الشك : أقسامه والموقف منه 19
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 25/11/1438 هـ
تعريف:

سلسلة الأمراض الأخلاقية 
الشك أقسامه والموقف منه
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين المكرمين
السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون ورحمة الله وبركاته
في الخبر عن مولانا أمير المؤمنين، سلام الله عليه، أنه قال: "عَلَيكَ بِلُزُومِ اليَقِين، وَتَجَنُّبِ الشَّكِ، فَلَيسَ لِلْمَرْءِ شَيْءٌ أَهْلَكَ لِدِينِهِ مِنْ غَلَبَةِ الشَّكِ عَلَى يَقِينِهِ". توصية من الإمام (ع) بأن يتجنب الإنسان الشك ويلزم اليقين. بمعنى: السعي وراء مقدمات اليقين، وتجنب مقدمات الشك.
عندما أقول لك مثلا: عليك بالسلامة في قيادة السيارة. فالمقصود من ذلك: وفر مقدمات السلامة. استخدم مثلا: حزام الأمان، التزم بالإشارات المرورية، توقف عند الإشارة الحمراء، وهكذا. عندما تلتزم بهذه المقدمات، ينتج عن ذلك السلامة أثناء القيادة.
كذلك عندما يقول الإمام (ع): الزم اليقين. معنى ذلك: هيء مقدمات الاستيقان، من الوعي والمعرفة – مثلا - والتأمل، ولزوم الأفكار السليمة، وما شابه ذلك. تجنب الشك، يعني: هيء المقدمات التي ترفع عنك الشك، عالج ما يصنعه الشك في نفسك. لماذا؟ يقول الإمام (ع): "فَلَيسَ لِلْمَرْءِ شَيْءٌ أَهْلَكَ لِدِينِهِ مِنْ غَلَبَةِ الشَّكِ عَلَى يَقِينِهِ". ليس هناك أمر مهلك للدين كما هو غلبة الشك والظن على اليقين.
عندما يفسد يقين الإنسان، يفسد يقينه بالله عز وجل – مثلا - وأنه على كل شيء قدير، وأنه حلال لكل مشكلة، وأنه رزاق لكل دابة. عندما يفسد يقين الإنسان بهذا المعنى، يقل توكل الإنسان على ربه، يقل اعتماده عليه، فيروح يطرق أبواب غير الله عز وجل.
عندما يفسد يقينه بعباداته مثلا، أنه ما الداعي إلى هذه العبادة؟ ما هو المبرر لذلك العمل العبادي؟ إذا غلب الشك على اليقين، فأصبح غير واثق من فائدة الصلاة، غير واثق من فائدة الصوم والحج، فلا يعود ينبعث إليها ولا يتحرك باتجاهها، "فَلَيسَ لِلْمَرْءِ شَيْءٌ أَهْلَكَ لِدِينِهِ مِنْ غَلَبَةِ الشَّكِ عَلَى يَقِينِهِ".
ضمن حديثنا عن الأمراض الأخلاقية، سوف يكون لنا حديث عن موضوع الشك باعتباره أحد الأمراض الأخلاقية التي تعرض على نفس الإنسان، فتفسد هذه النفس. تعرض على الدين، فتفسد الدين. تعرض على العلاقة الزوجية، فتفسد العلاقة الزوجية، تعرض على معرفة الإنسان بالناس، فتفسد علاقته بهم. لذلك سيكون لنا بعض الوقت في استعراض هذه الصفة الأخلاقية المذمومة، ونبين بعض الجوانب المرتبطة بها.
أصل كلمة الشك، في تعريفها، قال ابن فارس، صاحب كتاب معجم مقاييس اللغة، وهو من اللغويين المتميزين بطريقة عنده، وهي: أنه يُرجِع الكلمات المختلفة إلى معنى واحد، ثم يقول: هذه الكلمات ترتبط بهذا المعنى. مثلا: يأتي إلى كلمة: جَنَنَ، جنَّ، يقول: هذا يشير إلى معنى فيه خفاء واختفاء، ثم يقول: الجن، سمي بالجن؛ لأنه ماذا؟ يختفي عن الأنظار. الجنين، سمي بالجنين أيضا لأنه ماذا؟ داخل البطن. الجنة، سميت بالجنة لماذا؟ لأن الأشجار النابتة فيها تحجب ما بداخلها. وهكذا يبدأ يوزع هذه الكلمات بناء على المعنى الواحد. مثلا قد يكون لها أصل واحد، وقد يكون لها أكثر من أصل.
الشك أيضا، عندما يأتي ويتحدث عنه، يقول: الشك أصل واحد، وهو يشير إلى معنى تداخل، دخول شيء في شيء، أو على شيء. ومنه الإبرة تشك الثوب، فتدخل فيه. والقشة - على سبيل المثال - تشك رجلك يعني ماذا؟ تدخل فيها. والشك نفسه يعني: أن هناك ظن، وهم يدخل على يقينك. ويقولون: جاء وهو شاك السلاح، يعني: السلاح عليه، أدخله ثيابه، علقه فيها، وهكذا. فالشك معنى فيه تداخل، دخول شيء في شيء، أو على شيء. فالشك يأتي بوهم، ظن، ويدخله على اليقين، فيفسده. يدخله على القلب المستقر، فيجعله متغيرا ومترددا. هذا أصل معنى الشك.
كما ذكرنا، قد يعرض على أمور متعددة، ونحن اخترنا منها أربعة عناوين؛ للحديث عنها، ليس في هذا الحديث، وهذه الجلسة، وإنما على عدة جلسات إن شاء الله. قد يعرض الشك على المبادئ والأفكار. الإنسان - على سبيل المثال - يعيش حياته الدينية العادية، فيحصل له شك، إما بشبهة من الشبه أو بإثارة من الإثارات. في قضية من قضايا المبادئ، من يقول: أن الله موجود، مثلا؟ بالنسبة إلى كثير من الناس، هذه لا تصنع تشكيكا. لكن بالنسبة إلى قسم من الناس، من الممكن أن تدخل على يقينه فتفسد شيئا من هذا اليقين.
إذا الله موجود، لماذا هذه المظالم منتشرة في كل مكان؟! ناس فقراء يموتون من المجاعة، ناس في الحروب يموتون، وناس كذا، أين عدل الله سبحانه وتعالى؟! قسم من الناس لديهم أفكار وآراء ترد على مثل هذه الإثارة، فتنتهي. هذا شك أثير، رد بوعي ومعرفة وعلم. ولكن قد يكون هناك قسم من الناس لا يجدون الجواب، فلا يستقرون بقرار اليقين في قلوبهم. وسيأتي إن شاء الله حديث في هذا المجال: أن من مسؤوليات الإنسان، العالم المفكر، الواعي، أن ينشر اليقين في المبادئ والأفكار، لا أن ينشر الشك والتردد.
مثلا، كانت لدي فكرة حول نبينا المصطفى محمد (ص)، لا سيما مما تثيره بعض القنوات التي تبشر بالمسيحية تبشيرا سلبيا. بمعنى: أنهم يثيرون الشبهة حول سيرة رسول الله (ص). وهذا بشكل خاص، ما يصنعه بعض الأساتذة إلى الطلاب المبتعثين في الخارج. فأحيانا تثار في وجوههم أسئلة حول سيرة رسول الله (ص).
الموقف الطبيعي في مثل هذه الحالات: أن الإنسان الذي تلقى هذا الشك وهذه الشبهة، يذهب ليبحث عن جواب عليها. فإذا هو يقدر على هذا بنفسه، فهو المراد. فإذا لم يستطع، فليرده إلى من لديه معرفة وتخصص في هذا. وليس صحيحا أن نصنع كما قد بعضهم مثلا يصنع. أنا استلمت شبهة، أو أثيرت في ذهني شبهة، فأبدأ أنشرها هنا وهناك. إذ من الممكن أن تصل إلى أناس لا يستطيعون الإجابة عليها، فينتج عن ذلك أن تخف علقتهم بقضيتهم الدينية، كما مثَّلنا.
فيكون منهم من يقل اعتماده على ربه، وتوكله على إلهه. وتقل محبته وعلاقته وانتماءه إلى نبيه. بينما المفروض أن الإنسان يأخذ هذا المسار إذا أثير في ذهنه شبهة: أن يذهب للبحث عنها حتى يجد جوابها. فإن لم يستطع هو بشكل مباشر أن يرفعها إلى من يعرفها: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
فواحد من الأقسام التي سوف نتحدث عنها ما يرتبط بالتشكيك في المبادئ والأفكار. الشيء الآخر: ما يرتبط بالأمور العبادية، الشك في داخل العبادة، كأن أعتبر أن هذا العمل العبادي غير نافع، غير واجب، وما شابه ذلك. فمرة في داخل العبادة، أنا أشك في داخل الصلاة، أنحاء الشكوك المعروفة، وأيضا سوف يكون لنا شيء من الحديث فيها. ومرة يكون هناك شك في الموضوع الاجتماعي. فذاك في المبدأ العقيدي والأفعال العبادية، وهذا في الموضوع الاجتماعي، فقد يكون هناك شك في الحياة الزوجية. الزوج يشك في زوجته أنها تقوم بعمل غير مناسب، أو عكس ذلك، الزوجة تشك في زوجها، أنه يخونها مثلا. كيف ينبغي أن نتصرف في مثل هذه الحالات؟
وقد يكون الشك فيما هو أوسع دائرة، أنا أشك أن هؤلاء - ليسوا مربوطين بأسرتي - العاملين مثلا أناس خونة، أناس ماديون، غير صادقين. أشك مثلا في عامة الناس، أنهم يمارسون الخديعة، ولا ينبغي الثقة بهم. أشك مثلا أن العالم الديني، أو العلماء كذا وكذا، التجار كذا وكذا. الشك في الحالة الاجتماعية أوسع من دائرة الأسرة بين الزوجين. هذه كلها تحتاج إلى حديث، نأتي عليه إن شاء الله.
بشكل عام، الروايات والآيات القرآنية المباركة، تصنف الشك ضمن الدائرة السلبية، بل السلبية جدا. فقد ورد في تفسير الآية المباركة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، في تفسيرها، عن الإمام الصادق (ع)، قال: الرجس، يعني الشك، والله لا نشك في ربنا. الرواية هكذا، قال في تفسير (لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ): "الرِّجْسُ هُوَ الشَّكُ، وَاللهِ لَا نَشُكُّ فِي رَبِّنَا أَبَدًا"، وهذا أحد التطبيقات. وإلا فالرجس معنى ينطبق على عناوين كثيرة، منها: الذنب، ومنها غيره. هنا طبقها الإمام (ع) على الشك.
في رواية أخرى، عن الإمام الباقر (ع)، في تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ)، قال: "شَكًّا إِلَى شَكِّهِم". هؤلاء الذين لديهم أمراض قلبية، بمعنى: إباء عن الحق، عدم الخضوع للهدى، كلما يروا آية بينة، بدل أن تزيدهم هدى، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)، تزيدهم شكا. فالذي في قلبه مرض، لا يقدر أن يستقبل هذا.
أنت لاحظ الأمر في الحالة العادية. الإنسان الذي لديه احتقان - هذا مثال جدا حي وواضح - في فمه وفي حلقه، ليست فقط رائحة فمه غير حسنة، بل حتى الطعام الذي يأكله ليس مطعوما. فلو تعطه طعاما طيبا لا يحس بطعمه الحقيقي. فبدل أن يستطعمه باعتباره لذيذا وجيدا، قد يأنف منه ويرفضه. بينما أنت الصحيح البدن، عندما تأكل نفس هذا الطعام، تستلذه وتستطيبه.
في الموضوع المعنوي أيضا هكذا. آية واحدة، آية بينة، ذات وضوح وهدى، هذا الذي في قلبه الهداية يجد فيها دليلا إضافيا على الحق. وذاك بالعكس، يجد فيها شكا إضافيا. (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ)، قال: "شَكًّا إِلَى شَكِّهِم".
فالموقف - من خلال الآيات المباركات - موقف سلبي لا يستحسن الشك. وهذا مهم أن نؤكد عليه، لماذا؟ لأنه في الفترة الأخيرة المعاصرة، شاعت ثقافة - وسنتحدث عنها إن شاء الله في المستقبل - أعطت قيمة كبيرة للشك. فأصبح الإنسان الذي يشكك، ولديه تساؤلات في أصل المبدأ والأفكار، يتبين أنه مفكر مهم، وشخص عنده علم كثير. فأعطيت قيمة غير حقيقية لصفة الشك. كأن الشك شيء ممتاز جدا.
التشكيك في الأمور، يبين كم هذا مثقف جدا، كلما زاد تشكيكه. لا، القرآن الكريم، يقول: هذا رجس. (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ). بل اعتبره الإمام الصادق لتفسير ثالث، لآية مباركة، أنه ظلما، وليس فقط رجسا، وإنما ظلم فوق كونه رجسا.
في تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ)، قال: "بِشَكٍّ". مؤمن، ولم يجعل في إيمانه ظلما. الظاهر من هذا: ظلم يعني: اعتداء. بينما هنا الإمام (ع) يفسرها بماذا؟ بالشك. مؤمن ولم يجعل في إيمانه شكا.
وفي المقابل، إعطاء القيمة الكبرى لليقين، فعن مولانا أمير المؤمنين (ع)، في مقام الاعتزاز والافتخار، يقول: "مَا شَكَكْتُ فِي الحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ، وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَغَيرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِينِي". أنا ما شككت أبدا. لو كان الشك شيئا جيدا، وخصلة علمية مهمة لكان أولى بها أمير المؤمنين (ع)، يقول: لا، أنا ما شككت في الحق مذ أريته، وأنا لدي البينات ولست على شبهة أبدا. لماذا؟ يقول: "الشَّكُّ يُطْفِئُ نُورَ القَلْبِ، وَثَمَرَةُ الشَّكِّ الحِيرَةُ، وَلَنْ يَضِلَّ المرْءُ حَتَّى يَغْلُبَ شَكُّهُ يَقِينَهُ"، ما دام يقينه هو الغالب على الشك، لا يمكن أن يضل.
وفي الصحيفة السجادية نقرأ - وهذه إشارة أن الصحيفة السجادية وأمثالها من الأدعية ليست مجرد كلام للدمع، وإن كان هو طريق إلى الخضوع إلى الله، لكن بالإضافة إلى جانبها الروحي التخضيعي للنفس، فيها معرفة، فيها ثقافة، فيها علم - في المناجاة المروية في الصحيفة السجادية، يقول: "وَأَزْهِقْ البَاطِلَ عَنْ ضَمَائِرِنَا وَأَثْبِتْ الحَقَّ فِي سَرَائِرِنَا"، لماذا؟ "لِأَنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَوَاقِحُ الفِتَنِ"، تلقح الفتنة، "وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المنَائِح وَالمنَن".
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المستيقنين المؤمنين، الذين لا تزيدهم الآيات إلا هدى ومعرفة وإيمانا، إنه على كل شيء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

مرات العرض: 3402
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2578) حجم الملف: 25405.61 KB
تشغيل:

البخل العاطفي والبخل المادي 18
كيف يتم التشكيك في العقائد ؟ 20