جمع القرآن في رؤية الشيعة الإمامية
كتابة الأخت الفاضلة فاطمة آل السيد
تدقيق الأخ الفاضل أبي محمد العباد
رُوي عن سيدنا ومولانا أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال ( ما أحدٌ من هذه الأمة جمع القرآن إلا وصي محمد )
وعن أبي عبدالله جعفر ابن محمد الصادق عليه السلام أنه قال إن رسول الله قال لعلي: ( يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف والحراير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة، فانطلق عليٌ فجمعه في ثوبٍ أصفر، ثم ختم عليه في بيته، وقال لا أرتديه حتى أجمعه، فإنه كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه)
حديثنا بإذن الله يتناول موضوع جمع القرآن بحسب رؤية الشيعة الإمامية، وقد ذكرنا فيما مضى أن الرأي الذي يُفتي به مراجع التقليد في هذا الزمان وهو الرأي المشهور عموما أن القرآن الكريم قد جُمع في زمان حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأكمل ذلك الجمع بصورته النهائية أمير المؤمنين علي عليه السلام بوصية من رسول الله صلى الله عليه وآله كما يفيد ذلك ما روي عن الإمام الصادق بشكل مفصل وما أجمله حديث الإمام الباقر عليه السلام أيضاً.
الإمامية يخالفون مدرسة الخلفاء في طريقة وصول القرآن الكريم، وفي مقدار الضمانات التي يؤكدون وجودها بالنسبة إلى القرآن الكريم، بحيث لا يمكن مع هذه النظرية أن يتطرق أي احتمال بأي نسبة كان من وجود خللٍ أو خطأ أو غير ذلك.
بينما بناءً على النظرية الأخرى، التي ذكرنا عددًا من الانتقادات الموجهة إليها في جمع القرآن الكريم، يتطرقُ الشك وتنفتح الأبواب من قبل أعداء الدين والمخالفين للقرآن الكريم للتشكيك في مصداقيته بكامله أو في كماله وتمامه.
وأعجب من هذا عندما يتبجح البعض من المسلمين بالقول مثلاً كما ذكر بعضهم أنه يقول: أنا لي سند للقرآن وهو عن فلان عن فلان عن فلان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، هذا من أسخف الطرق من الناحية العلمية عندما نريد أن نُثبت القرآن بسند يُعتبر على خبر الأحاد، لو فهم القائلين بهذه الكلمات مؤدى كلامهم لستروا هذا الكلام، إنما القرآن في ثبوته وبقائه ووصوله إلى المسلمين أسمى من هذا وأعظم وأكبر .
أضلاع وصول القرآن إلى المسلمين:
الإمامية يقولون بأن هناك ثلاثة أضلاعٍ مهمة في قضية القرآن ووصوله إلى المسلمين في هذا الزمان:
الضلع الأول: التلقي المباشر
وهو التلقي مباشرة من الله عز وجل عبر جبرئيل وعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وبخط أمير المؤمنين عليه السلام، هناك مراحل من العصمة تنتهي إلى أمير المؤمنين وقد سبق أن ذكرنا أنه لا يُعقل أن يُنتِج غيرُ المعصوم كتابًا معصومًا.
إذن الضلع الأول هو التلقي.. التلقي بمعنى أن الإمامية يعتقدون بأن الله أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وآله والواسطة كانت جبرئيل عليه السلام، رسول الله صلى الله عليه وآله حفظ ذلك وألقاه إلى كُتابِ الوحي، وأعظمهم وأهمهم وأولهم علي أمير المؤمنين عليه السلام، الذي يقول (ما من آية في كتاب الله عز وجل إلا وهي إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله بخط يدي) بعد هذا الحديث الشريف لا نحتاج إلى مثل ما قيل ( اجمعوها من العسب) أو نريد شهود هل فلان سمع هذه الآية أم لا، وما شابه ذلك.
إضافة إلى ذلك .. نحن لا نحتاج ٢٣ سنة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يُجمع القرآن، ففي زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وأيامه كان هذا الكتاب مجموعٌ بمقدار معين، الختم النهائي لهذا الجمع كان عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقد أمر علي عليه السلام أن يأخذ هذا الشيء المكتوب المدون لكي يجمعه الجمع الأخير الذي سوف نتحدث عنه لاحقاً.
هذا التلقي المباشر يُفوت أي احتمال أو إمكانية لأن يُقال مثلاً ( أكلت السورة الفلانية الداجن) أو (كنا نقرأ سورة الأحزاب بمئتي آية) وما شابهها من الأحاديث غير الصحيحة، فالتلقي كان من فم رسول الله وخط علي ابن أبي طالب .. هذا مكتوب وهذا موجود.
الضلع الثاني: العرض الجبرئيلي
وهو أن الأمين جبرئيل كان ينزل على الأمين محمد صلى الله عليه وآله بالآيات خلال السنة حتى إذا تمت تلك السنة نزل الأمين جبرئيل على رسول الله فعرض عليه ما نزل خلال هذا السنة من جديد.
لو فرضنا في شهر محرم تم نزول ٤٠ آية، وفي شهر صفر نزل كذا آية، وفي شهر ربيع كذا آية، هذه كلها تُسجل وتُدون من فم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى قلم علي عليه السلام وباقي كُتاب الوحي، ومنهم إلى المسلمين، بعدها بعد نهاية السنة كان يأتي جبرئيل ويعرض كل الآيات التي نزلت على الرسول صلى الله عليه وآله خلال هذه السنة بكاملها.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله في مواضع متعددة ولاسيما وهو يودع في السنة الأخيرة أنه كان يقول (إن جبرئيل كان يعارضني في كل سنة مرة بالقرآن وقد عارضني في هذه السنة مرتين) - يُعارض هنا من باب المُفاعلة أي يعرضُ علي وأعرض عليه وليس يُعارضني بمعنى يُخالفني وإنما تعارض بمعنى تبادل العرض - ومن ذلك فهم النبي صلى الله عليه وآله وأفهم أصحابه بأنه سوف يغادر الدنيا في هذه السنة،.فمعنى هذا الكلام أن هذا الكتاب المجيد تمت مراجعته وتدقيقه ٢٤ مرة خلال ٢٣ سنة.
ونرى أنه في الوضع الطبيعي لا يمكن أن يصل التدقيق في شيء ما حتى يصل لأربعة وعشرين مرة، لنفترض مثلاً أن شخصًا ما يمتلك شركة، فيدقق حساباته سنويا، يراجعها ثم يرفعها إلى المدير، يراجعها المدير بدوره ثم يرفعها إلى المحاسب القانوني، يراجعها هذا ويرفعها إلى شركة محاسبة تراجعها، هذه الحسابات يتم تدقيقها ٥ أو ٦ مرات، بعدها ينتهي الموضوع.
ولكن القرآن الكريم لم يُدقق مرة أو مرتين أو ثلاث بل تمت مراجعته بما مجموعه ٢٤ مرة، تم فيها عرض القرآن وختمه بين جبرئيل وبين رسول الله صلى الله عليه وآله بالمقدار الذي أوحي إليه.
في السنة الأولى لنفترض نزلت ٥٠٠ آية، هذا المقدار يعرضه جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله ورسول الله يعرضه على جبرئيل، في السنة الثانية لنفترض نزلت ٧٠٠ آية، أيضا يتم العرض مرة أخرى بين الرسول صلى الله عليه وآله وجبرئيل لمجموع ما نزل في السنتين، السنة الأولى والسنة الثانية، بعدها في السنة الثالثة مجموع العرض يكون للسنوات الثلاث وهكذا، ففي بعضه يتم عرضه مقدار ٢٤ مرة خلال ٢٣ سنة.
هنا لا يمكن أن يأتي أحد من المستشرقين لكي يقول أن القواعد تقتضي بأنه مادامت طريقة الجمع هي هذه المذكورة في التاريخ ضمن إطار المدرسة الأخرى فهناك احتمالات كبيرة لأن تكون آيات لم تُذكر وآيات قد نُسيت وما شابه، لأنه بناءً على هذه الرؤية فمن المستحيل قول ذلك، فعندنا تلقي مباشر ثم عرض من النبي صلى الله عليه وآله على جبرئيل والعكس.
الضلع الثالث: التواتر
موضوع التواتر .. التواتر بمعنى أن النبي استلم الآيات المباركات، أخبر كُتاب الوحي فكتبوها، خرج على المسلمين وأَقرَأَهُم هذه الآيات. والأخبار من الطرفين ومن المدرستين أن النبي (ص) كان يخرج على الناس بعشر آيات عشر آيات، ويقرؤُها عليهم حتى يحفظوها ويعرفوا معانيها.
إذن هنا لم يكن فقط كُتاب الوحي من كان يكتب الآيات ويحتفظ بها، وهنا نرى الاختلاف الذي بين اليهود والمسلمين.
عند اليهود، عامةُ الناس لا شأن لهم بالتوراة، من لهم شأن بالتوراة ويكتبونها ويحفظونها هم الفئة الدينية، وغيرهم لا شأن لهم بذلك، ولكن المسألة تختلف عند المسلمين، فالإنسان المسلم مسؤول عن كتابه المنزل في قراءته وحفظه وتلاوته وتعلمه، وكانوا يتعلمون ذلك ويحفظونه ويتدارسونه.
رؤية المدرسة الإمامية في جمع القرآن:
في الزمن الأول إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله نجد أن أعداد من سمع القرآن وتلاه وحفظه ليست بالعشرات، بل بالمئات، وهذا ما بيناه سابقا أنه حتى بناءً على روايات المدرسة الأخرى فيما حدث في معركة اليمامة والإخبار بأن المسلمين فقدوا أو استُشهِدَ منهم ٧٠ حافظًا من حفظة القرآن الكريم، فهذا عدد من استشهد من حفظة القرآن،وليس كلهم، فليس كل من حضر المعركة استشهد، قسم من الحفاظ استشهدوا وقسم لم يُستشهد، قسم من الناس أصلا لم يذهبوا للمعركة، وقد كانوا من الحفاظ أيضاً، لا سيما قسم النساء والكبار وغيرهم.
فكان عدد الذين جمعوا وحفظوا القرآن من الزمن الأول لاسيما مع كثرة تأكيد الرسول صلى الله عليه وآله على ذلك عدد كبير، ولذلك يتعجب الإنسان عندما يرى هذه الصورة التي تنقلها الكتب التاريخية حول قضية الجمع، وكأنما القرآن قد ضاع، فحين يقولون أيها الناس من سمع آية من القرآن فليأتي ويسجلها، أو من سمع من النبي آية فليبادر بتسجيلها، ويطلبون شهود للتأكيد على كلام من سمع الآيات، فليس الأمر هكذا أبدا.
في رؤية مدرسة الإمامية، القرآن وصل في كل عصر إلى أعلى درجات التواتر، مئات في زمان رسول الله وما بعد زمانه قرأوا القرآن وحفظوا القرآن واهتموا به، لذلك لو قال شخص أنا أروي القرآن وطريقي إليه بسند عن فلان عن فلان عن فلان، نجيب عليه بأن هذا ظلم للقرآن، لأن هذا الكلام يفتحُ باب التشكيك في القرآن الكريم.
الصحيح هو ما ذهب إليه الإمامية من أن القرآن إنما تُلقي من الله عز وجل عبر جبرئيل إلى رسول الله إلى إمام معصوم وهو أمير المؤمنين عليه السلام، كتبه من فم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وليس زيد بن ثابت أو فلان من جمع القرآن ورتبه وأحصى آياته، لأنهم غير معصومين ومن كان غير معصوم لم يُؤمن منه تطرق الخطأ، وإنما كتبه علي عليه السلام، فقد كان ملازمًا لرسول الله صلى الله عليه وآله من أول الأيام التي لم يكن فيها كُتاب وحي إلى الدرجة التي يقول فيها الإمام علي عليه السلام في القطعة الموجودة في نهج البلاغة ( وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه صلى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ، غَيْرَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ - رنة بمعنى صوت صُراخ وانزعاج -حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه صلى الله عليه وآله فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذِه الرَّنَّةُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ”)
رنة الشيطان عندما نزل جبرئيل بـِ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)[1] أو (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر)[2] أو الآيات التي نزلت في أوائِل الدعوة لم يكن أحد إلا علي عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله ، ولذلك يقول الباقر عليه السلام: ( ما جَمَعَ من هذهِ الأمة أحدٌ القرآن غيرُ وصي مُحمد).
في ذاك الوقت زيد بن ثابت أصلاً لم يكن مولودًا بعد، لأنه عندما جاء النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة في أول سنة هجرية كان عمر زيد ١١ عامًا، والنبي صلى الله عليه وآله بُعث قبل هجرته بـ ١٣ سنة، أي أن زيد الذي يعدونه جامع القرآن كان لم يُولد، وفي ذاك الوقت كان أمير المؤمنين عليه السلام قد سمع رنة الشيطان، ووعى ما نزل به جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولذلك يُروى عن الأمير عليه السلام قوله (ما من آية في كتاب الله إلا وهي إملاء رسول الله وخط يدي)
ومن يقول غير هذا فهو على خطأ، البعض ممن ينسبون لهم جمع القرآن أساس لم يعلن إسلامه إلا متأخراً، الوحيد الذي أعلن إسلامه منذ بداية بعثة النبي صلى الله عليه وآله وفي يومها الأول هو علي عليه السلام، لذلك كان القرآن إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخط علي عليه السلام.
فإذن رؤية الإمامية أن القرآن الكريم لم يُجمع على وجه الحقيقة إلا بواسطة أمير المؤمنين عليه السلام، من اليوم الأول للبعثة كان علي عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله ولم يكن معه غير علي عليه السلام، وإلى آخر لحظة من لحظات حياته صلى الله عليه وآله.
هذا القرآن كان مكتوب عند رسول الله صلى الله عليه وآله، ونسخته في بيت النبي، لذلك ما دام النبي على قيد الحياة فإن القرآن الكريم لم يُختم بعد، ويُحتمل أن ينزل عليه الوحي بآية مثلاً. ولكن في آخر لحظات حياته صلى الله عليه وآله كما ورد في خبر الإمام الصادق عليه السلام أوصى علي عليه السلام أنه إذا قضيت نحبي هذا المصحف خلف فراشي وهو في القراطيس والحرير والقماش وغير ذلك، فخذه واجمعه حتى لا يختلف المسلمون فيه كما اختلفت اليهود في التوراة، فجمعه عليٌ كما أُنزل.
مهام أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله:
أخذ الإمام علي عليه السلام هذه القراطيس والجلود والأقمشة وذهب إلى بيته، الناس في هذا الوقت كانوا قد انشغلوا بقضية الخلافة والسقيفة والتعيين، بينما أمير المؤمنين بقي في بيته وقام بمهمتين:
المهمة الأولى: توحيد كتابة هذا القرآن:
كل قسمٍ من القرآن الكريم كان مكتوب في شيء مختلف، بعضه على ورق وبعضه على قماش وجلد وغيرها، فأمير المؤمنين قام بتوحيد هذا المكتوب وكتبه في شيء واحد - وبالمناسبة هذا يحتاج لبحثٍ تاريخي وآثاري، قبل مدة أُعلن أنه تم العثور على نسخةٍ للقرآن في اليمن يُفترض أنها نسخة أمير المؤمنين، وتم طباعتها تحت إشراف لجانٍ متعددة، وشكل هذا القرآن وخطه يتناسب مع ذلك الزمان، ليس فيه نقاط ولا تشكيل، وبحسب دراسات الدارسين في هذا الأمر كانوا يستقربون أن تكون هذه هي نسخة الإمام علي عليه السلام، وبغض النظر عن صحة هذه النظرية أم لا، ولكن هذه حقيقة أن علي عليه السلام رتب القرآن بشكلٍ موحد وخطهُ بِخَطِه.
المهمة الثانية: جمع القرآن كما أُنزل
جمعه الإمام علي ٌ كما أُنزل. بمعنى لم يكن فيه أي زيادة أو نقيصة، وفي بعض الروايات لم يُغادر ألِفًا ولا لام، أي حتى من الناحيةِ الإملائية والخطية. وأيضا يُحتمل أن الإمام عليه السلام رتب السور بحسب نزولها التاريخي، يعني مثلاً أول ما بدأ بالترتيب كانت سورة العلق ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ”)[3]، فمن المعروف أن هذه السورة أو على الأقل آياتها الخمس الآوائل كانت أول ما نزل إيذانًا ببعثة رسول الله صلى الله عليه وآله، البعض يقول كل السورة والبعض الآخر يقتصر على الآيات الخمس الأوائل، وهذا له بحثه.
إذن إن أردنا ترتيب القرآن ترتيبًا تاريخيًا، المفترض أن تكون هذه السورة هي الأولى. ثم نظر إلى السورة الأخرى التي نزلت بعدها في قضية رجوع النبي صلى الله عليه وآله إلى بيته وهي سورة المدثر (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ”)[4]، فتكون هذه السورة هي الثانية، السورة الثالثة بحسب الترتيب سورة نون ( ن ۚوَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ”)[5]، تأتي بعدها سورة المزمل (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ”)[6] وهكذا.
وكما قلنا في وقتٍ مضى، أن ترتيب السور في هذا القرآن الذي هو موجود بين المسلمين ليس ترتيبا توقيفياً، أي لا يوجد دليل على هذا الترتيب وإنما هو أمر تم التعارف عليه، وهو الترتيب الذي حصل في زمان الخليفة الثالث كما هو مشهور، ورُتب على أساس حجم السور، أولا بدأوا بالسبع الطوال كما يسمونها، البقرة، آل عمران، النساء وهكذا، ثم بعدها تأتي الِمئون وهي السور التي آياتها حوالي المئة، ثم بعدها قصار السور فالترتيب هنا كان على أساس كمي وعلى أساس عدد الآيات في كل سورة، الطوال ثم المتوسطات ثم القصار.
فائدة الترتيب التاريخي للقرآن الكريم:
هناك فرق بين أن يكون الترتيب في القرآن الكريم على أساس تاريخي وأن يكون على أساس كمي، الترتيب التاريخي ينقل للإنسان تطور مرحلة الدعوة الإسلامية وحركة النبي صلى الله عليه وآله شيئاً فشيئاً، وكأنك تُرافق النبي صلى الله عليه وآله من الناحية التاريخية، وفي هذا الترتيب منافع عظيمة، ولذلك بعض علماء القرآن، حتى من مدرسة الخلفاء، يقولون أنه لو كان الأمر على طبق الرواية من أن عليًا عليه السلام رتب القرآن كما أُنزل من الناحية التاريخية فإن فيه علمًا كثيرًا جدًا فات الناس.
لنأخذ على سبيل المثال لو كنت أنت طبيبًا، يأتي إليك مريض، أن تعرف تاريخ مرضه من ١٠ سنوات أو ١٥ سنة مثلا بدأ يعاني من كذا ثم بعدها بسنتين تطور الحال إلى كذا، أنت كطبيب تكون الرؤية لديك واضحة من ناحية تطور المرض في هذا المريض. نفس الكلام ينطبق على شجرةٍ تُريد أن ترعاها، أو مجتمع من المجتمعات تريد دراسته، كيف تطور تاريخيا، كيف تطورت أخلاقه أو علمه.
التاريخ مهم جدًا، فلو تعرفت على تاريخ هذه السور، وكيف تماشت مع الدعوة الإسلامية ومع رسالة النبي صلى الله عليه وآله سيكون لديك رؤية واضحة جدا، ولكن ما حصل كان غير هذا.
السؤال هنا هو أين ذهب هذا القرآن الذي رتبه الإمام علي عليه السلام)؟! سنتحدث عن هذا الأمر فيما بعد، وسنتطرق إلى أنه نعم الأصل في هذا القرآن الذي نقرؤه هو نفس الكتاب الذي كتبه علي عليه السلام، وما حصل فيه من تغيير من قِبَل الخلفاء هو تقديم وتأخير في قضية السور وترتيبها فقط، وهذا سنتحدث عنه إن شاء الله في وقت آخر أيضاً.
ضمانات عدم تغيير القرآن الكريم:
هذا الترتيب وهذا الاهتمام وهذا الجمع من قِبَل علي عليه السلام باهتمام رسول الله يتوافق مع كل الأمور التي ذكرنا جانبها الآخر في حين قلنا أنه لو أن النبي لم يكتب ولم يأمر بالكتابة ولم يجمع القرآن في زمانه لكان ذلك يُعد والعياذُ بالله تضييعًا لأهم قضية تربط الأمة وهو القرآن.
بناءً على هذه النظرية، الله عز وجل أوحى، الوحي جاء لرسول الله صلى الله عليه وآله لفظ، وعلي عليه السلام كتب. وليس أي كاتب وإنما كاتب معصوم، وليس كاتب ينقل عن شخص آخر أو بعيد عن النبي صلى الله عليه وآله، بل لصيق برسول الله من اليوم الأول للبعثة. ونقل عن النبي أنه قال ( من أراد أن يقرأ القرآن غضا فليقرأه كما يقرأه ابن أم عبد ) أو قراءة أُبي أو فلان أو فلان، ولكن هؤلاء كلهم جاؤوا فيما بعد، وأخذوا القرآن ونقلوه، ولكن شتان بين من سمع رنة الشيطان في أول وحي، وبقي مع النبي إلى أخر لحظة عند رأسه، وكان في هذه المدة لا يُفارقه، وبين غيره، هذه ضمانة أكيدة.
تضمين آخر كما ذكرنا قضية العرض الجبرئيلي في كل سنة إلى أن وصلت ٢٤ مرة في 23 سنة.
تواتر القرآن ضمانة عن التحريف:
قراءة المسلمين للقرآن تصل لحد التواتر. تواتر القرآن هذه فكرة ينبغي أن يُفكر فيها أتباع المدرسة الأخرى. فلا معنى أبدا لأن يقول فلان عندنا سند آحاد إلى القرآن، والحال أن أعلى مراتب التواتر والذي يعني أنه في كل طبقة مجموعة كبيرة من الناس يروون الخبر ويروون القرآن، أي ليس شخصًا ولا اثنين ولا خمسين بل أكثر من ذلك بكثير، مجتمعٌ كامل.
لو أردت أن تفهم معنى التواتر بشكله الحقيقي انظر إلى العالم الإسلامي. الآن العالم الإسلامي كيف يتعامل مع القرآن؟ الحكومات من جهتها لأسباب مختلفة تعنى بالمسابقات القرانية، طباعة القرآن، مسابقات حفاظ القرآن، تفسير القرآن، وغير ذلك، هذا على المستوى الرسمي في كل البلاد الإسلامية. ننزل إلى طبقات أخرى من المجتمع، هيئات شعبية ومؤسسات، قسم كبير من المسلمين يجدون التقرب في أن يدفعوا من أجل القرآن، طباعة القرآن، تشجيع حفظ وتلاوة القرآن، أوقاف قرآنية، نذورات للقرآن. لو أردنا أن نُحصي فقط في هذا البلد حجم الاهتمام بالقرآن من مؤسسات، مسابقات، حفاظ، تفسير، تدبر، تلاوة، تعليم وغير ذلك. فكيف على مستوى المسلمين ككل؟ حتى لو فرضنا أنه لم يكن هناك مؤسسات أهليه، كل شخص من الناس الآن في شهر رمضان، حتى لو لم يكن يقرأ ١٠ صفحات من القرآن خلال السنة، ولكن في هذا الشهر يكون هدفُهُ أن يختم القرآن.
نفس هذه الصورة انقلها إلى قبل مئة سنة تجدها نفسها تماما في زمن أجدادك، أيضا قبل ٢٠٠ سنة نفس الكلام وهكذا إلى أن تصل إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وآله فلو طلب شخص أو باحث راوٍ واحد فقط يروي القرآن في هالزمان ستسخر منه، أنت تتحدث عن مثات الألوف من المسلمين وملايين، وهذا يطلب راوٍ واحد!
إذن فكما أُنزل بهذه الطريقة صنعها علي عليه السلام، والتواتر والعرض والتلقي هذه أمور في ضمن نظرية الإمامية وفكرتهم عن جمع القرآن. هذه الفكرة تُوفر مساحة يتحرك فيها الإنسان في مواجهة من يدعي أن احتمال زيادة أو نقص القرآن أو ما شابه.
ذكرنا أيضا فيما مضى أن كلمة الكتاب كانت معروفة بين المسلمين وبين غيرهم، حتى الكفار يقولون (اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[7]، اكتتبها يعني طلب كتابتها، وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله لا يكتب بس مع ذلك يزعمون قالوا هذا النبي أتى بجماعة يكتبون له من قِبَل آخرين. غاية الأمر هي هذا الكتاب، في كل مرحلة كان بحجمه في السنة الأولى كان بحجم، في الثانية صار أكبر وهكذا، الحجم النهائي والأخير كان الذي قام بجمعه أمير المؤمنين عليه السلام، ولم نكن بحاجة إلى أن ننتظر إلى سنة ٢٣ هجرية حتى نجمع القرآن، كل المؤرخين باختلاف أهدافهم، الشيعة يأتون بهذه الرواية باعتبار أن هذا الجمع يُنسب إلى أمير المؤمنين، الفئة الأخرى يروون هذه الرواية حتى يُستفاد منها في قضية الخلافة، لأنهم قالوا أن أمير المؤمنين عليه السلام بقي في بيته يكتب القرآن ولم يخرج أصلاً حتى أن الرجل يأتيه في حاجة ولا يخرج معه فضلا عن أن يذهب إلى مسجد أو غيره، إلى أن ينتهي من هذا الجمع، فقالوا أن علياً رفض بيعة أبي بكر، فلما خرج بعد أيام حسب رواية مصادر التاريخ الرسمي عاتبه الخليفة أن الناس تقول بأنك رافض لبيعتي، فقال عليٌ عليه السلام حسب تلك المصادر: ( لا ولكني آليت على نفسي ألا أضع ردائي حتى أجمع القرآن) . طبعا هذا المؤرخ يُريد أن يستفيد منها استفادات أخرى، ولكن المهم هنا هو (حتى أجمع القرآن ) المهم أنه فعل ذلك ثم خرج.
يُؤهل الإمام عليه السلام لهذا الأمر ما كان لديه من قرب للرسول صلى الله عليه وآله ومن إمكانات ذاتية، ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ )[8] قال النبي صلى الله عليه وآله ( سألت الله أن يجعلها أُذنك يا علي)، هو أيضا عليه السلام يقول :( إن الله وهب لي قلباً عقولاً) فالإمكانات كُلها لديه، قدرة على الكتابة، معرفة باهتمامات النبي صلى الله عليه وآله وأقرب الناس إليه فهو تربية يده صلى الله عليه وآله.
[1] ) سورة العلق آية 1
[2] ) سورة المدثر آية 1
[3] ) سورة العلق آية 1-2
[4] ) سبق ذكر المصدر
[5] ) سورة ن آية 1
[6] ) سورة المزمل آية 1
[7] ) سورة الفرقان آية 5
[8] ) سورة الحاقة آية 12 |