قضية المباهلة : الحادثة والدلالات
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 18/12/1440 هـ
تعريف:

قضية المباهلة: الحادثة والدلالات

تحريرالفاضلة أم سيد رضا

قال الله تعالى في كتابه الكريم: (( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون* الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين )).

شهر ذي الحجة يشتمل على مناسبات كثيرة ترتبط بقضية ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وتعيين القيادة له ولولده المعصومين عليهم السلام من بعده، فنحن نجد أن في النصف الثاني من شهر ذي الحجة تأتي مناسبة الغدير وهي التتويج النهائي لكل الوصايا والعهود والتعيينات والمراسيم التي قالها رسول الله صلى الله عليه وآله في حق أمير المؤمنين عليه السلام منذ أن بدأ بذلك في يوم الإنذار بيوم الدار وكان علي عليه السلام في حدود العاشرة من العمر، فمنذ ذلك الوقت بدأت حفلات التعيين والتنصيب والتأكيد على ولايته وخلافته ووصايته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله واستمر ذلك لمدة 23 عاماً ثم توجت بعد ذلك في يوم الغدير في الثامن عشر من شهر ذ الحجة، وفي هذا الشهر أيضاَ كانت حادثة التصدق بالخاتم وأهمية هذه الحادثة أنها عندما ذكرت وأرخت من قبل القرآن الكريم كانت بعنوان الولاية وكان بالإمكان أن تذكر بغير ذلك العنوان أي أنه كان بالإمكان أن تذكر بأنها قضية الإنفاق في سبيل الله في سياق آيات الإنفاق كما ورد في قوله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ))، فحادثة التصدق بالخاتم أيضاً  من هذه المناسبات التي كانت في شهر ذي الحجة، ومن تلك المناسبات أيضاً قضية المباهلة ويلحظ هنا أن هذه المناسبات الثلاث تحدث عنها القرآن الكريم،فآية الغدير (( اليوم أكملت لكم دينكم ))، وقوله تعالى: (( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك )) ، وقضية التصدق بالخاتم (( إنما وليكم الله ورسوله ))، وف قضية المباهلة في قوله تعالى: (( وقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ))، وهذا يعطيها ميزة إضافية.

 المباهلة في اللغة العربية بمعنى الملاعنة أي إذا تصدى شخصان أو فئتان ليلعن بعضهم بعضاً يقال تباهلا أي تلاعنا، فالمباهلة بحسب ما ورد هنا ويظهر أنها كانت مع الأنبياء السابقين بحدود ضيقة بحسب ما تحدث عنها الروايات فتعني مثلاً أن شخصان يتناظرا ويتناقشا فإذا لج أحدهما عن قبول الحق ولم يخضع إلى الآخر قيل له أن نتباهل أي ندع الله عز وجل أن يهلك المبطل منا، وقد فصل القول في هذه القضية السيد علي بن موسى بن طاووس صاحب كتاب إقبال الأعمال المتوفى في عام 664 وهو من أجلة العلماء وفي طبقة أساتذة العلامة الحلي رضوان لله عليهم وله مؤلفات كثيرة، فقد ذكر تفاصيل هذه الحادثة في كتاب تفاصيل الأعمال مع أن هذا الكتاب يتحدث في قضية الأعمال الحسنة والصالحة وما ينبغي أن يفعل، وقد فصل هذه الحادثة أيضاً العلامة الكرباسي في كتابه دائرة المعارف الحسينية في الجزء الثاني من كتاب السيرة الحسينية، فمختصر السيرة هو أن نبينا المصطفى محمدصلى الله عليه وآله وسلم بعد أن استتب له الأمر في المدينة وبعد أن فتح مكة وأخضع قبائل ثقيف في الطائف أصبحت له هذه السيطرة على هذه المنطقة في الجزيرة العربية وهي كانت المنطقة الرئيسية والمركزية وقد بدأ بإرسال وفوده إلى سائر القبائل والمناطق داعياَ إياهم إلى الإسلام بإعتبار أنه مأمور بتبليغ الإسلام، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث الوفد وفي هذا أمر سلمي فإذا تعن تذلك الرئيس أو كبير القبيلة أو رئيس المدينة والمنطقة  بعد محاولات عديدة حينئذ يبدأ معه الحرب.

لعل البعض يتساءل أنه لماذا يحدث ذلك؟ الجواب هو أنه ليس من حق شيخ القبيلة أو رئيس المنطقة أن يمنع هدى الله عن الناس لا من الناحية القانونية ولا من الناحية الدينية، فكان النبي يرسل الوفود إلى تلك المناطق ومن جملة المناطق التي أرسل الوفود إليها هي منطقة نجران التي تقع جوب المملكة العربية السعودية وشمال اليمن وقد أصبحت الآن جزءاً من المملكة وقد كانت في السابق مركزاً دينياً لليهود أولاً ثم المسيحيين ثانياً وقد كانت بمثابة حلقة وصل بين الحبشة التي كانت مسيحية وبين المسيحيين واليهود الذين قد يتواجدون في اليمن أو أطراف المدينة وما شابه ذك، وكان فيها حضور ديني كبير من الأساقفة والأساوسة والأحبار، فعندما أرسل النبي موفدين من قبله إلى هذه المنطقة قام كبار المنطقة واستقبلوا هؤلاء الموفدين وقالوا لهم بأنهم جاؤوا من قبل رسول الله صل الله عليه وآله وأنهم أمروا أن يعرضوا دين الله على أهل هذه المنطقة فإن استجابوا وآمنوا أصبحوا جزءاً منهم وإن رفضوا فلابد أن يحددوا علاقتهم مع هذه الدولة ومع هذه السيطرة فإن كانوا معادون فلا شك بأن خيار الحرب سيكون موجوداً وإن كانوا مسالمون فلابد أن تكون هناك اتفاقية ومعاهدة يوقعها الطرفان، فقد كان هناك زعيمان كبيران أشبه بمثابة مرجعية دينية لهما وهما العاقب بن مسيح والآخر هو السيد الأبهم بن النعمان وقد كان لهما معرفة دينية مسيحية ويهودية وقد كانوا أيضاً كبار في السن فأقنعوا من حضر بأن لا يتعجلوا في الحرب ولينظروا إلى الصفات التي تذكر عن النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم هل تنطبق على الصفات الموجودة عندهم والتي تتحدث عن نبي سيبعث في مكة أو في المدينة أو أنه قد يكون غير صادق في دعواه، ووجدوا بأن هذا هو الرأي الحسن وعندها قاموا بمراجعة الكتب ويذكر بأنهم لديهم بعض صحف شيث وهو هبة الله بعد الطوفان وقد كان هو النبي الأكبر وكان عندهم أيضاً بعض صحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى وقد قاموا بمراجعة كل تلك الكتب القديمة التي تنسب إلى الأنبياء والحواريين فرأوا بأن كل تلك الكتب تعضد بعضها في تصديق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أثر ذلك قالوا أنه لا يمكن أن نحارب فهذا الرجل تنطبق عليه المواصفات التي ذكرتها الكتب السماوية، ولكن أصبح لإشكال عندهم في إتباعه أو عدم إتباعه بحجة أنهم على ديانة سماوية أيضاً فاتفقوا بعد ذلك على أن يأتوا إلى المدينة للتفاهم مع النبي صلى الله عليه وآله لعلهم يقنعوه بدينهم وقالوا لموفدي الرسول بأن يرجعوا، وبالفعل في اليوم العشرين من ذي الحجة في العام التاسع للهجرة وصل وفد من منطقة نجران بعد أن انتخبوا أربعة عشر عالماً من علمائهم وعلى رأسهم العاقب بن المسيح والأبهم ويردفهم سبعون شخصية اجتماعية فأصبح عددهم ما يقارب 84 أو 85 إنسان، وقد كانوا يرتدون الأردية المطرزة والقفاطين المذهبة والزنانير المرتبة، فلما وصلوا إلى المدينة جلسوا في اليوم الأول للراحة وينقل بأن أمير المؤمنين عليه السلام مر بهم في اليوم الثاني ليستخبر ما هو موضوعهم فقال له العاقب بأنهم جاؤوا ليقابلوا الرسول، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام أن الرسول لن يستقبلهم بهذا اللباس لأنه يحتوي على إشارات الصليب ويوجد فيه بهرجة دنيوية زائدة، وبالفعل طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقيموا القداس أي صلاتهم في المسجد فرفض المسلمون ذلك ولكن النبي صلى الله عليه وآله أذن لهم في الدخول وأقاموا الصلاة في ذلك المسجد كما ينقل السيد ابن طاووس وعنه ظاهراً صاحب الموسوعة الحسينية ويظهر أن صاحب تفسير الأمثل قد نقل هذا المعنى، فعندما جاء اليوم الثالث دخلوا في النقاش مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد كانوا يركزوا على أن عيسى بن مريم أصبح جزءاً من الإله قد حل فيه عندما نفخ الله فيه من روحه وأنه لم يكن كسائر البشر بل أن جزء منه هو جزء إلهي وأنهم يعبدون هذا الجزء، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( أن مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون )) فإذا كان عيسى بن مريم فيه جزء من الله والجزء الآخر هو جزء بشري كما يدعون وهذا غير صحيح فإن آدم لا يوجد فيه جزء بشري أبداً فقد خلقه الله من تراب ثم نفخ فيه من روحه ومعنى هذا بأنه لا ميزة لعيسى على آدم، ولكنهم أصروا وجادلوا وناقشوا، ونجد ذلك عند قسم من الناس فيدخل في قضايا نقاش مع أحد الأشخاص حول المذهب مثلاً ولكن الطرف الآخر لا يريد الحق والهداية إنما يريد الجدال والعناد أو تسقيط الطرف الآخر، فهذا النمط من الجدال يبدأ من الذيل غالباً كأن يسأل عن سبب السجود على التربة أو سبب جمع الصلوات وهذا نقاش غير صحيح ولا فائدة منه، فإن أراد الإنسان نقاشاً صحيحاً فليبدأ كما بدأ القرآن الكريم والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالنبي لم يقل للمسيح أن هذه الصلاة ليست صحيحة ولم يقل لهم لماذا تأكلون لحم الخنزير أو غيره وإنما بين لهم أصل النبي عيسى وأنه عبداً وليس إلهاً، وأن الأفكار التي تترتب على ذلك إنما هي أفكار باطلة، وعلى أساس ذلك فإن النقاش في المذهب يكون بحديث الثقلين هل هو ثابت أو غير ثابت؟ هل به دلالة أو لا يوجد به دلالة؟ فإن كان ثابتاً وبه دلالة فهذا يكفي ولا يتم النقاش في الأحكام وغيرها، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يتحدث مع المسيح في قضية عيسى عليه السلام وأنه مثل آدم ولا تجب عبادته لأنه بشراً ، ولكن البعض من المسيحيين لجوا أي جحدوا، فإتجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قضية المباهلة وهي أن يأتي النبي بمن يعتقد أنهم أولياء الله وكذلك المسيحيون يأتون بمن يعتقدوا أنهم أولياء الله ثم نتباهل ونقول ( اللهم اجعل لعنتك على الكاذب منا )، وهنا اختار الله لنبيه من يأتي بهم عندما قال تعالى: (( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ))، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعلي وفاطمة والحسنين وجعل نفسه كنفس علي بن أبي طالب عليه السلام، وفي اليوم المتواعد وقد كان في الضحى وعندما عرف العالمان المسيحيان بمن جاء بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرا بعدم مباهلتهم وجدالهم فإن النبي لو كان غير صادق لم يأت بأهله وذريته وأقرب المقربين إليه، فتراجعوا عن ذلك وأعطوا مصالحة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعدها بأيام أسلم العالمان لما رأيا من آيات رسول الله وصدقه وقد آمنت نجران كلها في أقل من عام بدون أن يسل فيها سيف أو أن يطعن فيها برمح وهذه من بركات رسول الله صلى الله عليه وآله  وبركات أهل بيته عليهم.

نسأل الله تعالى أن يحشرنا مع أهل بيته ويكرمنا بشفاعتهم أنه على كل شيء قدير.

 

مرات العرض: 3389
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2572) حجم الملف: 34220.79 KB
تشغيل:

عقوبة سوء الأخلاق 29
ما هو ذِكْرك اليومي ؟