلا منْ اتبع النبي)،(إلا منْ سَار مع الوصي)، إلا من كذا وإلا من كذا حيثُ لا يوجد مانع من ابتداء الكلام في هذا الاتجاه. نأتي إلى الكلام ذاتُه {الناس عبيد الدنيا والدين لعق على السنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فاذا محصوا بالبلاء قل الديانون} فنجد وكأنما الإمام قد استخدم كل بلاغة التشبيه هنا، فقد عقد صلة بينَ الناسْ وبين العُبودية وكأن الدنيا مالكةٌ له، وبعد ذلك نجد الدين لعق (مسحة) في الواقع، فإنّ اللعقة والمسحة ليست شيئاً ثابتاً ومرتكزاً، ولعق على ألسنتهم أيّ يحوطونه و يحافظون عليه متى؟ ما درت معايشهم، فكيف أنّ البقرة تدرّ حليباً كثيراً كذلك المعايش تدرُّ على الإنسان فإذا مَحصّوا الناس بالبلاء قل الديانون، حيثُ أنّ البلاء في ظاهر الامر منه هو المصيبة ولكنْ معناه الحقيقي هو أي نوع من أنواع الابتلاء، والامتحان، والاختبار يقال له ابتلاء وبلاء " وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً "(7) حتى في الخير قد يبلى الإنسان، فيبتلى الإنسان بالخير كالمال، والعطاء كما يُبتلى أيضاً بالمرض فهذا شر حيثُ يبتلى بالمصائب ويبتلى أيضا بالعطاءات. فالبلاء لا يعني المصيبة والنكبة دائماً وإنما البلاء هو عبارة عنْ امتحان و اختبار لكن غالباً ما كان الناس ينظرون إلى البلاء على أنّه المصَائب والنكبات، لكنّه في الأصل معناه في اللغة وفي استخدامات المَعصومين هو شيءٌ أعمْ. فإذا محصُّوا بالبلاء و اختبروا الناس في مَوقف من المواقف قل الديانون، هناك يتبين أصحاب الدعوة من أصحاب الحَقيقة وعلى ذلك نورد بعضْ الأمثلة الاجتماعية من الابتلاءات التي قد يفوز فيها إنسان ويخسر فيها إنسان.
مسَائل ابتلاءيّه للإنسَانْ.
فمثلاً: أهل الدنيا يسْقطون، وأهل الإيمان والخير ينجحون، و واحد من الامتحاناتْ عندما يكون هناك خيار تجاوز للأحكام الشرعيّة للحصول على المال فهذا من الامتحانات غير السهلة حيثُ تتجاذب فيها قوتان متعارضتان: قوة الإيمان والتديّن، والاحتراز وقوة الرغبة في المال وعبودية الدنيا مثال ذلك: زيدٌ من الناس توفي، و ترك وصية ثمّ جاء الأبناء حيثُ أن الوصي يفترض أنْ يكون فلان من أبنائه فأين الوصية؟ قال لم يترك لنا أبي أيُّ وصية، أو أّنّها ضائعة! فمنذُ عهد قريب قرأناها وكان يُحافظ عليها ويؤكد عليها فكيف ضاعت؟ الجواب ليس هذا وهو أنّ هذه الوصية فيها تصَرّف في الثلث أيّ أنه مثلاً ثلث مالي بعد وفاتي يكون في هذا الأمر الخيري من (عبادات، صدقات، أعمال صالحة، و أعمال خير) وفي حال تنفيذ هذه الوصية فيعنى ذلك أنّ ثلاثة و ثلاثين في المائة يذهب عليّ لأنّي الوصي ونحن الورثة فإذا كان والدنا قد خلّف ثلاث ملايين فيعني ذلك أننا نُحرم من مليون وهذا غير مقبول فماذا نصنع؟ نضيّع الوصية، ونقول بأنّ الوصيّة قد ضاعت أنها غيرُ موجودة، أو تلفت وقد بحثنا عنها ولم يجدها أحد فبما أنّه لا توجد وصية إذن فنحنُ لانعرف عنه أنه اوصى بشي فنقسم المبلغ بين الورثة و هنا يبتلى الانسان " وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً "(7) فهذا مثال على الابتلاءات بالخير أي ابتلاءٌ بالمال وهنا من جهة عِلمْ الإنسان " فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ" (8) فلا يحل لهذا الوصي، ولا لباقي الورثة أن يأخذوا ما زاد على الثلثين أو أنْ يتصرفوا فيه، حتى لو لم يعلموا بجهات صرفه، فمثلاً نحنُ نعلم بأنّ عنده وصية بالثلث حتى لو لم نعلم كيف نصرفها؟ هل هي في حج وعمرة؟ أو هي في زيارة؟ أو هي في نفقات اجتماعية؟ أو فقراء؟ أو تبليغيه أو مساجد؟ فهنا يوجهك الشرع بأنك لا تستطيع ان تتصرف في هذا المال لنفسك فلتراعي موارد الاحتياط أو أن ترجع إلى الفقيه حتى تجد لك طريقاً، لكن هنا هذا معناه سيحرمنا من هذا الثلث وهذا المليون ولذلك يحصل هذا التحدي هل أنا عبدٌ لهذا المليون؟ أو عبدٌ لرب المليون عبد لله أو عبد للدنيا، هل آخذ بأحكام الله أو أأخذ بشهوات النفس؟ فغداً وما بعده سأحتاج أن اشتري سيارة غالية الثمن فهل أقدم هذا أو أقدم أمر الله عزّ وجل؟! هنا يتبين هل أنا عبدٌ من عبيد الدنيا أو عبد للمال، و لاشك نحنُ عندما نتحدث عن هذه الأمور فهذا لا يعني أن الحاضرين في هذا الجانب نعوذ بالله، و نحن بحمد الله لدينا الالتزام في الدرجة العاليّة وإنما هذا من باب التذكير ولعل إنساناً يستطيع أن يُوصل إلى غيره مثل هذه المَعاني وهذا على سبيل المثال فقط، مثال آخر: قد يوجد في بعض الأوساط الاجتماعية أيضاً ميراث، فيأتي الوصي وعنده إخوة و أخوات وقد ترك والدهم مبلغاً جيداً من المال، فيفرض نفسه ويقول نحنُ نقسم المال على الأخوة وأما الأخوات ولكي لا يذهب هذا المال إلى أزواجهن فنجعله بحوزتنا فهذا المال مالنا ومال أبينا لكي لا يذهب إلى أحدٍ غريب و هو زوج اختنا فإذا لزم الأمر نستثمر المال لها ونعطيها بالقطارة فعندما تحتاج ثوب نشتريه لها بأنفسنا، وإذا احتاجت أيّ شيء فنشتريه لها! هذا أيضاً من موارد التحدي بين أمر الله عز وجل وبين أمر الدنيا، وشهْوة المَال فلا يَحل للوصيْ فضلاً عنْ غيره أنْ يأخر قسْمة الميراث عن أربابه يوماً واحداً إلا ماجَرت العَادة بمثله أو كانت الأمور القانونية تقتضي ذلك وأما بحجة أنه لكي لا يذهب المال إلى صهْرنَا لأنه أجنبي وليس من عائلتنا فهذا كلامٌ جَاهلي لا أصلٌ له ولا فصلْ. الدين يعُطيها سَهمها كاملاً ولها الحق بأنْ تصنع به ما أرادتْ فلتصنع لأنْ هذا ملكها، فلا يوجد لأخيها حق ليتصرف في ملك غيره و إنْ أرادتْ أنْ تأخذه كاملاً في صمصامه وتعطيه لزوجها فهنيئاً لها أو إنْ أرادت أن تحتفظ به فهنيئاً لها، ولها الحريّة في أنْ تقوله بلسانها أنا استلمته و لكن أريدك أنتْ يا أخي أنْ تستثمره فهذا أيضاً لها فهي المتصرفة و لا يَجوز للوصي ولا لغيره أن يُأخر عن أخته مثلاً ولا عن أخيه ما لم يكن قاصراً، أمّا غيرُ ذلك فإنّه لا يجوز لكل منهم و بأيُّ عذر من الأعذار أنْ يتصرّف بالمال ذلك. إذا كانوا قُصّر فإنّهم ينتظرون بلوغهُم مع الرّشد، وإذا كانت الأخت متزوجة وراشدة فلا يوجد حجة أخرى. كثيراً ما يحصل ويصبح الوصي مُتصرّفاً بالأموال، فلى سبيل المثال: يقول هذا سهم أختي ولنفترض أنّه مليون ريال فيمكن لي أنا أنْ أحفظه في البنك عندي لمدة سنة من الزمان ليصبح لديّ أرباح لآخذها! بالطبع هذا غيرُ جائزٍ له حتى لو فعل هذا بزعم أنه يَحفظه او إلى أن تتم القِسمة فإنّه لا يحل له ذلك، ولا أن يأخذ منْ الأصل شيئاً ولا من الأرباح شيئاً فالنّماء تابعٌ للأصل، فإذا كان هذا للأخت فإنّ ثمرته وأرباحه لها، وليس لنا حقٌ فيه وهذا هو التحدّي لأنني أنا مأمورٌ بأن أدفع المَال إليها من قِبل الله عزّ وجل و منْ قِبل الحُكم الشرْعي ومأمورٌ من قبل نفسيْ بأن آخذ هذا و أن أأخرَه ُعنها و استولي عليه فأيّ الأمرين اتبع؟ أمر الله؟ أم أمرُ نفسيْ وشهواتيْ وأكون بذلك عبداً منْ عبيد الدنيا! فهذا مثال آخر.
مثالٌ ثالث: رُبما ذكرناه في بعْض الأوقاتْ ونُعيد التأكيدْ عليّه لأنه للأسفْ نجده فيْ بعضْ الأوساط لا يزال قائما ًوموجوداً، وهو التقاضيْ لمحَكمة أو حُكم لحاكم لا يقضي ولا يفتي على وفق مَذهب آل محمد سواء للحصول على المال من الميراث أو للحُصول على المال من الطلاق الخُلعي في الميراثْ. كما تعلمون أنّه توجد بيننا في الفقه الجعفري وبين سائر المذاهب اختلافاتٍ ثابتة ذكرها الفقهاء وهي مَعروفة منها: مسألة ابتلاءيه وهي أن الزوجة في فقه الإمامية لا ترث من الأرض وإنما ترث مما على الأرض من البناء والشجر وما شابه ذلك، فلو أن إنسانا تُوفي وعنده مخطط لأرضٍ بائرَة لا يوجد فيها نخلٌ ولا بناء فإنّ الزوجة هنا و بناءً على الرأي المشهور عند فقهاء الامامية فإنّها لا ترث من هذه الارض، حيثُ تأتي هذه الزوجة و تسأل في كل مكان لعلها تُدبّر لنفسها الأمر! فيقال لها أنّه اذا ذهبتي إلى محكمة أخرى غيرُ جعفرية لأنّ هؤلاء يورثون من الأرض وما عليها من الكل، فهم يعطونك ثمن الأرض وما عليها من البناء والزرع، أيضاً يعْطونك الثمن، فتقول لك نعم ممتاز هذا إذن هو المخطط و لنفترض أنّه مائة متر مربع و ثمنها المقدار المعين فينتج لها شيءٌ كثير فتبدأ تباشر التقاضيْ إلى ذلك المكان و ربما تستلمه، لكنّه غيرُ مشروع و لا تتملكه من الناحية الشرعية! فهنا يتنازع معها بين متبعٍ لأمركم فتخاطب الائمة عليهم السلام، إذ أنّ هذا يقتضي منها أن لا تذهب وتأخذ ذلك وإلا على ماذا (متبع لأمركم)؟ (عامل بأمركم)؟ وبين أن هذا في رأيها سيكسبها هذا المبلغ الكبير من المال فيتعارض هنا الدين والمال، الحُكم الشرعي وتحصيل مبالغ اضافية لعبودية الدنيا وعبودية الله عزّ وجل، فأيُّ الأمرين ستختار؟ فهنا وراءها مقياس ويتبين إذا محصُّوا بالبلاء، قل الديانون فهل هي من القلة؟ أو هي من الكثرة التي لا تدين. ومثل ذلك: وهو للأسف الشديد أمرٌ شائع ولو أنّه ليس بذلك الشيوع الكبير، ولكن بعض الأشياء القليلة يكون منها كثير الآن كاجتماع الأعواد مع الكبريت القليل ولكنّه يحرق بلداً كاملاً بالنار فقليلها كثير. فمثلُ هذه المخالفات قليلها كثير، حيثُ تأتي امرأة وتريد أن تختلع من زوجها أيّ أن تعمل طلاقٍ خلعي، فعند كل المذاهب الاسلامية قضية الخلع مشروعة وهي طريق من الطرق قد نجد زوجة تزوجت إنساناً ثم لم تنسجم معه فتكرهه ولا تستطيع العيش معه، فيقول لها الشرع أنّ لديكِ طريق تطلبين منه الطلاق و لكن بالمقابل هذا تعوضيه عن ما بذل من مهر، من ضيافة لك، إلى اهلك أو إلى الناس اللذين حضروا هذا الزواج (بذل دم قلبه) حسب التعبير إلى أن استطاع جمع هذه المائة ألف ريال وتأتين بعد شهر تقولين له أنا أكرهك، لا أحبك، لا أستطيع العيش معك! فماذا يفعل؟ هل يبدأ من جديد؟ يبدأ المشوار والموال من جديد؟ فأنتِ إذا أردتِ ذلك فعليكِ أن تدفعي ما صرف، حيثُ أنّ الفقه الجعفري يقول: أنّ للزوج الحق بأن يتقاضى في مثل هذا المبلغ مثل هداياه لها وما صرفه عليها من حفلتها، وغير ذلك فإذا لم تستطيعي ذلك فعليكِ أن تصبري عليه وتواصلي المشوار الحياتي والزوجي، لماذا؟ لأن الرجل خسر كل هذه المصروفات لأنه لا يُعجب الزوجة؟! عليها أن تستمر معه ولاسيما إذا كان في بعض الحالات بتحريض من بعض الآباء، و تحريض بعض الأمهات، تحريض بعض الأخوات تحريض بعض الصديقات؟ فيُقال لها منْ مَن أنتِ مُتزوجة وهذا لا يستحقكِ! هذا عند الامامية يستطيع أن يطلب منها هذه المقادير، أما عند غير الامامية فيقول لا يرجع لك كل ذلك فالمهر الذي اعطيته هو الذي يرجع لك فقط! ولكن ماذا عن أنّ قيمة المهر هو خمسة وعشرين الف والمَصرف مائتين وخمسين ألف في بَعض الأماكن وبعض الظروف، وإن كنا ندعو إلى تخفيضْ النفقات لكنّها تختلف من أسرة إلى أسرة أخرى، ومن شخصية إلى شخصية، فمثلاً: أنا صرفت أضعاف هذا المبلغ ولكن بعض المذاهب الأخرى تقول (لا) وليس لك غيرُ هذا المهر الذي دفعته فاستلمه و مع السلامة. إنّ هذا غير مشروع عند الاماميّة ولو أن امرأة ذهبت إلى قاضٍ غير إمامي وحكم لها بهذا النحو وطلقها على ذلك من غير رضا الزوج ففي هذا البذل لم يكن هذا الطلاق مشروعاً لأنه لا تتوفر فيه الشروط، وهذا كل فقهاءنا يقولونه، ولكن قد تقول الزوجة لا يهمني نوع المحكمة فهذه ورقة رسمية مكتوب فيها أنّي مطلقة و غداً وما بعده أكون في العدة و أتزوج! هذه المرأة في فقه الامامية تتزوج زوجاً جديداً وهيَ على ذمّة زَوجها السّابق وإذا دخل بها حرمت عليّه حرمة أبدية، أيّ بمعنى أنّها لو غيّرت رأيها لاحقاً ورتبت الموضوع و أتت للزوج الأول لتقول خُذ هذه المائة ألف ولنعمل خلعاً جديداً أو طلاقاً جديداً ومع السلامة! ثمّ نعقد من جديد بهذا الزوج الثاني! فلا تستطيع ذلك لأنّها مُحرمة عليه حرمة مؤبدة، هنا يتبين التزام المرأة هذه بالحكم الشرعي بين أن تقول أنا تزوجت وانتهى الأمر وتمّ الدخول بي وبين أنّه لا تشعر أنها بحسب هذا الفقه الذي تنتمي إليه وهي الآن لا تمارس نكاحاً مشروعاً و هي لاتزال غيرُ مطلقة فكيف تزوجت وكيف دخل بها من جديد؟! هنا يتبين أن هذه الزوجة الأولى تقدم حتى تختصر النفقات اللي ادفعها التي سوف تدفعها بدلاً من أن تدفع المائة ألف مثلاً فهي لا تريد، وفي نظرها أنه لا يوجد لديها مشكلة أن تدفع الخمسة والعشرين! ففي نظرها أن تتجاوز الحُكم الشرعي وما يقول به فقه أهل البيت سلام الله عليهم هنا فإذا محصُّوا بالبلاء والامتحان قل الديانون، وعلى هذا فقس ما سواه.
أحياناً الابتلاء يكون في مُخالفة الحُكم الشرعي للحصُول على المال، أحياناً يكونْ مُخالفاً لواجب من الواجبات العملية مثل الكذب للوصول إلى المال وله انحاءٌ متعددة وهو أن الإنسان إذا كان يصّدق مثلاً أنّه لنْ يَحصل على هذا المال؟ إلا إذا كان بالكذب فسيَحصل على هذا المال، و إذا كان يَدرس الدراسة الطبيعية وتحتاج لها مثلاً خمسُ سنوات و مع الجهد وغيرُ ذلك بعد الثانوية وربما يتغرب في أماكن تطول بها المدة فيَجد فيْ نظره أنْ يتفق مع معهد على الإنترنت و مع جامعة على الانترنت يسووا ليعملوا له شهادة مزورة بمقابل مبلغٍ من المال ثمّ يأتي ليتم توظيفه بناءً على هذه الشهادة المزورة، و التزوير نحْو منْ أنحاء الكذبْ الذي يكتسَب به المَال منْ غيرْ حِله وهيَ طامة من الطامات الكبرى فيْ بلادنا المُسلمة، أحدْ الدكاترَة في مدة من الزمان أراد أنْ يتبع هذا المَوضوع وهو موضوع الشهادات المزورة وما يرتبط بها فقدّمَ احصَائياتْ عَجيبة وغريبة، وواحدة من الاحصائيات أنّه يُوجد حَوالي سبعة آلاف ممن يسبق اسمائهم حرفُ الدال فهؤلاء لم يدرسوا بالأصلْ! فبعضهم سباك بس فيُقدم شهادة عبر الانترنت بأنّه استشاري باطنية فيقبلونه وهو في الأصل سباك يشتغل ويُجرّب فيك باعتباره استشاري باطنية، فكم العدد؟ سبعة آلاف! وبالطبع ليسوا كلهم سباكين ولكنْ نحنُ نتحدث عن العَدد من الشهَادات المزورة! نتحدث عن سبعة آلاف شهادة مزورة على هذا المستوى! حيثُ أنّهم يقولون أنّها كانت في حملة واحدة. طبعاً عندما تأتي وتسلمه بدنك وتسلمه ابنك وهو على رأس العمل في المستشفيات فهل تعلم ماذا يعني ذلك؟ حيثُ كانت كل النتائج هذه في حملة واحدة فيقول صاحب هذا المشروع: أنّه قد حدثَ تفتيش و وجدوا ٧١٢ شخص لديّه شهادة هندَسة وهو لم يدرس درساً واحداً في الهندسة، وهو موظف في أماكن مفضلة ويأخذ راتباً بذلك المقدارْ، ولك أن تتصور إذا كان هذا بمثابة مهندساً على أساسٍ معماري وأتى و صمم بيتك في مقابل مبلغ وقدره وهذا لا يتوفر على أي نحو من أنحاء المَعرفة الهندسية والعلم بهذه القضية، فهذا من أخذ المال بالكذب وهو غير سائغ، وذلك غير الأضرار اللي تترتب على المُجتمع وعلى الناس! فليس من الأصل أنْ تأخذ هذا المقدار من المال بناءً على أنّك تملك هذه الشهادة الكاذبة وهي ليست عندك فهذا شيءٌ غيرُ جائز شرعاً وليس سائغ شرعاً وهو أن يأتي شخصاً بالكذب و يعمل لنا شهادة وآخذ راتباً بذلك المقدار وأنا لست من أهلها وليس عندي خبرتها.
دون ذلك أيضاً هذه الإجازات المرضية غير الصحيحة مثل أنْ أذهب إلى الشركة التي أعمل بها أو المؤسسة واتفق مع دكتور مستشفى أو غير ذلك ليكتُب تقريراً بأنّه لديَّ انفلونزا حادة، وعندي نزلة معوية، حتى لا يتبقى مرضاً إلا وكتبه فيه لكي يعطيني اسبوعين علاج واستراحة والخ ويكتب ماذا؟ إجازة مرضية (sick leave) يسمونها، فأنا أريد الحصول على إجازة! فلا يجوز أن أستلم راتباً في هذه الفترة، نعم لو استلمت لو إن شاء الله أعطل شهراً كاملاً فهذه قضيّة لأنه فقط لم أقل الصدق، أما أن نستلم أموالاً من غير حلها ومحلها فهذا غيرُ جائز شرعاً، وأما إذا أخذتم مالاً في مقابل ذلك لأن هذا الذي يريد أن يأخذ اجازة يريد فقط أن يرتاح و يستلم الأموال فهذا لا يجوز شرعاً ويجب عليه ارجاع ذلك المال إلى ذلك المالك للشركة، إلى الجهة التي اعطته وحتى ولو أن يذهب أحدهم ليقول بأنّ هذا زائد في تفاصيل علميّة. اقلب المُعادلة وضع نفسك مكان صاحب الشركة وفي مكانك عاملاً ليس بمريض ولا يحتاج الى اجازة ولا استراحة ويريد أن يستريح لمدة اسبوعين في المنزل ويأخذ منك نصف الراتب (أبو عين) هذا نصف راتب في الشهر هل تقبل بذلك لو كنت صاحب الشركة؟ قطعاً لا تقبل هذا لأنّه غير مشروع وهنا يتعارض أمر الدين، وحب المال، عبادة الله وعبادة الدنيا والدرهم والدينار، فهل يكون الانسان من الديانين القلة أو يكون منْ غيرهم من الكثرة؟
مثل ذلك أيضاً ومن الشكاوى الكيدية و التعدي على الخير بمثل هذه الأمور: نجد رجلْ يعمل عمَله بشكل طبيعيْ يُمارس دوره بشكل معقولْ ثمّ أأتي أنا حتى آخذ مكانه وبالتالي أأخذ راتبه و يزيد راتبي، أو أنْ أقدم عليه شكوى أو تقريراً معيناً حتى يُقيلوه وأحصل على المال أو المكان أو المقام الذي هذا أيضا شرعاً غيرُ سائغٌ مكسبه و غير محلل، و أمرٌ غير مبارك وهكذا إيذاء الآخرين بالارتزاق بهم وبعض الوظائف نعوذ بالله يعني أنّ الإنسان لا يحصل على المال منها إلا بإيذاء غيره و لا يصعد إلا على جماجم المسلمين وإلا لا يحصل عليه بدون ذلك. فهؤلاء الذين جاءوا لقتل الحسين عليه السلام في كربلاء زيد في عطائهم كمْ؟ مائة درهم فأخرجوا جيشاً يجر جيشاً، وكتيبة تتبع كتيبة لقتل ابن بنت رسُول الله صلى الله عليه وآله وقتل أصحابه وذريته، في مقابل أن يُزاد في عطاء كلْ واحدٍ منهم كمقاتل، مائة درهم! فكسبوا بذلك خزيْ الدنيا وعَذاب الآخرة وسُلبت البركة من أموالهم هذا المال الذي أخذه عندما نحرَ طفلاً رضيعاً فكيف يُريد الله عزّ وجل أن يُبارك له به في عمره؟ عندما قتلوا شخصاً بريئاً مؤمناً، فماذا يُريد من هذا المال؟ ما الذي سيصنع فيه غيرُ ظلمة القلبْ، ومرضْ البدن، والخسران المبين في الآخرة.
الهوامش:
1- في كشف الغمة: ج2، ص207 «عبيد المال». 2- أنساب الأشراف. ص412. 3- أنساب الأشراف. ص412. 4- سورة الكهف، آية 54. 5- سورة الزخرف، آية 15. 6- سورة الفجر، آية 16،15. 7- سورة الأنبياء، آية 35. 8- سورة النساء، آية 12. |