الوضوء كما يصفه القرآن
كتابة الفاضلة أم سيد رضا
قال العظيم في كتابه: ((يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطَّهروا)).
حديثنا في ذيل هذه الآية المباركة من سورة المائدة يتناول موضوع الطهارة المائية في قسمها الوضوء، وقد تعرضت هذه الآية المباركة الكاملة إلى أصناف الطهارات المختلفة ولها أهمية استثنائية:
أولاً: لأنها في سورة المائدة، وسورة المائدة تعتبر آخر سور قرآن الكريم، بل ورد في بعض الروايات أنها زلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل شهرين من ارتحاله لله عز وجل، وهذا التوقيت مهم لأن هذه السورة ستكون ناظرة إلى كل الآيات التي سبقتها ومهيمنة عليها ولا يمكن أن يدعى فيها النسخ لأن الأخير ناسخ وليس منسوخ.
ثانياً: مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه عندما سمع بعض أصحاب رسول الله يذكرون أن النبي مسح على الخف قال لم: هل كان هذا بعد المائدة أو قبل المائدة؟ فإن المائدة قد بينت كل شيء، فالإمام عليه السلام يريد أن ينفي كلام الطرف المقابل بما لا يمكن أن يرد، وإلا كان بإمكان أمير المؤمنين عليه السلام أن يقول بأن النبي لم يمسح على خفه بل كان يمسح على رجله وأنا ألصق الناس به وأعرف الناس بكيفية وضوءه وطهارته وأنا أول الناس إسلاماً وآخرهم عهداً به ولم أفارقه في موطن من المواطن، لكن الإمام عليه السلام أراد أن يقطع الشك باليقين من القرآن الكريم، فهذه جهة من الجهات المهمة في أمر سورة المائدة.
ثالثاً: أن هذه الآية المباركة تتعرض إلى كيفية وصفة الوضوء الذي سيكون الطهارة لصلاة المسلمين من نزول الآية المباركة ومنذ تشريع الوضوء وستكون مرجع لكل اختلاف.
من المعلوم أنه يوجد اختلاف في كيفية الوضوء وصفته بين أتباع مدرسة الخلفاء وبين أتباع مدرسة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، ومن أهم الإختلافات ما يرتبط بقضية غسل أو مسح القدمين، والأمر الآخر في قضية غسل اليد والنكس فيها أو عدم النكس، وهذا شاخص الإختلاف في هذه القضية وهاتان الجهتان هما الجهتان الواضحتان واللتان تجعل بعض المسلمين ينظرون إلى أتباع مدرسة أهل البيت بأنهم يخالفون طريقة النبي كما يزعمون في الوضوء، وسوف نتعرف إلى هذا الجانب لنا أن طريقة أهل البيت وصفة الوضوء عند أتباعهم هي الموافقة للقرآن الكريم وهي المتفقة مع السنة وأن لديهم على ذلك ديلاً، فلا يتصور الطرف الآخر بأن ذلك ابتداع لا يعتمد على دليل وبرهان، فعلماؤهم اجتهدوا في الآية ووصلوا إلى نتيجة، وأهل البيت عليهم السلام الذين هم أدرى بما في البيت أخبر علماء هذه المرسة بالطريقة الأخرى.
لنرى ى ماذا يشير القرآن الكريم:
محور الخلاف والنزاع في الآية المباركة هي هذه الكلمة: ((فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين))، هناك قراءتان لكلمة أرجلكم إما بفتح اللام (أرجلَكم) أو بكسرها (أرجلِكم)، فبحسب اللفظ العادي أن المعطوف على شيء يأخذ حكمه، مثلاً لو قلنا جاء عبدُ الله وجعفرٌ، جعفر معطوف على عبد الله فيأخذ حكمه ويكون مضموماً، كما لو قنا أيضاً مررت بعبد الله ومحمدٍ، فمحمد الذي هو معطوف على عبد الله يأخذ نفس حكمه الإعرابي، فالمفترض أن القراءة العادية تكون ((فامسحوا برؤوسِكم وأرجلِكم)) لأنها معطوفة على الرؤوس والرؤوس مجرورة وعلامة جرها الكسرة، ولذلك عندنا روايات عن أهل البيت عليهم السلام تقول بأن قراءتها على الجر لا على الفتح، لكن حيث أننا مأمورون أن نقرأ كما يقرأ الناس حتى لا يكون هناك قرآن واحد بقراءات متعددة ويكون منشأ الخلاف بين الأمة، لذلك نلتزم بالقراءة الموجودة في مصاحفنا اليوم والتي هي بالفتح.
لو قلنا بناءً على أنها مجرورة (أرجلِكم)، فالقضية جداً واضحة في أن المسح كما هو للرأس أيضاً هو للأرجل، لكن بناءً على القراءة الثانية التي هي القراءة المتداولة الآن بالفتح (أرجلَكم) فإن علماء اللغة العربية قاطبة سنة وشيعة يقولون أن العطف هنا عطف ليس على اللفظ وإنما على المحل، ومعنى ذلك عندما يقول وامسحوا برؤوسِكم أي معناها الواقعي هو المسح على الرأس، لكن عندما نعطف الأرجل عليها تكون تارة معطوفة على اللفظ (رؤوسِكم) فتكون (وأرجلِكم)، لكن عندما نعطفها على المحل فإن محل رؤوسكم هو مفعول به أي محلها منصوب ولذلك عندما نعطفها على المفعول به تأخذ حكمه وهو النصب فتكون (فامسحوا برؤوسكم وأرجلَكم).
بناءً على ذلك سواءً كانت القراءة بالجر والخفض (أرجلِكم)، فهي تؤيد كلام الإمامية الذين يقولون أن القدمين يمسحان كما يمسح الرأس، وأيضاً إن كانت القراءة هي قراءة النصب وأنها مفتوحة (أرجلَكم) فنفس الكلام يأتي هنا وأن هذا مما يؤيد رأي الإمامية في أن المطلوب في القدمين هو نفس المطلوب في الرؤوس وهو المسح لا الغسل، فكلام الإمامية على القاعدة منسجم مع اللغة العربية، ولهذا أيضاً ذكر الفخر الرازي وهو من علماء مدرسة الخلفاء في تفسيره التفسير الكبير وذكر ابن جرير الطبري صاحب التاريخ وصاحب التفسير وهو أيضاً من علمائهم ذكروا بأن الذي يعمل في أرجلكم هو امسحوا أي أن العامل فيها هو المسح، ولهذا نجد أن رأي الإمامية هو رأي مستقيم وعلى القاعدة سواءً قُرِأَت بالفتح أو الكسر.
لو ذهبنا إلى أتباع المدرسة الأخرى نجد أنهم يرفضون قراءة الخفض والجر فيقرؤونها (فامسحوا برؤوسكم وأرجلَكم)، لأن هذا الأمر يحرجهم فيقولون أن كلمة أرجلكم فعلها هو اغسلوا، فكيف يكون فعلها اغسلوا وهذه الكلمة بعيدة عن كلمة رؤوسكم بست كلمات، ولماذا اعتبروا الأقرب غير مفسِر، حتى أن الطبري والرازي وغيرهم قالوا إذا كان هناك شك في ما هو الفعل الذي يعمل أو يؤثر على الكلمة فحينها نختار الفعل الأقرب منها ويكون العامل على تلك الكلمة.
إذا أردنا أن نجعل كلمة (اغسلوا) عاملة في (أرجلكم) فإننا نحتاج أن نقفز على مجموعة من الكلمات ونلغي أثرها بناءً على رأي مدرسة الخلفاء، ولكن على رأي مدرسة الإمامية فإننا لا نحتاج إلى شيء، فإن قلنا بقراءة الخفض فإن الأمر جداً واضح، وإن قلنا بقراءة النصب والفتح فهي معطوفة على محل (رؤوسكم)، هذا بالنسبة للقرآن الكريم، وأما بالنسبة للروايات نجد ما ذكره بعض الباحثين المحققين ومنهم سيد علي الشهرستاني الذي لديه كتاب مهم جداً ضخم ومحَقَق اسمه (وضوء النبي)، يقول فيه بحسب التتبع أن الروايات الواردة في كتب الحديث في مدرسة الخلفاء عن الوضوء إنما هي بدأت بشكل كبير ومركز في أيام الخليفة الثالث وبعد ست سنوات من بداية خلافته، وأما قبل هذه الفترة فلا نكاد نجد أحاديث بهذا الحجم وهذا التفصيل عن صفة الوضوء ووضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
عندما نأتي إلى زمان الخليفة الثالث وبالذات بعد ست سنوات من بداية خلافته سنجد كثيراً من الروايات عن الخليفة نفسه وبعضها بلا مناسبة أصلاً، فيجلس مع جماعة ويقول لهم: ألا أصف لكم وضوء رسول الله؟ فيقولون بلا، ثم يأتي بإناء أو تور (قدح) قد يكون من حجر أو خشب ثم يتوضأ ولا ينسى أن يؤكد على غسل قدميه، ففي زمان الخليفة رأينا أكثر الروايات كما أشار إليها هذا المحقق تنتهي إلى الخليفة الثالث وإلى امرأة أنصارية اسمها الربيع بنت معوذ الأنصارية، و بالذات بالنسبة للخليفة فقد كان مهماً عنده أن يركز على هذه الطريق وهي غسل الرجلين، فنجد أنه يحكي ويصف ووضوء رسول الله في كل مره بلا مناسبة، يظهر أنه كان هناك نوع من التوجه به جانب سلطوي حتى أن أحمد بن حنبل يذكر في مسنده أن بعض الأصحاب كانوا إذا أرادوا ان يتوضؤوا الوضوء المعتاد السابق فإنهم يتحسسون بأن لا أحد يراهم فيقول في سنده (عن أبي مالك الأشعري بأنه قال لقومه اجتمعوا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما اجتمعوا قال: هل فيكم أحد غيركم؟ فقالوا: لا إلا ابن اخت لنا، فقال: ابن اخت القوم منهم، فدعا بجفنة بها ماء فتوضئ ومضمض واستنشق وغسل وجهه ومسح برأسه وظهر قدميه ثم صلى)، الشاهد هنا بأنه قال لهم: أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم فتوضأ وضوءاً ثم مسح فيه على رأسه وظهر قدميه.
فالسؤال الذي يتباذر إلى الذهن هنا بأنه ما الداعي إلى أن أبي موسى الأشعري يترقب ويتحسس ويسأل هن من أحد غير القوم معهم؟، يتبين هنا بأنه توجد خشية من أن يصل هذا الكلام إلى خارج هذه الدار أو إلى خارج هذه المجموعة، ويضيء إضاءة إلى أن السلطة الزمنية في ذلك الوقت كانت لا ترضى بأن تشاع قضية المسح على القدمين والمسح على الرأس وأن هذا من وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل وأوضح من ذلك كلام ابن عباس، فعبد الله بن عباس كان في زمان الخلفاء شخصاً معتبراً وهو رجل هاشمي مطلبي قد أخذ العلم من أمير المؤمنين عليه السلام وفي زمان الخليفة الثاني كان يقدمه على من هو أكبر منه سناً، فقد كثر عنه الحديث: (أنه يأبى الناس إلا غسل القدمين ولا أجد في القرآن إلا مسحهما)، فليس المقصود هنا بالناس العاديين بل الذين لهم نوع من النفوذ والقوة أو ما شابه ذلك ولهم حق الإباء.
رأينا على مستوى الآية المباركة أنه لكي تتناسب مع كلام أتباع مدرسة الخلفاء فإنها تحتاج إلى تعسف وتكلف حتى تنسجم الآية مع قضية غسل القدمين، وأن هذا العطف البعيد وتقديمه على العطف القريب يحتاج إلى مؤونة وتكلف في الدليل، أيضاً على مستوى الروايات فقد قيل أنه بداية الحديث عن قضية غسل القدمين وما يرتبط بها كان في زمان الخليفة الثالث دونما سبقه من الأزمنة ومنحصر في مجموعة محددة وفيه إشارة إلى أن السلطة الزمنية تقف وراء هذا بنحو من الأنحاء.
فيما يرتبط عن الروايات التي رويت عن آل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ننقل منها عدة روايات:
الرواية الأولى: ما نقل عن أبي عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وهو عن سند صحيح، فيقول داؤود بن فرقد: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول أن أبي كان يقول: أن لوضوء حداً من تعداه لم يؤجر، فقال له رجل: وما حده؟، فقال عليه السلام: تغسل وجهك ويديك وتمسح رأسك ورجليك)، نجد أن الإمام الصادق عليه السلام يستشهد بأبيه الباقر عليه السلام مع أن كلاهما إمامان معصومان والسبب هنا لأن الطرف الآخر من مدرسة الخلفاء يقبل كلام الإمام الباقر ويعتبر أن رواياته مسندة إلى رسول الله من خلال جابر بن عبد الله الأنصاري، فقد كان الإمام الباقر عليه السلام يكثر من التردد على جابر في أواخر حياته بعد أن بشره وبلغه سلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا له أثر بأن أتباع مدرسة الخلفاء كانوا يرون بأن الإمام الباقر يمكن أن يروي عن رسول الله بسند متصل لأنه أدرك واحداً من أصحابه وسمع منه، فقد يكون لهذا السبب كان استشهاد الإمام الصادق عليه السلام بأبيه الإمام الباقر.
الرواية الثانية: أن الإمام الباقر عليه السلام أخذ نفس الرواية التصحيحية التي يمارسها الخليفة الثالث فقد استخدم في تصحيحه نفس الطريقة وكان يقول لمن يحضره من الناس: (ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالوا: بلى، فدعا بقعب فيه شيء من ماء ثم غرف بيمينه ملأها فوضعها على مرفقه اليسرى حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ومسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلة يسراه وبلة يمناه)، فهذا هو صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكثير من الأحاديث بهذا المعنى.
فالإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وهو الملازم لرسول الله صلى الله عليه وآله كان كثيراً ما يقول: (لو كان الدين بالرأي لكان مسح باطن القدم أولى من مسح ظاهرها، لكن رأيت رسول الله في الوضوء يمسح على قدميه وأنا على أثره حذو القذة بالقذة)، وذلك لأن التي تتسخ عادة هي باطن القدم وليس ظاهرها، فلو كانت المسألة مسألة آراء واستحسانات لكان الأولى مسح باطن القدم، ولكن هنا يشير إلى أن هذه الأمور هي أمور تعبدية ولا معنى لأن نقول أن غسل الرجل أفضل من مسحها.
الإختلاف الثاني هو ما يرتبط بقضية غسل اليدين إلى المرفقين، وهذه أيضاً من الموارد التي يلتزم فيها أتباع المدرسة الأخرى بأن يكون المسح من أطراف الأصابع إلى المرافق، فما هو الدليل على ذلك؟! قالوا بأن الدليل هو القرآن فالقرآن بقول: ((فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق)).
فقد أجاب علماء مدرسة الإمامية على هذا الأمر بأن اليد لها معانٍ متعددة، فعندما تكتب شيئاً مثلاً فإنك تكون قد كتبته بثلاث أصابع ولكنك تقول: كتبته بيدي، أو عندما يلكم أحدكم بجمع أصابعه فيقول لكمته بيدي، أو عندما تقول أن لكل رجل وامرأة يدان فمعناه أن اليد هنا من الكتف إلى اطراف الأصابع، وكل هذه الألفاظ صحيحة، لكن عندما نأتي للقرآن الكريم فنجد أنه جاء لكي يحدد مقدار اليد المغسولة وليس جهة الغسل، فعندما يقول امسحوا أيديكم إلى المرافق فمعناها الحقيقي (مع المرافق) وهذا معنى آخر لها أي أنه ليس إلى حد المرفق بل مع المرفق، فقد استخدم القرآن الكريم هذا الأمر كثيراً مثل قوله تعالى: ((ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم)) بمعنى (مع أموالكم)، وقوله تعالى: ((من انصاري إلى الله)) ومعناها من أنصاري مع الله، وأمثال ذلك في كثيرة في استعمالات القرآن الكريم.
إذاً: أن هذه الآية المباركة وهي آية الوضوء، في ليست في صدد تحديد جهة الغسل وإنما تحديد مقدار اليد المغسولة، وبهذا يكون دليل الإمامية من القرآن الكريم بالإضافة إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أحاديث المعصومين الذين وصفوا صفة وضوء رسول الله، وكان هؤلاء الأئمة المعصومون هم الحافظون للشريعة في كل جهاتها وفي مختلف الأشكال، فقد كانوا حافظون للشريعة في بيانهم واستدلالهم وإعطائهم للأحكام وتبيين المتشابهات وفي التصدي أيضاً لمن أراد بالشريعة الإسلامية شراً وسوءاً، وقد بذلوا في مقابل ذلك أموالهم وجهودهم وحياتهم حتى انتهوا إلى القتل والشهادة
|