هل في القرآن الكريم تِبيانُ كُل شيء
كتابة الأخت الفاضلة فاطمة آل السيد
قال اللهُ العظيم في كتابه الكريم “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِين” صدق اللهُ العليُ العظيم.
حديثُنا في ظلال هذه الآية المباركة بعنوانِ هل في القرآن تبيانُ كل شيء. تبيان في اللغةِ العربية هي والبيان بمعنى واحد، والبيان يعني رفعُ الإغلاق والخفاء عن الشيء حتى يبين ويبدُو للناس. أمرٌ من الأمور يكونُ خفيًا، يُرفع عنه الخفاء فيبين، يظهر، ويُعرف.
فالقرآنُ الكريم بحسبِ هذهِِ الآية الُمباركة نزلهُ اللهُ عز وجل تبيانًا، ثم قال لكلِ شيء، والعلماء يقولون أن هذه الكلمة أو هاتين الكلمتين من أوضح أنحاء العموم في الشيء. كُل شيء عام لكل شيءٍ يدخل تحته كُلُ الأشياء. المقصود بـ “كل شيء” في الآية المباركة: القرآن يتحدث عن نفسه بلسان الله عز وجل نزَّلنا الكتاب تبيانًا لكل شيء. فيأتي هنا السؤال: ما هو المقصود بـ “كُلِّ شَيْءٍ”؟! هل القرآن الكريم مثلا يحوي تبيانَ عُلوم الرياضيات؟ علمُ الفلك؟ علم طبقاتِ الأرض؟ الفنون؟ فهل “كُلُ شيء” شاملةٌ لهذه الأمور أم لا؟
ولرُبما يُقال أننا لا نحتاجُ لأي علم لأن كُلَّ شيءٍ موجودٌ في القرآن الكريم، وعليه فنحن لا نحتاج لشيءٍ آخر. فهل هذا الكلام فعلا هو المقصود؟
- معنى الكِتاب: اتضاحُ الأمر يتوقف على المُراد من كلمة “الكتاب”، ماهو المقصودُ من “الكتاب” في الآية؟
• وجدنا في القرآن الكريم نحوينِ من الكلام عن الكتاب: النحو الأول يُفيد بأن معنى الكتاب هو شيء تتركزُ فيه كُلُ العلوم والقضايا، فهو أشبه بمركزِ معلومات كوني هائل. أيُ حبة، أيُ ورقة، أيُ قشة، أيُ شيءٍ يحدث فهو موجودٌ في كتابٍ مبين، سواءً كان في نورٍ أو ظُلُمات، في البر أو البحر. وكأنما هذا الكلام يفترضُ مخزنًا، حسب تعبير المعاصير، وإلا هذهِ الأمور نحنُ لا نعلمُها ولكن نشبِه بها ماهو قريبٌ منا حتى نتفهمه، فنقول أنه مثلُ أرشيفٍ يحوي كل شيء.
في موضعٍ آخر تتحدث الآيات فتقول “لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ” وأيضا “وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ”. فإذن يتبين أن هذا الكتاب الذي يُبحث عنه هو شيءٌ مربوطٌ بعلمِ الله عز وجل، حتى القرآن الكريم “إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ” ولا سيما إن قلنا أن الضمير في “يَمَسُّهُ” يعودُ على الكتاب وليس على القرآن، نجدُ هنا سؤالا هل أن الضمير يعودُ على القرآن، أم يعودُ على الكتاب الذي يحوي القرآن؟ الأقرب أن الضمير يعودُ على الكتاب، فهذا الكتاب لا يمسُهُ إلا المطهرون، وأن القرآن في ذلك الكتاب. هذا الكتاب الذي تتحدث عنه الآيات هو شيءٌ يرتبط بعلمِ الله غير المحدود والمُحيط بكلِ شيء.
فإذن هذا الكتاب الذي هو مرتبطٌ بعلمِ الله تعالى ينطوي تحته كُلُ العلوم والمسائل والقضايا من كيمياءٍ وفيزياءٍ وجيلوجيا وأدبٍ وبرٍ وبحرٍ وشجرٍ ومدر وغيرُها كُلُها موجودةٌ في ذلك الكتاب.
هذا المعنى بعضُ روايات أهل البيت عليهم السلام تُشيرُ إليهِ أيضا، فقد رُوي عن الإمام الصادق (ع) قولُه “إني أعلم ما في السماوات والإرض والجنة والنار” بعض الحاضرين تعجب واستنكر، فبين الإمام (ع) الأمر بقولهِ تعالى “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ” ونحن أهلُ البيت لدينا علم القرآن وعلم الكتاب. هذا هو الاتجاه الأول أن الكتاب الذي فيه كُلُ شيء إنما يكونُ في الكتاب التكويني، في مخزن علمِ الله إن صح التعبير، وفي الأرشيف الإلهي، وهذه كُلُها عباراتٍ تقريبية.
النحو الثاني يقول أنَّ المقصود بالكتاب هو القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم تم الحديث عنه بعنوان الكتاب في القرآن كثيرا فقال الله “الم، ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ”، “حم، تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ”، “وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ”، “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ”. هذا الرأي يقول أن المقصود بالكتاب هنا هو نفسُ القرآن الكريم، وليس الكتاب الآخر الذي يُعبر عن علم الله عز وجل.
• وهنا نجدُ اتجاهين في هذا الرأي: الاتجاهُ الأول يقول أنَّ هذا القرآن هو تبيانٌ لكل شيء، ولم يفرط الله فيه من شيء، أي كُلُ العلوم موجودة في القرآن الكريم، فهو مثل خزانة تحوي صناديق متعددة، أول صندوقٍ فيها مفتاحُهُ لدى عامّة الناس، الصندوقُ الثاني مفتاحُه لدى مجموعةٍ معينةٍ من الناس، وهكذا الصُندوقُ الثالث، آخر صُندوقٍ مفتاحُه لدى مُدير البنك مثلا. وهكذا القرآن الكريم عامّةُ الناسِ لهُم التدبر والمعاني الظاهرية والأخلاقيات والأحكام الشرعية في ظاهِرها وأمثالُ ذلك، وأمّا ما بعد ذلك من علومٍ هائلة فلها أُناسٌ وأهلٌ أعلمُ بها. وهناك من يؤيدُ هذا الرأي أيضا من أتباعِ مدرسةِ الخُلفاء، القرطُبي ينقُلُ عن ابن مسعود في تفسيرِ هذه الآية أنَّ القرآن الكريم فيهِ كُلُ العلوم، فكُلُ ما يحتاج إليه الناس من علوم فهي موجودةٌ في هذا القرآن.
الاتجاهُ الثاني أن المقصود هنا ليس كُلُ العلوم، وإنما كُلُ شيءٍ يتناسبُ مع غرضِ القرآنِ وهدفِه، وهذا موجودٌ في المحاورات العُرفية. مثلا لنفرِض أن أحدهم وصف لكَ مستشفى وقال بأن هذا المستشفى يحوي كُل شيء، وأنّ كُلَّ شيءٍ موجودٌ فيه، فتسأَلُه إذن أستطيعُ تبديل إطاراتِ السيارةِ فيه؟ هل توجد فيه طيّارات؟ فيُجيبك بالنفي، ويُوضِحُ لك بأن المقصود هنا أن المستشفى يحوي كُل العيادات المتنوعة والأطباء، ففيهُ كُلُ شيءٍ مما يتناسبُ مع معنى المستشفى. وهكذا لو ذهبت لمركزِ تموينات ورأيتَ أنَّ كُلَّ شيءٍ موجودٌ فيه، فهل هذا يعني أنهُ يحتوي جامعةً للدراسة مثلا؟ طبعًا لا، وإنما المقصود أنه يُوفر كُل ما يرتبط بأمور مراكز التموينات. فإذن هذا الاتجاه يرى أن “تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ” لا تعني مثلا كيفية استخراج النفط، أو كيفية إصلاح الكهرباء، فهذه ليست دائرةُ حيطةِ القرآن الكريم، دائرةُ حيطةِ القرآن ترتبط بحياةِ الإنسان على المنهجِ القويم والصراطِ المستقيم من عقائد، شرائع وأحكام، أخلاق وأنظمة في التعامل، وهكذا كُلُ شيءٍ يرتبط بـ “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ”.
وهذا إما أن يكونُ بشكلٍ مفصّل مثلُ بعضِ آياتِ الميراث، أو قضايا العقيدة في الله عز وجل، وبعض قضايا الأخلاق التي جاءت بشكل تفصيلي في القرآن، وأيضا بعض القضايا التي جاءت بشكلٍ مُجمل ولكن مع تعيين الطريق إليها فقال “وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا” يعني النبي محمد (ص). فالمواضِع التي تحتوي إجمالًا، أو اختصارًا، أو عدمَ تفصيل فإن القرآنَ أعطى الطريقَ إليها وهو النبي (ص).
نجدُ الآن كُلُ الناس قد اعتادت على الأجهزة الإلكترونية، وعلى استخدام الإنترنت، فلو رأيت مقالا في الإنترنت، ووجدت كلمةَ “الإرث” فيه، وأردت أن تتعرف على معنى هذهِ الكلمة، بعضُ المواقعِ الإلكترونية تُتِيحُ لك خيارًا بالضغطِ على هذهِ الكلمة وتنقُلُكَ إلى صفحاتٍ أُخرى تُوضح معنى هذه الكلمة وكُل ما يتعلق بها. أيضًا لو رأيت اسم شخصيةٍ ما في هذا النوع من المواقع، فإن الضغط عليه ينقُلُكَ لصفحةٍ أخرى تحتوي سيرةَ ذلك الشخص.
الطريق لمواردِ الإجمال والاختصار في القرآن الكريم: وهكذا القرآن الكريم في موارد الإجمال والاختصار عرّف الإنسان بالطريق إليها وقال أن الطريق إلى ذلك هو النبي محمد (ص)، والنبي (ص) بدورِه قال أيضًا أن ما أوضحتُهُ بشكلٍ كامل فقد اتضح، وأما ما لم تُتِح ليَ الفرصةُ بتوضيحه فإن الطريق إليه هو عترتي أهلُ بيتي (ع).
فإذن القرآن الكريم يشمل كُل شيء يحتاجُهُ الإنسان في ما يرتبط بقضيةِ الحياةِ القويمة، بعلاقتهِ بالله، بعلاقتهِ بالناس، بكيفيةِ العيش عيشةً راضيةً هنية، فهذا كُلُه موجود في القرآن الكريم “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ” في هذه الدائرة. فليس المطلوب من القرآن مثلا أن يُوضح كيف تكون صناعة الطيارات، أو كيف يُستخرج النفط، أو كيف يكون شكلُ البناء، فهذهِ ليست في دائرةِ “كُلِّ شَيْءٍ” التي جاء بها القرآنُ الكريم.
وعليهِ فإنه لا يُفترض بإنسانٍ أن يسأل مثلا عن سبب عدم وجود أسماء الأئمةِ مثلا في القرآن، أو ما شابهها من الأسئلة. إحدى الرسائل اليوم كانت تسأل عن الدليل على أن القطة وبرُها وشعرُها مُفسدٌ للصلاة؟ فالقطة - بحسب حديث السائِل - لطيفةٌ وناعمةُ الملمس وهكذا، فكيف تُفسد الصلاة؟ وهذا السائل يقول بأنه لم يجد دليلا في القرآن أو الروايات عن هذا الحُكم. فأجبت بأنهُ صحيحٌ أن القرآن الكريم لا يحوي دليلا على هذا، ولكنّ الروايات ففيها الشيءُ الكثير من ذلك وذكرتُ الرواية المعروفة عن الإمام الصادق (ع) “إن الصلاة في وبر كل شئ حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وروثه وألبانه وكل شئ منه فاسدة، لا يقبل الله تلك الصلاة حتى يصلى في غيره مما أحل الله أكله” فرَدّ السائل بأن الإمام (ع) لم يأتي بعنوان القط أو القطة بعينها، فأجبت من بابِ المفاكهة بأنهُ كان ينبغي أن يذكُر الإمام (ع) نوعُ القطة أيضا هل هي قطةٌ أمريكية ام فارسية، لونها أصفر أم أسود. هذا العنوان “ما لا يؤكل لحمه” سواء كانت قطةً أم نمر أم أسد وأمثال ذلك مما لا يؤكل فلا ينبغي أن يتعلق وبرُه وشعرُه في الثوب أو البدن أثناء الصلاة، صحيح أن بعض العلماء رأى أن الشعرة والشعرتين لا تضر لأن الرواية تقول “فالصلاة في وبره وشعره” تعني أن يكون هذا الشعر بكمية يُعتدُ بها، وأما البعض الآخر من العلماء فقال بأن الرواية تصدُق على الشعرة الواحدة، وعلى الخمسون شعرةً أيضا.
توضيح الأئمة (ع) للقضايا المجملة في القرآن ليس اجتهادًا منهم وإنما هو علمٌ ورثوه من النبي (ص): فالشاهد أنه لو كانَ هناك إجمالٌ في قضيةٍ ما في القرآن الكريم، فإن الطريق إلى تلك القضية هو النبي (ص) وعترته (ع)، وهم يفصِلون لنا القضية من القرآن الكريم أيضا وليس من تلقاء أنفسهم. الإمام الصادق (ع) سألهُ شخص “أرأيتَ إن كانَ الأمرُ كذا فنقولُ فيهِ كذا” أي هل بالإمكان أن نأتي برأيٍ من عندنا؟ أنا أعتقد بأن الحكم سيكون هكذا، فقال له الإمام (ع) “دعنا من أرأيت، لسنا من أرأيت في شيء، إنه علمٌ، هي أصولُ علمٍ نتوارثُها عن جدنا رسول الله (ص)” أي أن هذا الكلام نحنُ الأئمة لا نأتي به من تلقاءِ أنفُسِنا.
بل أكثر من هذا ما يقولهُ الإمام الباقر (ع) وينقُلُه الشيخ الكُليني في الكافي “إذا حدثتُكُم بشيءٍ فسلوني أين هذا من كتابِ الله” حتى يُبين للناس أن الأئمة (ع) استنادهم إما لعلمِ رسول الله (ص) وإما يؤول للقرآن الكريم. فمَرّ الإمام في حديثه فقال “إن رسول الله نهى عن القيل والقال، وإفساد المال، وكثرة السؤال” فسألهُ الناس أين هذا من كتاب الله؟ فقال (ع) إن الله نهى عن القيل والقال في قوله تعالى “لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ” النجوى هنا تعني الحديث بين شخصين، أو السر المتبادل بينهما فالله يقول أن كثيرٌ من هذا الحديث لا خيرَ فيه إلا إذا كان في أمورٍ نافعة مثل الأمر بالمعروف. وأما النهي عن إفساد المال ففي قوله تعالى “لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما” فهذا إفسادٌ للأموال بأن تُعطيها للشخص السفيه. ويأتي النهي عن كثرةِ السؤال في قولهِ تعالى “لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ” فهناك أسئلة كثيرة لا فائدة لها، أحيانا قسم من الناس يسأل لمجرد أن يُثبِت لأصحابه أنه ما قالهُ هو الصحيح وأن الآخرون مُخطِئون، أو يسأل الآخر مثلا ماهو اسم أم موسى (ع)، فليس هناك فائدة علمية من أمثالِ هذه الأسئلة أو غيرها من الفوائد.
نستنتج إذن أن هذا القرآن فيهِ تبيانُ كُل شيءٍ فيما يرتبطُ بدائرتِه وبمحيطِ اهتمامه، وهذا موجودٌ عند الأئمةِ (ع) وقبلهُم رسول الله (ص). نوردُ بعض الأمثلة على ذلك والتي تُبين كيف أن أئمة الهدى (ع) أشاروا إشاراتٍ لِيُبرهِنوا للناس بأن ما يُخبرون به هو ليس اجتهاد، وإنما هو حُكُمُ الله الواقعي والمعصوم يُنبِئُ عنه. الاجتهاد الخطأ واردٌ فيه، أي مُجتهد مهما بلغت درجتُه فإنهُ يحتمل أن يصلَ إلى الحق ويُحتمل أن لا يصل إليه، لذلك ترى علماؤنا يضعون في نهاية فتواهم جملة “والله العالم” أي أن هذا العالِم بذلَ جُهدهُ بمقدارِ ما يستطيع ولكن هذا لا يعني أن هذه النتيجة هي الأكيدة. ولكن النبي (ص) والأئمة (ع) ليس لديهم احتمال الخطأ فما يُخبرون به ليس من الاجتهاد وإنما هو علم يُنبِؤون به.
أمثلة على أنَّ علم النبي (ص) والأئمة (ع) ليس اجتهادًا من أنفُسِهِم: المثال الأول لدينا في القرآن الكريم “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا” المطلوب هنا هو السعي بين الجبيلين الصفا والمروة ولكن هل نبدأ من الصفا أو المروة؟ أو لا فرق بينهما؟ الإمام هنا يُصر على البدأ من الصفا، وتسعى إلى المروة لتُكمل شوطًا واحدًا، وذلك لأن الله بدأ بالصفا في الآية المباركة، وهذا يرتبط بالترتيب، فترتيب كلمات الآيات ترتيبٌ توقيفي، وترتيب الآيات فيما بينها أيضا ترتيبٌ توقيفي قام بهِ رسولُ الله (ص). فهناك إذن عنايةٌ خاصّة لِكُلِ كلمة، ولذلك نجد أن ترتيب كلمة “الصفا” على كلمة “المروة” في الآية هو ليس ترتيب عشوائي، والإمام عالِم بهذا.
المثال الثاني أيضا نرى أن ترتيب الآيات فيما بينها يُشير إلى ترتيب الأعمال، لدينا في زكاة الفطرة الواجب أن تُخرجَ الزكاة ثم تُصلي، فلو فرضنا أن أحدهم صلى صلاةَ العيد وأراد إخراج الزكاةِ بعد صلاته، هذا المال الذي أخرجه بعد صلاة العيد يُعد صدقةً عامّة، ولا يدخل في باب الزكاة. هذا الترتيب جاء من قولهِ تعالى “قدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى”.
المثال الثالث أحيانا أيضًا الجمع بين آيتين يؤدي إلى حُكمٍ معين، نذكر هنا قصةً امرأةٍ حدثت في زمن الخليفة الثاني، جاء زوجها للخليفة يقول أنهُ تزوجها منذ ستة أشهر وأنها ولدت لهُ ولدًا، فهل خرج الرضيعُ قبل أوانه أم أنها جاءت بما لا يرضي الله قبل زواجهما بثلاثة أشهر؟ أكثرُ الناس قالوا بأنهم لم يُصادفوا مثل هذه الحادثة من قبل، لذلك فإنها خيانة، والمرأة تبكي وتنكر ذلك، فسُئِل أمير المؤمنين (ع) وهو كاشف الكربِ عن رسول الله (ص) بسيفه وكاشفُ الكربِ عن المؤمنين بعلمِه، فاستحضرها فقالت “واللهِ يا أبا الحسن ما جرت عليّ ريبة، وما عرفتُ رجُلاً قبله واللهُ شاهدٌ على ما أقول” فقال اتركوها وجمع بين الآيتين “وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا” و “وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن” أي ٢٤ شهرًا، أي أن أقل مدةٍ للحمل هي ستةُ أشهر، وهذا دليلُ براءةِ المرأة، ونَسَبَ الولدَ إلى والديه، ونجّاها من التُهمة وربما من الحد.
المثال الرابع في مسألة القصر في الصلاة وهل أنهُ عزيمة، بمعنى أنهُ لا بد منهُ في السفر أم أنهُ رخصة، بمعنى أن الإنسان مُخيرٌ فيه؟ كثير من أتباع مدرسة الخلفاء يقول بأنها رُخصة، ولكن الإمامية يرون أنها عزيمة، وهذا من القرآن الكريم في الآية “فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ” أي أنكم لن تُعاقبوا للقصر في الصلاة، والإمام يقول لاحظوا استخدام القرآن لجملة “لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ” في آية السعي “فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا”. في هذه الآية السعي إلزامي والإنسان ليس مُخير فيه، وينطبقُ هذا على آية القصر في الصلاة أيضا.
المثال الخامس في موضوع غُسل الجنابة، الإمامية ترى أنه يُغني عن الوضوء، بل يرون أن الوضوء قبله أو بعده منهي عنه، أما مدرسة الخلفاء فيرون وجوب الوضوء قبل الغسل أو بعده. جاء رجلٌ إلى الإمام الصادق (ع) ونقل لهُ هذا الأمر فتبسم الإمام (ع) وقال “وأيُ وضوءٍ هو أنقى من الغُسل وأطهر؟” وهذا من الآية المباركة “وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا” أي فاغتسلوا ولم يقرنها بالوضوء. فقال لهُ زُرارة “وكيف نعرف أن المسح في الوضوء هو لِجزءٍ من الرأس وليس مسحًا للرأس بأكمله؟” فقال (ع) “لِموقعِ الباء في آية الوضوء” في اللغة العربية تُستعمل الباء في مثل هذه المواضع للتجزأة والتبعيض والله تعالى يقول “وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ”.
فإذن نرى أن أهل البيت (ع) أحيانا يستفيدون من حرف، وأحيانا من كلمة، وأحيانا من الجمع بين آيتين، فهو علمٌ قد أحاطوا به وورثوهُ من جدهم رسول الله (ص).
|